مطارح الأنظار

الميرزا أبو القاسم الكلانتري الطهراني

مطارح الأنظار

المؤلف:

الميرزا أبو القاسم الكلانتري الطهراني


المحقق: علي الفاضلي
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: معهد الإمام الخميني والثورة الإسلامية
المطبعة: مؤسسة العروج
الطبعة: ١
ISBN: 978-964-7986-36-6
الصفحات: ٦١٥

إجمالا ، وقلنا بأنّه لا يعقل الاستناد إلى طرق احتمالية كالقرعة والرمل والاستخارة لكونها شكّية مفادا واعتبارا ، فتلك في عرض الوقائع المشكوكة ، والاستناد إليها لا يزيد المستند إلاّ شكّا ، فلا بدّ لنا من الرجوع إلى الأصول العملية الدائرة بين الاستصحاب والبراءة والاشتغال والتخيير بالحصر العقلي ؛ لأنّ المكلّف تارة يعلم بالحالة السابقة ، وأخرى لا يعلم ، والأوّل مجرى الاستصحاب على القول به ، وعلى الثاني فتارة يعلم بالتكليف ولو إجمالا ، وأخرى لا يعلم ، والأخير مجرى البراءة عند القائل بها ، وعلى الثاني فتارة يمكن الاحتياط ، وأخرى لا يمكن ، والأوّل مورد الاشتغال على القول به ، والثاني محلّ التخيير عند من يراه ، وحينئذ فالمستدلّ بدليل الانسداد إن كان ممّن لا يرى حجّية تلك الأصول حيث إنّه يعتمد على الأوّلين من باب الظنّ والوصف أو السببية المقيّدة بعدم قيام الظنّ على خلاف الاستصحاب والبراءة ، ولا يقول بوجوب الإتيان بجميع المقدّمات العلمية والاحتياط بل يكفي بعدم لزوم المخالفة القطعية كما رآه الفاضل القمّي (١) في بعض وجوه المسألة ، ولا يلتزم بالتخيير ؛ لاختصاص مورده بتساوي الطرفين ، ومفروضه رجحان طرف الظنّ ، فإثبات حجّية الظنّ عند ذلك القائل في غاية السهولة كما لا يخفى ، وإنّما الشأن إثبات حجّية الظنّ لمن يقول باعتبار الأوّلين تعبّدا شرعيّا ، ويحكم بوجوب تحصيل الموافقة القطعية ، وعلى تقديره قلنا أيضا : إنّ المرجع ليس إلى أصالة البراءة ؛ لاستلزامه الخروج من الدين ، ولا الاحتياط ؛ لاستلزامه العسر والحرج إلاّ أنّه قلنا أيضا : إنّ العسر والحرج لا يعيّن العمل بالظنّ فقط ، وقلنا بأنّ العامل بالظنون المطلقة ليس له إلحاق المشكوك بالموهوم كما تقدّم آنفا إلاّ أن يتمسّك أيضا بلزوم العسر كما يظهر من المقام ، فللمعترض أن يستند إلى التبعيض في الأصول السابقة حذرا من المحاذير اللازمة على تقديرها ، ففي كلّ مسألة جزئية لا بدّ من الاعتماد على أصل خاصّ

__________________

(١) انظر القوانين ١ : ٤٤٢ و ٤٤٣.

٢٠١

موجود في تلك المسألة من الأصول السابقة ، فإنّها في مفروض المسألة علوم تفصيلية كما مرّ من اعتبارها تعبّدا في البعض ، وعقلا في آخر ، فعلى المستدلّ إبطال هذا الاحتمال أيضا ، فنقول :

أمّا الاستصحاب منها في مواردها ، فتارة يرجع إلى إثبات التكليف فيما إذا كانت الحالة السابقة كذلك ، وأخرى إلى نفي التكليف فيما كانت الحالة السابقة كذلك ، وعلى التقديرين لا مجرى له.

أمّا أوّلا ، فلأنّ العلم الإجمالي لنا حاصل في جميع مواردها نفيا وإثباتا بل وفي كلّ منهما بالخصوص بانتقاض جملة كثيرة من مواردها ، فلا يجري.

وأمّا ثانيا ، فلأنّه على الأوّل يوافق مفاد الاحتياط ، وعلى الثاني يطابق مضمون البراءة ، وما يدلّ على بطلان الوجهين يدلّ على بطلانه في الوجهين أيضا.

وأمّا البراءة منها فمرجعها إلى نفي التكليف في محلّ جريانها ، وما نحن فيه ليس محلّها للعلم الإجمالي بوجود واجبات كثيرة ومحرّمات عديدة في تلك الموارد ، فلا تجري البراءة ، وحينئذ فلا بدّ من الإتيان بما نقطع معه سقوط التكليف بالنسبة إلى تلك الواجبات المردّدة ، والترك لما يحتمل الحرمة امتثالا لتلك النواهي الدالّة على حرمة تلك المحرّمات المردّدة ، فيرجع إلى الاحتياط في جميع الموارد ، وقد عرفت ما فيه من انعقاد الإجماع على عدم وجوبه ، ولزوم العسر والحرج على تقديره ، وأمّا إبطال سائر المحتملات في المقام من القرعة والاستخارة وغير ذلك ، فيكفي الشكّ في اعتبارها في عدم اعتبارها حيث إنّه على تقديره لا يوجب إلاّ الشكّ ، ولا يعقل الاستناد إلى الشكّ مع وجود الظنّ فيما نعلم (١) أنّ المطلوب هو الوصول إلى الواقع ، وكان منشأ التوهّم في هذه هو أنّ الدليل هذا لمّا كان عقليا ، فيظنّ بعضهم أنّ إتمامه يتوقّف على إبطال جميع ما يحتمل كونه طريقا ، ولذلك أورد أنّ بعد تسليم المقدّمات المذكورة ،

__________________

(١) « ل » : فما يعلم.

٢٠٢

فالدليل لا ينتج النتيجة المطلوبة ، لجواز أن يكون هناك طريق لا نعلمه ، وكأن غفل عن أنّ إبطال الاحتمال إنّما يحتاج إليه فيما لم يكن نفيه كافيا في بطلانه (١) ، وفي المقام يكفي في بطلان الطرق المحتملة المشكوكة كونها مشكوكة مع وجود الظنّ.

