مطارح الأنظار

الميرزا أبو القاسم الكلانتري الطهراني

مطارح الأنظار

المؤلف:

الميرزا أبو القاسم الكلانتري الطهراني


المحقق: علي الفاضلي
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: معهد الإمام الخميني والثورة الإسلامية
المطبعة: مؤسسة العروج
الطبعة: ١
ISBN: 978-964-7986-36-6
الصفحات: ٦١٥

مضرّا ، يصحّ له الحكم باللزوم.

ومنها : أنّه من أراد المسافرة إلى بلد كان له طريقان متساويان من جميع الجهات ولكن يسافر بعض أحبّائه من أحدهما ، فلو اختاره أيضا المسافر ، لم يرتكب ترجيحا بلا مرجّح ، ولكنّه لو حكم بتعيّن (١) هذا الطريق المسلوك (٢) ، احتاج إلى دليل. قال :

وبالجملة ، جميع الموارد كذلك ، والحكم بلا دليل غير الترجيح بلا مرجّح (٣). انتهى ملخّصا ومحرّرا.

وأنت خبير بفساده في الغاية ، وكساده في النهاية ، وبيانه يتوقّف على تمهيد مقدّمة وهي أنّ من الأمور الجلية ـ التي لا يكاد يعتريها ريب ـ بطلان ترجيح الفاعل أحد طرفي الفعل الممكن صدوره منه ، وعدمه على الآخر بدون مرجّح خارج عن الفعل والإرادة في نظره ، والمراد من المرجّح هو ما يخصّص ويعيّن وجود الفعل ، أو عدمه بالوقوع فلو لم يصل الترجيح حدّ الوجوب على وجه يمنع من الطرف الآخر ، فلا محالة (٤) يجوز مع هذا الترجيح الطرف الآخر ، فعلى هذا لم يتعيّن الأوّل بالوقوع ، فالطرفان مع وجود المرجّح لم يخرجا عن حدّ إمكانهما ، ولم يبلغا درجة الوجود ، أو العدم ، فيحتاج في أحدهما إلى مرجّح آخر ، فما (٥) فرضناه مرجّحا يلزم أن لا يكون مرجّحا ، هذا خلف. ومع ذلك فنقل الكلام إلى المرجّح الآخر ، وهكذا إلى أن يتسلسل ، فالمرجّح في وجود الفعل وصدوره عن الفاعل لا بدّ وأن يكون بحيث يجب معه صدور الفعل منه ، ويمتنع جميع أنحاء عدمه ، ويمتنع معه صدور الفعل منه ، فإنّ الشيء ما لم يجب في نظر الفاعل لم يوجد في الخارج ولو وجودا علميا ، وما لم يمتنع لم يعدم ، وهذا ممّا قد اتّفقت عليه كلمة العدلية ، والمخالف في ذلك لا يعدّ في زمرة العقلاء

__________________

(١) المصدر : بتعيين.

(٢) في المصدر : للسلوك.

(٣) عوائد الأيّام : ٣٩٥ ـ ٣٩٧ ، عائدة ٤١ في بيان بطلان حجّية مطلق الظنّ.

(٤) « ل » : فلا حجّة.

(٥) « ل » : ما.

٢٤١

كالأشعرية ، فإنّ مرجع الترجيح من غير مرجّح إلى الترجّح من غير مرجّح (١).

فتارة من حيث وجود أصل الفعل في الخارج ، فإنّ نسبة الإرادة بالنسبة إلى الوجود والعدم متساوية ، وكذا الفاعل وغيره ، فلو صدر مع ذلك الفعل ، لزم ترجيح أحد طرفي الفعل الممكن وجوده وعدمه من غير مرجّح يقتضيه ، وبدون مخصّص يعيّنه بالصدور ، فإنّ الجزء الأخير من العلّة التامّة المقتضية لصدور الفعل بعد لم يوجد ، وبوجه آخر الترجيح في المقام عبارة عن وجود الفعل في الخارج بمعنى أنّ ما يحاذيه في الخارج ، وينتزع منه الترجيح هو نفس الفعل ووجوده كما في أضرابه من المفاهيم المنتزعة عن الفعل باعتبارات مختلفة كالشروع في الفعل ، ألا ترى أنّ فعل الأكل والشروع فيه غير الأكل في الخارج ، فترجيح الأكل معناه إيجاد الأكل في الخارج ، فلو جوّزنا الترجيح بلا مرجّح ، فقد جوّزنا وجود الفعل وترجيحه من غير مرجّح وهو فطريّ الاستحالة ، وضروريّ البطلان.

وأخرى من حيث نقل الكلام في الإرادة ، فإنّ وجود نفس الإرادة مع أنّها فعل اختياري لا بدّ له من مرجّح خارج عنها ، وإلاّ فيلزم وجود الإرادة وترجيحها بدون المرجّح ، وكيف كان ، فلا ريب في أنّ مرجع صدور الفعل لا بدّ وأن يكون بحيث يجب معه الفعل ، ويمتنع عدمه ، وإلاّ لم يوجد.

وإذ قد عرفت هذه ، فنقول : إنّ ما ذكره في الفرق بين المرجّح والدليل بأنّ المرجّح غير الملزم في دفع ما قيل عليه ممّا لا محصّل له عند التحقيق ، فإن أراد في المثال المذكور أنّ مرجّح أكل الطعام الألذّ والعمل به لا يجب وأن يكون ملزما في صدور هذا الفعل من الآكل (٢) ، فهذا الكلام باطل ؛ لأوله في الحقيقة إمّا إلى عدم صدور الأكل والفعل منه (٣) ، أو إلى جواز الترجيح بلا مرجّح ، وهو راجع إلى الترجيح بلا مرجّح ،

__________________

(١) سقط قوله : « إلى الترجّح » إلى هنا من نسخة « ل ».

(٢) « ل » : هذا الآكل.

(٣) « ل » : فيه.

٢٤٢

وتجويزه يوجب انسداد باب إثبات الصانع.

