مطارح الأنظار

الميرزا أبو القاسم الكلانتري الطهراني

مطارح الأنظار

المؤلف:

الميرزا أبو القاسم الكلانتري الطهراني


المحقق: علي الفاضلي
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: معهد الإمام الخميني والثورة الإسلامية
المطبعة: مؤسسة العروج
الطبعة: ١
ISBN: 978-964-7986-36-6
الصفحات: ٦١٥

أنّهم ليسوا من أهل الظاهر أيضا حيث زعموا أنّ المجتهد في مقام الاجتهاد بعد الفحص والبحث ما فهمه من الدليل هو حكم الله الواقعي في حقّه ، وليس هناك حكم واحد واقعي يصل إليه تارة ، ولا يصل إليه أخرى مستندين في ذلك إلى قاعدة اللطف على حذو ما استند إليها (١) جماعة من قدماء أصحابنا في تحصيل الإجماع كالشيخ والسيّد في أوّل أمره وغيرهما.

مضافا إلى جملة من الروايات الدالّة على أنّ لله تعالى في كلّ زمان حجّة كي إن زاد المؤمنون شيئا يردّهم ، وإن نقصوا شيئا أتمّه لهم (٢) ، وذلك منهم بمكان من الضعف والوهن ؛ للزوم التصويب في وجه ، وعود النزاع لفظيا في وجه آخر.

مضافا إلى إطباق أصحابنا على خلافه ، واستلزامه استعمال اللفظ في أكثر من معنى حيث إنّ الخطاب واحد ، والأحكام المستفادة منه متعدّدة (٣) على هذا التقدير ، مع انتفاء الجامع قطعا في أكثر الموارد وعدم دلالة دليل عليه ، ومع الغضّ عن ذلك كلّه ، فلا يضرّنا في المقام ؛ إذ غاية ما في الباب أنّ المجتهد بعد استفادة الحكم من الدليل يعلم بالحكم الواقعي على ما هو المدّعى في كلامهم ، والكلام في المقام في تعيين الدليل الذي يمكن استفادة الحكم الواقعي منه كما لا يخفى ، ولعمري بطلان المذهب يكفي لنا عن إبطاله (٤) ، فهو بالإعراض عنه أجدر.

وأمّا انسداد باب العلم الشرعي ، فهو موكول إلى ما سبق ، فإن قلنا بحجّية أخبار (٥) الآحاد ـ كما هو المشهور بين أصحابنا بل ومخالفينا أيضا ـ فلا شبهة في انفتاح باب العلم على هذا التقدير ، وإن قلنا بعدم حجّيتها لعدم وجود دليل عليها ، فالانسداد الأغلبي ممّا لا يدانيه ريب.

__________________

(١) « ل » : إليه.

(٢) بحار الأنوار ٢٣ : ٢١ و ٢٤ و ٢٦ ، باب ١ ، ح ١٩ و ٣١ و ٣٥ و ٣٦.

(٣) في النسختين : متعدّد.

(٤) « ل » : بطلانه.

(٥) « ش » : الأخبار.

١٨١

وأمّا على ما نراه من اعتبار الأخبار الموثوق بها ، فهو موكول على حصول الوثاقة ، فربّما يحصل الوثاقة لأحد دون غيره لاعتماده على القرائن الموجودة الخفيّة الغير الظاهر دلالتها ، فهو في المقام كالقطّاع في مقامه ، فباب العلم الشرعي على تقديره منفتح ، وربّما لا يحصل الوثاقة إلاّ في أقلّ من الموارد ، أو في جملة كثيرة منها لكنّه لا يبلغ حدّ الانفتاح ، فالانسداد على تقديره غير خفيّ.

وأمّا المقدّمة الثانية ، فضرورته (١) لا تكاد تخفى على أوائل العقول ، مضافا إلى الأخبار الواردة في مقام إثبات التكاليف ولو في الجملة ، مع أنّها مدلول عليها بجملة من الآيات الظاهرية الصريحة في ذلك ولا سيّما بعد كونها ممّا يسلّمها الخصم أيضا ، فلا نطيل الكلام فيها.

وأمّا المقدّمة الثالثة القائلة بأنّ المرجع بعد الانسداد في معظم الأحكام ليس هو البراءة ، فيدلّ عليها وجوه :

الأوّل : الإجماع القطعي ؛ فإنّا نعلم علما ضروريا حدسيا بأنّ أحدا من العلماء لا يفتي بذلك ، فلا ينافيه عدم كون المسألة معنونة في كلامهم.

الثاني : لزوم المخالفة القطعية على وجه قد عبّر عنها بعض (٢) متأخّري المتأخّرين (٣) بالخروج عن الدين بمعنى أنّ كلّ من تديّن بهذا الدين بل المنتحلين إليه يحكم حكما ضروريّا بأنّ العامل بها في عمله غير متديّن بهذا الدين بل المنتحلين إليه يحكم حكما ضروريّا بأنّ العامل بها في عمله غير متديّن بهذا الدين ، وعمله ليس منه ، والمنكر في ذلك بين مكابر معاند ، ومانع للصغرى وهو الانسداد الأغلبي كما هو المفروض زعما منه خلافه ، وقد تقدّم منّا ما يكفي عن ذلك.

ولا يذهب عليك أنّ بعد انسداد باب العلم وملاحظة الأدلّة الناهية عن العمل بالظنّ لا سبيل لنا في الأحكام الشرعية إلى العمل بأصالة البراءة ، فإنّ من المعلوم

__________________

(١) « ل » : فضرورية.

(٢) « ل » : ـ بعض.

(٣) انظر هداية المسترشدين : ٣٩٣ و ٤٠٢ ؛ مفاتيح الأصول : ٤٦٨.

١٨٢

ضرورة ورودها في مقام احتمال عدم إدراك الواقع عند التعويل عليه حتّى أنّ القياس في موارده ـ وإن قلنا بأنّه محرّم أصليّ ـ إلاّ أنّ المستفاد من جملة من الأخبار الناهية عنه هو دفع هذا الاحتمال ، ولا شكّ في أنّ الوقوع في هذا الاحتمال على تقدير العمل بالبراءة بل الوقوع واقعا و (١) في نفس الأمر ممّا لا مجال لإنكاره ، سيّما بعد العلم الإجمالي بمخالفة عمله كثيرة (٢) من موارد البراءة للواقع.