وبالجملة ، أنّ مجرّد وجود الطريق في الواقع احتمالا بل وظنّا بل وعلما أيضا ممّا لا يجدي بعد انسداد الطريق في وصوله إلينا ، مثلا لو فرضنا أنّ هناك طريقا علميا (٢) كما هو كذلك في الواقع ، ولا يمكننا الوصول إليه ، فلا شكّ أنّ ذلك لا يفيدنا شيئا ؛ فإنّ العمل في مرحلة الظاهر لا بدّ وأن يستند إلى دليل وطريق علمي ، أو ما يقوم مقامه ، والاستناد إلى الطرق المشكوكة لا يفيدنا شيئا ؛ حيث إنّه يعارض احتمال الوجود فيها باحتمال العدم ، فكأنّه لم يستند إليها ؛ لعدم تفاوت الحال في الحكم قبل الاستناد وبعده ، فالشكّ في حجّية هذه يكفي في عدم حجّيتها كما أنّ استقلال العقل في جعل الظنّ طريقا يكفي في حجّيته بعد وضوح أنّ المراد هو الوصول إلى الواقع بل هو حينئذ طريق منجعل بذاته لا يحتاج إلى جعل (٣) كالعلم عند انفتاح بابه ، فظهر بما ذكرنا أنّ الاحتمالات المتصوّرة في المقام كلّها وجوه باطلة يكفي في بطلانها قيام الإجماع عليه ، ولذلك لم يحتمله أحد من الأعلام ، ولا اعترض بها على المقام إلاّ أنّ هنا احتمالا قد يتوهّم كونه طريقا بعد الانسداد ؛ لكونه من الطرق التي دلّ عليها العقل والنقل وإن كان لا يخفى بطلانه أيضا على من له خبر بالفنّ ، ومع هذا لا بأس بالتنبيه عليه وهو أنّ المجتهد بعد انسداد باب العلم له لا مناص من تقليده غيره ممّن يرى انفتاح باب العلم كما أنّه يجب عليه التقليد إذا لم يتمكّن من الاجتهاد كأن كان محبوسا ، أو نحو ذلك نظرا إلى إطلاق أدلّة التقليد.

ولا يخفى على من له مسكة فساد هذا الاحتمال وبطلانه.

__________________

(١) « ل » : إبطاله.

(٢) في النسختين : طريق علمي.

(٣) « ل » : جعلي؟

٢٠٣

أمّا أوّلا ، فلانعقاد الإجماع على خلافه.

وأمّا ثانيا ، فلأنّ التقليد إنّما هو مشروع لمن لم يتمكّن من الفحص في الحكم الشرعي ؛ لاختصاص أدلّته به.

أمّا الإجماع ، فظاهر.

وأمّا الآيات ، فظاهرها كالأخبار فيمن لا يعلم الحكم من جهة عدم تمكّنه من الفحص والمفروض أنّه تمكّن من الفحص وبذل الجهد ، فعلم (١) بانسداد طريق العلم في الأحكام الشرعية ، فهو يعتقد بطلان ما يراه القائل بانفتاح باب العلم ، أو الظنون الخاصّة ، وقياسه على المحبوس مع الفارق لما عرفت من أنّ المحبوس فيما يرجع إلى المجتهد غير عالم ، فيشمله قوله تعالى : ( فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ )(٢) بخلاف ذلك ؛ فإنّه عالم بالانسداد ، وذلك مثل ما لم يعلم المجتهد حكم مسألة جزئية بعد الفحص بواسطة إعواز النصّ عنده ولو كان من العاملين بالظنون الخاصّة ، فكما أنّه لا يتوهّم جواز تقليده لمن يعتقد وجود نصّ منها ، فكذلك في المقام.

نعم ، لو كان هناك مجتهد يعلم بانفتاح باب العلم في الواقع له لتمكّنه من الوصول إلى معادن الوحي أو لوجود الأصول المدوّنة في زمنهم عنده بحيث يصير جلّ الأخبار المودعة في الكتب الأربعة وغيرها قطعية إمّا صدورا ، وإمّا (٣) مضمونا ، فلا محيص عن التقليد كما أنّهم يعملون بفتاوى عليّ ابن بابويه القمّي عند إعواز النصوص ؛ لتنزيلهم فتاويه منزلة النصوص وهو نوع من الاجتهاد بل وأعلى مرتبة منه على بعض الوجوه.

وأمّا الاحتمالات الأخر من العمل بالموهوم والتبعيض في الموارد والتخيير والتوقّف ، فمع أنّها مخالفة للإجماع ، فقد يردّه بعض ما أسلفنا لك في إبطال الوجوه

__________________

(١) « ل » : فيعلم.

(٢) النحل : ٧ ؛ الأنبياء : ٧.

(٣) « ل » : « أو » بدل : « وإمّا ».

٢٠٤

المتقدّمة ، فلا نطيل الكلام بذكرها ، وأنت بعد ما أحطت خبرا بما تقدّم تقدر على دفعها تفصيلا بل قد يقال إنّها كلام خارج عن قانون المناظرة.

نعم ، التبعيض ـ في الاحتمالات الظنّية والشكّية والوهمية ، أو في مراتب كلّ واحد منها من العمل بأقوى الظنون وترك ما سواه نظرا إلى العسر ، أو العمل بجميعها عدى الموهومات الضعيفة التي كادت أن يكون مقابلها معلوما ـ كلام يوافق قواعد المجادلة في إثبات المطالب إلاّ أنّه باطل أيضا إجماعا كما عرفت في إبطال التبعيض بين الأصول والأخذ في كلّ مورد بأصل موجود فيه ، فظهر من جميع ما تلوناه عليك أنّ بعد الانسداد وبقاء التكليف في الجملة وعدم جواز الرجوع إلى الأصول بعضا أو (١) كلاّ المرجع بحكم العقل القاطع هو الظنّ ، فتدبّر.

وما قد يتوهّم في المقام ـ من أنّ أدلّة حرمة العمل بما وراء العلم ينفي حجّية الظنّ ـ فواضح الوهن ، معلوم السقوط بعد ما عرفت مرارا من أنّ مرجعها إلى نفي التشريع ، أو طرح الأصول المعلومة ، المعلّق على العلم ارتفاعها ، فإنّ بعد استقلال العقل بطريقيتها واعتبارها لا مجال لكلّ واحد منهما ، فإنّ العامل به يجعله بمنزلة العلم ، فلا يلزم تشريع ولا غيره.

ثمّ إنّه ينبغي التنبيه على أمور :

الأوّل : أنّ بعد ما عرفت من انسداد باب العلم وبقاء التكليف ـ ولو في الجملة ـ وعدم جواز الرجوع إلى الأصول كلاّ أو بعضا على ما عرفت تفاصيله ، فهل النتيجة اعتبار الظنّ في نفس الأحكام الشرعية فقط ، أو في الطرق إليها كذلك ، أو فيهما معا؟ أقوال : المشهور بين القائلين بالانسداد هو الأوّل ، وذهب بعض الأعاظم في تعليقاته على المعالم إلى الثاني ، وتبعه في ذلك بعض الأجلّة في فصوله (٢) والحقّ هو الثالث.

__________________

(١) « ل » : « و» بدل : « أو ».

