مطارح الأنظار

الميرزا أبو القاسم الكلانتري الطهراني

مطارح الأنظار

المؤلف:

الميرزا أبو القاسم الكلانتري الطهراني


المحقق: علي الفاضلي
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: معهد الإمام الخميني والثورة الإسلامية
المطبعة: مؤسسة العروج
الطبعة: ١
ISBN: 978-964-7986-36-6
الصفحات: ٦١٥

فلقائل أن يقول : إنّا نعلم أيضا بوجود التقييدات في غير الخبر من سائر الأمارات.

ودعوى وجود العلم في الأخبار ولو فرضنا منها صنفا يبلغ مائتين مثلا ، أو أقلّ ، أو أكثر وعدمه في غيرها من (١) الأمارات ولو بعد انضمام بعضها إلى الآخر مكابرة واضحة ، ومجازفة بيّنة ، وعهدتها على مدّعيها ، فإن استند إلى (٢) عدم الكفاية في الاكتفاء بالخبر الصحيح مثلا ، فلقائل أن يقول : يمكن الاستناد إليه في الاكتفاء بمطلق الخبر ، فلا بدّ من التعدية بحسب الدليل ، مع أنّ الدعوى خاصّة بالخبر.

وأمّا ثانيا ، فلأنّ الدليل المذكور يقضي بلزوم الإتيان بجميع ما يحتمل كونه جزءا ، وكان ممّا يستفاد من الخبر سواء كان ممّا اجتمع فيه القيدان المأخوذان في الدعوى ، أو لم يشتمل عليهما معا ، أو أحدهما لو لم يحكم بلزوم تعيين المقيّدات المثبتة للأجزاء والشرائط بطريق ظنّي كما أنّه يقضي بالاقتصار على الأخبار المظنونة في الظنّ ، مع أنّه لا يلازم القيدين المعتبرين في العنوان ، فيلزم اعتبار قيد الظنّ أيضا وهو ممّن لا يقول به.

وبالجملة ، فالمرجع في الدليل إن كان هو الدليل الرابع ، فهو ، وإلاّ فلا نعرف له وجها.

وأمّا ثالثا : فلأنّ محصّل الدليل هو الأخذ بالاشتغال ، ومقتضاه لا يزيد عن العمل بالأخبار المثبتة للتكاليف دون غيره كما عرفت تفصيل القول فيه في الردّ على الوجه الأوّل في المقام.

وأمّا الاستناد إلى الإجماع المركّب ، فكما مرّ لا وجه له بعد العلم بانتفاء العلّة المستندة إليها الحكم في أحد جزءي الإجماع.

ومنها : ما أفاده بعض أعاظم محقّقي المتأخّرين في تعليقاته على المعالم (٣) في ضمن

__________________

(١) « ش » : مع.

(٢) « ل » : فإن استدلّ على.

(٣) هداية المسترشدين : ٣٩٧ ( السادس ).

١٦١

كلام طويل ، فلنقتصر على بيان الملخّص منه وهو أنّ الضرورة الدينية قاضية بوجوب الرجوع في الكتاب في جميع الأعصار والسنّة ، مضافا إلى الأخبار الواردة في هذا المضمار البالغة حدّ التواتر ، وحيث علمناها (١) بالخصوص ، فلا إشكال كما أنّه لا إشكال فيما لو قام قاطع على نفيها (٢) ، وأمّا فيما لو انسدّ باب العلم أو ما قام مقامه إليهما ، فلا بدّ من إعمال الظنّ في طريق نفيهما (٣) كما هو الشأن في كلّ ما انسدّ فيه باب العلم على ما يقضي به العقل القاطع ، فيلزم لزوم العمل بالسنّة المظنونة وهو المطلوب.

ويرد عليه إجمالا : أنّ هذا الدليل مرجعه في الحقيقة إلى دليل الانسداد ، فلا ينهض بإثبات لزوم (٤) العمل بالأخبار كما هو المناط في المقام ، وتفصيلا أنّ المستدلّ إن أراد من السنّة قول المعصوم وفعله وتقريره ـ كما يشعر إليه دعواه بقيام الضرورة عليه ، واقترانه بالكتاب وبقاء التكليف بالعمل به ـ فهو في محلّه إلاّ أنّه غير مختصّ بما زعمه من أخبار الآحاد حيث إنّ الشهرة والإجماع المنقول أيضا من السنّة المظنونة بهذا المعنى ، وغيرهما من الأمارات التي تكشف عن السنّة بالمعنى المذكور.

وتوضيح ذلك : أنّ الحاصل من المقدّمات المذكورة وجوب الأخذ بما ظنّ كونه سنّة بعد انسداد طريق العلم إليها ، فلنا أن نقول : إنّ الشهرة أيضا ممّا يظنّ كونه سنّة على ما هو المفروض من السنّة بل قد يمكن أن يقال : إنّها أقوى في استكشاف السنّة عنها من (٥) غيرها ؛ إذ ابتذال مدلوله واشتهار مفاده عند الأصحاب مثلا ممّا يؤكّد صدور قول أو فعل أو حصول تقرير منهم فيه ، وهكذا نقول في غيرها من الأمارات الظنّية.

لا يقال : غاية ما هناك لزوم الأخذ بالشهرة والإجماع وغيرهما من الأمارات الكاشفة عن قول المعصوم أو فعله أو تقريره ، وأمّا غيرها من الأمارات ـ التي هي في

__________________

(١) « ل » : علمناهما.

(٢) « ل » : تعيينهما؟

(٣) « ل » : تعيينهما؟

(٤) « ل » : ـ لزوم.

(٥) « ل » : عن.

١٦٢

عرض قول المعصوم أو فعله أو تقريره ما يستكشف بها من المصلحة الكامنة (١) والحكم الواقعي كالأولوية والاستقراء ونحوهما ـ فلا دليل على اعتبارها.

لأنّا نقول : أوّلا : لا يهمّنا البحث فيها ؛ فإنّ لها مقاما سيأتي ؛ إذ يكفي في الردّ على المستدلّ في المقام جريان دليله في غير مدّعاه بعد ما زعمه من الاختصاص ولو في مورد.

وثانيا : أنّ الأولوية أيضا كاشفة عن السنّة ؛ إذ ليس الكلام فيما حجب الله علمه عن العباد ، وجعله من مخزون العلم عنده بل الكلام في الأمور العادية التي بيّنوا أحكامها ، فالأولوية في واقعة كذائية تورث الظنّ بالواقع وهو يلازم ظنّ صدور سنّة منهم عليهم‌السلام عليه كما لا يخفى.