وإن شئت توضيح ذلك ، فراجع العرف والعقلاء أنّ المولى قد كتب طومارا لعبده بعد نهيه عن العمل بالظنّ ، فأصابه المطر بحيث لا يكون كلماته معلومة ، فهل ترى أحدا في المقام يجوّز لنفسه العمل بالبراءة وترك العمل بالظنّ ، وهذا ممّا لا يكاد يخفى على أولي الأنظار المستقيمة ومقصّر في التتبّع لكلمات الأصحاب حيث إنّه قد تنبّه (٣) لذلك جماعة من متقدّمي أصحابنا ، ومتأخّريهم وجملة من مخالفينا :

فمنهم الصدوق طاب ثراه (٤) في باب [ أحكام السهو في الصلاة في ذيل أخبار ] جواز السهو على النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله بعد ما استند فيه إلى جملة من الأخبار ، فأورد على نفسه بأنّها أخبار آحاد لا يجوز التعويل عليها ، ثمّ أجاب عنها بأنّه على تقدير ترك العمل بالأخبار ، فبم يعمل العامل معرضا عن احتمال البراءة.

ومنهم الشيخ في العدّة في مقام الردّ على من احتمل أن يكون عمل الطائفة بالأخبار من جهة اقترانها بالقرائن فإنّه قال :

فإن قيل : ما أنكرتم أن يكون الذين أشرتم إليه لم يعملوا بهذه الأخبار بمجرّدها بل إنّما عملوا [ بها ] بقرائن اقترنت بها دلّتهم على صحّتها ، ولأجلها عملوا بها ، ولو تجرّدت ، لما عملوا بها ، وإذا جاز ذلك لم يكن (٥) الاعتماد على عملهم بها.

__________________

(١) « ل » : ـ و.

(٢) « ش » : كثرة ( ظ ).

(٣) « ل » : نسبه.

(٤) الفقيه ١ : ٣٥٩.

(٥) « ل » : لم يمكن.

١٨٣

قيل لهم (١) : القرائن التي تقترن بالخبر وتدلّ على صحّته أشياء مخصوصة نذكرها فيما بعد من الكتاب والسنّة والإجماع والتواتر ـ إلى أن قال ـ فعلم أنّ ادّعاء القرائن في جميع هذه المسائل دعوى محالة ، ومن ادّعى القرائن في جميع ذلك ، كان السبر بيننا وبينه ، بل كان معوّلا على ما يعلم من الضرورة خلافه ، ومدافعا (٢) لما يعلم من نفسه ضدّه ونقيضه.

ثمّ قال : ومن قال عند ذلك : إنّي متى عدمت شيئا من القرائن ، حكمت بما كان يقتضيه العقل ، يلزمه أن يترك كثير (٣) الأخبار وأكثر الأحكام ، ولا يحكم فيها بشيء ورد الشرع به ، وهذا هو حدّ يرغب عنه أهل العلم ، ومن صار إليه لا يحسن مكالمته ؛ لأنّه يكون معوّلا على ما يعلم ضرورة من الشرع خلافه (٤).

ومنهم السيّد علم الهدى (٥) فإنّه أورد على نفسه سؤالا في مقام (٦) دعوى الإجماع على عدم جواز الرجوع إلى الأخبار الآحاد ، لأنّه قال (٧) : لو قيل : إذا سددتم طريق العمل بالأخبار ، فعلى أيّ شيء تعوّلون في الفقه كلّه؟

فأجاب عنه بما حاصله دعوى انفتاح باب العلم حيث إنّه لم يلتفت إلى احتمال البراءة في صورة الانسداد ، والتزم بلزوم العمل بالأخبار الآحاد كما هو المنساق من السؤال والجواب.

ولقد أجاد الفاضل السيّد شارح الوافية في قوله بعد نقل كلام السيّد بأنّه قد اصطلح مع المتأخّرين العاملين بالأخبار ومنهم : العلاّمة في نهج المسترشدين على ما حكي عنه في بحث صفات الإمام عليه‌السلام ووجوب عصمته ما لفظه : ولأنّه حافظ للشرع

__________________

(١) في المصدر : له.

(٢) المثبت من « ش » وهو موافق للمصدر وشطب عليها وكتب فوقها : « مدّعيا » وكذا في « ل ».

(٣) في المصدر : أكثر.

(٤) عدّة الأصول ١ : ١٣٥ ـ ١٣٦.

(٥) رسائل الشريف المرتضى ٣ : ٣١٢.

(٦) « ل » : ـ مقام.

(٧) « ش » : ـ قال.

١٨٤

لعدم إحاطة الكتاب والسنّة به والإجماع ؛ لأنّه إن استند إلى أمارة ، فالخلق لا يتّفقون على أمارة ، وإن لم يستند كان باطلا ، والقياس باطل في نفسه ، والبراءة الأصلية ترفع جميع الأحكام ، فلم يبق سوى الإمام عليه‌السلام ولو جاز خطؤه ، جاز أن يزيده (١). انتهى.

ومنهم : المحقّق الخوانساري في مسألة جواز الاكتفاء بالواحد في التعديل ردّا على صاحب المعالم على ما هو المنقول في كلام السيّد المذكور ، قال : إنّ اعتباره ـ يعني به اعتبار تعدّد المزكّي والمعدّل ـ يصير سببا لخلوّ أكثر الأحكام عن الدليل ؛ لندرة التعدّد (٢).

ومنهم : العضدي تبعا للحاجي في مقام الاستدلال على حجّية أخبار الآحاد بأنّها لو لم تكن حجّة ، لخلت أكثر الوقائع عن الأحكام (٣).

ومنهم : المحقّق البحراني في الحدائق في طعنه على ابن إدريس عند طرحه الأخبار الدالّة على اتّحاد الشعير والحنطة جنسا ، فلا يجوز التفاضل بينهما ، معلّلا في ذلك بأنّها آحاد قال : الواجب عليه ـ يعني به ابن إدريس ـ مع ردّه هذه الأخبار ونحوها من أخبار الشريعة هو الخروج عن هذا الدين والتديّن بدين آخر غيره (٤) ، فترى هذه

__________________

(١) نهج المسترشدين : ٦٣ ، وبما أنّه نقله بالمعنى نذكره حرفيا :

ولأنّه حافظ للشرع ؛ لقصور الكتاب والسنّة على تفاصيل الأحكام ، والإجماع لا بدّ له من دليل ؛ إذ صدوره عن غير دليل ولا أمارة يستلزم القول في الدين بمجرّد التشهي ، والأمارة يمتنع الاشتراك فيها بين العقلاء ، ولا نحيط بالأحكام ؛ إذ أكثرها مختلف فيها. والقياس ليس بحجّة. أمّا أوّلا ، فلأنّه يفيد الظنّ الذي قد يخطئ غالبا.

