مطارح الأنظار

الميرزا أبو القاسم الكلانتري الطهراني

مطارح الأنظار

المؤلف:

الميرزا أبو القاسم الكلانتري الطهراني


المحقق: علي الفاضلي
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: معهد الإمام الخميني والثورة الإسلامية
المطبعة: مؤسسة العروج
الطبعة: ١
ISBN: 978-964-7986-36-6
الصفحات: ٦١٥

جريانها لا محلّ للنذر وذلك ظاهر لا سترة عليه.

ثمّ إنّ المدرك في أصالة عدم الملكية يمكن أن يكون أمورا (١) :

الأوّل : أصالة عدم المالية عند الاشتباه فيحرم التصرّف فيه.

ولكنّه ليس على ما ينبغي لأنّ الحرمة في عنوان الأدلّة الشرعية لا يترتّب على عدم المالية فإنّها من آثار ملك الغير ، فبدون التسرية إلى ثبوت ملك الغير بالأصل (٢) لا جدوى فيه ، ومعها لا تعويل (٣) عليه لأنّه (٤) أصل مثبت ، على أنّه معارض بأصالة عدم ملك الغير ، فيجري أصالة الإباحة فيها مع أنّ طريقة الأصحاب ممّا تنفي (٥) ذلك.

الثاني : أصالة عدم الملكية نظرا إلى أصالة عدم ما يفيد الملك من الأسباب الشرعية كالصلح والهبة والبيع ونحوها بناء على أنّ الاستقراء في الشرعيات يعطي انحصار الملك في الأسباب.

وفيه : أنّ الاستقراء هذا وإن كان حقّا إلاّ أنّ مفاده لا يزيد على حصر الملك في أسباب خاصّة ، وأصالة عدم تلك الأسباب لا يقضي بالحرمة بل يقضي (٦) بعدم حصول الملك والحرمة على ما عرفت من آثار ملك الغير لا من آثار عدم الملكية كما لا يخفى.

الثالث : أصالة بقاء الحرمة الثابتة ولو في زمان ما في بعض الأقسام ، وتوضيح ذلك : أنّ الملك المشتبه المردّد بين أن يكون ملكا لك أو لغيرك لا يخلو من وجوه :

أحدها : أن يكون مسبوقا بالإباحة الذاتية الأصلية (٧) كالمباحات الشرعية وكان الشكّ في أنّ سبب الملك وهي الحيازة هل حصلت لك أو لغيرك.

وثانيها : أن يكون مسبوقا بيد الغير مع الشكّ في انتقاله إليك من غير احتمال انتقاله

__________________

(١) « ج ، م » : أمور!

(٢) « م » : ـ بالأصل.

(٣) « م » : ـ لا تعويل.

(٤) « ج » : فإنّه.

(٥) « س » : ينتفي.

(٦) « ج » : لا تقضي ... بل تقضي.

(٧) « س » : الأصلية الذاتية.

٤٢١

إلى الغير.

وثالثها : أن يكون مسبوقا بيد الغير مع الشكّ في انتقاله إليك مع احتمال انتقاله إلى غيرك أيضا لا (١) شكّ في إباحة الأوّل لاستصحابها ، وحرمة الثاني أيضا لاستصحاب ملك الغير وأصالة عدم خروجه عن سلطانه كما أنّه لا ريب في حرمة الثالث نظرا إلى استصحاب ملك الغير.

فإن قلت : إنّ ملك الغير قد انقطع إن أريد به ملك من يحتمل انتقاله منه إليك وغير معلوم رأسا إن أريد به ملك من يحتمل انتقاله منه إليه ، وهل هذا إلاّ (٢) مثل استصحاب الضاحك بعد العلم بتبدّل الأفراد فإنّ الضاحك الموجود اليقيني في ضمن زيد قد ارتفع قطعا ، وفي ضمن عمرو لم يعلم ثبوته ، فلا تعويل على مثل هذا الاستصحاب.

قلت : إنّ تبدّل الأفراد لا يقضي بانتفاء الجنس والكلّي فإنّ ملك الغير على سبيل الكلّية والجنسية معلوم والشكّ في وجوده لا يثمر ، فيحكم ببقائه حتّى يعلم انتفاء الجنس ، وانتفاء الفرد لا دخل له فيه ، ألا ترى أنّ انتفاء الفرد الشديد من السواد لا يخلّ في استصحاب مطلق السواد وجنسه ولو في فرد آخر ، وحديث الضاحك أيضا غير مسلّم فيما لو كان الشكّ في وجود مطلق الضاحك.

نعم ، لو كان الشكّ في الضحك الخاصّ الموجود في ضمن زيد بخصوصه ، لا يعقل استصحابه في ضمن عمرو فإنّ نسبة الجنس إلى جميع أفراده المندرجة تحته سواء ، وانتفاء الخاصّ لا يدلّ على انتفاء العامّ بخلاف ما إذا كان الكلام في خصوصيات الأفراد.

الرابع : قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : « ما يحلّ مال امرئ إلاّ بطيب من (٣) نفسه » (٤) فإنّ الحلّية في الحديث

__________________

(١) « س » : ـ لا! « ج » : كما لا.

(٢) « س » : « أيضا » بدل : « إلاّ ».

(٣) « س ، م » : ـ من.

(٤) الوسائل ٥ : ١٢٠ ، باب ٣ من أبواب مكان المصلّي ، ح ١ و ٣ ، و ٩ : ٥٤١ ، باب ٣ من أبواب

٤٢٢

موقوفة على طيب النفس والرضاء (١) الباطني والأصل عدم حصول طيب النفس ، ويؤيّد ذلك ما ذكروه (٢) في كتاب اللقطة من أنّ من وجد في بيته مالا مع كثرة دوران الناس في بيته ، يحكم بكونه لقطة ، ويترتّب عليه آثارها من الإعلام ونحوه كما يؤيّد ذلك أيضا ما ورد في بعض الأخبار (٣) من أنّ المال الموجود في الصندوق المشترك لا يجوز التصرّف فيه عند الاشتباه.