وثالثا : إنّ العمل بالسنّة وجوبه ليس وجوبا نفسيا من جهة اعتبارها من حيث هي هي ؛ إذ الأدلّة التي دلّت على وجوب العمل بالسنّة لا يزيد مفادها على لزوم الأخذ بها من جهة كشفها عن الواقع والأولوية لو لم نقل بالأولوية من جهة كشفها عن الواقع ، فلا أقلّ من عدم اقتصارها عن غيرها ، فلا مناص من الاتّكال عليها وورودها على المستدلّ هذا ، وإن أراد المستدلّ من السنّة المدّعى على لزوم العمل بها ضرورة الدين والإجماع بالخبر الخالي عن قول المعصوم أو فعله أو تقريره ، فإن أريد بالخبر القطعي ، فمسلّم لكنّه غير مفيد ؛ إذ هو على تقدير معلوميّته ممّا لا ينبغي التكلّم فيه ، وعلى تقدير عدم معلوميّته والعلم به إجمالا يرجع الدليل إلى الوجه الأوّل ، وإن أريد الخبر الظنّي فالضرورة قضت بعدم ضرورة لزوم العمل به ، كيف وهو المعركة العظمى وأوّل المدّعى.

وبالجملة فإن آل إلى رابع الأدلّة ، فهو ، وإلاّ فلا نعرف له وجها ، هذا تمام الكلام في المقام الأوّل من وجوه الأدلّة التي يمكن الاستناد إليها في حجّية أخبار الآحاد

__________________

(١) « ل » : الكاشفة؟

١٦٣

بالخصوص نقلا وعقلا ، وحاصلها اعتبار الأخبار الموثوق بها ، ولكن ينبغي أن يعلم أنّ الوثوق أمر إضافي لا ينضبط غالبا بل هو موكول إلى نظر المجتهد ، فربّما يتخيّل من لا خبرة له بأمر الأخبار والرواة أنّ شيئا من الروايات المودعة في كتب أصحابنا كالكافى والتهذيب والوافى والفقيه مثلا ممّا لا وثوق بها بل إنّما هو مجرّد سواد على بياض ، كما أنّه قد يتوهّم أنّ جلّ الأخبار بل كلّها أخبار موثوقة ، ولا اعتبار بما تخيّل ، ولا بما توهّم بل لا بدّ من العامل بذل جهده في تشخيص غثّها عن سمينها ، وصحيحها عن سقيمها ، ولنشرع في بيان الوجوه التي تدلّ بعمومها على حجّية الخبر وهي لعموم قضيتها وإن كانت تشمل غير الخبر من الأمارات الظنّية إلاّ أنّ بعد ما قرّرنا من اعتبار الأخبار الموثوقة يمكن استرجاع الدليل هذا إلى الخبر بدعوى كفايته في الفقه حيث إنّه لا يختصّ صنفا خاصّا دون غيره وكونه القدر المتيقّن.

ثمّ إنّا لمّا نفترق بين المسائل الأصولية والموارد الفقهية في العمل بالظنّ الموثوق به ، فلو ظنّنا ظنّا موثوقا به باعتبار أمارة ظنّية غير (١) موثوق بها ، نلتزم بالعمل (٢) بها كما لو حصل لنا الظنّ الذي يسكن إليه النفس باعتبار الشهرة مثلا أو الأولوية الظنّية مثل ما لو حصل الوثوق في الحكم الفرعي من نفس الأولوية التي لا ترجع إلى دلالة اللفظ كما نرى في الحكم بحرمة امرأة ذات عدّة على من دخل بها في أيّام العدّة احتراما للفروج ، فإنّها أولى من امرأة ذات بعل (٣) أولوية لا تكاد تنكر بل لا يستبعد (٤) أن يستند إليها القائل بالظنّ الخاصّ أيضا كالأولوية التي تكون في أفعال الصلاة بالنسبة إلى ركعاتها مثلا ، لو قلنا بكفاية الظنّ في إحراز ركعات الصلاة عند الشكّ فيها ، نقول : إنّه (٥) أولى في الكفاية عن إحراز (٦) الركعات ـ وهي الأفعال ـ أولوية موثوقة بها كما هو

__________________

(١) « ل » : ـ غير؟

(٢) « ل » : من العمل.

(٣) « ل » : البعل.

(٤) « ل » : لا يبعد.

(٥) « ل » : إنّها.

(٦) هنا زيادة استدركت في هامش « ل » : ما يجب في.

١٦٤

ظاهر ، بخلاف ما لو لم تفد الوثوق كما زعم بعضهم أولوية الماء المختلط بالدم في الحكم بكونه معفوّا عنه عن نفس الدم مثلا ، فتدبّر.

المقام الثاني في بيان الوجوه التي تعمّ الخبر من الأدلّة العقلية وهي أربعة :

الأوّل : ما استند إليه جماعة من أصحابنا وجملة من الجماعة (١) وهو أنّ في مخالفة ما ظنّه المجتهد مظنّة ضرر ، وكلّ ما فيه مظنّة الضرر يجب الاحتراز عنه ، فيجب الاحتراز عن مخالفة ما ظنّه المجتهد وهو المطلوب.

أمّا الصغرى ، فلأنّ المخالفة تلازم إمّا خوف إصابة العقاب اللازم للأمر ، أو المفسدة القائمة المقتضية للأمر على ما هو قضية القواعد للطائفة العدلية على سبيل منع الخلوّ بناء على ما زعمه الأشاعرة من انتفاء المفسدة إلاّ أنّه لا أقلّ من مظنّة العقاب في صورة المخالفة على تقديره ، ولا ريب في أنّ العقاب والمفسدة ضرر ، فخوف إصابتهما خوف إصابة الضرر ، مثلا لو ظنّ المجتهد بوجوب واقعة من أمارة ، فلا شكّ أنّ العمل بخلافها حينئذ يلازم العقاب (٢) ، أو الوقوع في مفسدة كامنة فيها وهو المراد بالصغرى.