(٢) سيأتي نصّ كلام صاحب الفصول في الصفحة الآتية وحاصل كلام صاحب هداية المسترشدين في ص ٢٢٣.

٢٠٥

ولنذكر أوّلا وجوه القولين لينقدح حقيقة الحال ، فيما هو التحقيق في المقال ، ( فنقول ) (١) : إنّ القائل بانحصار الاعتبار في الطريق تارة يدّعي بأنّ المقدّمات المذكورة تنتج حجّية الظنّ في الطريق من غير تغيير فيها ، وأخرى يقرّر دليل الانسداد بوجه آخر غير ما هو المعروف من تحريره.

قال في الفصول الغروية في تقرير الدليل على هذا الوجه : إنّا كما نقطع بأنّا مكلّفون في زماننا هذا تكليفا قطعيا (٢) بأحكام فرعية كثيرة لا سبيل لنا بحكم العيان ، وشهادة الوجدان ، إلى تحصيل كثير منها بالقطع ، ولا بطريق يقطع (٣) من السمع بحكم الشارع على قيامه ، أو قيام طريقه مقام القطع ولو عند تعذّره ، كذلك نقطع بأنّ الشارع قد جعل لنا إلى تلك الأحكام طرقا مخصوصة ، وكلّفنا تكليفا فعليا بالرجوع إليها في معرفتها ، ومرجع هذين القطعين عند التحقيق إلى أمر واحد وهو القطع بأنّا مكلّفون تكليفا فعليا بالعمل بمؤدّى طرق مخصوصة ، وحيث إنّه لا سبيل غالبا إلى تعيينها (٤) بالقطع ، ولا بطريق يقطع بالسمع (٥) بقيامه بالخصوص ، أو قيام طريقه ، كذلك مقام القطع ولو بعد تعذّره ، فلا ريب (٦) أنّ الوظيفة في مثل ذلك بحكم العقل إنّما هو الرجوع في تعيين الطريق إلى الظنّ الفعلي الذي لا دليل على عدم حجّيته ؛ لأنّه أقرب إلى العلم وإلى إصابة الواقع ممّا عداه.

ثمّ قال : وإنّما اعتبرنا في الظنّ أن لا يقوم دليل معتبر (٧) على عدم جواز الرجوع إليه حينئذ ؛ لأنّ الحكم بالجواز هنا ظاهري ، فيمتنع ثبوته مع انكشاف خلافه ومع تعذّر هذا النوع من الظنّ ، فالرجوع إلى ما يكون أقرب إليه مفادا من المدارك التي لا دليل

__________________

(١) ما بين الهلالين من هامش « ل » استدرك بخطّ آخر.

(٢) في المصدر ونقل فرائد الأصول ١ : ٤٣٨ : فعليا.

(٣) في المصدر : أو بطريق معيّن يقطع.

(٤) في المصدر : تحصيلها.

(٥) في المصدر : من السمع.

(٦) « ش » : ولا ريب.

(٧) في المصدر : « معه » بدل : « معتبر ».

٢٠٦

على عدم حجّيتها حينئذ مع الاتّحاد ، ومع التعدّد والتكافؤ فالتخيير (١) ؛ لامتناع الأخذ بما علم عدم جواز الأخذ به كما مرّ ، أو ترجيح المرجوح ، أو الترجيح مع عدم المرجّح.

ثمّ أفاد بعد ذلك : وممّا يكشف عمّا ذكرنا [ أنّا ] كما نجد على الأحكام أمارات نقطع بعدم اعتبار الشارع إيّاها طريقا إلى معرفة الأحكام مطلقا وإن أفادت الظنّ الفعلي [ بها ] كالقياس والاستحسان والسيرة الظنّية والرؤيا ، وظنّ وجود الدليل ، والقرعة وما أشبه ذلك ممّا لا حصر له ، كذلك نجد عليها (٢) أمارات أخر نعلم أنّ الشارع قد اعتبرها كلاّ أو بعضا طريقا إلى معرفة الأحكام وإن لم يستفد منها ظنّ فعلي بها ولو بمعارضة الأمارات السابقة ، وهذه أمارات محصورة ، فمنها : الكتاب والسنّة الغير القطعيين والاستصحاب والإجماع المنقول والاتّفاق الغير الكاشف والشهرة وما أشبه ذلك ، فإنّا نقطع بأنّ الشارع لم يعتبر بعد الأدلّة القطعية في حقّنا أمارة أخرى خارجة عن هذه الأمارات.

قال : ومستند قطعنا في المقامين هو الإجماع ، مضافا في بعضها إلى مساعدة الآيات والأخبار حتّى أنّ القائلين بحجّية مطلق الظنّ ـ كبعض متأخّري المتأخّرين ـ نراهم لا يتعدّون في مقام العمل عن هذه [ الأمارات ] إلى غيرها وإن لم يستفد لهم ظنّ فعلي بمؤدّاها ، وحيث إنّ النزاع قد وقع في تعيين ما هو المعتبر من هذه الأمارات في نفسه وفي صورة التعارض ، ولا علم لنا بالظنّ (٣) ، ولا طريق علميا إليه مع علمنا ببقاء التكليف بالعمل بها ، كان اللازم في ذلك الرجوع إلى ما يستفاد اعتباره (٤) من هذه المدارك الاحتمالية لتقدّمها في نظر العقل حينئذ على المدارك المعلوم عدم اعتبارها شرعا مقدّما للأقرب منهما (٥) في النظر على غيره مع تحقّقه.

__________________

(١) في المصدر : التخيير.

(٢) في المصدر : علينا؟

(٣) في المصدر : بالتعيين.

(٤) في المصدر : اعتبارها.

(٥) في المصدر : منها.

٢٠٧

قال : فيثبت ممّا قرّرنا جواز التعويل في تعيين ما يعتبر من تلك الطرق التي هي أدلّة الأحكام على الظنّ (١) ، ثمّ على ما هو أقرب كذلك (٢). انتهى.

وفيه نظر من وجوه :

الأوّل : أنّ أساس هذا البرهان وبناء هذا البنيان ـ على ما هو الظاهر ـ على وجود العلم الإجمالي بنصب طريق يوصلنا إلى مطلوب المولى ، وذلك في محلّ من المنع ؛ إذ من المحتمل أنّ الشارع قد وكلنا في الوصول [ إلى ] أحكامه المجعولة على الطرق المنجعلة عندنا التي قد استقرّ بناء العقلاء في تحصيل الإطاعة بالرجوع إليها من العلم ، أو ما يقوم مقامه عندهم ولو مع التمكّن منه ، أو مع عدم التمكّن منه ، وما ادّعاه من العلم الإجمالي ، فهو إمّا ناش عن (٣) أنّ عدم النصب ينافي اللطف ؛ فإنّ فيه تقريبا للعباد إلى الطاعة مثلا ، أو يستند إلى دليل سمعي شرعي إن (٤) لم يجب نظرا إلى اللطف.