وأمّا ثانيا ، فلأنّ مبنى شرعنا على جمع المختلفات وتفريق المتماثلات ، وحينئذ لا يتمّ القياس.

والبراءة الأصلية ترفع جميع الأحكام. فلو جاز عليه الخطأ لم يؤمن حفظه للشرع.

(٢) قاله في حاشيته على شرح مختصر الأصول كما في هامش فرائد الأصول ١ : ٣٩٣.

(٣) شرح مختصر منتهى الأصول : ١٦٣ ـ ١٦٤.

(٤) الحدائق ١٩ : ٢٣١ ونقل كلامه في الجواهر ٢٣ : ٣٤٦.

١٨٥

الكلمات من هؤلاء الجماعة منادية (١) بأعلى صوتها على عدم جواز التعويل على البراءة حيث (٢) إنّهم أعرضوا عن هذا الاحتمال.

ومن هنا يظهر الوجه في الإجماع المدّعى أيضا ، فبطلان العمل بالبراءة والاقتصار على المعلومات ـ كما هو المفروض من قلّتها حال الانسداد ـ ممّا لا ريب فيه.

وممّا يدلّك على هذا أنّهم مطبقون بأجمعهم في الحكم برجوع العامي إلى فتوى الميّت بعد انسداد باب رجوعه (٣) إلى الحيّ ، ولم يحتمل أحد اختيار رجوعه إلى البراءة ، وحال المجتهد بعد الانسداد واختفاء الحجّة العلمية مثل حال المقلّد عند فقدان المجتهد الحيّ ، فبعد العلم بالاشتغال لا مناص من تحصيل الامتثال ، فتارة بالعمل بالمعلوم على وجه التفصيل ، وأخرى بالمعلوم ولو إجمالا في طيّ احتمالات عديدة ، ومرّة يمتثل (٤) امتثالا ظنّيا بعد انسداد باب الامتثال على أحد الوجهين الأوّلين كما هو المفروض ، وأخرى امتثالا احتماليا ، ويكشف عن ذلك حكمهم برجوع العامي الغير المتمكّن من تحصيل أحكامه تقليدا لوجوب العمل (٥) بظنّه بل واحتماله فرارا من (٦) المخالفة القطعية ، وبالجملة ، فظهور المرام ، يأبى عن إطالة الكلام.

الثالث : إنّ المخالفة القطعية وإن لم تبلغ حدّ الخروج عن الدين ، فهي في حدّ ذاتها باطلة يكفي جعلها تاليا في قياس شرطي ، فلزومها على تقديره كاف في بطلان المقدّم ، ولا دليل على اعتبار الأصل فيما لو خالف العلم الإجمالي كما هو كذلك فيما لو خالف العلم التفصيلي.

فإن قلت : المحاذير المفروضة مشتركة الورود على تقديري العمل بالبراءة والمظنّة أمّا على الأوّل ، فكما هو المقرّر ، وأمّا على الثاني ، فلاحتمال مطابقة الظنّ في جميع

__________________

(١) « ش » : متنادية.

(٢) « ل » : بحيث.

(٣) « ل » : امتناع رجوعه؟

(٤) « ش » : يمثل.

(٥) « ل » : تقليدا إلى العمل.

(٦) « ل » : عن.

١٨٦

الموارد للبراءة.

قلت : أمّا أوّلا ، فلا شكّ في أنّها دعوى محالة ، فإنّ العلم بالموجبة الجزئية كما هو المفروض ينافي الظنّ بالسالبة الكلّية ؛ لاستلزامه اجتماع المتنافيين كما لا يخفى.

وأمّا ، ثانيا فلو سلّمنا إمكان الفرض ، فهو غير واقع ؛ لأنّ الظنّ إنّما يحصل من الأمارات الحاصلة عندنا من الأخبار والشهرات والإجماعات ، ومن المعلوم بالضرورة عدم موافقتها في جملة من الموارد للبراءة ، فإنّ الغالب فيها ، ولا أقلّ من التساوي ، ولا أقلّ من جملة كثيرة إثبات الأحكام المخالفة لأصالة البراءة.

وأمّا ثالثا ، فبعد الغضّ عن وقوعه أيضا نلتزم بعدم جواز عمله بظنّه وعدم جواز العمل بفتواه لمقلّديه لوجود المخالفة القطعية على تقديره في جملة كثيرة ، فليعمل بما يقتضيه الاحتياط والاشتغال ، أو العمل ببعض مظنوناته من الظنون القوية ، أو يختار ما يريد من موارد ظنّه هذا.

ثمّ إنّ صاحب المعالم والمحقّق البهائي (١) وجماعة ممّن تقدّم قد قالوا في دفع احتمال البراءة بأنّ أصالة البراءة ضعيفة بعد ورود الخبر ، وكأنّهم أرادوا أنّ الظنّ الحاصل من البراءة بعد ورود الخبر الواحد على خلافه ضعيف لا يقاوم الظنّ الحاصل من الخبر ، ولعلّ ذلك منهم مبنيّ على القول بحجّية البراءة من جهة إفادتها الظنّ وهو بمكان من الضعف كما قرّر في محلّه من أنّها حجّة قطعية في مجراها تعبّدا شرعيا بل (٢) وعقليا ، فإنّه لا تكليف إلاّ بعد البيان ، فإن أرادوا الظنّ بالنسبة إلى الحكم الواقعي ، فلا ريب في عدم حصوله ، وعلى تقديره لا حجّية (٣) فيه ، وإن أرادوا الظنّ بالنسبة إلى الحكم الظاهري ، فسقوطه واضح حيث إنّها بالنسبة إليه دليل قطعي لا مجال لإنكاره.

__________________

(١) معالم الدين : ١٩٢ ـ ١٩٣ ؛ زبدة الأصول : ٩٢.

(٢) « ل » : ـ بل.

(٣) « ل » : حجّة.

١٨٧

ومن هنا قد اعترض (١) عليهم المحقّق الجمال في تعليقاته على العضدي بعد منعه من إنتاج الدليل الرابع النتيجة المطلوبة بجواز العمل بالبراءة بعد الانسداد قال : لا لأنّها ظنّية بل لحكم العقل عليها (٢).

وأمّا ما أفاده المحقّق القمّي (٣) في دفع الاستناد إلى البراءة من منع الإجماع عليها لمخالفة الأخبارية فيها ، وعدم استقلال العقل بالحكم بها ولو بعد ورود الخبر الواحد بخلافها ، فممّا لم نقف له على وجه.