وإن أراد أنّ مرجع الحكم والاعتقاد بأكل الألذّ لا يلزم أن يكون ملزما ، فهذا أيضا كسابقه ظاهر البطلان ، فإنّ العلم أيضا موجود من الموجودات الإمكانية ، وجميع سلسلة الإمكان في وجوداتها (١) محتاج إلى سبق عللها ، وما لم يكن مرجّح وجود العلم موجودا ، أو ملزما بحيث يمتنع معه جميع أنحاء عدمه ، يمتنع وجوده على قياس المثال (٢) ما نحن فيه ، فإنّ مرجّح اختيار الظنّ المظنون لا مناص من أن يكون ملزما له ، وإلاّ فيلزم المحذور السابق ، وكذا مرجّح الاعتقاد والحكم بأنّ بعد الانسداد المرجع هو الظنّ المظنون اعتباره لا بدّ وأن يكون مستندا إلى دليل يورث له ، وهذا ظاهر لا سترة عليه ، فإنّ مجرّد تعلّق الظنّ بالظنّ لا يصير مرجّحا للعمل بالظنّ ما لم يكن ملزما ، فالظنّ لو جوّزنا أن يكون ملزما لشيء ، فلم لا يكون ملزما للحكم الواقعي أيضا؟ وإلاّ فلا وجه في التزامه العمل بالظنّ أيضا ، فما أورد على نفسه في محلّه ، وما أجاب عنه غير مستقيم ، وكان منشأ الخلط أحد الأمرين :

أحدهما : ما قد يقال من أنّ الترجيح بلا مرجّح قبيح ، فإنّه قد يتراءى منه أنّ المرجّح ما به يصير أحد طرفي الفعل أولى من الآخر ، فيجوز صدور الآخر إلاّ أنّ الأولى هو صدور الطرف الراجح من الفاعل كما يظهر من تمثيله بالمسافر والأكل.

وثانيهما : ما قد يظهر منهم في باب التعارض والتراجيح من أنّ المرجّح غير الدليل ، وكلّ منهما لا دلالة له على ما ذكره.

أمّا الأوّل ، فلأنّ معناه أنّ ترجيح أحد المتساويين وإيجاده (٣) على الآخر بمرجّح وملزم لا يعدّ في نظر العقلاء مرجّحا وملزما قبيح ، لا أنّه يمكن ترجيح أحد المتساويين على الآخر وإيجاده ووجوده من غير مرجّح ومخصّص لإحدى كفّتي ميزان وجوده

__________________

(١) « ل » : في وجود ذاتها.

(٢) « ل » : أمثال.

(٣) « ل » : ـ وإيجاده.

٢٤٣

وعدمه ، وعلى قياسه الكلمة المشهورة على لسانهم من قبح ترجيح المرجوح على الراجح ، وتفضيل المفضول على الفاضل ، فإنّ أمثال ذلك لا تخفى عن العاقل فضلا عن الفاضل.

وأمّا الثاني ، فلأنّ قولهم : المرجّح غير الدليل كما في الشهرة ؛ حيث يقولون بأنّها مرجّحة (١) لا دليل عند تعاضده بأحد الاحتمالين ، معناه أنّها توجب مزيّة لأحد الاحتمالين لم يكن قبل ، فإن أحدثت فيه المزيّة على وجه قطعي بأنّ المرجع هو هذا الاحتمال ، فلا شكّ أنّ المرجّح حينئذ دليل للحكم ، فإنّه جزء أخير للعلّة التامّة لحصول العلم المعبّر عنها بحسب الاصطلاح بالدليل وإن لم يوجب العلم بكون الموافق للمرجّح هو المرجّح ، فلا بدّ في إثبات كونه مرجّحا من دليل معتبر ، فإن قام على كونه مرجّحا دليل ، فهو دليل أيضا ؛ لأنّه جزء أخير لعلّة العلم بالحكم ، وإلاّ فيبقى عاطلا لا مرجّحا ، ولا دليلا ، مثلا لو احتملنا وجوب صلاة الجمعة وحرمتها بواسطة أمارة عليها ، ووافق إحدى الأمارتين الشهرة ، فإن حصل لنا القطع بحجّية ما وافق الشهرة من حيث موافقتها لها ، فلا كلام ، وإلاّ فإن دلّ دليل على اعتبار الشهرة عند تعارض الأمارتين كقوله عليه‌السلام : « خذ بما اشتهر بين أصحابك » (٢) فلا شكّ في أنّ المرجّح هو الدليل ، وإلاّ فوجود الشهرة كعدمها لا يوجب علما ولا شيئا آخر فيما هو المقصود.

وحاصل الكلام في المقام أنّ نتيجة دليل الانسداد أنّه يجب العمل بظنّ في الجملة على تقدير إهمالها ، وترجيح الظنّ وتعيين الواجب منه بالظنّ يرجع في محصّل معناه إلى الحكم والتصديق بأنّ المرجع بعد الانسداد إلى مظنون الاعتبار في سلاسل الظنّ ، والحكم والتصديق موجود من الموجودات الإمكانية التي تحتاج في وجودها إلى سبق عللها ، وعلّة التصديق في الاصطلاح هو الدليل ، ودليلية الظنّ المتعلّق بالظنّ لتعيين الواجب ليس بيّنا (٣) ، وإلاّ لكان في مطلق الظنّ أيضا كذلك كما هو المفروض ، ولا مبيّنا ،

__________________

(١) في النسختين : مرجّح.

(٢) قطعة من مرفوعة زرارة الآتية في ج ٤ ، ص ٥٨٢.

(٣) « ل » : مبيّنا.

٢٤٤

فالمرجّح في أمثال المقام لا بدّ وأن يكون دليلا وهو المطلوب ، فسقط ما زعمه من الفرق بينهما.

ثمّ إنّ في المقام مسلكا آخر في بيان عدم حجّية مطلق الظنّ بل لو كان حجّة ، فالظنّ الذي لم يقم على عدم حجّيته ظنّ كما يظهر من بعض الأعاظم من أنّ الحجّة بعد الانسداد هو الظنّ الذي لم يتعلّق الظنّ بعدم حجّيته لا مطلق الظنّ.

وأورده المحقّق النراقي على وجه الاعتراض على الدليل مع اختلاف في بيانه ، وكيف كان فتحريره أن يقال : إنّ نتيجة البرهان على ما ستعرف في إخراج القياس هو كلّ ظنّ لم يقم دليل قطعي على عدم اعتباره ، والمفروض أنّ دليل الانسداد أوجب القطع بحجّية كلّ ظنّ (١) ، فلو قام ظنّ على عدم حجّية ظنّ ، فقد قام القاطع على عدم حجّية الظنّ (٢) الممنوع ، فإنّ المفروض اعتبار الظنّ (٣) المانع قطعا ، فالحجّة بعد الانسداد هو الظنّ الذي لم يتعلّق الظنّ بعدم حجّيته كالخبر الواحد مثلا بخلاف الشهرة والأولوية ؛ لقيام الشهرة على عدم حجّيّتهما.

ودعوى اختصاص حجّية الظنّ بالفروع قد فرغنا عن إبطالها وسيجيء ما يزيد التحقيق فيه.

فإن قلت : إنّ نسبة دليل الانسداد بالنسبة إلى الظنّ المانع والممنوع متساوية ، فلا وجه لترجيح الظنّ المانع بدخوله تحت الدليل على الظنّ الممنوع بخروجه عنه كما إذا كان هناك عامّ كقولك : أكرم العلماء ، وكان الامتثال بالعامّ في أحد أفراده موقوفا على عدم الامتثال بالنسبة إلى فرد آخر كما إذا كان إكرام زيد العالم في الواقع مرتّبا على عدم إكرام عمرو العالم ، فإنّه كما لا يحكم بتقديم أحدهما على الآخر إلاّ بعد دلالة دليل ، فإنّ الحكم بإكرام زيد العالم معارض بالحكم بإكرام عمرو ، ولا ترجيح

__________________

(١) سقط قوله : « لم يقم دليل » إلى هنا من نسخة « ل ».

