مطارح الأنظار

الميرزا أبو القاسم الكلانتري الطهراني

مطارح الأنظار

المؤلف:

الميرزا أبو القاسم الكلانتري الطهراني


المحقق: علي الفاضلي
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: معهد الإمام الخميني والثورة الإسلامية
المطبعة: مؤسسة العروج
الطبعة: ١
ISBN: 978-964-7986-36-6
الصفحات: ٦١٥

وقد يقال أيضا : إنّ دليل الواقع وإن كان لا يمكن تعلّقه بالفعل في هذه الحالة إلاّ أنّه ليس إلاّ من جهة قصور (١) في الطلب بحيث لا يصحّ تعلّقه بمطلوب غير معلوم ، وإلاّ فالفعل يشمل على صفة المحبوبية وإن لم يمكن طلبه ولذلك تراهم يحكمون باستحباب صلاة الظهر بخصوصه مثلا على الصبيّ حيث إنّ الأمر به يكشف عن وجود المصلحة الكامنة في الطبيعة المطلقة على ما هو الموضوع له اللفظ (٢) في المادّة إلاّ أنّ الطلب من الصبيّ ممّا يمنع منه المانع ولو شرعا ، ولا فرق في ذلك بين أن يكون المانع من تعلّق الطلب شرعيا كما في الصبيّ أو عقليا كما فيما نحن بصدده ، وهذا طريق واسع في استنباط المطالب من الألفاظ الدالّة على الطلب وإن قصر الطلب من تمام المقصود كما نبّهنا عليه في عدّة مقامات ، وستطّلع فيما سيأتي إن شاء الله (٣) على نظير المقام ، وهذا كلّه فيما إذا كان المانع من الإتيان بجميع الأفراد عقليا بقسميه من المنع عن جهة معينة أو غيرها.

وأمّا فيما لو كان المانع شرعيا ـ سواء كان الممنوع منه فردا معلوما معيّنا أو غير معيّن ـ فيقع على وجوه ، فتارة يكون حكم الشارع كاشفا عن أنّ الواقع في جهة (٤) غيره ولا إشكال فيه لكونه دليلا اجتهاديا مشخّصا لموضوع الأمر في الجملة ، وأخرى يحكم الشارع بحرمة الجهة الممنوعة فإن كان في غير الفرد المحرّم العلم الإجمالي باقيا فله حكمه من لزوم امتثاله كما في غيره أيضا من الموانع العقلية ، وذلك مثل أنّ الشارع قد نهى عن القياس وحرّم العمل به مع أنّ الاحتياط الكلّي على تقدير الانسداد قاض بالعمل بالمظنونات وسائر السلاسل مطلقا فإنّ بعد المنع عن القياس لا يرتفع العلم الإجمالي من بين سائر السلاسل مظنونا ومشكوكا وموهوما ، فيجب الاحتياط لوجود المقتضي وعدم المانع ، وإن لم يكن في الجهات الباقية

__________________

(١) « س » : قصوره ( ظ ).

(٢) « م » : للفظ.

(٣) « س » : + فيه.

(٤) « ج » : ـ جهة.

٤٤١

والمحتملات الغير الممنوع منها علم إجمالي على وجه يتردّد التكليف بين أن يكون متعلّقا في الواقع بالفرد المحرّم أو بغيره فهو كالمانع العقلي على قسميه ولا كلام فيه ، وإنّما الكلام فيما إذا أسقط الشارع بعض المحتملات لمصلحة في نفس الإسقاط على وجه يحتمل أن يكون الواقع فيما أسقطه معيّنا ، أو جوّز ترك البعض ولو بحسب الاختيار مع عدم العلم الإجمالي في المحتملات الباقية في الصورتين فإنّه يحتمل (١) أن يكون كالمانع العقلي إلاّ أنّ التحقيق خلافه نظرا إلى أنّ الشارع إنّما جعل امتثال الواقع فيه كما في جميع الطرق الظنّية اجتهادية وتعبّدية فكأنّ الشارع اكتفى عن الواقع فيما لم يصادفه المكلّف بالأفراد الباقية و (٢) بالإطاعة فيها ، فالباقي واقع جعلي كالبدل لكن لا على وجه يكون المصلحة فيه في حيال مصلحة الواقع ، ولا على وجه التقييد كما زعمه البعض ، بل على وجه يكون جعل الطريق من متمّمات مصلحة الواقع ، فهو لطف آخر منه تعالى.