ويمكن تقرير الصغرى بوجهين : بجعل خوف إصابة الواقع تارة محمولا ، والوقوع في المفسدة أخرى كما عن العلاّمة في النهاية إلاّ أنّ فيما ذكرنا غنية عنه ، وأمّا الكبرى ، فضرورة العقل تقضي بها بل وهي من أجلى الضروريات بل عليها مدار جملة من الأصول الدينية ، ولولاه لانسدّ طريق النبوّات ، وانفتح سبيل الهفوات بل يمكن القول بلزوم دفع الضرر الموهوم ، فكيف بالمظنون ، وإنّ من البديهي استقرار طريقة العقلاء في الاجتناب عن إناء يحتمل السمّ فيه لو لم يكن معارضا بما هو أقوى منه ، أو مساو

__________________

(٧) استدلّ به العلاّمة في مبادئ الوصول : ٢٠٥ والتهذيب : ٢٣٠ والنهاية كما سيأتي عنه والقمّي في القوانين ١ : ٤٤٧ ونقل ذلك كلّ من المرتضى في الذريعة ٢ : ٥٣٤ والطوسي في العدّة ١ : ١٠٧ والحلّي في معارج الأصول : ٢٠٧ كما نقل عن جماعة في مفاتيح الأصول : ٤٨٤.

(٨) « ش » : بالعقاب.

١٦٥

له.

ودعوى انتساب (١) المجتنب عن الموهوم إلى أصحاب السوداء والجنون إنّما يسلّم في صورة المعارضة دون غيرها.

واعترض على الدليل بوجوه يرجع إلى منع الصغرى بعضها ، وإلى الكبرى بعضها الآخر ، وإلى عدم ترتّب النتيجة بعضها الثالث.

أمّا الثاني ، فوجوه : منها : ما أورده الحاجبي (٢) ، وأمّا لو قلنا بالتحسين والتقبيح العقليين على ما رآه العدلية ، فالعقل إنّما يحكم بأولوية دفع الضرر المظنون ، ولا يحكم بوجوبه.

وفيه أوّلا : أنّه لا فرق في العقول بين الضرر القطعي والظنّي ، فكما أنّ العقل يستقلّ بإدراك وجوب دفع الأوّل ، فكذا في الثاني ، كيف وهو من مباني أصول المعرفة كوجوب معرفة الله ولولاه ، لزم إفحام (٣) الأنبياء على ما قرّر الوجه في الجميع في محلّه ، وهذا القول منه وأضرابه ـ الذين ختم الله على قلوبهم وأبصارهم ـ ليس بعجب بعد إنكارهم أصل التحسين والتقبيح ، ولنعم (٤) ما قيل : من لا يعرف الفقه ، فقد صنّف فيه.

وثانيا : أنّ الأدلّة الشرعية قاضية أيضا بوجوب دفع الضرر ، فلا يتأتّى منه أيضا إنكار الكبرى كقوله تعالى : ( أَفَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُوا السَّيِّئاتِ أَنْ يَخْسِفَ اللهُ بِهِمُ الْأَرْضَ )(٥) وقوله تعالى : ( فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ )(٦) وقوله : ( إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلى ما فَعَلْتُمْ نادِمِينَ )(٧).

__________________

(١) « ل » : استناد.

(٢) شرح مختصر منتهى الأصول : ١٦٣ ؛ المتن لابن الحاجب والشرح لعضد الدين عبد الرحمن الإيجي ، ويعبّر عنه بـ « العضدي ».

(٣) « ش » : انفحام.

(٤) « ل » : نعم.

(٥) النحل : ٤٥.

(٦) النور : ٦٣.

(٧) الحجرات : ٦.

١٦٦

والتقريب في الكلّ واضح بعد ما ترى من (١) الأمر بالتبيّن والحذر لخوف إصابة الفتنة والجهالة والندامة ، فالكبرى على أنّها ضرورية مبيّنة مبرهنة متبيّنة (٢) أيضا.

الثاني : ما وجدناه في كلام بعض الأجلّة (٣) وهو أنّ العقل إنّما يستقلّ في إدراك وجوب دفع الضرر الدنيوي الذي (٤) له تعلّق بأمور المعاش (٥) دون الأخروي الذي يرجع إلى المعاد وهو بظاهره غير سديد ؛ إذ بعد ما فرضنا من الصغرى ـ سواء كان متعلّقا بأمر الدين أو الدنيا ـ فإنكار الكبرى ممّا لا ينبغي لذي مسكة اللهمّ إلاّ أن يوجّه بإرجاعه إلى إنكار الصغرى حيث إنّ الأمور الأخروية مبنيّة على دليل علمي ، فمتى لم نجد يحكم العقل بعدم التكليف ولو في مرحلة الظاهر ، فلا تكليف قطعا ولو بملاحظة أدلّة البراءة ، فلا عقاب.

الثالث : ما أفاده المحقّق في المعارج (٦) من النقض بالخبر الفاسق والقياس وغيرهما ممّا قام القاطع على عدم حجّيته.

ويمكن التفصّي عنه أوّلا بما قد يستفاد من تضاعيف كلمات الفاضل القمّي رحمه‌الله (٧) من الالتزام به مرّة ، وإنكار حصول الظنّ أخرى ، وليس في محلّه كما سيجيء.

وثانيا : أنّ مخالفة الظنّ الحاصل من القياس وإن كان يوجب خوف إصابة الفتنة إلاّ أنّه لا قبح في العقل أن يحكم الشارع بإلغاء ذلك نظرا إلى احتمال وقوع العامل بالقياس من جهة عمله به في محذور أشدّ مفسدة ، وأقوى فسادا.

وتوضيحه : أنّه لو ظنّ المجتهد بواسطة قياس ظنّي بحكم ، فلا شكّ أنّ مقتضى لزوم

__________________

(١) « ل » : من أنّ.

(٢) « ل » : أمّا الكبرى على أنّها من الضروريات المبيّنة المبرهنة مثبتة.

(٣) الفصول : ٢٨٧ ، انظر الذريعة ٢ : ٥٤٩ ؛ عدّة الأصول ١ : ١٠٧ ؛ القوانين ١ : ٤٤٧.

(٤) « ش » : ـ الذي.

(٥) « ل » : تعلّق بالمعاش.

(٦) معارج الأصول : ٢٠٧ ولم يذكر القياس.

(٧) القوانين ١ : ٤٤٨.