(٢) في النسختين : ظن.

(٣) في النسختين : ظنّ.

٢٤٥

لأحدهما على الآخر ، فكذلك في المقام لا وجه لترجيح الظنّ المانع على الممنوع كما لا يخفى.

قلت : فرق ظاهر بين أن يكون دخول أحد الفردين في العامّ حكما موجبا لخروج الفرد الآخر حكما ، و (١) بين أن يكون دخول أحد الفردين في العامّ حكما موجبا لخروج الآخر موضوعا ، وما نحن فيه من قبيل الثاني ، فإنّ دخول الظنّ المانع في دليل الانسداد يوجب خروج الممنوع موضوعا ، فإنّ موضوع الحكم هو الظنّ الذي لم يقم قاطع على عدم حجّيته ، فخروجه لا يستلزم تخصيصا في العامّ العقلي ، بخلاف ما لو فرضنا خروج المانع ، فإنّه تخصيص في الدليل العقلي ، ألا ترى أنّا قد قلنا بتقديم استصحاب السبب على استصحاب المسبّب عند تعارضهما بواسطة أنّ دخول استصحاب السبب في دليل الاستصحاب إنّما يوجب خروج الآخر موضوعا بخلاف ما لو قدّمنا استصحاب المسبّب عليه ، فإنّه يوجب التخصيص في العامّ اللفظي الدالّ على الاستصحاب بلا مخصّص.

وفيه أوّلا : أنّا لا نسلّم أنّ النتيجة هي الظنّ الذي لم يقم دليل قطعي على عدم اعتباره على وجه التقييد ، وأمّا إشكال القياس ، فسيجيء الجواب عنه ، ودفع إشكال القياس لا يقضي (٢) بهذا التقييد (٣) الفاسد لتوجّه (٤) على الدليل إشكال آخر.

وأمّا ثانيا : سلّمنا التقييد ولكن لا نسلّم وجود ظنّ تعلّق الظنّ بعدم اعتباره ، وأمّا ما قد يتراءى في النظر من الشهرة والأولوية والاستقراء من حيث إنّ المشهور قد أعرضوا عنها ، فليس من جهة قيام دليل على عدم حجّيتها (٥) بالخصوص كما في القياس ، فإنّ الكلام في المقام إنّما هو مع قطع النظر عن أصالة حرمة العمل بالظنّ ،

__________________

(١) « ل » : أو؟

(٢) « ل » : « اللفظي » بدل : « لا يقضي »؟

(٣) « ش » : التقيّد.

(٤) كذا. والأولى : ليتوجّه.

(٥) « ل » : من جهة عدم قيام دليل على حجّيتها.

٢٤٦

فعدم حجّية الشهرة عند المشهور أو الاستقراء إنّما هو من حيث عدم دليل على حجّيتها بالخصوص ، وعدم حجّيتها في مرحلة الأصل معلوم لا مظنون بل هو من أجلى الضروريات عند الإمامية كما ادّعاها الأستاذ الأكبر المحقّق البهبهاني (١).

نعم ، قد يتوهّم في الأولوية ورود دليل خاصّ على عدم حجّيته مضافا إلى الأصل كما ورد في خبر أبان بن تغلب (٢) في دية الأصابع إلاّ أنّ لنا فيه كلاما يطلب في محلّه.

وأمّا ثالثا : سلّمنا وجود الظنّ المتعلّق بعدم اعتباره ظنّ لكن لا نسلّم أنّ دخول الظنّ المانع في الدليل أولى من دخول الممنوع ، وأمّا ما استند إليه من أنّ خروج الممنوع خروج موضوعي لا يوجب تخصيصا في الدليل بخلاف المانع ، فمشترك بينهما كيف؟ ولا يمكن خروج الحكمي في نظره.

وتوضيحه : أنّ مفاد الظنّ المانع ونظره وإن كان بحسب المطابقة مثلا عدم حجّية الممنوع وخروجه موضوعا إلاّ أنّ دخول الممنوع أيضا يوجب خروج المانع خروجا موضوعيّا التزاما مثلا ، فإنّ بعد ما فرضنا دخوله تحت العامّ ، فيلازم خروج المانع ؛ لأنّ القطع بدخول الممنوع ينافي القطع بدخول المانع ، وكذا ينافي الشكّ بدخوله ؛ إذ مع احتمال دخول المانع لا يقطع بدخول الممنوع ، فالقطع بدخوله يستلزم القطع بخروجه ؛ لأنّ دخوله دليل قطعي على خروجه ، فلا ترجيح لأحدهما على الآخر.

وأمّا حديث تقديم (٣) استصحاب المزيل على استصحاب المزال (٤) ، فليس بمجرّد ما ذكره من أنّ تقديم المزيل يوجب خروج المزال موضوعا ، بل التحقيق فيه أنّ التقديم هناك إنّما هو بواسطة ترتيب طبيعي بين المزيل والمزال من جهة علّية بينهما ؛ فإنّ الشكّ في المزال معلول للشكّ في المزيل ، فيرتفع الشكّ في المزال بعد استصحاب المزيل ، ولا

__________________

(١) انظر الرسائل الأصولية ( رسالة الاجتهاد والأخبار ) : ١٢ ؛ ومفاتيح الأصول : ٤٥٧. وتقدّم عنه في ص ٧١.

(٢) تقدّم في ص ٢٥.

(٣) « ل » : ـ تقديم.

(٤) في « ل » : « إلخ » بدل : « على استصحاب المزال ».

٢٤٧

ينافي ارتفاع الشكّ في المزيل بعد استصحاب المزال وإن كانت قضية العلّية ارتفاعه من حيث إنّ رفع المعلول (١) يلازم رفع العلّة (٢) ؛ لأنّ الأصل حينئذ يصير من الأصول المثبتة التي لا تعويل عليها عند التحقيق.

ومحصّل الفرق هو أنّ ارتفاع الشكّ في المزال ـ مع كون الشكّ معلولا بعد استصحاب المزيل ـ معتبر بواسطة أنّه من الأحكام الشرعية للمزيل ، فإنّ طهارة الملاقي من اللوازم الشرعية لطهارة الماء المستصحب طهارته في أمثال المزيل والمزال ، وأمّا استصحاب (٣) نجاسة المحلّ الملاقي لا يلازمه لزوما شرعيّا نجاسة الماء بل يلازمه لزوما عقليا كما في المقام ، فإنّ دخول الممنوع يلازم لزوما عقليا خروج المانع خروجا موضوعيّا على ما عرفت ؛ لأنّ الأصل في استصحاب المزال لا ينهض بإثبات اللوازم العقلية بخلاف المقام ، فإنّه من الأدلّة الاجتهادية وهي تنهض بإثبات اللوازم العقلية والعادية والشرعية بأجمعها ، فتدبّر.