وبالجملة ، فلا إشكال في أنّ الواجب على هذا التقدير الإتيان بالجهات الباقية والأفراد المحتملة ، وإنّما الإشكال في كيفية جعل الباقي بدلا عن الواقع مع إمكان تحصيل الواقع ، وهذا إشكال سار في غير المقام من الطرق المجعولة في مقام الظاهر كاليد والاستصحاب والبيّنة فإنّ مع إمكان الرجوع إلى فتوى المجتهد وأخذها منه يصحّ الأخذ من العادل ، ومع إمكان الطهارة الواقعية يصحّ الاكتفاء بالطهارة الاستصحابية ، ولقد نبّهنا على دفعه فيما تقدّم في مباحث الظنّ في دفع مقالة المانع من التعبّد بخبر الواحد ، فعليك بالتأمّل التامّ ، كي تهتدي بالمرام ، فإنّه من مزالّ الأقدام.

والفرق بين ما كان المانع عقليا وبين ما كان شرعيا ظاهر ؛ لعدم حكومة العقل بجعل الباقي بدلا بخلاف الشرع فإنّ المستفاد من وجوب الواقع لدليله (٣) وحكم

__________________

(١) « س » : فيحتمل » بدل : « فإنّه يحتمل ».

(٢) « ج » : ـ و.

(٣) « م » : لدليلته ( ظ ).

٤٤٢

الشارع بسقوط البعض مع تنجّز التكليف المستفاد من دليل الواقع هو الاكتفاء عن الواقع (١) بالباقي لئلاّ يلزم التناقض بين حكم العقل بوجوب الامتثال للأمر المنجّز (٢) في حقّنا كقوله : ( حَيْثُ ما كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ )(٣) وحكم الشرع بسقوط البعض ، واحتمال عدم التنجّز للجهل بالتكليف واه جدّا كما عرفت ، هذا تمام الكلام في الشبهة الوجوبية الموضوعية فيما كان الشكّ في المكلّف به لو كان أطراف الشبهة متباينة.

وأمّا الكلام فيها ما لو كانت أطرافها الأقلّ والأكثر فإن كان الطرفان استقلاليين ـ كما لو علمنا بفوات عدّة من الصلوات وشككنا في أنّ الفائت منها هو الأقلّ أو الأكثر ـ فقضيّة عموم أخبار الباب هو التعويل على البراءة لأنّ الأقلّ متيقّن تفصيلا ، وما زاد عليه مشكوك كذلك ، فرجع (٤) الشكّ إلى نفس التكليف كما في جميع موارد البراءة إلاّ أنّ المعهود من أصحابنا الفقهاء هو الحكم بوجوب إتيان ما به يحصل العلم بفراغ الذمّة في خصوص المسألة ، ولذلك ناقشهم صاحب المدارك (٥) بأنّ القاعدة تقضي بخلافه.

ثمّ إنّه لا فرق في ذلك بين أن يكون الأكثر أو الأقلّ من طرفي الشبهة ممّا يمكن احصاؤه عرفا وعادة ، وبين ما لا يمكن ، وحكمهم بوجوب تحصيل العلم بالفراغ إنّما هو في الثاني دون الأوّل ، ولعلّه مستفاد من فحوى الأخبار الدالّة على ذلك في النوافل بعد اعتضادها بفتوى المشهور وإن كانا ارتباطيين كما إذا نذر صوم بين هلالي رجب وشعبان وشكّ في يوم أنّه هل من الرجب أو لا ، فقضيّة الاشتغال تحصيل البراءة التي لا يعلم إلاّ بالاحتياط ، وذلك وإن قطع النظر عن الأصول الموضوعية التي يجري في

__________________

(١) « ج » : بالواقع.

(٢) « ج ، م » : المتنجّز.

(٣) البقرة : ١٤٤ و ١٥٠. وفي النسخ : « أينما كنتم فولّوا وجوهكم شطر المسجد الحرام » ، وفي التنزيل العزيز أيضا في سورة البقرة ١٤٩ و ١٥٠ : ( وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ.)

(٤) « س » : فيرجع.

(٥) مدارك الأحكام ٤ : ٣٠٦.

٤٤٣

المقام كأصالة عدم دخول شعبان وعدم خروج رجب نظرا إلى احتمال عدم التعويل عليها في الزمان وغيره من الموجودات المتدرّجة.

وبالجملة ، فالقاعدة في مثل المقام تقضي بالاشتغال وإن لم نقل به في نظير المقام في الشبهة الحكمية على ما ستعرف تفصيل الكلام فيها فيما سيأتي إن شاء الله.

٤٤٤

أصل

[ في الشبهة الموضوعية التحريمية من الشكّ في المكلّف به ]

في الشبهة الموضوعية التحريمية فتارة فيما إذا كان الشكّ بين الأقلّ والأكثر كما إذا حرّم على نفسه الصوم بين الهلالين وشكّ في حرمة الزائد ، فالبراءة محكّمة لرجوع الشكّ في الزائد إلى مجرّد التكليف كذا أفيد ، ولعلّ التفصيل بين الارتباطي والاستقلالي في محلّه فتدبّر.