أمّا أوّلا ، فلأنّ منع الإجماع عليها مكابرة محضة ، ومجازفة صرفة ، ومخالفة الأخبارية إنّما هو لمنعهم من جريانها زعما منهم لورود (٤) البيان في محلّ جريانه من أخبار الاحتياط ، ولذا تراهم حاكمين بالبراءة في مقام الشبهة الوجوبية لعدم جريان أدلّة الاحتياط فيها ، ولا ريب لأحد منهم أيضا في وجوب العمل بها فيما لم يرد فيه بيان كما هو المفروض من المعترض.

وأمّا ثانيا ، فلأنّ أصالة البراءة محكّمة عقلا فيما لم يرد على خلافها دليل علمي أو منته إليه ، و (٥) ورود الخبر على خلافها بعد أن لم تكن حجّة لا جدوى فيه ، فإنّ حجّيته في المقام أوّل الكلام.

نعم ، يتوجّه على المورد أنّ البراءة على إطلاقها لا تنهض حجّة في جميع الموارد ، فإنّ مرجعها إلى نفي التكليف وهو في العبادات في محلّها ، وأمّا في المعاملات ، فلا وجه للاستناد إليها في دفعها إلاّ أن يقال برجوع الأحكام الوضعية إلى الأحكام التكليفية كما يراه المورد أيضا ، فيصحّ التعبير بالبراءة ، أو يقال بأنّ المراد منها أصالة العدم كما نبّهنا عليه فيما تقدّم إلاّ أن يقال : إنّ أصالة العدم أيضا لا تعمّ جميع الموارد ، فإنّ

__________________

(١) « ش » : تعرّض.

(٢) تقدّم عنه في ص ١٨٠.

(٣) القوانين ١ : ٤٤٢.

(٤) « ش » : بورود.

(٥) « ش » : ـ و.

١٨٨

الاشتغال على القول به وكذا الاستصحاب قد يخالف حكم البراءة ويقدّم عليها على ما هو المقرّر في محلّه ، فلا سبيل إلى القول بأنّ الاستصحاب ظنّي حيث إنّه (١) قد قرّرنا قطعيّته في محلّه.

وأمّا المقدّمة الرابعة القائلة بأنّ المرجع في أحكامنا (٢) بعد الانسداد ليس هو الاحتياط ، فيدل عليها وجوه ـ وإن قلنا بأنّ بعد العلم الإجمالي على التكليف لا بدّ من الاحتياط وتحصيل الموافقة القطعية ، وأمّا على القول بكفاية الاحتراز عن المخالفة القطعية في مثل المقام ، فالأمر أسهل ، ثمّ إنّه ليس المراد في المقام إبطال الاحتياط على حذو ما مرّ من إبطال البراءة وامتناعها بل يكفي في إثبات المطلوب عدم وجوبه وإن كان جائزا ، وجوازه يلازم جواز العمل بالظنّ وهو المطلوب ـ :

الأوّل : الإجماع القطعي ، فإنّا ندّعي أنّ جميع العلماء خلفا عن سلف مطبقون على عدم وجوب الاحتياط ، وليس ذلك من جهة انفتاح باب العلم لهم ، فيختلف الموضوع بل المدّعى اتّفاقهم على عدم وجوب الاحتياط في موضوع الانسداد على ما هو المفروض وإن لم يكن من أهل الإجماع من انسدّ له باب العلم ، كما أنّهم مطبقون بأنّ الحكم في موضوع المسافر القصر والإفطار وإن لم يكونوا مسافرين على حذو ما مرّ في الإجماع المدّعى في إبطال احتمال البراءة.

الثاني : لزوم العسر والحرج على تقديره ، واللازم منفيّ إجماعا في الشريعة السمحة السهلة ، وبيان اللزوم في العبادات واضح ؛ للزوم الإتيان بجميع ما يحتمل الوجوب ولو وهما ، وترك جميع ما يحتمل الحرمة كذلك وهو لو لم يكن في حدّ التكليف بالممتنع ، فلا أقلّ من لزوم العسر على تقديره.

وتوضيحه : أنّ المجتهد لو حاول الاحتياط في واقعة جزئية مثل الماء المتغيّر بالنجاسة بعد زوال تغيّره بنفسه ، فيوجّه عليه في مثل الواقعة فروع كثيرة ، ففي مقام

__________________

(١) « ل » : إنّا.

(٢) « ل » : أحكامه.

١٨٩

شربه لا بدّ من أن لا يشربه ، وفي مقام الوضوء مع انحصار الماء فيه ، فلا بدّ له من الجمع بين التيمّم وبينه في صلاتين ، فقد يعارضه الاحتياط في واقعة أخرى ، فيتوقّف (١) في ترجيح أحد الاحتياطين على الآخر ، ويتفرّع على كلّ من فروعه فروع متشتّتة مختلفة قد لا يمكن الجمع بينها إلى غير ذلك ممّا لا يخفى على المتأمّل البصير ، هذا كلّه مضافا إلى لزومه في تعليم المجتهد وجوه الاحتياط وتعلّم المقلّد منه ، فقد لا يشتمل (٢) كتاب حكم واقعة جزئية بجميع وقائعها المترتّبة عليها ، وذلك يوجب اختلال نظامهم في أمور معادهم ومعاشهم ، وبخلاف ما إذا علمنا بالظنّ ، ففي الواقعة المفروضة على تقدير تعلّق الظنّ بنجاسة يترتّب عليه جميع أحكامها ، فلا تنحلّ إلى وقائع ، ولا تختلف بحسب الموارد ، وليس في الاحتياط حكم كلّي يرجع إليه في جميع الموارد ، فهو في كلّ مقام يقتضي شيئا ، فالمقلّد لو حاول تعلّم أحكام الواقعة المفروضة لا بدّ له من تعلّمها على جميع مراتب اختلافها بالنسبة إلى ملاحظتها في وقائع كثيرة ، ولا عسر في كونه عسرا وهو المراد باللازم.

لا يقال : لزوم العسر على المقلّد ممنوع ؛ لجواز رجوعه إلى مجتهد لا يرى وجوب الاحتياط ، فلا عسر له في تعلّمه ، ولا في تعليم المجتهد له.

لأنّا نقول : أوّلا : قد ينحصر المجتهد ، فيمن يرى وجوب الاحتياط ، فلا مفرّ له من تقليده.

وثانيا : لا مساس للوجه المذكور لما نحن بصدده ، فإنّ (٣) الكلام في أنّ الحكم الواقعي الثابت في اللوح المحفوظ في موضوع الانسداد كما هو المدّعى ، هل هو الاحتياط أم لا؟ ولا مدخل لعمل المقلّد في ذلك أصلا ، فإنّه قد لا يقلّد أصلا ، فإنّ المستدلّ بدليل الانسداد إنّما هو في بيان حكمه واقعا ، فيحكم بأنّ المرجع في الواقع

__________________

(١) « ش » : فتوقّف.