١٦٧

التحرّز عن الضرر المظنون ـ كما هو مفاد الكبرى ـ وجوب متابعة القياس والعمل بمفاده حيث (١) إنّ العمل بالقياس أيضا واقعة من الوقائع ، فيحتمل أن يكون فيها مفسدة أشدّ من المفسدة التي تكون في الحكم المستنبط من القياس ، لأجلها قد ألغى الشارع العمل ، مثلا لو ظنّ بحرمة العصير العنبي قياسا له على الخمر ، ففي استعمال العصير بحكم الظنّ الحاصل من القياس مظنّة ضرر ، فكذا في العمل بالقياس والاجتناب عنه من حيث استناده إلى القياس ، ويجوز للشارع في مقام الجعل طرح الأوّل والحكم بأخذ الثاني متى ما كانت المفسدة الكامنة فيه أقوى ، وليس ذلك من التخصيص في حكم العقل حتّى يقال : إنّ حكم الشرع ليس موافقا لحكم العقل بل كلّ منهما يلازم الآخر بل هو تخصيص وتقييد لمورد حكم العقل.

وبالجملة ففيما نحن بصدده نلتزم بعدم لزوم دفع الضرر المظنون في مخالفة المسألة الفرعية نظرا إلى لزوم دفع الضرر المظنون في المسألة الأصولية ؛ لاحتمال أن يكون الضرر المحتمل فيها أقوى ، وأمّا ما قد يجاب (٢) عن مثله بقيام الإجماع على خروجه ، فممّا لا يصغى إليه بعد ما عرفت من أنّ الكلام في جعل الشارع كما لا يخفى.

فإن قلت : إنّ بعد ما استكشفنا من نهي الشارع مفسدة كامنة في العمل بالقياس لأجلها منعنا عن (٣) العمل به ، وحاولنا إنكار العمل به لاحتمال أن يكون المفسدة فيه أقوى من المفسدة في الحكم المستخرج منه ، فلا يجوز العمل بكلّ أمارة حيث إنّ الشارع قد نهى عن العمل بها لعموم ما دلّ على حرمة العمل بمطلق ما وراء العلم ، فبعد ملاحظة نهي الشارع عنها يحتمل أن يكون المفسدة الموجبة للنهي عن العمل بالظنّ زائدة على المصلحة المقتضية للعمل به ، وأشدّ من المفسدة المترتّبة على ترك العمل به ، فلا يلتفت إلى دفع (٤) الضرر الحاصل عن الترك دفعا للضرر الحاصل من

__________________

(١) « ل » : وحيث.

(٢) انظر معارج الأصول : ٢٠٧ ؛ القوانين ١ : ٤٤٧.

(٣) « ل » : ـ عن.

(٤) « ش » : لما وقع.

١٦٨

الفعل لاحتمال كونه أقوى.

قلت : فرق بين المقامين ، فإنّ القياس حرمته حرمة ذاتية كما يستفاد من الأدلّة الدالّة على حرمته من أنّ العامل به والمتّكل عليه وإن أصاب الواقع ، فهو مخطئ في الواقع ، فيجري فيه الاحتمال المذكور بخلاف العمل بالظنّ ، فإنّه قد تقدّم أنّ مرجع الأدلّة الدالّة على حرمته إلى أمرين : أحدهما لزوم التشريع ، وثانيهما لزوم طرح الأصول القطعية بلا دليل يرتفع به موضوعها ، فإنّ العامل به تارة يعمل على أنّه هو المرجع في عمله المستند في فعله ، وأخرى يجعل عمله موافقا لما ظهر له ، ومطابقا لإدراكه من غير أن يستند إليه وأخذه مبنى (١).

وعلى الأوّل يلزم التشريع وهو البدعة المحرّمة بالعقل والنقل.

وعلى الثاني فإمّا يكون ظنّه موافقا لأصل من الأصول العملية أو مخالفا لها ، أو لا موافقا ولا مخالفا ، فعلى الأوّل والثالث ، فالمرجع في الحقيقة إمّا الأصل ، أو التخيير ، فلا عمل بالظنّ ، وعلى الثاني يلزم طرح الأصل المخالف من غير دليل علمي يرتفع به موضوعه ، ولا يلزم شيء من المحذورين فيما لو استندنا إلى الظنّ بعد حكم العقل بواسطة لزوم دفع الضرر لوجوب الاستناد كما لا يخفى ؛ إذ العمل به حينئذ عين الشرع ، فلا يلزم التشريع ونفس العلم ، فلا يلزم طرح الأصل من غير علم.

ويمكن الجواب عنه بأنّ العمل بالقياس ـ من حيث استناد العامل إليه من حيث هو ـ قياس ، ومن غير ما يوجبه من الاحتياط عمل بالباطل ، وأمّا بعد ملاحظة الاحتياط دفعا للزوم الضرر ، فلا شكّ أنّه أمر مستحسن عقلا بل وشرعا أيضا ، فإنّ المدار في الحكم بالتسامح في أدلّة السنن في المكروهات عليه كما ستعرف إن شاء الله حيث إنّ المناط حينئذ في العمل هو الاحتياط وهو ليس من القياس في شيء بل القياس محصّل لموضوع يحكم العقل فيه بالاحتياط ، ومحقّق لعنوان يلتزم بلزوم دفع

__________________

(١) « ش » : مبنى له.

١٦٩

الضرر فيه ، أما ترى أنّ العقل في صورة الشكّ والاحتمال إنّما يلتزم بإتيان المحتملات كما في الشبهة المحصورة مع أنّه ليس من العمل بالشكّ والاحتمال في شيء ، وهل هذا إلاّ مثل اعتضاد القياس بالخبر الصحيح في عدم اتّكال العامل بالقياس وإن كان بينه وبين ما نحن بصدده (١) فرق من جهة أخرى كما لا يخفى.

اللهمّ إلاّ أنّ من المستفاد من طريقة المذهب وسبيل المشرب إلغاء الشارع الاحتياط هذا (٢) نظرا إلى غلبة مصلحة تركه على مصلحة فعله.

ثمّ إنّك بعد ما عرفت من أنّ مبنى الدليل على الاحتياط ، فممّا لا ينبغي الارتياب فيه بوجه ما وجّهنا مثله على الوجوه العقلية السابقة من أنّه (٣) غاية ما يستفاد من (٤) لزوم الاحتياط في الأجزاء المشكوكة الثابتة بالأمارات الظنّية.

وأمّا الأمارات التي مفادها نفي التكليف ، فلا دلالة فيه (٥) على لزوم الإتيان بها مع أنّ الدعوى بعمومها تشملها أيضا ، ولا سبيل إلى الاستناد بالإجماع ـ كما مرّ سابقا ـ لظهور المبنى ووضوح عدمه في أحد طرفي الإجماع ، وهل هذا إلاّ مثل أن يقال : يجب إنفاق المال على الواقع في المخمصة بمظنّة فوته ، فيجب في غير تلك الحالة استنادا إلى الإجماع.