فإن قلت : إنّ القول بخروج الظنّ (٤) المانع مخالف لما أطبق عليه الفريقان من القائلين بالظنّ المطلق وأرباب الظنون الخاصّة ، فإنّ أحدا منهم لم يفصّل بين أقسام أمارة واحدة ، فإنّ الشهرة لو كانت حجّة فهي حجّة مطلقا ، ولو لم تكن حجّة ، فهي كذلك ، ولا قائل بالفصل مثل هذا التفصيل كأن يقال : الشهرة مثلا حجّة ما لم يتعلّق على بطلان الشهرة ، أو الأولوية ، أو الاستقراء.

قلت أوّلا : إنّ التشبّث بعدم القول بالفصل ، أو الإجماع المركّب في أمثال المقام ليس إلاّ كتشبّث الغريق بكلّ حشيش.

وثانيا : إنّ دعوى الإجماع مقلوبة ، فيلتزم (٥) بخروج جميع أقسام الشهرة في المثال

__________________

(١) « ل » : المعلوم؟

(٢) « ل » : العلّية.

(٣) والاستصحاب؟

(٤) في النسختين : ظنّ.

(٥) « ل » : فنلتزم.

٢٤٨

المذكور ، فتأمّل.

فإن قلت : إنّ الأصل في المسألة الأصولية موافق للظنّ المانع ، فلا بدّ أن يكون هو المرجع.

وبيانه : أنّ حجّية الاستقراء أو الشهرة مثلا مسألة أصولية ، ومقتضى برهان الانسداد هو حجّيته كما أنّ مقتضى الشهرة الثابت حجّيتها بدليل الانسداد عدم حجّيته ، فدليل الانسداد في المقامين متعارض ، فيسقط عن درجة الاستدلال ، فلا بدّ من الرجوع إلى الأصول ، والأصل في مسألة حجّية الاستقراء التي هي من المسائل الأصولية عدم الحجّية ، فيوافق مضمون الأصل مضمون المانع من الظنّين ، وفي خروج الممنوع عن تحت الدليل وهو المطلوب قلنا : لا نسلّم سقوط الدليل بالنسبة إلى كلّ من المانع والممنوع ؛ إذ قد يحتمل جواز الرجوع إلى أقوى الظنّين من المانع والممنوع ، وستعرف ذلك ، هذا تمام الكلام فيما إذا قرّر هذا الوجه في بيان عدم كلّية نتيجة دليل الانسداد.

وقد يقرّر هذا الوجه في بيان حجّية الظنّ المظنون بناء على أنّه إذا علمنا وجود (١) أمارة قطعيّة بين الأمارات ، ثمّ ظننّا بأنّ بعضا منها ليست هي ، فنظنّ إجمالا بأنّ الأمارة القطعية إنّما هي في غير تلك الظنون التي ظننّا بأنّها ليست هي ، وحينئذ فالجواب عنه هو الجواب عمّا (٢) تقدّم من الظنّ المظنون ، فراجعه.

وبوجه آخر أنّ نتيجة برهان الانسداد هو العمل بالظنّ من حيث إنّه يوجب الظنّ بتفريغ الذمّة ، وبعد ما تعلّق الظنّ بعدم حجّية ظنّ لا يحصل الظنّ بالفراغ ، فلا بدّ أن لا يكون الظنّ الموهوم حجّة.

وفيه ما قد عرفت سابقا من أنّ الظنّ بتفريغ الذمّة بالنسبة إلى متعلّق الظنّ وهو الحكم الواقعي يحصل قطعا ، وهو كاف في أمثال المقام ، وإذ قد عرفت بطلان ما يتخيّل

__________________

(١) « ل » : بوجود.

(٢) « ل » : على ما.

٢٤٩

كونه مرجّحا ، فيثبت التعميم كما أفاده بعضهم.

والحقّ أنّ بعد ما قلنا ببطلان المرجّحات لا يجب القول بالتعميم ، لاحتمال التخيير ، وليس المراد من التخيير هو التخيير بين الكلّ والبعض حتّى يتمسّك بالأخذ بالقدر المتيقّن في دفعه ؛ لأنّ احتمال الكلّ مدفوع بالأصل ، والأبعاض متعدّدة ، فيتوجّه التخيير بينهما أيضا ، فما لم يدلّ دليل على بطلان التخيير في المقام لا يثبت التعميم ؛ لجواز أن يكون المرجّح إلى أحد أسباب الظنّ من غير تعيين (١) شرعي على أن يكون المعيّن راجعا إلى الدواعي النفسانية في نظر المكلّف كما في سائر التخييرات ، وكيف كان ، فالإجماع ـ على ما ادّعى ـ قائم على بطلان التخيير بين الأمارات في مرحلة الظاهر بمعنى أنّ التجزئة في العمل بين الأمارات في مرحلة الظاهر لا تجزي عمّا يجب العمل به في الواقع سواء كان المكلّف به في الواقع هو الكلّ أو البعض ، فبالحقيقة إنّ بطلان المرجّحات إنّما هو مقدّمة لجريان قاعدة التخيير ، ومحقّق لموضوعها وبعد صلاحية جريان التخيير في موضوعه قام الإجماع على بطلانه ، فالمعمّم في الحقيقة (٢) هو هذا الإجماع كما لا يخفى.

الثاني (٣) من المعمّمات هو الإجماع المركّب وعدم القول بالفصل ، فإنّ القائلين بالانسداد لم يفرّقوا بين أقسام الظنّ وأسبابه ، وهو كذلك إلاّ أنّ الكلام في اعتبار مثل الإجماع بعد ما نجد من نفوسنا من عدم حصول الكشف عنه (٤).

الثالث منها قاعدة الاشتغال ، وبيانها أنّ بعد ما ثبت بدليل الانسداد حجّية ظنّ في الجملة ، ولم نعلم الواجب منه بالخصوص (٥) ، فلا بدّ من العمل بكلّ ظنّ ؛ لأنّ العلم بالاشتغال ، يقضي بالعلم بالامتثال ، فلا يحصل إلاّ بالعمل بالجميع.

__________________

(١) « ل » : تعيّن.

(٢) « ل » : ففي الحقيقة فالمعمّم.

(٣) تقدّم الأوّل منها في ص ٢٣٥ وهي قاعدة بطلان الترجيح بلا مرجّح.

(٤) « ش » : منه.

(٥) « ل » : بخصوصه.

٢٥٠

لا يقال : لا يجري الاحتياط فيما دار الأمر بين المحرّم والواجب كما في المقام ، فإنّ بعض الظنّ إثم والعامل به آثم.