وأخرى فيما إذا كانا متباينين وهذه الصورة هي المسمّاة عندهم بالشبهة المحصورة والأمثلة كثيرة فوق حدّ الإحصاء لكن إذا كان أطراف محصورة على ما ستعرف تفصيل الكلام في تحديدها وتحديد ما يقابلها.

وينبغي أن يعلم أنّ صورة الامتزاج ـ كما (١) إذا خلط الماء المباح بالمحرّم مثلا ـ خارجة (٢) عن النزاع فإنّه لم يذهب وهم إلى عدم تحريمه وجواز التصرّف فيه كما لا يخفى ، وإنّما الكلام في غير صورة المزج.

وتحقيق المقام في موردين :

المورد الأوّل

هل يجوز المخالفة القطعية بارتكاب الجميع ، أو لا يجوز؟ وجهان ، والحقّ هو الثاني

__________________

(١) « س » : ـ كما.

(٢) « س » : خارج.

٤٤٥

لوجوه :

الأوّل : ظهور الإجماع من العلماء في عدّة موارد من كتاب الأطعمة والأشربة وغيره على ما لا يخفى على المتدرّب في كلماتهم المتتبّع فيها بل لم نجد مصرّحا بجواز المخالفة القطعية في المقام عدى ما يظهر من العلاّمة المجلسي رحمه‌الله على ما حكاه المحقّق القمّي رحمه‌الله (١) إلاّ أنّه غير صريح في الدعوى بل ربّما يمكن الاستظهار منه بأنّه إنّما مجرّد تقوية الدليل ، وأمّا الفتوى كما هو الأصل في استكشاف الإجماع ، فلا دلالة في كلامه عليها.

الثاني الأدلّة الدالّة على وجوب الموافقة القطعية كما سترد عليك تفاصيلها فإنّ وجوب الموافقة إنّما هو بعد إحراز عدم المخالفة ، فالدليل عليها قاض به أيضا.

الثالث : ما ذكره بعض الأجلّة (٢) من أنّ فتح هذا الباب يؤدّي إلى رفع العصمة عن الأموال والفروج والدماء لأنّ الاختلاط بين الحلال والحرام جائز ، وبعد الاشتباه ارتكابه أيضا جائز لجواز المخالفة (٣) القطعية ، فيجوز لجماعة اجتمعوا على أرغف مغصوبة إذا وضعوا فيها رغيفا مباحا على وجه حصل الاشتباه بينه وبينها ولو لعارض كالظلمة أن يتناول كلّ واحد منهم رغيفا ، وفيما لو صادفوا امرأة واشتبه على كلّ واحد منهم كونها زوجته ، أو أجنبية أن يحلّ لهم وطيها على التعاقب مع تخلّل العدّة إن كانت من ذواتها ، وإلاّ فبدونها (٤) ، وفيما لو صادف (٥) جماعة من المسلمين فيهم رجل مباح الدم [ واشتبه بينهم ولو لعارض ](٦) أن يجوز لكلّ واحد أن يباشر قتل واحد منهم بل وذلك سار فيما لو أراد وطي الأجنبية ، أو قتل المسلم ، أو أكل مال

__________________

(١) القوانين ٢ : ٢٧ ؛ الأربعون حديثا : ٥٨٢.

(٢) الفصول : ٣٦٢.

(٣) « س » : الموافقة ، وهو غلط.

(٤) بعدها في المصدر : ولو بطريق الاجتماع بقدر الإمكان وإن حرم عليها تمكين نفسها لغير واحد منهم مع تمكّنها.

(٥) في المصدر : صادفوا.

(٦) ما بين المعقوفين من المصدر.

٤٤٦

الغير ، أو شرب الخمر بإحداثه الاشتباه بين الحلال والحرام ، ويكرّر العمل في الكلّ إلى أن يصادف الحرام الواقعي (١).

وفيه : أنّه إن أريد أنّ عدم جواز المخالفة القطعية يوجب ذلك ولو مع قطع النظر عن إرادة الوقوع في المحرّم كما يساعد عليه أوّل كلامه ، فغير سديد لجواز اختلاف الأحكام باختلاف الموضوعات كما يرشد إليه جواز استعمال الحيل الشرعية في الأحكام الفرعية وغيرها فإنّ القائل بجواز المخالفة لا بدّ له من تصرّف على وجه يلازم اختلاف الموضوع إلاّ أن يقال : إنّ المستفاد من مذاق الشرع عدم جواز استعمال تلك الحيل في تلك الموارد ، وعلى تقديره فلا كلام فيه لخروجه عن محلّ الكلام فإنّ الكلام ممحّض من جهة اقتضاء القاعدة دون غيرها.