ثمّ إنّه لا يخفى أنّه ليس الكلام في الأموال التي لا يعلم (٤) سبق (٥) اليد عليه (٦) فإنّ فيها ربّما نقول باستصحاب الإباحة الذاتية كما عرفت بل المقصود إثبات الإباحة العرضية المسبّبة عن أحد الأسباب الشرعية وعدمها ، وهذا نظير قولنا في بعض مباحث المفاهيم قبالا لمن زعم أنّ الحكم (٧) المستفاد من المفهوم لو كان موافقا لأصالة الإباحة ممّا لا جدوى فيه لحصول الإباحة بدون التعليق من أنّ الإباحة المستفادة من المفهوم تغاير الإباحة المطلقة لاستنادها إلى التعليق ، فهي إباحة سببية ، وتلك إباحة ذاتية ، فعند انتفاء الشرط يحكم بانتفاء الإباحة العرضية لا الإباحة الذاتية ، وذلك ظاهر لمن تدبّر.

__________________

الأنفال ، ضمن ح ٦ ، و ٢٤ : ٢٣٤ ، باب ٦٣ من أبواب الأطعمة المحرّمة ، ح ٣ ، و ٢٥ : ٣٨٦ ، باب ١ من كتاب الغصب ، ح ٤ ؛ الفصول المهمّة ٢ : ٤٥٤ ، باب ٣ من كتاب الغصب ، ح ١ ؛ عوالى اللآلى ١ : ٢٢٢ / ٩٨ و ٢ : ١١٣ / ٣٠٩ و ٢٤٠ / ٦ و ٣ : ٤٧٣ / ٣ مع اختلاف فيها.

(١) في النسخ : « رضاء ».

(٢) انظر تذكرة الفقهاء ٢ : ٢٦٥ ط الحجري ؛ مسالك الأفهام ١٢ : ٥٢٩ ؛ مجمع الفائدة ١٠ : ٤٨١ ؛ كفاية الأحكام : ٢٣٧ ؛ رياض المسائل ٢ : ٣٣٢ ط الحجري ؛ غنائم الأيّام ٤ : ٣٠٣ ؛ عوائد الأيّام : ٧٤٣ ، عائدة ٦٩ وفي ط الحجري : ٢٥٧ ؛ مستند الشيعة ١٧ : ٣٣٩ ؛ جواهر الكلام ٣٨ : ٣٣٧.

(٣) الفقيه ٣ : ٢٩٣ / ٤٠٥٠ ؛ التهذيب ٦ : ٣٩٠ / ١١٦٨ / ٨ باب ٩٤ ، انظر أيضا المصادر الواردة في التعليقة السابقة.

(٤) « ج » : لا نعلم.

(٥) « س ، ج » : بسبق.

(٦) كذا. والصواب : عليها.

(٧) في النسخ : حكم.

٤٢٣
٤٢٤

أصل

[ في الشبهة الموضوعية الوجوبية من الشكّ في المكلّف به ]

قد عرفت فيما سبق أنّ الشكّ تارة في التكليف ، وأقسامه من (١) الموضوعية والحكمية بأقسامهما (٢) ستّة ، وقد مرّ تفصيل الكلام فيها ، وأخرى في المكلّف به فتارة في الموضوع ، وأخرى في الحكم.

أمّا الأخير ، فستطّلع إن شاء الله العزيز على تفاصيل أقسامه وأحكامه (٣) عمّا قريب.

وأمّا الأوّل ، فتارة فيما دار الأمر بين الواجب وغير الحرام ، وأخرى فيما دار بين الحرام وغير الواجب ، ومرّة فيما دار الأمر بين الحرام والواجب سواء كان الأمر في الموضوع دائرا بين الأقلّ والأكثر ، أم لا.

والكلام في هذا الأصل معقود لبيان حكم الشبهة الموضوعية عند الشكّ في المكلّف به فيما دار الأمر بين الواجب وغير الحرام ، ويتبعه الكلام فيما دار الأمر بين الأقلّ والأكثر سواء كانا استقلاليين أو لا ، مثال ذلك ما لو اشتبهت القبلة فإنّ الحكم ـ وهو وجوب الصلاة على جهة القبلة ـ معلوم وإنّما الشكّ في أنّ الواجب هو الفعل مستقبلا على الجهة الفلانية أو غيرها.

__________________

(١) « م » : فمن!

(٢) « م » : بأقسامها!

(٣) والأولى : أحكامها أي أحكام الأقسام.

٤٢٥

وقد يستشكل في كون المذكور مثالا لما نحن فيه لاحتمال أن يكون القبلة (١) واستقبالها من الشروط العلمية ، فعند عدم العلم لا يكون الاستقبال واجبا كما في الذبح فإنّ التخيير بين الجهات حينئذ ليس تخييرا شرعيا ، فالأولى التمثيل بالصلاة الفائتة من الصلوات الخمس عند اشتباهها ، فإنّ التكليف الوجوبي معلوم ، والشكّ إنّما هو (٢) في المكلّف به وفي تعيين الواجب منها.

لا يقال : إنّ الأمر دائر بين المحذورين في المقام لاحتمال التشريع وهو إتيان الصلاة لا على جهة القبلة الواقعية.

لأنّا نقول : ليس الكلام في الحرمة التشريعية إذ بعد حكم العقل بلزوم الاحتياط يرتفع موضوعه بل في الحرمة الشرعية ولا احتمال لها في أمثال المقام كما لا يخفى.

ثمّ إنّ هاهنا مقامين :

أحدهما : أنّ بعد اشتباه موضوع الحكم هل يجوز المخالفة القطعية بطرح جميع المحتملات ، أو لا؟

وثانيهما : أنّ بعد القول بعدم جواز (٣) المخالفة القطعية فاللازم تحصيل الموافقة القطعية ، أو يكفي الموافقة الاحتمالية؟ ففي المقام الأوّل لو قلنا بجواز المخالفة يجوز ترك الصلاة في جميع الجهات ، وفي المقام الثاني لو قلنا بوجوب تحصيل الموافقة القطعية لا بدّ من الإتيان بجميع المحتملات تحصيلا للواقع ، ولو قلنا بعدم وجوبه وكفاية الموافقة الاحتمالية ، يكفي بالصلاة في جهة واحدة.