لأنّا نقول : إن أراد من الحرام الذاتيّ المنهيّ عنه بالخصوص كما في القياس ، فلا نسلّم حرمته ، لعدم دليل عليه ، وإن أراد من المحرّم ولو بعد اندراجه في عموم ما دلّ على حرمة العمل به ، فقد مرّ غير مرّة أنّ أوله إلى أمرين : أحدهما التشريع ، وثانيهما طرح أدلّة الأصول في مواردها من غير دليل يقضي به بعد (١) تعليقها بالعلم ، والاحتياط محقّق لموضوع لا يصدق عليه التشريع ، ولا يلزم طرح الأصول فيما إذا كانت نافية ، والظنّ مثبت للتكليف ؛ لعدم التنافي بينهما كما مرّ مفصّلا.

وأمّا الأصول المثبتة ، فالاستصحابات منها منقطعة بالعلم الإجمالي في مواردها بخلاف مقتضاها ، وأمّا الاشتغال ، فالاشتغال في المسألة الفرعية يعارض الاشتغال في المسألة الأصولية ، والأوّل مقدّم على الثاني كما تقدّم.

وأنت خبير بأنّ هذا الوجه لا يستقيم معمّما ؛ لأنّ تقديم الاشتغال في المسألة الفرعية عليه في المسألة الأصولية عين عدم العمل بالظنّ فيها ، والمقصود إثبات التعميم والعمل بالظنّ في موارد الاشتغال في الفروع أيضا.

ثمّ إنّه قد يتوهّم عدم تقديم (٢) الاشتغال في الفروع نظرا إلى تعارضه بالاشتغال في الأصول وليس كذلك ؛ لأنّ الاشتغال في المسألة الفرعية لا ينافي الاشتغال في الأصول.

وتحقيقه يحتاج إلى مقدّمة وهي أنّ وجوب العمل بطريق وأمارة كخبر زيد مثلا يتصوّر على وجهين :

أحدهما : أن يكون الأمر بالعمل به موجبا لوجوب عرضي فيما أخبر به ولو كان من المباحات أو المكروهات أو المندوبات كما إذا جعل أحدهما متعلّقا للنذر مثلا.

__________________

(١) « ل » : ـ بعد.

(٢) « ش » : تقدّم.

٢٥١

وثانيهما : أن يتعلّق الأمر باستناد العمل إلى قوله ، لا إلى نفس العمل كأن يكون الواجب استناد العمل إلى قوله ، والأخذ منه على أن يكون المدرك في اعتقاد الاستحباب أو الإباحة هو خبر زيد ، ولا شكّ أنّ هذا هو معنى وجوب العمل بخبر زيد لا الأوّل ، وإلاّ يلزم وجوب الحرام فيما إذا أخبر بحرمة شيء أو وجوب مباح ، كما أنّه لا شكّ في صدق الامتثال ولو بالنسبة إلى فعل المأمور به مع عدم الأخذ بخبر زيد وإن لم يصدق بالنسبة إلى الأخذ ، لأنّه واجب توصّلي يسقط بإتيان العمل ولو من غير هذا الطريق.

نعم ، لا يثاب بالنسبة إلى الأمر بالأخذ من قول زيد والعمل بخبره ؛ لأنّ قضية الوجوب التوصّلي لا تزيد (١) على رفع العقاب وهو لا يقضي بالثواب كما لا يخفى.

إذا عرفت هذه ، فاعلم أنّ الشهرة مثلا دلّت على خلاف ما يقتضيه الاشتغال في وجوب الصلاة مثلا ، فالعمل بالاشتغال لا ينافي العمل بالشهرة بخلاف العمل بها ، فإنّ العمل بها (٢) قد يؤدّي إلى ترك الاشتغال ، فإنّ المفروض وجوب العمل على تقدير الاشتغال وعدم وجوبه على تقدير العمل بالظنّ ، والعمل بالأول عمل بالثاني ؛ لأنّ الأخذ به واجب توصّلي يحصل بالفعل ولو من غير جهة الاستناد إلى الظنّ.

نعم ، قد يتعارض الاشتغالان فيما لو كان كلّ منهما مثبتا للتكليف كما إذا كان الاشتغال في الفروع موجبا للعمل ، والظنّ قام على حرمته ، أو العكس ، فيحكم بينهما بالتخيير ، ومع ذلك فلا يطرد العمل بالظنّ كما هو المقصود من التعميم كما لا يخفى.

الرابع منها : ما عزي إلى السيّد الطباطبائي وهي قاعدة عدم الكفاية ، وبيانها ـ على ما قد يحكى عنه بعد تلخيص منّا ـ أنّه بعد ما فرضنا دلالة الدليل على حجّية ظنّ في الجملة على سبيل الإهمال ، فنقول : إنّ له سلاسل ثلاثة : من المظنون والمشكوك والموهوم ، والواجب أوّلا الاقتصار على الظنّ المظنون في الأحكام على تقدير الكفاية ،

__________________

(١) في النسختين : لا يزيد.

(٢) « ل » : ـ فإنّ العمل بها.

٢٥٢

وإلاّ فلا بدّ من إلحاق المشكوك ، ثمّ الموهوم ، وحيث إنّ الاقتصار على السلسلة الأولى غير كاف في الفقه كلّه لا من حيث قلّتها ـ كما توهّمه بعضهم ـ إذ قلّما يتّفق خلوّ واقعة عن ظنّ مظنون بل من حيث تعارضها كثيرا بسائر السلاسل وقيام الظنّ الشخصي على خلافها ، فلا مناص من التعدّي إلى مشكوك الاعتبار ، ثمّ منه بالبيان المزبور إلى موهومه ؛ لوجود العلم الإجمالي كثيرا في كثير بمطابقة جملة من الاحتمالات ولو بعد انضمام معارضاتها بالواقع على وجه يلزم من الطرح في المقامين أحد المحذورين من العسر والخروج من الدين أو المخالفة القطعية.

لا يقال : لا ضير في قيام الظنّ الشخصي في الظنون المشكوكة والموهومة ؛ لأنّ العبرة بالظنّ النوعي ، فلا بدّ من العمل بسلسلة المظنونات ولو لم يفد ظنّا شخصيا.

لأنّا نقول : إنّ قضية دليل الانسداد لا تزيد على حجّية الظنّ الشخصي ؛ إذ مناط حجّيته هو الاطمئنان وهو مفقود في غير الظنون الشخصية ، وحجّية الظنّ النوعي تناسب (١) القول بالتعبّد وهو خارج عن التقدير.