فإن أراد من أنّه يلزم على الشارع الحكيم نصب طريق علمي للعباد في تحصيل الامتثال والإطاعة بعد جعل الأحكام للعمل بها نظرا إلى اللطف ، وأنّه لولاه يقبح التكليف ، فلا ريب في بعده عن سبيل السداد ، فإنّ (٥) بعد ما يستكشف طريقة الإطاعة والامتثال من بناء العقلاء في أوامر مواليهم بالنسبة إلى عبيدهم من العمل بالعلم ـ فيما إذا كان تحصيله ممكنا ـ والتعويل على ما يقوم مقامه من الظنّ ولو في أعلى درجاته التعبّد (٦) للاطمئنان ، لا يلزم على الحكيم قبح على تقدير عدم النصب ؛ لعدم الاحتياج إليه ، فإنّ العقل يستقلّ في تحصيل الطريق ولو بمعاونة بناء العقلاء في ذلك ، والنظر في أحوال السلاطين في نصب ولاتهم للبلاد يعطي ما ذكرنا ، فإنّ البيان مقصور عندهم (٧)

__________________

(١) في المصدر : على الظنّ الذي لا دليل على عدم حجّيته.

(٢) الفصول : ٢٧٧ ـ ٢٧٨ وما بين المعاقيف منه.

(٣) « ش » : من.

(٤) « ل » : وإن.

(٥) « ش » : قال.

(٦) كذا.

(٧) « ل » : عندهم مقصور.

٢٠٨

على نفس الأحكام المجعولة لهم ، وذلك ظاهر لا سترة عليه ، وظنّي أنّ المدّعي أيضا لا يدّعي بذلك (١) كما يظهر من قوله : ومستند قطعنا في المقامين هو الإجماع.

وإن أراد أنّ الدليل قد دلّنا على ذلك وإن لم يكن واجبا في نظر العقل كالإجماع مثلا ، ففيه أوّلا : منع الإجماع كيف؟ وجماعة من متقدّمي أصحابنا كابن قبة ومتابعيه (٢) يقول بامتناع جعل الطريق الظنّي منه تعالى.

وأمّا العلم ، فقد عرفت فيما سبق أنّه بنفسه منجعل غير محتاج إلى الجعل ، وجملة منهم كالسيّد وأتباعه لا يرون وقوعه شرعا بل هم مكتفون في ذلك على الطرق المعمولة عند العقلاء في تحصيل الامتثال والإطاعة ، فأنّى لك بدعوى الإجماع والقطع به؟ فإنّ السيّد يعتمد على أصالة الحقيقة في الألفاظ ، ولا ريب أنّها ليست من الطرق المجعولة ، غاية ما في الباب أنّ الشارع قد أمضاها ، وذلك لا يقضي بجعل فيها كما لا يخفى.

وثانيا : أنّه قد تقدّم في بعض المباحث السابقة في الإجماع والتواتر أنّ ما نرى من اتّفاق جماعة على أمر واختلافهم في تعيينه على إطلاقه لا يلازم وجود قدر مشترك بين المجمعين والمخبرين ، فإنّه (٣) يتحقّق على وجهين :

أحدهما : أن يكون (٤) إطباقهم على قدر مشترك بين جميع الخصوصيات حقيقة ، و (٥) كان الاختلاف فيها كذلك ، كاتّفاقهم على موت واحد واختلافهم في الميّت هل هو زيد أو عمرو مثلا ، ومثل اتّفاقهم على وجوب الصلاة في الجمعة واختلافهم في أنّها الظهر أو الجمعة ، فإنّ الاتّفاق المذكور يكشف عن أنّ الموت في الجملة واقع ، والصلاة على إجمالها واجبة.

__________________

(١) كذا. والظاهر زيادة الباء.

(٢) « ل » : تابعيه.

(٣) « ل » : + قد. وشطب عليها في « ش ».

(٤) « ل » : يكونا.

(٥) « ش » : ـ و.

٢٠٩

وثانيهما : أن يكون الاختلاف في الخصوصيات من جهة الاختلاف في الأدلّة القاضية عند المخالف بها وبالقدر المشترك أيضا ، فلا يكشف عن القدر المشترك ، مثلا لو اختلفت الأمّة في وجوب شيء وحرمته نظرا إلى اختلافهم في الدليل الوارد في المقام من أنّه أمر أو نهي لا يكشف عن أنّ الإلزام في الجملة متحقّق ، فإنّ القائل بالحرمة كما ينفي خصوصية الإلزام الوجوبي ينفي نفس الإلزام أيضا ، وكذلك القائل بالإلزام الوجوبي ينفي الحرمة رأسا ، واختلاف الأصحاب في خصوصيات الأخبار من هذا الوجه ، ولا أقلّ من احتماله ، فإنّ بعضا منهم قد اعتمد على صنف خاصّ من جهة دليل خاصّ ، وصنف آخر منهم قد عوّل على بعض آخر كذلك كما ترى في اختلاف مداركهم من الآيات والإجماع والأخبار مثلا ، فيمكن تخطئة الجميع ، فلا يحصل الكشف.

وبالجملة ، إنّ المجمعين والمخبرين تارة يعلم من حالهم وكلماتهم اتّفاقهم في القدر المشترك ، وأخرى لا يعلم ، فمجرّد ما يرى من نفي الخصوصيات في كلماتهم لا يكشف عن كون المشترك بينهما مسلّما عندهم هذا ، ولئن أغمضنا عن ذلك ، فغاية ما هناك إطباقهم على أنّ القدر ( المشترك ) (١) من الطرق القطعية ، وأمّا أنّه مجعول ومنصوب للشارع بحيث قد جعله طريقا كما قد جعل في الموضوعات مثلا وفي القضاء كذلك ، فهو أوّل الكلام ؛ لاحتمال أن يكون ذلك من إمضاء الشارع للطريق المعمول عند العرف والعقلاء.

وأمّا ما استند إليه أخيرا من أنّه « كما نجد على الأحكام أمارات يقطع بعدم اعتبار الشارع إيّاها طرقا إلى معرفة الأحكام مثلا كالقياس » فواضح الضعف والسقوط ؛ لاحتمال أن يكون ذلك منهم ردعا موضوعيا ، ومنعا صغرويّا ، إمّا من حيث إنّ القياس وأضرابه من الأمارات الظنّية الغير المعتبرة ممّا لا يجوز الاعتماد عليه عند

__________________

(١) ما بين الهلالين استدرك في « ل » بخطّ آخر.