أمّا الكلام في المقام الأوّل ، فالظاهر أنّه لم يذهب وهم إلى جواز المخالفة القطعية بل الكلّ مطبقون على تحصيل الموافقة ولو احتمالا.

وأمّا المقام الثاني ، ففيه خلاف يظهر من بعض الأواخر (٤) في نظير المقام عدم

__________________

(١) سقط قوله : « معلوم وإنّما ... » إلى هنا من نسخة « س ».

(٢) « س ، م » : ـ هو.

(٣) « س » : جوازه.

(٤) والظاهر أنّه المجلسي في الأربعين حديثا : ٥٨٢.

٤٢٦

وجوب الموافقة القطعية ، وتبعهم في ذلك المحقّق القمّي (١)(٢) في المقام ، والمنصور (٣) هو وجوب الاحتياط وتحصيل الموافقة ، لنا على ما صرنا إليه أنّ من المعلوم عندنا تعلّق الوجوب الواقعي وترتّبه على الصلاة بالقبلة (٤) الواقعية ، وكلّما علمنا تعلّق الوجوب الواقعي على موضوع واقعي يجب الإتيان به وامتثال أمره ، فيجب الإتيان (٥) بالصلاة على القبلة الواقعية ، فالمانع إن عطف عنان كلامه إلى منع الصغرى بعدم (٦) تسليمه ترتّب الوجوب على الصلاة بالقبلة (٧) الواقعية نظرا إلى عدم تعلّق الأحكام بالواقع ـ سواء كانت مدلولة للألفاظ لعدم وضعها للمعاني الواقعية أو مدلولة للإجماع لأنّ المتيقّن (٨) من معاقد الإجماع هو ما كان الحكم معلوما ـ فالحاكم بيننا وبينه هي (٩) الأدلّة الشرعية لفظا ولبّا بالرجوع إليها فإنّ من الضروري بحيث لا ينكره إلاّ المكابر تعلّق الأحكام بالواقع في الأدلّة الشرعية ، على أنّ ذلك لو تمّ لم يجب الموافقة الاحتمالية بل مقتضاه جواز المخالفة الواقعية ؛ لعدم ثبوت التكليف في وجه ، لعدم العلم ، مع أنّ الخصم لا يسلّم ذلك ، والاستناد في ذلك إلى الإجماع على لزوم الإتيان بشيء من الأمر المردّد ممّا لا يسمن ولا يغني فإنّ الإجماع على ما هو ظاهر لمن تدبّر كلمات المجمعين إنّما هو نظره إلى ثبوت الحكم في الواقع لا أنّه (١٠) حكم آخر ، كيف؟ ولو كان كذلك ، لكان التخيير واقعيا بين الاحتمالين كوجوب الخصال ، وعلى تقديره فليس من الموافقة الاحتمالية في شيء بل هو الموافقة القطعية التفصيلية وذلك واضح ، والظاهر أنّ الخصم أيضا ممّن لا ينكر ذلك أيضا ، وإنّما تعرّضنا لدفعه تحقيقا للمقام.

وإن استند في دفع الحجّة المذكورة إلى منع الكبرى نظرا إلى عدم الدليل على

__________________

(١) « س » : + رحمه‌الله.

(٢) القوانين ٢ : ٢٥.

(٣) « ج » : المقصود؟

(٤) « س » : بالصلاة على القبلة.

(٥) « س » : ـ الإتيان.

(٦) « ج » : « بعد » بدل : « بعدم ».

(٧) « س » : على القبلة.

(٨) « م » : المتّفق.

(٩) « ج » : ـ هي.

(١٠) « م » : لأنّه.

٤٢٧

وجوب الامتثال على الوجه المذكور لأنّه إن كان هو الشرع فالمفروض انتفاؤه ، وعلى تقديره ، فلا يجدي لأنّ الكلام في وجوب الاحتياط والإتيان بالمحتملات نظرا إلى دليل الواقع من غير حاجة إلى دليل الاحتياط وإن كان هو العقل من حيث إنّ بعد العلم بتعلّق الوجوب الواقعي على الصلاة بالقبلة الواقعية ، فلا يكون هناك حالة منتظرة للإتيان بالفعل على الوجه المذكور ، فإنّ أريد أنّ مجرّد العلم بتعلّق الوجوب علّة تامّة لحكم العقل بوجوب الاحتياط كما في صورة حصول العلم التفصيلي ، فغير سديد لجواز تصريح الشارع بالعفو عن الاحتياط من غير محذور كما هو واقع أيضا ، فلا يصحّ قياسه بالعلم التفصيلي كما لا يخفى ، وإن أريد أنّه مقتض للاحتياط ، فغير مفيد لجواز تخلّف المقتضي عن المقتضى (١) لاحتمال وجود المانع.

فالجواب عنه أنّ مطلق العلم بتعلّق التكليف بالأمر الواقعي مع إمكان الامتثال علّة تامّة للإطاعة عقلا كما تشهد به صراحة الوجدان وهي على قسمين :

إمّا عقلية صرفة كما إذا لم يرد من الشارع ما يسقط بعض الاحتمالات ، فيجب الإتيان بها طرّا لتحصيل الامتثال ، وذلك ظاهر جدّا.

وإمّا شرعية كما إذا دلّ الدليل الشرعي على سقوط بعض المحتملات فإنّ للشارع أن يجعل إطاعة هذا الأمر على هذا الوجه فكأنّه بدل من الواقع كما إذا قامت البيّنة على تعيين القبلة الواقعية ، ولا ضير في ذلك.

وبالجملة ، فكما أنّ قيام البيّنة العادلة على تعيين القبلة الواقعية مشخّص (٢) لموضوع الأمر ويحصل الامتثال بالعمل على مفادها من غير نكير ، فكذا حكم الشارع بإسقاط بعض المحتملات لا يضرّ في الامتثال وحصول الإطاعة بالنسبة إلى الأمر الواقعي فإنّ امتثاله فيه ، فظهر صحّة مقايسته بالعلم التفصيلي فإنّ تجويز (٣) ترك الإطاعة مطلقا

__________________

(١) « س » : ـ عن المقتضى.