نعم ، لو انسدّ باب الظنون الشخصية كما انسدّ باب العلم ـ أعاذنا الله منه ـ يتّجه القول بحجّية الظنون النوعية ومرجعها في الحقيقة إلى اعتبار الشكّ كما لا يخفى ، فظهر وجوب العمل بمطلق الظنّ في جميع سلاسله في صورة التعارض ، وأمّا في غير المتعارضين ، فيجب العمل بالظنون الشخصية الحاصلة منها ، إمّا لعدم الكفاية ، وإمّا لعدم القول بالفصل ، وأمّا الأولوية القطعية ، فإنّه إذا كان الظنّ معتبرا فيما إذا تعارضه ظنّ نوعي آخر ، ففيما لم يعارضه شيء بطريق أولى.

وفيه أمّا أوّلا : أنّ الظاهر من وضع الترتيب بين السلاسل من الأخذ بالمظنون أوّلا ، ثمّ المشكوك ، ثمّ الموهوم هو الميل إلى ما يحتمله القائل بحجّية الظنّ في الطريق ، أو ترجيح الظنّ بالظنّ كما سبق ، وعلى هذا يرد عليه ما قد تقدّم في ردّه.

__________________

(١) « ل » : يناسب.

٢٥٣

وأمّا : ثانيا فلأنّ التعدّي من المظنون إلى المشكوك إن كان بواسطة عدم الكفاية في أبواب الفقه ، ففيه أنّه ليس من التعميم في شيء ؛ لأنّ الإهمال في النتيجة إنّما هو بالنسبة إلى الظنون التي قام الكفاية بغيرها ، وأمّا بالنسبة إلى ظنّ يقوم بالكفاية ، فلا إهمال فيها ؛ إذ النتيجة هو الظنّ الكفائي (١) في الفقه أوّلا ، فهو إذن تشخيص لذلك الإهمال ، وتعيين في هذا الإجمال ، لا تعميم في المقال ، وإن كان بواسطة عدم القول بالفصل ، ففيه ما عرفت مرارا من عدم نهوضه بمثل المقام ، وإن كان بواسطة الأولوية كأن يقال : إنّ الموثّق (٢) عند تعارضه بالصحيح من جهة قيام الظنّ الشخصي فيه حجّة ففيما لا يعارضه شيء بطريق أولى ، ففيه أنّ الأولوية إنّما تنهض معمّما (٣) فيما لو ثبت حجّية الموثّق في صورة التعارض وليس كذلك بل الالتزام بالعمل بالموثّق (٤) عند التعارض إنّما هو من حيث وجود العلم الإجمالي فيهما ولو بملاحظة معارضاته على وجه لو يعمل به ، يلزم أحد المحذورين ، وأمّا عند عدم التعارض ، فالعلّة المذكورة القاضية بالعمل مفقودة ، فلا تتّجه الأولوية كما لا يخفى.

ثمّ إنّ لبعض المتأخّرين وجها آخر في بيان عدم الكفاية والتعميم به ، فأفاد أنّه لو لم يعمل بمطلق الظنّ من أيّ سبب حصل في أيّ مرتبة كان ، لما تمّ الفقه وأحال الملازمة إلى التدرّب في الفقه.

ولعمري إنّه وجه فاسد ، ومنشؤه عدم التدرّب في دليل الانسداد والأمارات الظنّية ؛ إذ القول بمطلق الظنّ قد لا يلازم تمامية الفقه ، فإنّ الأسباب الظنّية في إفادتها الظنّ ممّا يختلف باختلاف استعدادات النفوس الجزئية ، فقد يحصل منها لبعضهم ظنّ (٥) ولا يحصل للآخر وهم ، فتمامية الفقه إنّما هو بواسطة مصاديق الظنون ، والقول بالظنّ

__________________

(١) « خ ل » بهامش « ش » : الكافي.

(٢) « ل » : الموثوق.

(٣) « ل » : مع ما؟

(٤) « ل » : بالموثوق.

(٥) في النسختين : ظنّا.

٢٥٤

المطلق إنّما هو قول به في مفهومه ، فربّما يحصل للقائل بالصحاح الأعلائية ظنون كثيرة لا يحصل على قدرها بل الأقلّ منها للقائل بمطلق الظنّ ، مثلا القائل بحجّية الاستقراء مع قلّة موارده على تقدير ترك العمل به لشبهة القياس مثلا قد يحصل له الظنّ من الأمارات الأخر أكثر ممّا يحصل في موارد الاستقراء.

وبالجملة ، فدعوى عدم تماميّة الفقه إلاّ بالعمل بمطلق الظنّ ناشئة إمّا عن سوء الفهم في دليل حجّية الظنّ ومناطه ، أو من عدم المبالاة في المكابرات.

وقد تمسّك بعض من لا دربة له في التعميم ببناء العقلاء.

ولم نقف له على محصّل ، فالأولى ترك التعرّض له هذا ، والذي ينبغي أن يقال في وجه التعميم على تقدير الإهمال في النتيجة هو أنّ الواجب أوّلا الأخذ بالأخبار الصحاح المعمولة عند الأصحاب ، المفيدة للاطمئنان ، فإنّها هو القدر المتيقّن من بين الظنون بجميع أقسامها ؛ إذ ما من خصوصية يتخيّل كونها مناطا في الحكم ، وملاكا في الاعتبار إلاّ وهي موجودة فيها ؛ إذ غاية ما يتصوّر في غيرها من الخصوصية هي إفادتها الاطمئنان (١) والمفروض حصوله فيها.

مضافا إلى الخبرية (٢) وكونها معمولا بها عند الأصحاب ، ولو لم نقل بحجّية هذا القسم من الأخبار من جهة الظنون الخاصّة ، فلا أقلّ من احتمالها.

ومن هنا يظهر أنّ كونها قدرا متيقّنا لا يخصّ القول بالظنّ الخاصّ بل إنّما هو بحسب الدليل الرابع أيضا كذلك كما لا يخفى.

وفي حكمها كلّ أمارة دلّ على اعتبارها وحجّيتها هذا الصنف من الخبر بناء على ما حقّقنا سابقا من أنّه لا فرق بين إعمال الظنّ في الواقع ، وبين إعماله في طريقه كما مرّ مستوفى وهي (٣) الأخبار الموثّقة التي تفيد الاطمئنان ، فإنّه قد دلّت أخبار كثيرة

__________________

(١) « ش » : للاطمئنان.

(٢) « ل » : الجهة.

(٣) سقط قوله : « وبين إعماله » إلى هنا من نسخة « ل ».

٢٥٥

صحيحة ـ دلالة واضحة صريحة كما لا يخفى على من له لطف قريحة ـ على حجّيتها.

فمنها : الرواية الصحيحة المذكورة في ترجمة يونس بن عبد الرحمن فإنّها بسؤالها وجوابها تدلّ على أنّ ملاك الاعتبار هو الوثاقة ، ومناط الحجّية هو الاطمئنان ، فإنّ السائل قال : أفيونس بن عبد الرحمن ثقة آخذ منه معالم ديني؟ فأجابه عليه‌السلام بقوله : « نعم » (١).

لا يقال : الرواية ظاهرة في الفتوى ، فإنّها الظاهر من معالم الدين ، فلا يدلّ على حجّية الرواية.