٢١٠

الانفتاح وحضور الإمام عليه‌السلام ، وإمّا من حيث إنّ القياس غالبا لا يصادف الواقع لعلمهم بالعواقب مثل ما نرى من اعتبار قول الثقة في المطالب العرفية عند أهله ، فلو قيل : إنّ المخبر الفلاني مثلا ممّا لا يجوز العمل بقوله ؛ لعدم الوثوق بقوله ، فكما أنّ ذلك لا ينافي الحكم بالكلّية القائلة باعتبار قول الثقة مثلا بل إنّما هو طرد موضوعي ، فكذلك فيما نحن بصدده.

ومن هنا يظهر عدم اتّجاه ما قد يتخيّل التعويل عليه في إثبات جعل الطريق منهم من الأخبار الآمرة بأخذ معالم الدين عن جملة من أصحابهم ، كقوله عليه‌السلام : « خذوا [ بـ ] ـما رووا وذروا ما رأوا » (١) وقوله عليه‌السلام : « عليك بزكريّا بن آدم المأمون على الدين والدنيا » (٢) وقوله عليه‌السلام : « نعم » بعد قول الراوي : أفيونس بن عبد الرحمن ثقة آخذ منه معالم ديني؟ (٣) إلى غير ذلك ؛ لظهور الجميع فيما قلناه من بيان الطرق المعمولة عليها عند العقلاء وإمضائها كما هو مقتضى صحيح النظر في قول الراوي إنّه ثقة آخذ منه [ معالم ديني ] فإنّه سأل عن الصغرى بعد فرض الكبرى مسلّمة ، وفي قول الإمام عليه‌السلام : « المأمون على الدين » ولا أقلّ من الاحتمال ، فيقطع الاستدلال لعدم ظهوره فيما استدلّ عليه قطعا ، فدعوى القطع بأنّه اعتبر في حقّنا طريقا جعليا مجازفة بيّنة ، ومكابرة هشّة (٤) على ما عرفت من عدم دليل على ذلك بل الإنصاف أنّ احتمال عدم جعل الطريق في الأحكام بعيد في الغاية ، وغريب في النهاية.

وممّا يكشف عمّا ذكرناه أنّ عموم البلوى في مثل المقام يقضي بعدم الخلاف في ذلك بل لا بدّ وأن يكون معلوما بالتفصيل كما أنّ التقليد في المقلّد كذلك ، فلو كان كما ذكر ،

__________________

(١) الوسائل ٢٧ : ١٠٢ ، باب ٨ من أبواب صفات القاضي ، ح ٧٩ ، و ٢٧ : ١٤٢ ، باب ١١ من أبواب صفات القاضي ، ح ١٣. وتقدّم في ص ١٥٥.

(٢) الوسائل ٢٧ : ١٤٦ ، باب ١١ من أبواب صفات القاضي ، ح ٢٧ نحوه.

(٣) الوسائل ٢٧ : ١٤٧ و ١٤٨ ، باب ١١ من أبواب صفات القاضي ، ح ٣٣. وسيأتي في ص ٢٥٦.

(٤) « ل » : ـ هشة.

٢١١

لكان الواجب أوّلا أخذ الطريق ومعرفته ، ثمّ الحكم بعد ذلك بالعمل بمؤدّاها ، وعلى تقديره يصير معلوما كما لا يخفى ، فليتأمّل.

فإن قلت : إنّ منع العلم الإجمالي بنصب الطريق مكابرة ؛ إذ من المعلوم أنّا لو تشرّفنا بحضور الإمام ، وسألنا من أنّ المرجع لنا في الأحكام بعد انسداد باب العلم أيّ شيء؟ وعلى أيّ طريق نرجع ، فلا حجّة يهدينا إلى سبيل ، ويوصلنا إلى طريق؟ ولو كان مطلق الظنّ أيضا ، فنحن نعلم إجمالا أنّ الطريق في الأحكام موجود إمّا الظنون الخاصّة أو مطلق الظنّ ، فيعمل في طريقه الظنّ ، ويتمّ المطلوب.

قلنا : لا يخفى على المتأمّل في المقام ، فساد هذا الكلام ، فإنّ القول بطريقية الظنّ المطلق ليس في عرض القول بطريقية غيره من الظنون الخاصّة حتّى يصحّ القول بالعلم الإجمالي بهما ، فإنّه يترتّب على انسداد باب الظنون الخاصّة ، والترديد لا يتصوّر بينها وبين الظنّ مطلقا كما أنّ الأصول العملية ليست في مرتبة الأدلّة الاجتهادية ، فإنّ فرض وجودها ينافي وجود الظنّ ؛ إذ على تقديرها يرتفع القول بالظنّ المطلق ارتفاعا موضوعيا فكما أنّ المجتهد لا يتردّد أمره بين الأخذ بالأصول وبين الأدلّة الاجتهادية فكذا في المقام لا يتعقّل الترديد بينهما ؛ إذ على تقدير جريان دليل الانسداد نعلم علما تفصيليا بطريقية مطلق الظنّ ، وعلى تقدير عدم جريانه بواسطة وجود الظنون الخاصّة نعلم علما تفصيليا بطريقية غيره.

نعم ، يصحّ هذا فيما إذا لم يدخل المجتهد في المسألة ، فإنّه يعلم أنّ مرجعه بعد الدخول إمّا الأصل ، أو الظنّ المطلق ، وإمّا الأدلّة الاجتهادية ، أو الظنون الخاصّة.

وأمّا بعد دخوله في المسألة ، فلا ترديد له كما عرفت ؛ إذ بعد وجود الدليل فالأصل أو الظنّ لا مجرى لهما قطعا ، وعلى تقدير عدمه ، فالمرجع إليهما قطعا ، فتدبّر.

الثاني : سلّمنا وجود العلم الإجمالي بنصب الطريق من جهة العلم بأنّ الشارع مثلا قد أمضى بعض الطرق العرفية ، ونهى عن بعض آخر ، فتصرّف فيها جرحا وتعديلا ،

٢١٢

فيكشف ذلك عن أنّه لم يرض لنا بالعمل بما في أيدينا مطلقا بادّعاء كفاية مثل ذلك في نصب الطريق ، وعدم افتقاره إلى أمر آخر غير ما ذكر ، فلا نسلّم وجود المنصوب منه عندنا ؛ لاحتمال انتفاء موضوعه ، فإنّه يحتمل أن يكون المنصوب منه هو الخبر العادل الواقعي ، أو الخبر المستفيض ، أو الخبر العدل من غير واسطة مثلا ، ومصاديقه ليست بموجودة عندنا بواسطة حدوث السوانح ، وعروض الحوادث ، فيقطع التكليف به ؛ لارتفاع موضوعه.

وبالجملة : إنّ مجرّد العلم الإجمالي ونصب الطريق على تقديره لا يلازم بقاءه في زمننا ، فيحتمل أن لا يكون الطريق المنصوب في الطرق الموجودة عندنا بواسطة انتفاء مصاديقه لدينا ، فلا تكليف به ، فيقطع الاستدلال بواسطة قيام الاحتمال.