وأمّا الأوّل ، فلأنّه لا يخلو إمّا أن يكون الضرر المظنون في مخالفة ما ظنّه المجتهد حكما (٦) هو العقاب اللازم لترك الواجب ، أو فعل الحرام ، أو المفسدة الموجبة للوجوب ، أو الحرمة على ما أورده المستدلّ ، وليس على التقديرين على ما ينبغي.

أمّا الأوّل ، فلأنّه لا ملازمة بين الظنّ بالعقاب وبين ترك الحكم المظنون (٧) ، إذ ليس

__________________

(١) « ل » : « فيه » بدل : « بصدده ».

(٢) « ل » : ـ هذا.

(٣) « ل » : أنّ.

(٤) نسخة بدل بهامش « ل » : هو.

(٥) كذا. ولعلّ الصواب فيها.

(٦) في النسختين : حكم.

(٧) « ل » : بالمظنون.

١٧٠

علّة له ولا معلولا منه ، ولا بمشتركين في علّة ثالثة.

أمّا الأوّل ، فظاهر وفي ظهوره غنية عن التنبيه عليه كالثالث.

وأمّا الثاني ، فلأنّه لو كان ترك الحكم المظنون علّة للظنّ بالعقاب ، لكان ترك الحكم المشكوك (١) علّة للشكّ في العقاب ، والملازمة كبطلان التالي ظاهرة ؛ لاستقلال العقل في الحكم بعدم العقاب عند الشكّ في الحكم ، فإنّه ممّا اتّفقت فيه كلمة الأخبارية والأصولية من الحكم بالبراءة ، كيف والقطع بترك الحكم في الواقع لا يوجب القطع بالعقاب ، كما إذا كان حين الترك غافلا أو جاهلا على ما يقتضيه قواعد العدلية ، فالعقاب إنّما يلازم التكليف ، وعدم الامتثال ومجرّد ترك المشكوك بل المظنون بل المقطوع لا يورث عقابا ولا ظنّا بالعقاب بل ولا شكّا حيث إنّ العقاب دائما إمّا يكون وجوده مقطوعا ، أو عدمه في صورتي التكليف وعدمه ، فالنسبة بين العقاب وترك الحكم الواقعي تباين جزئي قد يجتمعان في مورد واحد كما لو خالفه مع تنجّز التكليف به وتعلّق العلم به ، وقد يتحقّق العقاب من دون تحقّق الترك في صورة التجرّي على ما سبق ، وقد يتحقّق الترك من دون عقاب كما لو ترك غافلا أو جاهلا ، وعدم العقاب في صورة الجهل ليس من جهة مانعية الجهل بل لعدم وجود مقتضي العقاب وهو العلم بالوجوب والعلم بتعلّق التكليف على المكلّف ، إذ لا تكليف إلاّ بعد البيان ولا سبيل إلى دعوى أنّ أدلّة وجوب دفع الضرر بيان عامّ ولو بلسان العقل ، فإنّ الكلام في أصل الضرر.

وبالجملة ، فالذي يؤمننا من الضرر في صورة الشكّ في الحكم مع ترك المشكوك يؤمننا منه عند ترك الحكم المظنون ؛ لاتّحاد سبيل الحكم فيهما قطعا ، فالعقاب إنّما يلازم مخالفة التكليف.

نعم ، لو قلنا بأنّ الظنّ أيضا مناط تنجّز التكليف بالنسبة إلى المكلّف كالعلم ،

__________________

(١) « ل » : بالمشكوك.

١٧١

فالظنّ بالمخالفة يلازم الظنّ بالعقاب ، أو قلنا بأنّ العقاب من توابع الإدراك ، فيختلف بحسب اختلاف مراتبه علما وظنّا ، يتّجه الملازمة المذكورة ، وبطلانه ظاهر ، فالمستدلّ إن أراد إثبات إناطة التكليف بالظنّ أيضا ، فلا يخفى فساده ، إذ هو من الدور المحال حيث إنّه قد احتاج في إثبات مطلوبه وهو اعتبار الظنّ إلى اعتبار الظنّ.

وأمّا الثاني ، فلأنّه لا ملازمة أيضا بين الظنّ بالحكم وبين الظنّ بالمفسدة عند المخالفة وإن كانت المفسدة مقتضية للحكم ؛ لاحتمال الحبط والتكفير ، فلو ظننّا بحرمة العصير العنبي وخالفنا حكم الظنّ فيه ، فلا يلازم حصول الظنّ بالوقوع في المفسدة المقتضية للحرمة ؛ لاحتمال صدور فعل منّا رافع لها على ما قال سبحانه وتعالى : ( إِنَّ الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ )(١) وذلك ظاهر لكنّه لا يخفى ما فيه ؛ فإنّ المعلوم من طريقة العقلاء في جلب المنافع ودفع المضارّ ـ سواء كان متعلّقا بأمور معاشهم أو أمور معادهم ـ إحراز مقدّماتها وعدم الاعتناء باحتمال حصول شيء رافع لها ، فمتى ما حصل لنا الظنّ بوجوب شيء أو حرمته ، وقلنا بتبعيّة الأحكام للمصالح والمفاسد ـ كما هو المفروض ـ فيكفي في الحكم بلزوم التحرّز عن تلك المضارّ المترتّبة على مخالفة الحكم المظنون ، ولا عبرة باحتمال حصول شيء يكفرها كما يظهر من ملاحظة حال العقلاء في احترازهم عن أكل السمّ مع احتمال حصول ترياق يعالجه.

فإن قلت : مع ذلك كلّه فلا يتمّ (٢) الاستدلال حيث إنّ الكلام في المقام ليس إلاّ من جهة دفع العقاب في مخالفة الظنون ، وأمّا الوقوع في المضارّ التي لا ترجع إلى العقاب ، فلا نبالي (٣) به بعد ما لم يكن ممّا يترتّب عليه العقاب ، وقد عرفت آنفا عدم ترتّبه عند المخالفة بما لا مزيد عليه.

فإن قلت : قد طابق حكم العقل حكم الشرع في وجوب دفع الضرر ، ألا ترى أنّ

__________________

(١) هود : ١١٤.

(٢) « ل » : لا يتمّ.

(٣) « ل » : فلا يبالي.