(٢) « ل » : لا يشمل.

(٣) « ل » : من أن.

١٩٠

ليس هو الاحتياط ، وانفتاح باب العلم على ما يزعمه غيره لا يضرّه ، فإنّه يراه في سبيل باطل ، وطريق عاطل ، وذلك نظير ما قد قيل من أنّ تقليد الأعلم على القول به يوجب العسر في تمييز (١) الأعلم عن غيره ، فلا ينافيه اعتقاد المقلّدين أعلمية فقيه دون فقيه ؛ إذ لا يناط الحكم الواقعي باعتقادهم ، والكلام إنّما هو في الجعل الواقعي المتعلّق بموضوع كذائي ، فيتوجّه عليه أنّه لو كان كذلك ، يلزم العسر وذلك ممّا لا يكاد يخفى.

نعم ، قد يتوجّه هذا الكلام في المقام فيما لو فرضنا انفتاح باب العلم لواحد من المجتهدين واقعا يتمكّن من الوصول إلى معدن العلم ، فيلتزم بلزوم رجوع المقلّد إليه ، فلا يلزمه عسر على ما فرضناه إلاّ أنّه خارج عمّا هو مفروض المستدلّ. هذا تمام الكلام في لزوم العسر على تقدير الاحتياط في العبادات (٢) ، وأمّا في المعاملات ، فيظهر من ملاحظة ما قرّرنا في غيرها كما لا يخفى.

فإن قلت : قد يؤدّي ظنّ المجتهد إلى ما يوجب العسر مثل ما (٣) إذا ظنّ بوجوب الترتيب في الفوائت ، فإنّ لزوم العسر فيما إذا لم يعلم ترتيب الفائتة خصوصا مع كثرتها ممّا لا ريب فيه ، وكذا إذا ظنّ بفورية القضاء ، وكذا إذا ظنّ بوجوب الغسل فيما لو أجنب المكلّف عمدا وإن أصابه ما أصابه ، وكذا إذا ظنّ بواجبات كثيرة في وقائع عديدة ترد عليه دفعة مثلا ، فالمحذور على تقديره مشترك الورود بين الاحتياط والعمل بالظنّ.

قلت : إن أريد أنّ ما دلّ على نفي العسر والحرج يعارضه الأدلّة الخاصّة الدالّة على لزوم ملاحظة الترتيب بين الفوائت ، فلا بدّ من ملاحظة النسبة بين الدليلين ، فسقوطه واضح حيث إنّ من المقرّر في محلّه حكومة الأدلّة الدالّة على نفي العسر بالنسبة إلى

__________________

(١) في النسخ : تميّز؟

(٢) هنا زيادة استدركت في هامش « ل » : المحذور جاز لظنّ أيضا كما؟

(٣) سقط قوله : « وأمّا في المعاملات » إلى هنا من نسخة « ل ».

١٩١

غيرها من الأدلّة ، فهو معيار لغيرها ، وميزان لما عداها ، فلا يعارضها دليل ، ولو كان في أعلى درجات الخصوصية كما يظهر ذلك بعد ملاحظة العرف فيما يماثله ، وإن أريد النقض بالفرض المذكور ليلتفت إلى الحلّ في الصورة المفروضة ، فنقول : إن كان الدليل الدالّ على لزوم الترتيب قطعيّا غير قابل للطرح أو التأويل ، فيقدّم على أدلّة العسر كما في أدلّة الاجتهاد الأكبر والأصغر ، وإن كان ظنّيا قابلا للتأويل ، فلا بدّ منه كأن يحمل الأمر الوارد فيه على الاستحباب ونحوه وما نحن بصدده من هذا القبيل ، فإنّ لزوم تحصيل الموافقة القطعية والحكم بوجوب الإتيان بجميع المقدّمات العلمية بعد الانسداد فيما (١) يوجب العسر غير معلوم حتّى يقدّم على أدلّة نفي العسر ، فيكشف ذلك من أنّ مطلوب المولى ليس الإتيان بالواقع على ما هو عليه.

وأمّا ما أورده أخيرا من المثال من جواز تعلّق ظنّ المجتهد بواجبات توجب العسر ، فهو ممّا لا محصّل له ؛ لاستلزامه اجتماع المتناقضين ، فإنّ بعد ما علمنا مع ملاحظة أدلّة نفي العسر عدم جعل (٢) حكم أو أحكام يوجب العسر ، فكيف يصحّ تعلّق الظنّ بوجوب أمور توجب العسر؟ فإنّ العلم بالسالبة الجزئية ـ كما هو مفاد نفي العسر ـ ينافي الظنّ بالموجبة الكلّية كما هو مفروض المعترض عكس ما مرّ في المقدّمة السابقة.

فإن قلت : إنّ قضية أدلّة نفي العسر لا يزيد على نفيه في أصل الشرع حيث إنّه تعالى ما جعل في الدين من حرج ، وأمّا لو لزم الحرج من جهة (٣) عروض سانحة ، وحدوث واقعة لا يرجع إلى جعله كما في المقام ، فإنّه يلزم بواسطة إخفاء قادة الهدى ، ومصابيح (٤) الدجى بواسطة ظلم الظالمين وعناد المعاندين ، فلا دليل على بطلانه ، وحيث إنّه ليس في مرتبة التكليف بما لا يطاق ، فلا ضير في لزومه على تقدير أن

__________________

(١) « ش » : + لو ، وشطب عليها في « ل ».

(٢) « ل » : وجوب.

(٣) « ل » : جهته.

(٤) « ش » : مصباح.

١٩٢

يكون الغير سببا في لزومه كما في المقام ، فلا يتّجه الفرق بذلك.

قلت : لا نسلّم انحصار دلالة الأدلّة المذكورة في نفيه من أصل الشرع فقط ؛ فإنّها بعمومها شاملة للمقام أيضا بل و (١) فيما لو كان سبب لزومه إدخال المكلّف نفسه في موضوع حكم معسور ، فكيف بالمقام؟

وتوضيح ذلك : أنّ العسر تارة يلزم من أصل الشرع كأن يجعل الشارع حكم المكلّف مع قطع النظر عن عروض حادثة عسرا ، وأخرى يلزم من جهة عروض سانحة من غير أن يجعله الشارع عسرا ، فمرّة سبب عروضها غير المكلّف كما إذا صار جريحا بواسطة غيرها ، وأخرى يصير المكلّف بنفسه سببا لحدوثها ، فدفعه بواسطة إدخال نفسه في موضوع يعسر عليه أحكامه كما لو أجنب عمدا مع وجود العسر في استعمال الماء ، وأخرى بواسطة إلزامه على نفسه حكما معسورا كما إذا نذر صوم دهره أو استأجر نفسه لأمر عسر إلى غير ذلك.