(٢) « م » : فمشخّص.

(٣) « س » : فإن يجوز.

٤٢٨

عقلية وشرعية يناقض العلم الإجمالي بوجوب الإطاعة في الجملة على أحد الوجهين كما أنّه يناقض تجويز (١) ترك الامتثال التفصيلي عند حصول العلم التفصيلي كما لا يخفى.

على أنّ لنا أن نختار الشقّ الثاني ، واحتمال المانع مدفوع بالأصل ، ولا يعارضه أصالة البراءة ، فتدبّر.

وإن استند في منعهما إلى لزوم التكليف بالمجمل وتأخير البيان عن وقت الحاجة مع إطباق العدلية على امتناعه بتقريب أنّ الوجوب الواقعي إنّما يترتّب على الموضوع الواقعي فيما لم يلزم منه التكليف بالمجمل ، وأمّا فيما يلزم منه التكليف بالمجمل ، فلا يترتّب على الموضوع الواقعي بل لا بدّ من حمله على موضوع لا يلزم منه المحذور المذكور ، وعلى تقدير تعلّق الوجوب بالواقع ، فالامتثال فيه وجوبه إنّما يسلّم فيما لم يلزم منه التكليف بالمجمل.

فالجواب عنه أنّ التكليف بالمجمل الذي اتّفق العدلية على امتناعه هو ما لم يكن للمكلّف مندوحة في الامتثال ولم يكن طريق عقلي للإطاعة فيه وبعد ما عرفت من أنّ العقل بعد العلم بتعلّق الوجوب على الموضوع الواقعي يستقلّ بالحكم على لزوم الإطاعة والامتثال ، فلا إجمال في التكليف ولا في المكلّف به كما لا يخفى.

على أنّ الإجمال في المقام على تقديره إنّما هو في تعلّق الحكم الشرعي وموضوعه لا في نفس التكليف الكلّي ومتعلّقه على ما هو ظاهر.

ومجمل الكلام في المقام أنّ منع (٢) الصغرى المذكورة تارة بمنع المقتضي بمنع تعلّق الوجوب إلى الموضوع الواقعي وقد عرفت فساده ، وأخرى بوجود المانع لاستلزامه التكليف بالمجمل.

ومنع الكبرى أيضا تارة بمنع المقتضي لعدم الدليل على وجوب الامتثال حينئذ ، وأخرى بوجود المانع من استلزامه المحذور المذكور ، وقد عرفت فساد الكلّ كما لا يخفى.

__________________

(١) « س » : ـ تجويز.

(٢) « ج ، م » : أن يمنع.

٤٢٩

ويؤيّد ما ذكرنا فحوى الأخبار الآمرة بتكرير (١) الفائتة في ثلاثة حيث إنّ المنساق منها لزوم تكريرها (٢) إدراكا للواقع المجهول فيه كما يظهر من ملاحظة تعليل الإمام عليه‌السلام من أنّ الفائتة إن كانت كذا فكذا ، ومن ثمّ تراهم حاكمين بلزوم إتيان ركعتين ، أو ثلاث ركعات فيما لو فاتت من المسافر صلاة واحدة فقط ، وذلك ظاهر بعد التدبّر.

ودعوى عدم تنجّز التكليف في حقّ المكلّف إلاّ في صورة العلم التفصيلي ممنوعة على مدّعيها إذ من الظاهر مخالفته لطريقة (٣) الامتثال المأخوذة عن طريقة العقلاء في امتثال أوامر مواليهم إذ لا مانع منه بعد العلم بالتكليف والمكلّف به إجمالا ، ولا يعدّ التارك إلاّ مخالفا ، وذلك واضح في الغاية.

وقد يستدلّ في المقام بوجود المقتضي للامتثال وهو العلم بتعلّق الأمر الواقعي على الموضوع الواقعي وعدم المانع منه لإمكان الامتثال والاحتياط ، وقد يعبّر عنه في لسان البعض بقاعدة الاشتغال حيث إنّ الاشتغال يقيني ، فيحتاج إلى براءة يقينية ، وفي لسان آخرين بأنّ تحصيل العلم بالامتثال واجب ، فلا يحصل إلاّ بالاحتياط.

وقد تقرّر بأنّ في ترك الاحتياط احتمال الضرر العقابي ، فلا بدّ في دفعه من الاحتياط ، فتأمّل (٤).

وقريب من ذلك دعوى استقرار بناء العقلاء على الامتثال فيما علم التكليف إجمالا.

والكلّ مرجعه إلى ما قلنا ، عباراتنا شتّى.

ثمّ إنّه قد يتمسّك في المقام باستصحاب الاشتغال عند الشكّ في الامتثال بعد إتيان الصلاة مثلا في جهة واحدة.

وقد عرفت فيما مرّ عدم استقامة هذا الكلام فإنّ الاستصحاب ممّا لا يترتّب عليه فائدة إلاّ أن يكون مثبتا في وجه ، وممّا لا مجرى له في وجه آخر.

__________________

(١) « ج » : بتكرّر.

(٢) « ج ، م » : تكرّرها.

(٣) « م » : بطريقة.

(٤) « س ، م » : ـ فتأمّل.

٤٣٠

بيان ذلك أنّ من المعلوم عدم ملاحظة الحالة السابقة في قاعدة الاشتغال فإنّ المناط فيها هو حكم العقل بلزوم تحصيل البراءة عند الشكّ فيها فمع ملاحظة حكم العقل بوجوب التفريع. لا شكّ في اللاحق حتّى يحتاج إلى استصحاب الاشتغال ، ومع قطع النظر عن حكم العقل بلزوم الاحتياط ووجوب تفريغ الذمّة وإن كان الشكّ باقيا إلاّ أنّ الحكم بوجوب إتيان الصلاة في الجهة الباقية أو الجهات الباقية ممّا لا يترتّب على بقاء الاشتغال واستصحابه إذ الاشتغال الاستصحابي لا يزيد على الاشتغال الواقعي ، فكما أنّ الاشتغال الواقعي لا يقضي بالاحتياط فكذلك ما هو (١) منزّل منزلته كما لا يخفى ، اللهمّ إلاّ أن يكون استصحاب بقاء الاشتغال مثبتا لكون القبلة هي الجهة الباقية ، أو إحدى الجهات الباقية ولا تعويل عليه عند التحقيق.