الثالث : سلّمنا العلم الإجمالي بطريق منصوب من الشارع موجود عندنا لكنّه مع ذلك لا يقضي بإعمال الظنّ فيها لوجود القدر المشترك المتّفق عليه بين الكلّ في البين ، فهو معلوم تفصيلا ، وغيره مشكوك كذلك ، فلا وجه للعمل بالظنّ.

توضيحه : أنّه إذا دار الأمر بين الأقلّ والأكثر إذا كانا غير مرتبطين كأن دار الأمر بين وجوب ثلاثة أمور ، أو أربعة ، فلا شكّ في أنّ الأقلّ معلوم الوجوب ولو بالنسبة إلى الأكثر حينئذ ، بخلاف ما (١) إذا كانا متباينين كما إذا دار الأمر بين وجوب أمر ووجوب غيره ، فعلى الأوّل ، فلا وجه للعمل بالظنّ فيه ، وعلى الثاني ، فقد يحتمل على بعض الوجوه كما يظهر ممّا سيجيء ، وما نحن فيه من قبيل الأوّل ، فإنّ كلّ من قال باعتبار الشهرة ، فقد قال باعتبار الإجماع المنقول ، ومن قال باعتبارهما ، فقد قال باعتبار الحسان والموثّقات من الأخبار ، ومن قال باعتبارها ، فقد قال باعتبار الصحاح على ما هو المشهور فيها ، ومن قال باعتبارها ، فقد قال باعتبار الصحاح بالمعنى المختار عند صاحب المعالم والمدارك ، وعلى قياسه الكلام فيما إذا لاحظناها

__________________

(١) « ل » : « بخلافها » بدل : « بخلاف ما ».

٢١٣

متنازلة إلى أن يصل إلى أقوال متباينة كما في الشهرات والضعاف مثلا ، فإنّ البعض منهم من قال باعتبار الأوّل دون الثاني ، وبعض آخر قال بالعكس مثلا ، وحينئذ نمنع حصول العلم الإجمالي بوجود (١) طريق منصوب من الشارع في الأمارات المتباينة ، فهي طرق مشكوكة صرفة ، وما عداها معلومة محضة لا ترديد فيها ، فيجب العمل بها دونها ؛ لأصالة البراءة الخالية عمّا يصلح رافعا لها ، فإنّ أدلّتها عقلا ونقلا محكّمة في مقام الشكّ في التكليف كما في المقام.

الرابع : سلّمنا العلم الإجمالي في الطرق الموجودة المتباينة لكنّه مع ذلك كلّه لا ينهض على المدّعى ؛ فإنّ قضية العلم الإجمالي بالاشتغال في دوران الأمر بين المتباينين ـ كما هو المفروض ـ هو تحصيل البراءة القطعية من الإتيان بجميع المحتملات ، فإنّ القطع بالاشتغال ، يقضي بالقطع بالامتثال ، فلا يتمّ ما ذكره من استعلام حال (٢) المعلوم المردّد بإعمال الظنّ.

لا يقال : لا وجه للاحتياط في مثل المقام ؛ لدوران الأمر بين الواجب والحرام ؛ إذ كما نعلم بوجود طريق منصوب يجب العمل بمؤدّاه في الأمور المتباينة ، فكذا (٣) نعلم بوجود أمارة باطلة يحرم العمل بها فيما بينها.

لأنّا نقول : إنّ العلم بوجود أمارة باطلة غير منصوبة من الشارع كالقياس فيها لم يحصل لنا بعد ، واحتمال وجودها لا يجدي بعد جريان البراءة الأصلية.

فإن قلت : إنّ غاية ما هناك وقصارى ما يتوهّم في المقام منع العلم بحرمة العمل بأمارة ظنّية حرمة ذاتية كما في القياس ، وأمّا حرمة العمل بها ولو بواسطة العمومات الناهية عن العمل بمطلق ما وراء العلم ، فممّا لا يكاد ينكر دفعه وهي تكفي (٤) في المقام كما لا يخفى.

__________________

(١) « ش » : لوجود.

(٢) « ل » : « ما هو » بدل : « حال ».

(٣) « ل » : ـ فكذا.

(٤) « ل » : وهو يكفي.

٢١٤

قلت : قد عرفت فيما تقدّم مرارا أنّ مرجع الأدلّة الناهية إلى نفي التشريع ، وعدم جواز طرح الأصول المعلّقة على العلم في مقابلة الظنون الغير المعتبرة ولا شيء منهما فيما نحن بصدده.

أمّا الأوّل ، فواضح ، فإنّ التشريع هو إدخال ما ليس من الدين فيه على أنّه منه ، وفي صورة الاحتياط ليس كذلك ، فإنّه يعمل بالمحتمل لرجاء أنّه من الدين ولإدراك الواقع ، فالاحتياط شرّع طريقا ظاهريا ، فيجب الأخذ به في أمثال المقام ، فعلى تقديره يرتفع التشريع بانتفاء موضوعه وارتفاع محلّه.

وأمّا الثاني ، فلأنّ الأصول العملية واللفظية إذا لم تكن مخالفة لمؤدّيات الطرق المحتملة كأن دلّت الأصول على وجوب شيء ، والشهرة أيضا دلّت عليه مثلا ، فلا إشكال ، وأمّا إذا كانت مخالفة لها ، فالأصول تارة نافية للتكليف كالبراءة والاستصحاب في بعض موارده والتخيير ، وأخرى مثبتة له كالاشتغال والاستصحاب في بعض آخر من موارده.

وعلى الأوّل ، فلا منافاة بينهما أيضا ، فإنّ البراءة والاستصحاب مفادهما حينئذ لا يزيد على الرخصة وهي لا تنافي العزيمة فعلا وتركا كما يستفاد من الطرق المحتملة ، فلو قامت الشهرة على وجوب شيء يقتضي الأصل العملي واللفظي كأصالة الحقيقة إباحته ، فلا شكّ في عدم منافاة الإباحة للوجوب في العمل كما إذا قامت على حرمته ؛ فإنّ وجوب الترك لا ينافي جواز الترك ؛ إذ له الترك دائما.