فعلى الوجوه الثلاثة الأول تنهض أدلّة العسر بنفيها بلا إشكال ، وأمّا الصورة الأخيرة ، فلا نضايق القول بعدم (٢) قيام الأدلّة المذكورة بنفيها نظرا إلى ما هو المعروف من قوله عليه‌السلام : « ما غلب الله شيئا على العباد إلاّ وهو أولى به » (٣) وقوله : ( وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً )(٤) انتهى. إلاّ أنّه أيضا لا يخلو عن إشكال ، فإنّ في

__________________

(١) « ل » : ـ و.

(٢) « ل » : فلا تطابق القول بعد.

(٣) الوسائل ٤ : ٨٠ ، باب ٢٠ من أبواب أعداد الفرائض ، ح ٢ ، و ٤ : ٣٧٣ ، باب ١٢ من أبواب لباس المصلّي ، ح ٧ ، و ٨ : ٢٥٩ ـ ٢٦١ و ٢٦٣ ، باب ٣ من أبواب قضاء الصلوات ، ح ٣ ، و ١٠ : ٢٢٦ و ٢٢٧ ، باب ٢٤ من أبواب من يصحّ منه الصوم ، ح ٣ و ٦ ، ١٠ : ٣٣٨ ، باب ٢٥ من أبواب أحكام شهر رمضان ، ح ٨ ، و ١٠ : ٣٧٤ ـ ٣٧٥ ، باب ٣ من أبواب بقية الصوم الواجب ، ح ١٢. في كثير من المصادر : « كلّ ما غلب الله فالله أولى بالعذر ». وفي بعضها : « كلّ ما غلب الله عليه فليس على صاحبه شيء ».

(٤) الأنفال : ٢٥. وفي النسختين : واتقوا فتنة لأنفسكم.

١٩٣

إمضائه الإلزام أيضا نوع جعل للعسر (١) كما لا يخفى.

فإن قلت : الأدلّة الدالّة على حرمة العمل بالظنّ يعارض العامّين من وجه ، فلا بدّ من ترجيح أدلّة نفي العسر في تقديمها عليها والمفروض عدم المرجّح ، فلا بدّ من الرجوع إلى الأصول والأصل عدم حجّية الظنّ ، فلا مناص من الاحتياط وهو المطلوب.

قلت : قد تقدّم آنفا أنّ أدلّة نفي العسر حاكمة عرفا على غيرها من وجوه الأدلّة ، لتعارض غيرها بها ، فيحتاج في الترجيح إلى المرجّح ، وفي صورة انتفائه يرجع إلى الأصل.

الثالث : أنّا لا نسلّم أنّ بعد ثبوت الاشتغال لا بدّ من تحصيل الموافقة القطعية بل يكفي فيه عدم لزوم المخالفة القطعية وهو يحصل بالعمل بسلسلة المظنونات ، فلا وجه للاحتياط.

وفيه : أنّ من المقرّر في محلّه أنّه لا مناص من الاحتياط بعد ثبوت الاشتغال (٢) ، فلا وجه للجواب المذكور.

الرابع قد لا يمكن الاحتياط كما إذا دار الأمر بين المتباينين سيّما في الموضوعات.

وفيه : أنّه لا يضرّ فيما هو المناط في المقام ؛ إذ من الجائز التزام المحتمل للاحتياط بالتخيير بينهما ، أو العمل بالظنّ في ترجيح أحدهما على الآخر.

لا يقال : إذا جوّز العمل بالظنّ فيما لا يمكن فيه الاحتياط ، فيتمّ المطلوب بعدم القول بالفصل.

__________________

(١) « ل » : العسر.

(٢) سقط من نسخة « ل » من قوله : « فلا وجه للاحتياط » إلى هنا.

١٩٤

لأنّا نقول : قد مرّ مرارا بطلان الاستناد (١) إلى مثل الإجماع في أمثال المقام كما لا يخفى.

الخامس أنّ الاحتياط قد يؤدّي إلى ترك الاحتياط فإنّ معرفة الوجه ممّا أوجبه جماعة من الأصحاب (٢) حتّى ادّعى بعضهم عليه الإجماع (٣) ، وهو ينافي الاحتياط حيث لا يعلم وجه العمل فيه.

وفيه أوّلا : أنّ العلاّمة وإن أرسل هذا الحكم إرسال المسلّمات في أوائل الإرشاد (٤) إلاّ أنّ المستفاد من بناء أهل العرف والعقلاء وسيرة أصحاب الأئمّة والعلماء عدم لزوم معرفة الوجه ، فلا وجه لما ذكره.

وأمّا ثانيا : سلّمنا لزوم معرفة الوجه في العبادات مثلا لكن لا ريب في عدم كونها واجبا أصليا كوجوب معرفة الله مثلا بل إنّما هو واجب توصّلي للوصول به إلى الغير ، وهو إمّا أن يكون تحصيل الامتثال التفصيلي ، أو قصد الوجه ، وعلى التقديرين لا محصّل له.

أمّا على الثاني ، فلأنّ من المقرّر في محلّه عدم لزوم قصد الوجه أوّلا ، وعدم تعقّله ثانيا ؛ لأنّ القصد لا يتحقّق في غير صورة العلم ، فلو فرضنا عدم لزوم الاحتياط وجواز العمل بالظنّ أيضا لا يتحقّق القصد إلاّ أن ينتهي إلى العلم وهو خارج عمّا نحن بصدده ، أو يغيّر القصد قصدا صوريا لا حقيقة له ، فيحتاج على تقديره إلى دلالة دليل على لزوم القصد الصوري ، والمعلوم انتفاؤه في المقام.

وأمّا على الأوّل ، فلما مرّ في مباحث العلم الإجمالي من احتمال عدم وجوب

__________________

(١) « ل » : الإسناد.

(٢) ذكر الجماعة العاملي في مفتاح الكرامة ٢ : ٣١٤.

(٣) نقل ذلك عن ظاهر التذكرة في مفتاح الكرامة ٢ : ٣١٥.

(٤) ارشاد الأذهان ١ : ٢٥١.