وينبغي التنبيه على أمور :

الأوّل :

أنّ بعد ما عرفت من لزوم الاحتياط والجمع بين المحتملات ، فلو أتى المكلّف بواحد منها ولكن صادف الواقع ، فهل هو معاقب في تركه الاحتمالات الأخر أو لا؟ الحقّ الثاني بناء على ما هو التحقيق من أنّ الحكم بوجوب الاحتياط في المقام عقلي لا شرعي ، والمقصود هو الوصول إلى الواقع وهو حاصل ، فلا وجه للعقاب.

لا يقال : إنّ ترك الاحتمال الآخر وإن لم يكن محرّما من حيث أداء الواقع وحصول المقصود إلاّ أنّ عنوان التجرّي شامل له ، فيحرم من باب التجرّي في أوامره وعدم الانقياد له.

لأنّا نقول : إنّ للمتجرّي (٢) ـ على ما هو التحقيق (٣) في محلّه ـ صورا أعلاها فيما لو علم

__________________

(١) « س » : هي.

(٢) « س » : التجرّي!

(٣) « م » : المحقّق.

٤٣١

بالمخالفة ، وأدونها ما لو احتمل المخالفة لكن مع عدم المبالاة بها ، وأمّا فيما لو احتمل المخالفة ، فيرتكب الفعل عسى (١) أن لا يكون مخالفة ، فلا نسلّم كون الفعل المذكور تجرّيا ، ولو سلّمنا الصغرى ، فلا نسلّم الكبرى إذ لا دليل على أنّ مطلق التجرّي ولو في هذا الفرد حرام ، والعقل لا يزيد حكمه على حرمة الأوليين كما لا يخفى (٢).

وأمّا على ما يراه البعض من لزوم الاحتياط بواسطة الأدلّة الشرعية كالاستصحاب ودليل الاحتياط فيحتمل العقاب وإن صادف الواقع نظرا إلى أنّ الشارع قد جعل في مرحلة الظاهر للشاكّ طريقا إلى الواقع ، فمصادفة الواقع لا يجدي في صدق المخالفة بالنسبة إلى الطريق المجعول الشرعي ، فإنّ قوله : « لا تنقض » نهي عن النقض لليقين بالشكّ ، و (٣) في الصورة المذكورة لم يمتثل المكلّف هذا النهي ، ولا ينافيه عدم تعدّد العقاب فيما لو خالف الواقع إذ لا يعدّ هناك إلاّ مخالفة واحدة للواقع ، وهذا كلام جار في جميع الطرق الظاهرية اجتهادية كانت أو تعبّدية ، كذا أفاد سلّمه الله إلاّ أنّه بعد في إجمال ، فتأمّل.

الثاني :

لا إشكال في عدم لزوم قصد إتيان الجميع عند الإتيان بواحد من المحتملات فيما لو كان (٤) المردّد بين أمرين واجبا توصّليا في الإجزاء وإسقاط الأمر وارتفاع التكليف لعدم (٥) اشتراطه بقصد القربة بل ولا بقصد الفعل ، ولهذا يكتفى بما لو حصل اضطرارا ، وأمّا الثواب والإطاعة ، فلا يحصل في التوصّليات أيضا إلاّ بعد القصد والإرادة مضافا إلى قصد الامتثال أيضا على وجه يكون الداعي للفعل هو الأمر وتحصيل الامتثال.

وأمّا في التعبّديات ـ كما في المثال المذكور من الصلاة الفائتة ـ فلا بدّ من قصد الإتيان بالجميع عند إتيان كلّ واحد من المحتملات على وجه لو لم يقصد ذلك لم يكن

__________________

(١) « س » : على.

(٢) قارن بما سيأتي في ص ٤٦٨.

(٣) « ج ، س » : ـ و.

(٤) « س » : ـ فيما لو كان.

(٥) « ج ، س » : بعدم.

٤٣٢

ممتثلا.

والسرّ في ذلك ما تقرّر فيما تقدّم من مباحث المقدّمة من أنّ وجوبها إنّما هو بواسطة عنوان المقدّمية ، ولا يحصل (١) عنوانها إلاّ بعد إرادة التوصّل بها إلى ذيها وإن لم تكن (٢) موصلة كما زعمه بعض الأجلّة (٣) ، فلو توضّأ أحد من غير قصد إلى غاية معيّنة عنده لم يكن متطهّرا ، وذلك كما إذا أمر المولى بإكرام زيد تعبّدا فإنّ من الظاهر عدم سقوط الأمر فيما لو قصد الإهانة إليه ، أو غيرها من الأفعال ولكن صادف إكرامه ، فلا بدّ في حصول فعل من قصد عنوانه وإرادة نفسه وذلك ظاهر ، فعلى هذا لو لم يكن المكلّف حال إتيانه بأحد المحتملات قاصدا لإتيان غيره منها ، لم يكن قاصدا لعنوان (٤) المقدّمية ، ولا يصدق على فعله الامتثال كما لا يخفى ، فيبقى الاشتغال بحاله.

وبعبارة أخرى العلّة الغائية في الفعل والعمل لا بدّ وأن يكون مجزوما بها ، وحيث إنّ المفروض أنّ الداعي في التعبّديات هو موافقة الأمر وتحصيل الامتثال ، فلا بدّ أن يكون كلّ من الاحتمالات مقرونا بالنيّة والقصد على وجه لو كان هو الواقع ، لكان مقرونا بالنيّة وقصد الامتثال فيؤثّر أثره ويحصل الموافقة والإطاعة على ما هو المعتبر فيه ، والقصد على هذا الوجه لا يحصل إلاّ بعد إتيان كلّ من المحتملات لاحتمال أنّه الواقع مع القصد بإتيان الباقي من المحتملات (٥).

لا يقال : فعلى ما ذكرت يلزم انسداد باب الاحتياط في الشكوك البدوية من غير سبق العلم الإجمالي لعدم الجزم بالأمر الداعي للفعل مع أنّه خلاف ما استقرّ عليه طريقتهم مضافا إلى الوجدان الحاكم بخلافه.