وعلى الثاني أيضا ، فلا منافاة فيما إذا كان مفاد الطريق كالشهرة إباحة شيء ، ومفاد الأصل كالاستصحاب أو الاشتغال وجوب شيء ؛ لما قد عرفت من عدم منافاة الرخصة للعزيمة ، وأمّا إذا قامت الشهرة على حرمة شيء والأصل يقتضي وجوبه ، فإن كان هو الاستصحاب ، فلا يجري قطعا ؛ لانتقاض مورده بالعلم الإجمالي ، بخلاف جملة من موارده كما تقدّم في إبطال الرجوع إلى الأصول الجزئية ، وإن كان الأصل هو

٢١٥

الاشتغال كأن قامت الشهرة على وجوب شيء والاشتغال يقضي بحرمته ، فتردّد الأمر بين الاحتياط في المسألة الأصولية كأن يعمل بمفاد (١) الشهرة لاحتمال كونها طريقا ، والاحتياط في المسألة الفرعية كأن يأخذ بمفاد الاشتغال ، وحينئذ فالحقّ وإن كان الأخذ بالاحتياط في الفرعيات على ما ستعرفه إلاّ أنّه مع ذلك لا يقضي بالعمل بالظنّ في تعيين الطريق كما هو مطلوب المستدلّ ؛ إذ لا مناص من الاحتياط ، أمّا في المسألة الأصولية فيما إذا لم يخالف مفاد الطريق مفاد الأصل ، وأمّا في المسألة الفرعية فيما إذا خالف مفاد أحدهما مفاد الآخر كما عرفت ، ولا يلزم العسر على هذا التقدير ، فإنّ الاحتياط في الأصول لا يلازم إثبات التكليف ، فإنّ بعد العمل بالشهرة فهي مختلفة المفاد ، فتارة ينفي التكليف ، وأخرى يثبته ، والاحتياط في الفرعيات يختصّ في موارد الاشتغال فيها كما إذا دار الأمر بين المتباينين مثلا أو غيره على وجوه اختلافهم في تعيين محلّ الاحتياط ، فكما (٢) لا يلزم على العامل بالظنون المطلقة عسر في العمل بهذه الأمارات المختلفة المتشتّتة ، فكذلك لا يلزم على العامل بها من جهة الاحتياط.

الخامس : سلّمنا جميع ذلك ، وأغمضنا عن كلّه لكنّ الدليل لا ينتج النتيجة المطلوبة التي هي حصر الحجّة في الظنّ في الطريق.

وبيان ذلك : أنّ الطرق المنصوبة إمّا أن تكون طرقا حالتي الانسداد والانفتاح ، أو في حالة الانسداد فقط وإن كان جعلها في حالة الانفتاح ، وعلى التقديرين لا ملازمة بين المقدّمات التي ذكرها والنتيجة التي قصدها.

أمّا على الأوّل ، فلأنّ مؤدّى الطريق على ما هو المفروض في عرض الواقع ، فعند التمكن من العلم بالواقع ، والعلم بمؤدّى الطريق ينحصر الأمر بين الأخذ بالواقع والأخذ بمؤدّى الطريق ، ولا ترجيح لأحدهما على الآخر كما إذا قامت البيّنة مثلا على ذهاب الحمرة في المغرب مع التمكّن من تشخيص الواقع لنا علما بالرؤية ونحوها ، فلا

__________________

(١) « ل » : مفاد.

(٢) « ل » : كما.

٢١٦

يتعيّن العمل بأحدهما.

نعم ، لو انسدّ باب العلم في أحدهما ، تعيّن الأخذ بالآخر كما في الواجب المخيّر ، فإنّ بعد التعذّر عن العتق في الكفّارات يتعيّن غيره ، وقضية ذلك حجّية الظنّ فيهما لو انسدّ باب العلم فيهما معا كما في الواجب المخيّر أيضا ، فيحكم بالتخيير بين العمل بالظنّ في الأحكام الواقعية وبين العمل به في الطريق ، فكما أنّ الشكّ فيهما حينئذ ممّا لا عبرة به فيهما ، فكذلك يعتبر الظنّ فيهما.

وبالجملة ، إنّ الطريق والواقع إمّا أن يكونا مشكوكين ، أو مظنونين ، أو معلومين ، وقضيّة تساويهما في الطرفين من اعتبارهما في الأخير وعدمه في الأوّل تساويهما في الوسط أيضا ، فكما أنّ العلم بالطريق ينزّل منزلة العلم بالواقع عند التمكّن ، و (١) العلم به يغني عن العلم به ، فكذلك في صورة الظنّ ، فإنّه لو لم نقل بأولوية الأخذ بالظنّ المتعلّق بالواقع ، فلا أقلّ من تساويهما.

وأمّا على الثاني ، فلا يخلو إمّا أن يكون نصب الطريق في حالة الانسداد على وجه الانحصار ـ كأن يكون الاعتبار منحصرا في طرق معلومة مخصوصة ، وكان المرجع فيما عداها إلى الأصول ـ أو لا على وجه الانحصار وعدمه كأن عيّن العمل بطرق مخصوصة مع قطع النظر عن اعتبار طريق آخر وعدمه ، ويرجع الأخير إلى الأوّل ، فإنّ العمومات الناهية عن العمل بغير العلم تقضي بانحصار الطريق فيما عيّنه ، فلا بدّ من الرجوع فيما عداه إلى الأصول العملية ، غاية ما في الباب أنّ عدم جواز الرجوع في صورة الانحصار إلى (٢) الطرق الأخر معلوم بالخصوص ، وفي صورة عدم الانحصار معلوم بواسطة العمومات ، وعلى التقديرين فبعد الإغماض عن ذلك ، فإنّ الأدلّة الدالّة على حجّية أخبار الآحاد ـ كآية النبأ والإجماع (٣) المدّعى في كلام الشيخ وغيرهما (٤) كما

__________________

(١) « ل » : « من » بدل : « و».

(٢) « ل » : على؟

(٣) في النسختين : إجماعي.

(٤) « ش » : غيرها.

٢١٧

لا يخفى ـ بإطلاقها يشمل حجّيتها في صورة الانسداد والانفتاح ، فلا ملازمة أيضا ، فإنّ الأحكام الشرعية بأسرها فروعها وأصولها إذا انسدّ باب العلم فيهما يتعيّن العمل بالظنّ ، فكما أنّ خطاب الشارع قد تعلّق بوجوب حكم فرعي ، وعند تعذّر العلم فيه يستعلم بإعمال الظنّ ، فكذلك إذا تعلّق بطريقية طريق ، ولا تتفاوت الحال فيهما ، فكما أنّ التكليف بالواقع شأني في صورة عدم العلم به ، فكذلك التكليف بالأخذ من الطريق أيضا ، ولا تتنجّزان على المكلّف فعلا إلاّ بعد العلم ، فكما يجوز بعد الانسداد إعمال الظنّ فيه ، يجوز فيه أيضا.