١٩٥

الامتثال التفصيلي مع الإتيان في ضمن احتمالات عديدة إلاّ بالمأمور به مثلا وإن نقل الإجماع على عدم جوازه صاحب الحدائق.

سلّمنا لكنّ الامتثال الإجمالي والعمل بالاحتياط فيما لو أمكن الامتثال التفصيلي العلمي غير جائز على ما ادّعاه صاحب الحدائق (١).

وأمّا لو دار الأمر بين الامتثال التفصيلي الظنّي ـ ولو كان ظنّه حجّة أيضا ـ وبين الامتثال الإجمالي والعمل بالاحتياط ، ففي ترجيح الأوّل على الثاني تأمّل كما نبّهنا عليه في ما تقدّم ، فكيف بما إذا كان التفصيلي بظنّ لم يقم (٢) دليل على اعتباره كما في المقام.

وبالجملة ، فلا وجه لتقديم العمل بالظنّ على العمل بالاحتياط لتحصيل الامتثال التفصيلي ، فإنّ ذلك يسلّم (٣) فيما لو كان التفصيل علميا أو ظنّيا قام الدليل على اعتباره كما هو ظاهر بأدنى تدبّر في العرف وطريقة العبيد في امتثالهم لأوامر مواليهم.

ومن هنا ينقدح أنّ العامل بالظنّ المطلق ليس له نفي الاحتياط في مقام انحصار طريق العمل في الاجتهاد والتقليد والحكم ببطلان عبادة الجاهل المطابقة للواقع بواسطة الاحتياط ، فإنّ دليل الانسداد لا ينهض بتعيين (٤) العمل بالظنّ على وجه لو لم يعمل به ، بطل عمله بل غاية ما يستفاد منه عدم لزوم الاحتياط وهو لا ينافي الجواز كما قيل ، وليس بين المسلكين واسطة يسلكها السالك إلاّ الحائطة فتدبّر.

وأمّا ثالثا : فلأنّه بعد ما سلّمنا أنّ الاحتياط يقضي بتعيين العمل ومعرفته ولو كانت معرفة ظنّية فلا نسلّم منافاة العمل بالاحتياط للعمل بالظنّ ؛ حيث إنّه بعد الاحتياط في هذه المرتبة والإتيان بالمظنون وتعيين العمل بالظنّ لا بدّ له من الإتيان

__________________

(١) الحدائق ٥ : ٤٠٧. تقدّم عنه في ص ٣٣.

(٢) « ش » : لم يقل.

(٣) « ل » : تسليم.

(٤) « ل » : بتعيّن.

١٩٦

بسائر المحتملات تحصيلا للاحتياط في تلك المرتبة ، مثلا فيما لو دار الأمر (١) بين وجوب صلاة الجمعة وصلاة الظهر ، فهناك احتياطان :

أحدهما : تعيين الواجب منهما تعيينا ظنّيا.

وثانيهما : الإتيان بغير المظنون بعد الإتيان به منهما ، ولا ينافي الاحتياط في الأوّل الاحتياط في الثاني حيث إنّ الظنّ بعد غير حجّة.

وأمّا رابعا : سلّمنا جميع ذلك لكنّه في الاحتياط وجه العمل ـ ولو في مرحلة الظاهر ـ معلوم على ما تقتضيه قاعدة الشغل وهو كاف في المعرفة وقصد الوجه ، إذ لا دليل على أنّ وجه العمل في الواقع من حيث حكمه الواقعي المتعلّق عليه ـ مع قطع النظر عن تعلّق العلم والجهل به ـ واجب بل ولا أظنّ أحدا يدّعيه أيضا ، فلو شكّ في وجوب شيء في حالة بعد العلم بوجوبه في حالة سابقة ، يحكم بوجوبه استصحابا ، ويأتي به واجبا مع أنّ وجوبه ظاهري ، فلا يتّجه الجواب المذكور في وجه كما لا يخفى.

نعم ، بقي في المقام شيء وبيانه يستدعي تمهيد مقدّمة وهي أنّه لو علمنا إجمالا بوجوب شيء ولم نعلمه بالخصوص ، فمقتضى القاعدة على ما قرّرنا في المقدّمة تحصيل الموافقة القطعية بالإتيان بجميع المحتملات حتّى يحصل العلم بالامتثال ، فإنّ الاشتغال اليقيني يقضي بالبراءة اليقينية ، فإن منع من تحصيل الامتثال اليقيني مانع عقلي أو شرعي ، فإن كان يمنع من احتمال معلوم معيّن ، فلا بدّ من الامتثال فيما عداه جزما ، وإلاّ فإن كان في المقام ما يرجّح أحد الاحتمالات ، فلا مناص من الترجيح ، وإلاّ فالتخيير في الاحتمالات ، مثلا لو اشتبهت جهة القبلة بجهات قضية الشغل أوّلا (٢) الصلاة على الجهات المشتبهة جميعا ما لم يمنع مانع ، وعلى تقديره فإن منع من جهة خاصّة ، فلا بدّ من تركها إلى غيرها من سائر الجهات ، وإلاّ فلا بدّ من الترجيح بين الجهات ، وإلاّ

__________________

(١) « ش » : أمره.

(٢) استدرك هنا في هامش « ل » بخطّ آخر « إتيان ».

١٩٧

فالتخيير فيها لرفع المانع ، فالمانع إنّما يؤثّر فيما يمنعه ، ولا يقضي باختلاف الموضوع وتبديله ، فتغيّر الحكم ، فالاشتغال (١) فيما لا مانع بعد العلم الإجمالي بالحكم.

وإذ قد تقرّر هذا فاعلم أنّه قد سبق في بعض الوجوه العقلية التي أقاموها على اعتبار مطلق المظنّة من أنّ مقتضى الاشتغال العمل بكلّ ما يحتمل الوجوب وترك كلّ ما يحتمل الحرمة إلاّ أنّ العسر يمنع من ذلك ، فالجمع بين القاعدتين يقتضي ترك الموهومات والمشكوكات نظرا إلى العسر ، والعمل بالمظنونات نظرا إلى الاحتياط ، وقد سبق أيضا ما فيه من الضعف.