لأنّا نقول : الامتثال له مراتب (٦) فتارة يعلم بوجود الأمر تفصيلا في موضوع (٧) معيّن

__________________

(١) « س » : لا تحصل.

(٢) في النسخ : لم يكن.

(٣) الفصول : ٨٦.

(٤) « ج » : العنوان!

(٥) « س » : ـ لاحتمال أنّه الواقع ... من المحتملات.

(٦) « س » : مراتبا!

(٧) « ج » : موضع.

٤٣٣

كذلك ، فلا بدّ فيه من قصد الأمر تفصيلا تحصيلا للامتثال ، وأخرى يعلم بالأمر إجمالا ، فلا بدّ من قصد الامتثال إجمالا ، ومرّة الأمر مشكوك عن أصله ، فالداعي في الفعل هو رجاء الوصول إلى الواقع وهو مجزوم به (١) ، فالعلّة الغائية الباعثة لتحرّك (٢) العضلات حتّى يصدر الفعل لا بدّ وأن يكون أمرا مجزوما به ، فلو كان في فعل (٣) الداعي إليه هو الأمر لا مناص من إتيانه لأجله (٤) على الوجه المقرّر إن علما فعلما ، وإن احتمالا فكذلك.

وبالجملة ، والذي يدور عليه رحى الإطاعة هو (٥) قصد الأمر على وجه يكون الداعي في صدور الفعل هو الأمر ، ومع عدم القصد بإتيان الباقي من المحتملات لا يعدّ ذلك إطاعة وامتثالا ، لعدم تحقّق القصد بالأمر كما هو ظاهر لا سترة عليه.

الثالث :

أنّ بعد ما عرفت من لزوم الاحتياط في المقام والحكم بلزوم إتيان الصلاة في أربع جهات ، فهل اللازم إتيان احتمالات الظهر بتمامها قبل احتمالات العصر فيما لو كان القبلة مشتبهة فيهما ، أو يجوز التداخل بمعنى إتيان كلّ احتمالات الظهر في جهة ، ثمّ (٦) بعد ذلك بإتيان ما يحتمل أن يكون عصرا فيها وهكذا في كلّ جهة؟ وأمّا التداخل لا على الوجه المذكور (٧) ، فلا خفاء في فساده ، وجوه ثالثها التفصيل بين وقوع احتمالات العصر في الوقت المختصّ بالظهر ، فلا بدّ من ملاحظة الترتيب وتقديم احتمالات الظهر ، وبين وقوعها في الوقت المشترك فيجوز التداخل.

وتوضيح المقام أنّه قد يقال بلزوم ملاحظة الترتيب مطلقا وتقديم احتمالات الظهر

__________________

(١) « س » : ـ به.

(٢) « ج » : لتحريك.

(٣) كذا.

(٤) « س » : ـ لأجله.

(٥) « س » : ـ هو.

(٦) « س » : + ذلك.

(٧) « س » : المذبور.

٤٣٤

بوجوه (١) :

منها : أصالة بقاء الظهر في الذمّة وعدم تفريغها منه.

وفيه : أنّه غير مجد ؛ لأنّ عدم جواز الدخول في احتمالات العصر لا يترتّب على اشتغال الذمّة بالظهر الواقعي ، وإنّما الممنوع منه هو الإتيان بالعصر الواقعي لا بما يحتمل أن يكون عصرا.

ومنها : أصالة عدم مشروعية الدخول في العصر واحتمالاته.

وفيه أيضا : أنّه غير مجد بالنسبة إلى العصر الواقعي إذ الكلام في محتملاته ، وإن أريد عدم مشروعية الدخول في محتملاته فإطلاق الأدلّة الآمرة بالعصر وارد عليها كما لا يخفى.

قلت : وللتأمّل فيه وفيما قبله مجال واسع.

ومنها : أنّ من (٢) المقرّر في محلّه أنّ عدم إمكان الامتثال التفصيلي في جهة لا يقضي بعدم اعتباره فيما يمكن إحرازه تفصيلا كما فيما نحن فيه فإنّ الإتيان بالصلاة على القبلة الواقعية عند الاشتباه تفصيلا غير ممكن ، وملاحظة الترتيب بين الظهر والعصر ممّا يمكن إحرازه تفصيلا ، والميسور لا يسقط بالمعسور ، فلا مناص من تقديم محتملات الظهر على محتملات العصر تحصيلا للامتثال التفصيلي فيما يمكن ، وذلك ظاهر إلاّ أنّه يمكن أن يقال : إنّ الامتثال التفصيلي في الترتيب أيضا حاصل في التداخل كما لا يخفى.

وقد يقال بعدم ملاحظة الترتيب مطلقا نظرا إلى حصول الامتثال الواقعي والترتيب التفصيلي إذ القدر الواجب من ملاحظة الترتيب هو وقوع العصر الواقعي بعد الظهر الواقعي (٣) وهو حاصل تفصيلا من غير إجمال ، وأمّا ملاحظة الترتيب في محتملاته ، فممّا لم يدلّ دليل عليه ، والأصل عدمه.

__________________

(١) « ج » : لوجوه.

(٢) « س » : ـ من.

(٣) لم يرد قوله : « والترتيب التفصيلي » إلى هنا في نسخة « س ».

٤٣٥

وقد يقال بالتفصيل بين ما وقع محتملات العصر في الوقت الخاصّ بالظهر بناء على أنّ الوقت في حقّ المشتبه والجاهل هو مقدار ما يسعه من المحتملات جميعا كما أنّ الوقت الخاصّ بالظهر في حقّ الحاضر هو مقدار ما يسعه أربع ركعات ، وفي حقّ المسافر ركعتان ، أو على أنّ الوقت هو مقدار الصلاة بالقبلة الواقعية من المحتملات ، فلا يجوز الإتيان بمحتملات العصر لعدم (١) وقوعها في وقت مشترك لهما بل في وقت خاصّ بالظهر.