لأنّا نقول : لا نسلّم ظهورها بل ظاهرة فيهما جميعا كما هو ظاهر ، ولو سلّم ، فيتمّ المطلوب ؛ لعدم الفصل إذ كلّ من قال بحجّية الفتوى ، فقد قال بحجّية الرواية بل قد يمكن دعوى الأولوية بالنسبة إلى الرواية.

نعم ، ذلك لا يتمّ على مذاق (٢) السيّد ومن يحذو حذوه في عدم حجّية رواية الواحد وحجّية فتواه ، ولكنّه على مشرب القائلين بحجّية الآحاد ، فلا قائل بالفرق.

فإن قلت : لا دلالة فيها على حصر الملاك والمناط في الوثاقة ، فلعلّه كان هناك شروط أخر كالعدالة ونحوها معلومة عنده ، وكان المجهول هو الوثاقة فقط كما يقال : فلان مجتهد يجوز تقليده ، فإنّه إنّما يقال بعد إحراز سائر الشرائط.

قلت : الظاهر من الرواية ـ كما يظهر لأولي الدراية ـ أنّ المعتبر هو الوثاقة ، فما لم يعلم باشتراط شيء آخر ، يؤخذ بظاهرها ، ولا عبرة بالاحتمال ، بعد ظهور المقال في غيره.

ومنها : ما رواه الكشّي في ترجمة محمّد بن مسلم ، عن محمّد بن قولويه ، عن سعد بن عبد الله ، عن أحمد بن محمّد بن عيسى بن عبد الله بن محمّد الحجّال ، عن العلاء بن رزين ، [ عن ] عبد الله بن أبي يعفور ، قال : قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام : إنّه ليس كلّ ساعة

__________________

(١) تقدّم في ص ٢١١.

(٢) « ل » : لا يتمّ إلاّ بمذاق.

٢٥٦

ألقاك ، ولا يمكن القدوم ، ويجيء الرجل من أصحابنا ، فيسألني وليس عندي كلّ ما يسألني عنه ، قال : « فما يمنعك عن محمّد بن مسلم الثقفي ، فإنّه قد سمع من أبي ، وكان عنده وجيها » (١) خالف عموم التعليل بالوجاهة ممّا يرشدك بإناطة الأمر بها.

ومنها : ما رواه في الكافى في ذيل النصّ على أبي محمّد عليه‌السلام : أخبرني أبو عليّ أحمد بن إسحاق ، عن أبي الحسن عليه‌السلام ، قال : سألته : ومن أعامل؟ وعمّن آخذ؟ وقول من أقبل؟ فقال له : « العمري ثقتي ، فما أدّى إليك عنّي ، فعنّي يؤدّي ، وما قال لك عنّي ، فعنّي يقول ، فاسمع له ، وأطع ، فإنّه الثقة المأمون ».

وأخبرني أبو عليّ أنّه سأل أبا محمّد عليه‌السلام ، عن مثل ذلك ، فقال له : « العمري وابنه ثقتان ، فما أدّيا إليك عنّي ، فعنّي يؤدّيان ، وما قالا لك ، فعنّي يقولان ، فاسمع لهما ، وأطعهما ، فإنّهما الثقتان المأمونان » (٢) والمراد بالمعاملة إمّا المعاملة في الدين ، أو المعاملة في الأموال المتعلّقة بالإمام عليه‌السلام ، فإنّ عموم التعليل يفيد عموم العبرة بالوثاقة.

وقد يذكر في عداد ما ذكرناه من الأخبار الصحيحة ما رواه في البحار عن الاختصاص للشيخ المفيد ، عن ابن الوليد ، عن الصفّار ، عن محمّد بن عبد الحميد ، عن عبد السلام بن سالم ، عن ميسر بن عبد العزيز ، قال : قال أبو عبد الله عليه‌السلام : « حديث يأخذه صادق عن صادق خير من الدنيا وما فيها » (٣) وليس كذلك ؛ لأنّ المفيد لم يعاصر

__________________

(١) رجال الكشّى ١٦١ / ٢٧٣ وعنه في الوسائل ٢٧ : ١٤٤ ، باب ١١ من أبواب صفات القاضي ، ح ٢٣.

(٢) الكافي ١ : ٣٣٠ ، باب في تسمية من رآه عليه‌السلام ، ح ١ ، وعنه في الوسائل ٢٧ : ١٣٨ ، باب ١١ من أبواب صفات القاضي ، ح ٤.

(٣) بحار الأنوار ٢ : ١٥٠ ، باب ١٩ ، ح ٢٦ ؛ الاختصاص : ٦١ ؛ ورواه البرقي في المحاسن : ٢٢٩ / ١٦٦ باب ١٥ ، عن محمّد بن عبد الحميد العطّار ، عن عمّه عبد السلام بن سالم ، عن رجل ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام ، قال : « حديث في حلال وحرام تأخذه من صادق خير من الدنيا وما فيها من ذهب أو فضّة » وعنه في الوسائل ٢٧ : ٩٨ ، باب ٨ من أبواب صفات القاضي ، ح ٧٠.

٢٥٧

ابن الوليد وإنّما لقي (١)(٢) أحمد بن محمّد بن الوليد ولم ينقل منهم توثيقه إلاّ أنّه قيل فيه : إنّه كان من مشايخ الإجازة وإن كان الظاهر وثاقته ؛ حيث إنّ المفيد وأضرابه ـ كأحمد بن عبدون وابن الغضائري ـ أجلّ شأنا من أن يكون مخبرهم غير موثّق عندهم ، مضافا إلى أنّ الرواية موجودة في كتاب الصفّار ، والمقصود من ذكر ابن الوليد هو الاتّصال بالمعصوم سندا تيمّنا وتبرّكا ، والمقصود من القرابة عند الشيخ هو الاطّلاع على بعض المزايا في خفايا الزوايا التي لم يطّلع عليها إلاّ من ارتاض في الصنائع العلمية ، وإلاّ فيجوز أخذ الرواية من الكتاب كما في زماننا هذا ما نقلنا من الكافى والتهذيب والفقيه والوافى وغير ذلك ، لكنّه مع ذلك ليس بتلك المكانة من الصحّة بحسب الاصطلاح ، فإنّ بين المفيد وابن الوليد إرسالا كما عرفت ، ومحمّد بن عبد الحميد لم نجد فيه توثيقا صريحا إلاّ ما نقله في الوسائل عن النجاشي (٣) ، وهو يحتمل أن يكون توثيقا له ، أو لأبيه ، ولهذا ترى الشهيد ـ كما عنه في تعليقاته على الخلاصة ـ قال بوثاقته (٤) ، وفي تعليقاته على كتاب ابن الغضائري قال بعدم وثاقته ، وكذا في ميسر بن عبد العزيز إلاّ ما عن ابن فضّال وهو فطحي إلاّ أنّ في الروايات مدحا كثيرا له. قال العقيقي : أثنى عليه آل محمّد وهو ممّن يجاهد في الرجعة ، وحكاية الجبل معروفة (٥).