١٧٢

المريض لو ظنّ في مضرّة غذاء محرّم (١) عليه ، أكله ، فالعقاب إنّما يترتّب على مخالفة وجوب الدفع وإن لم يترتّب على حكم المظنون ، فيعود المحذور.

قلت : لا نسلّم وجوب دفع كلّ مضرّة لا يرجع إلى العقاب شرعا ، وإنّما المسلّم منه فيما لو كان مرجعها إلى البدن كما فيما فرضه من التمثيل ، أمّا فيما لا يرجع إلى البدن بل كان مرجعه إلى انحطاط الرتبة وعدم الارتقاء إلى العالم الأعلى والبعد عن ساحة القرب ـ كما هو كذلك في أغلب الأحكام الشرعية ـ فلو لم نقل بقيام الإجماع على عدم لزوم تداركها وتحصيل ما يعالجها ، فلا أقلّ من عدم دليل على لزومه كما لا يخفى فتدبّر.

اللهمّ إلاّ أن يقال : إنّ العقل يستقلّ في الحكم بلزوم دفع بعض المضارّ المترتّب على غير البدن أيضا لو لم يزد حفظ العقل على النفس ، فلا أقلّ من عدم نقصه عنه ، وهذا ظاهر لا سترة عليه.

ثمّ إنّه لا يخفى عدم استقامة الكبرى على عمومها ؛ فإنّ الشارع قد ألغى الظنّ في جملة من الموارد كما في صورة الظنّ بالنجاسة والظنّ بالطهارة مثلا.

وأمّا ما أوردناه في دفعه في الجواب عن النقض (٢) بالقياس والخبر الفاسق والكافر على ما هو المنقول من (٣) المعارج (٤) من احتمال وجود مصلحة في الترك تغلب على المفسدة المترتّبة عليه ، فهو بظاهره ينافي القول بالتخطئة على ما هو الصواب عندنا كما يظهر وجهه ممّا قدّمنا في الانتصار عن ابن قبة.

ومحصّله أنّ بعد انسداد باب العلم وحكم العقل بقيام الظنّ مقامه حيث إنّه هو الأقرب للعلم ، فلو قلنا بجواز إلغاء بعض الظنون وترك العمل به ، يلزم نقض الغرض في وجه ، وخلاف الفرض في وجه آخر ، فلو رام في دفع ذلك إلى جعل الظنّ جزء الموضوع وعدم أخذه مرآتا ، لزم التصويب وهو خطأ عندنا ، فتأمّل ؛ فإنّه لا يخلو عن

__________________

(١) « ل » : يحرم.

(٢) « ش » : البعض.

(٣) « ل » : في.

(٤) تقدّم في ص ١٦٧.

١٧٣

نوع خفاء وغموض ، فعلى ما ثبت (١) من عدم استقامة الكبرى ، يلزم إفحام الأنبياء وإلزام الأولياء وغيرهما من اللوازم إن بنينا على ما هو مصرّح به فيما سبق.

لأنّا نقول : فرق بيّن بين الأصول والفروع ؛ إذ في الأوّل يحكم العقل بلزوم التحرّز دون الثاني.

وتوضيحه : أنّ البيان في الأحكام الشرعية من وظيفة الشارع ، ففيما لم يبيّن لنا (٢) حكما نلتزم (٣) بعدمه في حقّنا بخلاف الأصول ، فإنّ البيان فيه من وظيفة العقل ؛ لإفضائه إلى الدور لو كان موكولا إلى (٤) بيان الشرع ، فالعقل يلتزم (٥) بوجوب دفع الضرر وإن كان في مقام الشكّ في التكليف.

وبالجملة ، فنحن لا نجد في عقولنا عذرا لمن لم (٦) يتحرّز الضرر في مقام إقامة النبيّ المعجزة الدالّة على نبوّته ، ويعدّ قوله في هذا المقام : « لا تكليف إلاّ بعد البيان » سفها ، بل ينسب القائل به إلى أصحاب السوداء والجنون بخلاف الغير المتحرّز عن الضرر في الفروع ، وهذا ظاهر لا سترة عليه ، فإنّه قد يتعاكس فيهما الأمر كما لا يخفى.

هذا تمام الكلام في منع المقدّمتين وإثباتهما وتنقيحهما وتصحيحهما إلاّ أنّه مع ذلك كلّه لا يترتّب عليهما النتيجة المطلوبة من اعتبار كلّ ظنّ ومطلق المظنّة ؛ إذ مبنى الدليل ومرجعه إلى لزوم الاحتياط وهو لا يلازم الظنّ ، فإنّ مقتضى الاحتياط الإتيان بكلّ ما يحتمل جزئيته ، أو شرطيته في مقام الشكّ في الأجزاء والشرائط مع ثبوت أصل التكليف بالنسبة إلى كلّ مهمل ، ومقتضى الظنّ عدم الإتيان بما ليس جزءا ولو بحسب الظنّ ، فلا تلازم بينهما ، ولا يكاد يصحّ الاستناد في إتمام المرام إلى الإجماع لما عرفت مرارا من عدم نهوضه بمثل المقام.

__________________

(١) « ش » : بنيت.

(٢) « ل » : ـ لنا.

(٣) « ل » : يلتزم.

(٤) « ش » : على.

(٥) « ل » : يلزم.

(٦) « ل » : ـ لم.

١٧٤

اللهمّ إلاّ أن يوجّه الدليل المذكور بأوله إلى الدليل الرابع وبرهان الانسداد وأخذ المقدّمات المعتبرة فيه : من بقاء التكليف ولزوم التكليف بما لا يطاق لو كان المرجع بعده إلى تحصيل العلم ، ولزوم العسر لو كان المعتبر هو الاحتياط ، والخروج من الدين لو كان المعتمد هو البراءة ، فيتعيّن التبعيض بين الأمارات الموهومة والمشكوكة والمظنونة ، ولا ريب أنّ العمل بالظنّ في تلك التكاليف المجملة وبيانها بالمظنونات أولى من العمل بغيرها وإن كان لا يخلو من الضعف أيضا.

الثاني (١) من الوجوه العقلية الناهضة على وجوب العمل بمطلق الظنّ أنّ بعد ما أطبق أصحابنا الإمامية على التحسين والتقبيح العقليين والعلم بأنّ تشريع الأحكام إنّما هو لأجل الوصول إلى الواقع ، فلو ظنّ المجتهد بوجوب شيء ، فإمّا يعمل به ويطرح الطرف الموهوم ، أو لا يعمل بمظنونه بل يحمل عمله على موهومه ، والأوّل هو المطلوب ، والثاني يستلزم ترجيح المرجوح وهو الموهوم على الراجح وهو المظنون ، وذلك ممّا لا شكّ في قبحه وكذا بالنسبة إلى الشارع لو جوّز له العمل بالموهوم وطرح المظنون.