أمّا (٢) فيما لو كان تمام الوقت مختصّا بالظهر ، فظاهر ؛ وأمّا فيما لو كان الوقت الذي يقع فيه الصلاة بالقبلة الواقعية مختصّا بالظهر من بين المحتملات ، فلأنّه لا يعلم وقوع العصر في الوقت المختصّ بالظهر ، أو في وقت مشترك ، وبين ما وقع احتمالات العصر في الوقت المشترك ، فيجوز لعدم المانع من الإتيان على ما عرفت إلاّ أن يقال : إنّ اختصاص الوقت بالظهر في هذا المقام لا يمنع عن جواز الإتيان بمحتملات العصر ، وإنّما يمنع عن الإتيان بالعصر الواقعي في وقت خاصّ بالظهر الواقعي ، وبالجملة فاحتمال التداخل مطلقا قويّ في النظر ، فتدبّر.

الرابع :

أنّ بعد ما عرفت من لزوم الاحتياط في المقام ، فلو امتنع الإتيان (٣) بجميع الجهات وتمام المحتملات شرعا أو عقلا ، فهل يجب الاحتياط في الجهات المقدورة ، أو ينقلب الشبهة تكليفية ، فلا يجب بل يؤخذ بالبراءة؟

وتحقيق المقام يقتضي بسطا في الكلام فنقول : إمّا أن يكون المانع عقليا كأن يكون المكلّف غير قادر للإتيان بالجميع ، أو يكون المانع شرعيا ، وعلى التقديرين إمّا أن يكون المانع يمنع عن الإتيان بجهة خاصّة معيّنة ، أو عن (٤) جهة لا

__________________

(١) « م » : بعدم.

(٢) « س » : وأمّا.

(٣) « ج » : الاحتياط.

(٤) « س » : من.

٤٣٦

بعينها (١) مردّدة بين الكلّ ، وعلى التقادير إمّا أن يكون الامتناع طارئا بعد أن كان الإتيان ممكنا في الجميع ، أو يمتنع الاحتياط الكلّي من أوّل الأمر ، فهذه صور ثمانية ، وحيث أن لا عبرة عندنا بالاستصحاب في أمثال المقام ـ إمّا لمنع (٢) في (٣) موضوعه ، أو عدم جريانه رأسا في الأحكام العقلية ـ فلا فرق بين أن يكون الامتناع طارئا ، أو ثابتا من أوّل الأمر لظهور أنّ التقسيم (٤) المذكور إنّما يثمر من حيث استصحاب الوجوب السابق على طريان الامتناع ، فيسقط التقسيم الأخير ، فيبقى الصور (٥) أربعة ، مثال ذلك إجمالا الصلاة بالقبلة الواقعية بعد اشتباهها فإنّ قضية الاحتياط والإتيان بكلّ من المحتملات هو الصلاة على كلّ نقطة من الدائرة التي يكون المكلّف مركزها إلاّ أنّه لا يمكن الاحتياط على الوجه المذكور عقلا ، ثمّ شرعا بإسقاط الشارع بعض المحتملات وانحصار الجهات في الأربع.

وقد يناقش في المثال المذكور باحتمال أن يكون القبلة للجاهل الشاكّ هو بين المغرب والمشرق مطلقا على وجه في أيّ جهة منه وقعت صحّت لوقوع الصلاة على القبلة الواقعية ، فلا إسقاط ، ولذا جوّز بعضهم الصلاة في جهات ثلاثة على أضلاع مثلّث مفروض عنده فإنّه على كلّ وجه اتّفق لا يخلو من أن يكون أحد أضلاعه في طرف من بين المغرب والمشرق كما لا يخفى ، فيقع الصلاة على القبلة الواقعية من غير إسقاط لبعض الأفراد والمحتملات.

وقد يمثّل بالاحتياط الكلّي في الفقه عند انسداد باب العلم. وفيه أيضا تأمّل.

وقد يمثّل بالصلاة الفائتة المشتبهة بالخمس فإنّ الشارع قد أسقط بعض المحتملات ، وكيف كان ، فلو كان المانع عقليا وكان الممنوع منه فردا بعينها كما إذا أمر المولى بإكرام

__________________

(١) « م » : لا يعيّنها. كذا ضبط فيها.

(٢) « م » : المنع.

(٣) « ج » : ـ في.

(٤) « ج » : انقسام.

(٥) « م » : صور.

٤٣٧

زيد المردّد في أشخاص معلومة لا يمكن عقلا إكرام واحد معلوم منهم ، فالظاهر أنّ الحكم هو البراءة لرجوع الشكّ حينئذ إلى الشكّ في التكليف فإنّ بعد إسقاط واحد منهم يحتمل أن يكون هو الواقع ، فلا تكليف لعدم القدرة عليه ، ويحتمل أن يكون هو غيره فيبقى التكليف بحاله ، فبالحقيقة الشكّ إنّما هو في أصل التكليف وقد عرفت فيما تقدّم حكومة البراءة في مقام الشكّ في التكليف سواء كانت الشبهة بدوية عن أصلها أو راجعة إليها كما فيما نحن فيه وذلك ظاهر.

ولو كان المانع عقليا لكن في فرد لا بعينها (١) فلا تكليف فيه أيضا ، إذ لا دليل على الاحتياط ولزوم الإتيان بجميع المحتملات سوى دليل الواقع والعلم بتعلّق التكليف الحقيقي الواقعي على الموضوع الواقعي ، ولذلك قلنا برجوع سائر وجوه (٢) الأدلّة : من لزوم دفع الضرر ، ووجوب مقدّمة الواجب ، وقاعدة الاشتغال ، ونحوها إليه ، ويمتنع تعلّق الخطاب والتكليف بالمكلّف في الواقع فيما لا يمكن للمكلّف قصد الفعل على العنوان الذي قد أمر به فإنّ من شروط التكليف تمكّن المكلّف من قصد الامتثال وإرادة عنوان المأمور به على وجه يستند إلى اختياره من حيث إنّه مأمور به ، وفيما لو كان الممتنع جهة لا بعينها (٣) لا يمكن قصد عنوان الفعل والامتثال به لعدم العلم به لا تفصيلا ولا إجمالا.

أمّا الأوّل ، فظاهر.