فإن قلت : إنّما يسلّم ما ذكر لو كان كلّ من التكليف بالواقع والطريق مستقلاّ لا علقة بينهما بإطلاق وتقييد وليس كذلك ؛ فإنّ التكليف بالواقع قد قيّده الشارع بالطريق ، فالمكلّف به في المقام هو الإتيان بمؤدّيات تلك الطرق ، ويكشف عن ذلك الإتيان بالطريق عند الانفتاح فيها والانسداد في الأحكام كما عرفت واعترفت فيما سبق آنفا ، وقد صرّح القائل بذلك فيما نقل عنه حيث قال (١) : ومرجع القطعين في الحقيقة إلخ ، فلا بدّ عند انسداد باب العلم فيهما من إعمال الظنّ في الطريق.

قلت : من الأمور الواضحة الجليّة التي لا يكاد يعتريها ريب أنّ قوله : « أقيموا الصلاة » مطلق ، وكذلك قوله : « اعمل بخبر العدل » يحكم أيضا بالامتثال ، فيقيّد حكمه الأوّل حكمه الثاني ، فيحكم بوجوب إقامة الصلاة على ما أخبر بها العدل ، وقضيّة ذلك بحكم العقل لا تزيد على التخيير بين العلم والأخذ بالطريق عند الانفتاح فيهما ، والأخذ بالطريق عند انفتاح باب العلم فيه دون الواقع ؛ لأولويّة الامتثال العلمي على الامتثال الظنّي ، وأمّا (٢) عند الانسداد ، فالعقل لا يقضي بتقييد في الامتثالين ؛ إذ لو لم نقل بأولويّة الامتثال الظنّي بالنسبة إلى الواقع ، فلا أقلّ من تساويهما ، فالحكم بتقديم العمل

__________________

(١) أي صاحب الفصول ، تقدّم كلامه في ص ٢٠٦.

(٢) « ل » : وإنّما.

٢١٨

بالطريق في صورة انفتاح باب العلم فيه وانسداد باب العلم في الأحكام الواقعية لا يقتضي (١) بالحكم بتقديم الامتثال الظنّي في الطريق على الامتثال الظنّي في الحكم ؛ إذ كما عرفت علّة الأولويّة ووجهها في صورة الانفتاح في الطريق هو صريح حكم العقل بها بواسطة تقيّده الحكم بالامتثالين فيهما من جهة تقدّم (٢) الامتثال التفصيلي العلمي على الامتثال الظنّي ، والعلم الإجمالي بالأحكام الواقعية بعد إحراز جملة منها بالطريق العلمي ينقلب بالنسبة إلى البعض المحرز بالطريق العلمي علما تفصيليا ، وبالنسبة إلى الآخر شكّا تفصيلا ، فيجري فيه البراءة الأصلية في محلّ جريانها وغيرها في غيره ، وليس هناك تقيّد لفظي كما قد يتوهّم كأن قال الشارع : اعمل بالواقع من الطريق الفلاني على وجه لو انتفى الطريق انتفى الواقع.

ثمّ لو سلّمنا أنّ هناك تقييدا لفظيا ، فلا ملازمة (٣) أيضا بين المقدّمات المذكورة والنتيجة المطلوبة ، فإنّ مناط جعل الطريق من الشارع معلوم ؛ إذ لا يخلو إمّا أن يكون بواسطة غلبة مطابقته للواقع ، أو بواسطة اشتماله على خصوصية متداركة لمصلحة الواقع في صورة التخلّف عنه ، وعلى التقديرين لا يوجب التقيّد في صورة الانسداد.

أمّا (٤) على الأوّل ، فلأنّ بعد الانسداد في الطريق وإعمال الظنّ في الطريق يلزم إحراز الطريق المطابق للواقع غالبا بطريق لا يلازم المطابقة غالبا ، فالمناط في الجعل مفقود في المقام.

وأمّا على الثاني ، فلأنّ الخصوصية الموجبة لجعله طريقا لو كانت موجودة في غيرها ، فلا وجه لتخصيصها بالجعل ، ولو لم يكن ، فيلزم أيضا إحراز الخصوصية بما لا يلازم وجود الخصوصية ، وهل هذا إلاّ كرّ على ما فرّ ، والتقييد لا بدّ وأن يكون عند العلم بالطريق.

__________________

(١) « ل » : يقضي.

(٢) « ل » : تقديم.

(٣) « ش » : فلازمة.

(٤) « ل » : وأمّا.

٢١٩

وتوضيحه : أنّ الشارع لو قال : اعمل بخبر العدل ، فما يصل إليك من الأحكام الواقعية فقط ، فلا شكّ أنّ جعل قول العدل دليلا إنّما هو عين مراعاة الواقع إمّا بواسطة غلبة المطابقة له ، أو بواسطة اشتماله على الخصوصية كما عرفت ، فلو علمنا قول العادل بخصوصه ، فلا إشكال في جواز الاعتماد عليه عند التمكّن من الواقع ، ووجوبه عند عدم التمكّن منه ، ولو لم نعلمه بالخصوص وعلمنا في طريق تعيينه (١) بالظنّ المطلق الذي لا يلازم المطابقة واقعا ، فلا شكّ في انتقاض الغرض على هذا التقدير وانتفاء وجه التقييد ، فيرجع الأمر إلى التساوي بين الأخذ بالظنّ في الطريق ، أو الواقع ؛ إذ المفروض أنّ جعل الطريق إنّما هو بواسطة مراعاة الواقع.

اللهمّ إلاّ أن يقال : إنّ الأخذ بالظنّ في الطريق إنّما هو بواسطة أنّه مجمع الظنّين ومرجع المصلحتين ، وفيه أيضا أنّ مذاق المستدلّ لا يوافق هذا المشرب ، فإنّه إنّما يراعي الظنّ بالطريق ولو لم يفد الظنّ بالواقع ، وأنّه إنّما يناسب مقالة من يقول بأنّ النتيجة بعد الانسداد هو حجّية الظنّ في الجملة على نحو القضية المهملة كما ستعرفه ، وعلى تقديره فيرد عليه ما سنورده في ردّها من عدم كلّيته ؛ لجواز أن يكون الظنّ بالواقع في أعلى مراتب الظنّ ، والظنّ المظنون اعتباره في أدنى مراتبه موضوعا وحكما ، فلا يقاومه كما لا يخفى.

ثمّ إنّه قد ظهر ممّا مرّ سقوط ما قد يستند إليه من قياس المقام بلزوم إعمال الظنّ في طريق القضاء للقاضي ، وعدم جواز الاتّكال على ما يفيد الظنّ بالواقع للمقلّد ، فالقاضي لا يجوز له إعمال الظنّ (٢) في صدق المتخاصمين بل يجب عليه إحراز الطرق المقرّرة في الشريعة بقطع التحارب (٣) ورفع التنازع وتحصيل موازين القضاء ولو بظنون

__________________

(١) « ش » : تعيّنه.

(٢) سقط قوله : « في طريق القضاء » إلى هنا من « ل ».

(٣) « ل » : لقطع التجازب.

٢٢٠