ويزيدك توضيحا : أنّ لزوم العسر لا يقضي بتعيين (٢) العمل بالظنّ بل الضرورة إنّما تتقدّر بقدرها على ما عرفت في المقدّمة ، فإنّ التكليف بالاحتياط ثابت ، والعسر مانع ، وحيث إنّ العسر لا يمنع من الاحتياط (٣) في سلسلة خاصّة من المظنونات والمشكوكات والموهومات ، فلا بدّ من الترجيح ؛ لأنّ الحكم بالاحتياط إنّما هو في جهة إدراك الواقع ، وظاهر أنّ ترك الموهوم أولى من ترك المظنون والمشكوك حينئذ ؛ لاستقلال العقل بذلك ، وأمّا المشكوك ، فلا بدّ من العمل به أيضا حيث إنّ المانع من الاحتياط قد ارتفع في ترك الموهوم ، فالاحتياط فيما لا مانع منه محكّم ، فالدليل لا ينتج النتيجة المطلوبة.

لا يقال : على تقدير العمل بالمشكوك على أن نفعل كلّ ما نشكّ في وجوبه ونترك كلّ ما نشكّ في حرمته ، يلزم المحذور أيضا ، فدفعا للعسر لا بدّ من ترك المشكوك والأخذ بالمظنون فقط وهي النتيجة المطلوبة.

لأنّا نقول : أوّلا : لا خفاء لمن له أدنى خبرة في الفقه قلّة المشكوكات جدّا ، فإنّ

__________________

(١) « ل » : فتعيّن الحكم بالاشتغال.

(٢) « ش » : بتعيّن.

(٣) استدرك هنا في هامش « ل » بخطّ آخر « إلاّ ».

١٩٨

المجتهد دائما إمّا (١) يظنّ بوجوب شيء ، أو حرمته ، أو بعدمهما ، وأمّا (٢) تساوي طرفي إدراكه في حكم وعدم ترجيح أحد طرفيه على الآخر ـ ولو في الجملة ـ على وجه يخرج من الشكّ ، فإن كان ، فهو أقلّ قليل لا يلزم من العمل بها وانضمامها إلى المظنونات محذور.

وثانيا : إنّ إلحاق المشكوكات بالموهومات ممّا لا يكاد يتمّ ؛ لأنّ العامل بالظنّ المطلق إنّما يعمل بالأصول الخاصّة في الموارد المخصوصة في المشكوكات ، مثلا فيما لو شكّ في حرمة العصير العنبي بعد الغليان بعد العلم بعدمها قبلها ، يحكم بعدمها استصحابا للحالة السابقة ، وفيما لو شكّ في وجوب السورة يستند إلى قاعدة الشغل مثلا ، وليس كذلك في الموهومات ، فإنّ الأصول الجزئية نطرحها في مقابل الظنون المطلقة مع أنّ إلحاق المشكوك بالموهوم يقضي بخلافه ، فإنّ اعتبار الظنون المطلقة لم يثبت بعد ، ولا ينافي ذلك لزوم العسر في العمل بالموهومات كأن يقال : إنّ العسر قد ارتفع به العلم الإجمالي الحاصل بين الموهومات ، فلا وجه للعمل بمقتضى الأصول فيها ؛ لأنّ العسر إنّما ارتفع به العلم الإجمالي الموجود بين جميع سلاسل التكاليف مظنونها وموهومها ومشكوكها ، وأمّا الأصول ، فلا دلالة في العسر على ارتفاعها كما أنّ العسر لا يقتضي طرح الأصول في المشكوكات ، فكذا في الموهومات.

والحاصل أنّ العامل بالظنون المطلقة يجعلها بمنزلة العلم في مقابل الأصول في الموهومات الخاصّة كما أنّ العامل بالظنون الخاصّة يجعلها كذلك ، وذلك منهم لا يلائم إلحاق المشكوك بالموهوم ؛ إذ على تقديره ، فلا بدّ لهم إمّا من طرح الأصول في المشكوكات وعدم العمل بها فيها كما في الموهومات أو العمل بها في الموهومات أيضا ، فإنّ العسر كما ألغى العلم الإجمالي في الموهومات رأسا ولو في الموارد الخاصّة ، بحسب الأصول الخاصّة فكذلك في المشكوكات على تقدير إلحاقها بالموهومات ، فلا وجه

__________________

(١) « ش » : « لا » بدل : « إمّا ».

(٢) « ش » : « لا » بدل : « أمّا ».

١٩٩

للعمل بالأصول فيها دونها.

وببيان أوضح أنّه لا شكّ أنّ العامل بالظنّ قد يعتمد على بعض الأصول في الموارد الجزئية كما في المثالين المذكورين في سلسلة المشكوكات ، ولا يعتمد عليها في الموهومات نظرا منه إلى أنّ الظنّ القائم بخلاف الأصل دليل علميّ به ينقطع الأصل ، ويرتفع به موضوعه المعلّق على عدم العلم ، وسرّه (١) على هذا التقدير الوارد على قاعدة الاحتياط محكّمة (٢) في الموهومات ، فكأنّه لم يكن من أطراف العلم الإجمالي ، فلا عبرة بها من جهة أنّها موهومات ، ولا من جهة ( أنّها من ) (٣) الأصول ( المعتمد ) (٤) إليه (٥) في مواردها ، وحينئذ فلو كان قاعدة العسر محكّمة في المشكوكات أيضا ، فلا بدّ فيها من أن يعامل معاملة الموهومات حيث (٦) إنّه يطرح الأصول في مقابلة الظنّ ، فلا بدّ من طرحها في مقابلة الشكّ نظرا إلى اتّحاد المناط فيهما ، والعامل بالظنّ المطلق لا يلتزم (٧) بذلك ، اللهمّ إلاّ أن يوجّه بما ستعرفه في إبطال المقدّمة الخامسة من أنّه لا يمكن أن يعامل المشكوك معاملة الموهوم نظرا إلى لزوم العسر كما سيجيء.

وأمّا بطلان المقدّمة الخامسة القائلة بأنّ المرجع بعد انسداد باب العلم وبقاء التكليف في الجملة ليس إلى الأصول الجزئية في الموارد الجزئية على حسب اختلاف المقامات وهي العمدة ، فإنّ الرجوع إليها بعد انسداد باب العلم والظنّ الخاصّ هو الذي تقتضيه القواعد المعمولة عندنا في أمثال المسائل ، فإنّها في محالّ جريانها علوم شرعية تفصيلية لا مناص من الاستناد إليها.

وإذ قد انجرّ الكلام إلى ذلك ، فلا بأس بتجديد المقال ، لتوضيح الحال ، فنقول ـ وهو الله الموفّق والمعين ـ : إذا انسدّ لنا باب العلم ولو بالمعنى الأعمّ ، وعلمنا بقاء التكليف

__________________

(١ و ٢) كذا.

(٣ و ٤) من « ل » استدركت في هامشها.

(٥) كذا.

(٦) « ش » : « فكما » بدل : « حيث ».

(٧) « ل » : لا يلزم.

٢٠٠