وأمّا الثاني ، فلأنّ الواقع فيما لو اشتبه بعدّة أفراد امتنع فرد منها لا بعينها (٤) لا يعلم المكلّف بوقوعه في مقدوراته لاختلاف وجوه مقدوراته (٥) باختلاف اختياراته ، فمرّة يختار الأفراد التي لا يقع فيها الواقع ، وأخرى يختار ما يقع فيها ، فالواقع لو حصل فهو إنّما لضرب من الاتّفاق ، فيكون خارجا عن تحت القدرة ، فلا يكون متعلّقا للأمر فإنّه

__________________

(١) « م » : لا يعيّنها. كذا ضبط فيها.

(٢) « س » : ـ وجوه.

(٣) « م » : لا يعيّنها. كذا ضبط فيها.

(٤) « م » : لا يعيّنها. كذا ضبط فيها.

(٥) « س » : ـ لاختلاف وجوه مقدراته.

٤٣٨

على ما تقرّر (١) سابقا بتبعية (٢) الأحكام للحسن والقبح وهما من صفات العناوين اللاحقة لذوات الأفعال اختيارا ، والفعل بعنوانه المأمور به لا يصير اختياريا إلاّ بعد العلم به وقصده إمّا تفصيلا أو إجمالا ، وحيث لا علم فلا اختيار فلا تكليف ، وذلك ظاهر ، ولذلك قد حكموا بعدم بطلان الصوم فيما لو أكل الصائم ناسيا مع كون الأكل مختارا عامدا فيه وقاصدا له ، فإنّ وقوع ذات الفعل ـ ولو بعنوان غير ما هو المعتبر في عنوان الحكم ـ لا يكفي في صدق العنوان الذي هو المناط في ثبوت الحكم ، فالأكل بعنوان أنّه مفطر لو وقع من المكلّف بأن يعلم به ويقصده مبطل للصوم وموجب للقضاء مثلا بخلاف سائر وجوه الأكل وذلك ظاهر.

والحاصل : أنّ التكليف في الصورة المفروضة منفيّ لانتفاء شرطه وهو تمكّن المكلّف من الامتثال ، وليس هذا من أصل البراءة في شيء فإنّ أصالة البراءة تنفي تنجّز التكليف مع إمكان أصل التكليف في الواقع شأنا كما في الصورة الأولى بخلاف المقام فإنّ قضية عدم إمكان الامتثال عدم التكليف في الواقع كما في غير البالغ والعاجز.

فإن قلت : لا فرق بين الصورتين في عدم إمكان قصد الامتثال للمكلّف كما عرفت في وجه الاستدلال بالبراءة فإنّ التكليف بما لا يطاق ـ على ما استدلّه البعض ـ ممّا لا وجه له إلاّ من حيث عدم إمكان قصد الامتثال للمكلّف فعلى هذا فلا بدّ إمّا من القول بأنّ الصورة الأولى أيضا ممّا يمكن به (٣) التكليف لاشتراطه بإمكان قصد الامتثال بل وفي مطلق موارد البراءة ، وإمّا القول بجريان البراءة في الصورة المفروضة أيضا ، فلا وجه لتغيير الأسلوب في الاستدلال.

قلت : فرق ظاهر بين المقامين وبين الموردين فإنّ الشكّ في الأوّل إنّما هو في

__________________

(١) « م » : يقرّر.

(٢) « س » : تبعية.

(٣) « س ، م » : ـ به.

٤٣٩

التكليف بعد إمكان توجيه الخطاب ولو شأنا على تقدير (١) لم يكن الفرد الممتنع هو الواقع فإنّ العلم وإن كان من شروط التكليف إلاّ أنّه بعدمه لا يتغيّر عنوان التكليف لما تقرّر من أنّ العلم والجهل ليسا من الوجوه المغيّرة للأحكام بخلاف سائر شرائط التكليف كالعجز والقدرة والبلوغ والصباوة فإنّ الموضوع فيها مختلف كما لا يخفى ، وفي الثاني يمتنع تعلّق التكليف الواقعي لامتناع شرطه وهو القصد إلى الفعل المأمور به على وجه يكون الداعي هو الأمر ، وهذا وإن كان موجودا في الأوّل أيضا إلاّ أنّه إنّما امتنع بواسطة الجهل بالتكليف ، وفي المقام امتنع التكليف لامتناع القصد ، فعدم إمكان القصد في الأوّل متفرّع على عدم العلم بالتكليف ، وعدم التكليف في الثاني متفرّع على امتناع القصد ، والفرق ظاهر بين المقامين ، ومحصّل الفرق أنّ الصورة الأولى مع عدم العلم بوجود المكلّف به في مقدوراته يصحّ التكليف على تقدير وجوده فيها شأنا إلاّ أنّ عدم العلم به عذر في مقام الظاهر ، والصورة الثانية مع العلم بوجود المكلّف به في الاحتمالات التي أحدها غير مقدور للمكلّف لا يصحّ التكليف لتردّدها بين الواقع وعدمه ، فالجهات الممكنة لا يعلم بإمكانها ومقدوريتها ، إلاّ بعد وقوعها وصدورها منه وبعد الوقوع لو حصل الواقع ، فلم يكن المكلّف مختارا في صدوره مريدا عنوان الفعل ولو إجمالا ، فتدبّر في المقام ، كي لا يشتبه عليك المرام هذا.

وقد يقال : إنّ التكليف الواقعي المتعلّق بالموضوع الواقعي وإن امتنع تعلّقه بالمكلّف في حال عدم العلم بقدرته للمكلّف به إلاّ أنّه يمكن استفادة مطلوبية الفعل ومحبوبيته في نفسه وإن لم يكن الطلب متعلّقا به من وجوه خارجة كقوله : « الميسور لا يسقط بالمعسور » (٢) وأمثال ذلك من الأمور التي يمكن استفادة أمثال ذلك منه كما لا يخفى على المتدرّب (٣) في فنون الاستنباطات من وجوه الأدلّة.

__________________

(١) « ج » : ـ على تقدير.

(٢) سيأتي البحث عنه في ص ٥٦١.

(٣) « ج » : المتدبّر.

٤٤٠