فإن قلت : إنّا نرى بالعيان ، ونشاهد بالوجدان ، تجويز الشارع لنا العمل بالموهوم ولا قبح.

قلت : ولعلّه لخصوصية في الموهوم ليست في المظنون ، وإلاّ لو فرضنا عدمها بل جوّز العمل به من حيث إنّه موهوم من غير خصوصية زائدة بها يصير راجحا على الطرف الراجح وهو المظنون ، فلا ريب في قبحه وعدم جواز صدوره من الشارع الحكيم ، ألا ترى أنّا لو حاولنا سلوك سبيل يوصلنا إلى مطلوب ، ولم يكن هناك (٢) مصلحة توجب الأمر بالموهوم مثل العلم بموافقته للواقع وغير ذلك ، وكان الطريق

__________________

(١) استدلّ به العلاّمة في النهاية وغيره كما في القوانين ١ : ٤٤٣ ؛ الفصول : ٢٨٦ ؛ هداية المسترشدين : ٤١١.

(٢) « ل » : هنا.

١٧٥

الموصل غير علمي ، فلو جوّز لنا العمل بالموهوم ، يلزم عليه القبح ؛ لأدائه إلى نقض غرضه ، وهذا ظاهر.

فإن قلت : لو قلنا بلزوم الترجيح ، يلزم ما ذكر ، وأمّا في صورة عدم الترجيح والتوقّف ، فلا محذور.

قلت : التوقّف في المقام أيضا ممّا لا (١) يستقلّ العقل بصحّته كما يظهر من ملاحظة المثال المذكور لو بنينا على التوقّف كما لا يخفى.

وقد يجاب عنه (٢) بأنّ ترك المظنون والعمل بالموهوم على خلافه لا يستلزم ترجيح المرجوح على الراجح كما إذا ظننّا إباحة شيء مع احتمال وجوبه وهما ، فلا شكّ أنّا لو عملنا بالموهوم وتركنا المظنون ، لا يلزم ما ذكر من الترجيح حيث إنّ الاحتياط أمر مرغوب في نفسه ، ففي المقام العمل المزبور وإن كان (٣) بالنظر إلى تعلّق الإدراك به موهوما ، لكنّ العمل به ليس ترجيحا للمرجوح بملاحظة الاحتياط.

ولكن لا يخفى ما فيه ؛ فإنّه إن أراد أنّ (٤) العمل بالموهوم المذكور والإتيان بما يحتمل الوجوب ليس ترجيحا مع عدم قصد الوجوب في العمل وعدم تعيين وجهه ، فهو كذلك إلاّ أنّه غير مجد ؛ إذ مرجعه إلى اختيار أحد طرفي المباح ، وجوازه ممّا لا ريب فيه كما هو قضية الإباحة ، وإن أراد أنّ الإتيان بما يحتمل الوجوب على أنّه واجب و (٥) بقصد الوجوب لا يستلزم ترجيح المرجوح ، فلا شكّ في بطلانه ؛ ضرورة لزوم المحذور على تقديره ، والاحتياط لا يقضي به أيضا.

والتحقيق في الجواب أن يقال : إنّ الدليل إن آل إلى رابع الأدلّة ودليل الانسداد ، فهو وإلاّ فلا نعرف له وجها ؛ إذ يحتمل دفع المظنونات بأصالة البراءة ، والاقتصار على

__________________

(١) « ش » : ـ لا.

(٢) هداية المسترشدين : ٤١١.

(٣) « ش » : ـ كان.

(٤) « ش » : ـ أنّ.

(٥) « ل » : ـ و.

١٧٦

الأحكام الظاهرية ، فلا ترجيح ، فإن أسند (١) في دفعها إلى ادّعاء القطع ببقاء التكليف بالنسبة إلى الواقع والخروج من الإسلام على تقديرها ، فهو بعينه ما يستند إليه في دفع احتمال البراءة في دليل الانسداد كما اعتبره المستدلّ أيضا كما أنّه يحتمل القول بلزوم الاحتياط الكلّي في جميع الأمارات ، فلا محذور على تقديره أيضا حيث لا ترجيح ، ولو رام إلى لزوم العسر في رفع الاحتياط ، فهو المرجع في دفعه في دليل الانسداد.

وبالجملة ، فلا يتمّ الاستدلال إلاّ بعد إبطال الاحتمال من البراءة والتخيير والاحتياط والتوقّف وغيرها ممّا ستقف عليها ، فما من مقدّمة يحتاج إليها في إتمام دليل الانسداد إلاّ وهي (٢) ممّا لا بدّ منها في إتمام الدليل هذا ، فعدّه في مقابله دليلا آخر ليس على ما ينبغي.

وقد يظهر من بعضهم في مثل المقام من أنّ بطلان الوجوه المحتملة في المقام لا يعيّن العمل بالظنّ ؛ لاحتمال أن يكون هناك طريق آخر لا نعرفه ؛ ولعلّه سهو (٣) ، وإلاّ فلم نقف له على معنى محصّل حيث لا يتعقّل العمل بالشكّ ، والشكّ في وجوده يكفي في الحكم بعدمه ، ووجود الظنّ يكفي عن جعله طريقا ، ولذلك زيادة توضيح فيما سيأتي إن شاء الله.

الثالث من الوجوه العقلية القائمة على حجّية مطلق الظنّ ما عزاه الأستاذ المرتضى إلى السيّد الطباطبائي صاحب الرياض (٤) ، وحاصله : أنّا نعلم علما ضروريا ـ لا يمازجه شبهة ، ولا يعتريه ريب ـ بوجود واجبات كثيرة ، ومحرّمات عديدة بين الأمارات الموجودة عندنا من الأخبار والشهرات والإجماعات ونحوها في جميع سلاسلها

__________________

(١) « ل » : استند.

(٢) « ل » : وإلاّ وهي. « ش » : إلاّ وهي.

(٣) « ل » : معهود؟

(٤) في فرائد الأصول ١ : ٣٨٢ : حكام الأستاذ [ شريف العلماء ] من أستاذه السيّد الطباطبائي. وقاله صاحب الرياض في مجلس المذاكرة على ما في بحر الفوائد ١ : ١٨٩.