وبالجملة ، فليس الخبر (٦) كالأخبار المتقدّمة في السند ، وكذا في الدلالة كما هو ظاهر ، وكيف كان فالواجب أوّلا بعد إهمال النتيجة هو الأخذ بالقدر المتيقّن وما في حكمه على تقدير الكفاية بحيث لا يلزم المحاذير السابقة على تقدير الرجوع إلى الأصول الكلّية أو الجزئية في مواردها ، وعلى تقدير عدم الكفاية ، فلا بدّ من الاحتياط

__________________

(١) « ش » : ألقى.

(٢) في النسختين : + من ، وشطب عليها في « ش ».

(٣) الوسائل ٣٠ : ٤٧٥ ؛ رجال النجاشى ٣٣٩ / ٩٠٦.

(٤) رسائل الشهيد الثانى ( حاشية خلاصة الأقوال ) ٢ : ١٧٣ ، قال بعد نقل عبارة الخلاصة : هذه عبارة النجاشي ، وظاهرها أنّ الموثّق الأب لا الابن.

(٥) انظر الخلاصة ١٧١ / ١١.

(٦) « ل » : فالخبر ليس.

٢٥٨

في الأمارات وقد عرفت فيما مرّ تعارض الاحتياط في المسألة الأصولية الاحتياط في المسألة الفرعية ، وقد مرّ أيضا تقدّم الاحتياط في الفرع إلاّ أن يقال : إنّ الرجوع إلى الاحتياط في الفروع يستلزم العسر والحرج من حيث إنّ الأمارات التي تثبت بها التكاليف في المسألة الأصولية ممّا لا مناص من العمل بها ، والأمارات النافية ممّا لا عبرة بها في مقابلة الاشتغال في الفروع ، وهو عين الاحتياط في جميع الموارد ، وعلى هذا التقدير فلا يمكن العمل بالاشتغال في الفروع بالكلّية ، ولا يمكن الاستناد إلى الأمارات النافية للتكليف في قبال الاشتغال في الفروع بالكلّية أيضا لما عرفت من التقديم ، فلا بدّ من الأخذ بالمظنون اعتبارا وهو الظنّ الاطمئناني ؛ لأنّ باب العلم فيها منسدّ ، والعلم الإجمالي بوجود أمارة واقعية فيها موجود ، والاحتياط غير ممكن ، والرجوع إلى البراءة غير جائز في الشكّ في المكلّف به بعد العلم الإجمالي ، فلا بدّ من إعمال الظنّ فيه.

لا يقال : إن كان دليل الانسداد منتجا لقضيّة كلّية ، فلا حاجة إلى مثل هذه النتيجات ، وإلاّ فلا مزيّة اختصاص للاستناد إليه في المقام كما مرّ في الردّ على بعض الوجوه المنقولة من التعليقة ، فإنّها أيضا قضيّة مهملة لا تعيين فيها وإن استند في رفعه إلى ثالث ، فنقل (١) الكلام إليه ، وإلاّ فلا فائدة فيه كما لا يخفى.

لأنّا نقول : الفرق بين المقامين ظاهر غير خفيّ ، فإنّ المسألة هناك كلّي متنوّع على أنواع عديدة بخلاف المقام.

وتحقيق ذلك أنّه قد سبق في بيان ما ذهب إليه المحقّق القمّي واختاره في تقريره دليل الانسداد ـ من جريانه في كلّ مسألة جزئية قد انسدّ فيها باب العلم كما في مسألة صلاة الجمعة مثلا ـ عدم تعقّل الإهمال في النتيجة بالنسبة إلى هذا الدليل ؛ لاختصاص كلّ مورد بظنّ واتّحاد المظنون على تقديره ، والمفروض جريان دليل الانسداد في جميع

__________________

(١) « ل » : فننقل.

٢٥٩

الموارد ، فكلّ ظنّ لا بدّ وأن يكون حجّة في مورده ، ففي كلّ مورد اتّحد المظنون ـ وإن تعدّدت الأسباب ـ لا وجه للإهمال في النتيجة بخلاف ما إذا تعدّد (١) المظنون من حيث اختلاف الموارد وإن كانت مجتمعة في عنوان واحد ، فإنّ الإهمال على تقديره ممّا لا مناص منه ، وما نحن فيه من قبيل الأوّل ، وما نقلناه عن التعليقة من قبيل الثاني ؛ لأنّ الدليل المعمول في النتيجة تارة ينتج حجّية الظنّ المظنون اعتباره كما فيما نقلناه عن التعليقة ، وأخرى ينتج حجّية الظنّ الاطمئناني كما هو المقصود في المقام ، وهو على الأوّل متعدّد ؛ لاحتمال أن يكون الظنّ المظنون على قدر الكفاية هو الخبر كما هو ظاهر ، أو الإجماع المنقول بانضمام الحسان مثلا ، أو الشهرات بانضمام الإجماعات ، أو الموثّقات فقط ، أو الصحاح مع الحسان إلى غير ذلك من الاحتمالات ، فلم يعلم الحجّة منها ، وهذا هو عين الإهمال ، وعلى الثاني متّحد وهو الظنّ الاطمئناني وإن اختلفت أسبابه ، فإنّ مجرّد اختلاف أسباب الظنّ لا يفضي (٢) بتعدّده بعد اتّحاد مورده ، فلا بدّ من إجراء دليل الانسداد في الأمارات النافية للتكليف حذرا من لزوم العسر على تقدير الاحتياط في الفروع ، والمخالفة القطعية على تقدير الرجوع إلى البراءة والعمل بكلّ ما هو مظنون الاعتبار وهي الظنون المفيدة للاطمئنان ، ولا اختلاف فيها ولو اختلفت أسبابه ، فلا حاجة إلى إعمال دليل ثالث ، فليتأمّل.

فإن قلت : إنّ العمل بالمظنون في الأمارات النافية للتكليف ممّا لا مخصّص له ، فإنّ المناط فيه لزوم العسر وهو لازم على تقدير العمل بالأمارات المثبتة والنافية جميعا ، فليعمل في الأمارات المثبتة بما هو مظنون اعتباره في رفع العسر.

قلت : ومرجع ذلك إلى الاحتياط في الموهومات ، وتركه في الموارد المظنونة بالظنون الفعلية الشخصية ، فإنّ الأمارات النافية في قبال الأصول الجزئية الخاصّة في الموارد الخاصّة لا تفيد ظنّا بواسطة ما عرفت من قضاء العقل بتقديم الاشتغال في

__________________

(١) « ل » : تعذّر.

(٢) كذا. ولعلّه لا يقضي من القضاء.

٢٦٠