١٧٧

مظنونا ومشكوكا وموهوما ، فقاعدة الشغل والاحتياط تقضي بالعمل بها جميعا إلاّ أنّ لزوم العسر والحرج يقضي بخلافها ، فيجمع بينهما بالعمل بالمظنونات نظرا إلى الشغل وترك المشكوكات والموهومات نظرا إلى العسر.

وفيه إجمالا ما عرفت مرارا من أوله في الحقيقة إلى دليل الانسداد ؛ إذ لا يتمّ إلاّ بعد الأخذ بجميع مقدّماته ، وتفصيلا أنّ المستدلّ لو حاول حصول الموافقة القطعية بعد العلم بالتكاليف المجملة كما في الشبهة المحصورة ، فلا ريب في عدم خروجه عن عهدة التكليف في صورة الاقتصار على المظنونات ، فليعمل بالمشكوكات أيضا والإجماع المدّعى على عدم لزوم الإتيان بالمشكوكات غير مسلّم ؛ ودعوى لزوم العسر على تقدير العمل بالمشكوكات بعد العمل بالمظنونات واهية إذ ندرة المشكوكات في أبواب الفقه من العبادات والمعاملات ظاهرة ، ولو أراد عدم لزوم المخالفة القطعية في العمل بسلسلة المظنونات وترك الموهومات بعد العلم بثبوت التكليف إجمالا على ما هو المدّعى في كلامه ، فليكتف بصنف خاصّ من (١) سلسلة الظنون ، وليدافع الباقي بأصالة البراءة حيث إنّ الشكّ على تقديره يرجع إلى نفس التكليف ، فلا ينتج المطلوب ، ولا سبيل إلى الاستناد بالإجماع المركّب في إلحاق سائر الأمارات الظنّية بعد الاكتفاء بأمارة منها ؛ لما عرفت مرارا من عدم نهوضه بمثل المقام ، فإنّ العلّة في أحد طرفي الإجماع معلومة ، وانتفاءها في الآخر ضروري.

__________________

(١) « ل » : عن.

١٧٨

[ في دليل الانسداد ] (١)

الرابع من الوجوه العقلية دليل الانسداد ، وتحريره على ما ينبغي غير ممكن إلاّ بعد بسط في الكلام ، لينكشف ظلمات الأوهام ، فنقول : إنّه مركّب من مقدّمات خمس :

الأولى : أنّ باب العلم بالمعنى الأعمّ من الوجداني والشرعي في معظم الأحكام الشرعية منسدّ.

الثانية : أنّه تعالى لم يتركنا سدى ، وليس حالنا حال البهائم ، فنحن مطلوبون بشيء في الجملة ولو بالأحكام الظاهرية.

الثالثة : أنّ من المعلوم أنّ المطلوب منّا ـ ولو في مرحلة الظاهر في جميع الموارد ـ ليس العمل بالبراءة الأصلية وأصالة العدم الشاملة لأبواب المعاملات والعبادات ، بل نعلم بأنّه (٢) تعالى قد ألزمنا بشيء في الجملة.

الرابعة : أنّه ليس المطلوب منّا إلاّ تحصيل الموافقة القطعية ، والإتيان بجميع المحتملات.

الخامسة : أنّ المرجع في أعمالنا الخاصّة ليس هو الأصول الخاصّة في الموارد الخاصّة من الاشتغال في محلّه ، والاستصحاب في مجراه ، والبراءة في موردها ، والتخيير في مقامه ، فانحصر الطريق في المظنون والموهوم والمشكوك ، والعقل يستقلّ في تعيين

__________________

(١) العنوان من هامش « ش ».

(٢) « ل » : أنّه.

١٧٩

الأوّل وهو المطلوب.

والثاني والثالث بعمومهما يشملان سائر الاحتمالات ، وسيجيء تفاصيلها (١) إن شاء الله ولا كلام في الحقيقة لأحد من العلماء الأعلام ، والفضلاء العظام ، في شيء من المقدّمات عدى الأولى منها ، ولا ينبغي الارتياب فيها أيضا.

ولقد أجاد من قال (٢) : إنّ بعد إجراء صغرى الانسداد ، فلزوم العمل بمطلق المظنّة (٣) إجماعي ، ولعلّه ضروري لا ينكر ، فمن ينكره باللسان فقلبه مطمئن بالإيمان ، وحيث إنّ بعض متأخّري المتأخّرين (٤) قد أورد شبهة في بعض المقدّمات المذكورة ، وتجشّم في دفعها جملة ممّن تأخّر عنه (٥) ، فنحن أيضا (٦) نقتفي آثارهم في إثبات المقدّمات المزبورة ، فنقول :

أمّا المقدّمة الأولى ، فانسداد باب العلم الوجداني ممّا يقضي به الوجدان ، فلنكتف به عن البرهان ، ولا يوجد في ذلك مخالف أيضا إلاّ شرذمة قليلة (٧) من أهل الباطن ، مع

__________________

(١) « ل » : تفصيلها.

(٢) مفاتيح الأصول : ٤٥٩.

(٣) « ل » : العمل بالظنّ.

(٤) هو آغا جمال الدين الخوانساري كما عنه في القوانين ١ : ٤٤١ ؛ فرائد الأصول ١ : ٤٠٠ وسيأتي عنه ص ١٨٨.

(٥) كصاحب القوانين ١ : ٤٤١ ، انظر هداية المسترشدين : ٤٠٥.

(٦) « ل » : ـ أيضا.

(٧) « ل » : قليلون. وفي هامشها : منهم ميرزا محمّد الأخباري المقتول في المشهد الكاظمي القائل بتعدّد الأحكام المجعولة في كلّ واقعة بحسب تعدّد الأنفس والخلائق الذي سمّى مسمّى تلك الأحكام بالأحكام الواقعية المصرّح بذلك في رسالته المكتوبة في ردّ المجتهدين.

ومنهم ملا خليل القزويني الذي قيل في حقّه : إنّه يعترف بالمقدّمات وينكر النتيجة بل ربّما ينسب ذلك القول إلى من تمسّك في حجّية الإجماع بقاعدة اللطف كالشيخ رحمه‌الله ، لكنّه ليس في محلّه ؛ لأنّه يقول بتسديد جميع الأمّة في مورد اتّفاقهم ، وأين هذا من القول بكون كلّ واحد منهم مسدّدا؟

١٨٠