وإن أريد أنّ ارتكاب الشبهة ـ سواء كانت ممّا تستند إلى اختيار المكلّف ، أو لا من حيث إيصاله (٢) إلى الحرام الواقعي بحيث يكون ارتكاب كلّ واحد من المشتبهات مقدّمة للوصول إلى الحرام كما في صورة الامتثال ـ يوجب ذلك ، فغير مفيد لاستقلال العقل بحرمة الارتكاب على هذا الوجه فإنّه من أعظم أقسام التجرّي وأعلاها كما لا يخفى. ولا يلتزم القائل بجواز المخالفة القطعية بذلك على الوجه المذكور على ما هو ظاهر لا سترة عليه بل وفساد ذلك ظاهر فيما لو ارتكب أحد أطراف الشبهة في الغير المحصورة أيضا فكيف بالمحصورة مع المخالفة القطعية.

يمكن الاستدلال للقائل بجواز المخالفة بوجهين :

أحدهما : الأصل ، وتقريره أنّه لا شكّ في جريان البراءة في الشبهة الحكمية البدوية فإنّ المحكّم فيها هو الأخذ بالبراءة على ما مرّ كما لا شكّ في لزوم الاحتياط فيما تنجّز التكليف فإنّ الحكم الشرعي فيه الاحتياط ، ففيما شكّ في لزوم الاحتياط كما في غير

__________________

(١) انتهى كلام صاحب الفصول مع تصرّف وتلخيص.

(٢) « ج ، م » : اتصاله.

٤٤٧

الشبهات البدوية ، وعدمه كما فيها يرجع الشكّ إلى نفس التكليف في الاحتياط وعدمه ، والأصل البراءة من الاحتياط ووجوبه ، وهذا لا ينافي كون الكلام في الشبهة الموضوعية التي لا يؤول الأمر فيها (١) إلى اشتباه في الحكم إذ المقصود بيان حكمها ، وفيما لو اشتبه حكم الموضوع شرعا يصير الشكّ شكّا حكميا وإن كان موضوع هذا الحكم المشتبه هو الموضوع المشتبه وذلك ظاهر إلاّ أنّه لا يتمّ إلاّ بعد التصرّف في الأدلّة الواقعية ، وإلاّ فمع بقائها بحالها يستقلّ العقل بوجوب الامتثال بالاحتياط ، وذلك التصرّف إمّا بالقول بوضع الألفاظ للمعاني المعلومة ، أو بانصرافها إليها مطلقا ، أو حيثما كان في حيّز الطلب والتكليف عرفا أو عقلا (٢).

الثاني الأخبار الدالّة على جواز الارتكاب في الشبهات الموضوعية عموما كما مرّ وخصوصا كقوله : « كلّ شيء [ يكون فيه حرام وحلال فهو ] لك حلال حتّى تعرف الحرام منه بعينه » (٣) والأخبار الواردة في هذا المضمار على ما ادّعاه البعض (٤) فوق حدّ الاستفاضة.

والجواب : أمّا عن الأوّل ، فبأنّ التصرّف في الأدلّة الواقعية يقع على وجوه :

أحدها : أن يقال : إنّ الحكم بوجوب الاجتناب عن الخمر الواقعي إنّما هو مقيّد بصورة العلم بنفس الحكم على وجه لا مدخل للتقييد (٥) في موضوع الحكم ، ولا في حال من حالات المكلّف ، ومن الظاهر فساده ؛ ضرورة توقّف العلم على المعلوم السابق منه ليصحّ تعلّقه به ، فلو كان له مدخل في تحقّقه ، لكان دورا صريحا ، فلا يعقل اعتبار العلم في نفس الحكم.

الثاني : أن يقال : إنّ موضوع الحكم مقيّد بالعلم بمعنى أنّ الخمر مطلقا ليس ممّا يجب الاجتناب عنه ، وإنّما يجب إذا كان معلوما فحيث لم يكن معلوما ، فلا يكون حراما.

__________________

(١) « س » : فيه.

(٢) « ج » : عقلا أو عرفا.

(٣) تقدّم تخريجه في ص ٣٥٩.

(٤) انظر القوانين ٢ : ٢٦.

(٥) « م » : للتقيّد.

٤٤٨

الثالث : أنّ المكلّف لا يتوجّه إليه الخطاب مطلقا في جميع حالاته بل المكلّف العالم يجب عليه الاجتناب.

ولا وجه للكلّ.

أمّا الأوّل ، فقد عرفت.

وأمّا الثاني ، فلأنّ دعوى وضع الألفاظ للمعاني المعلومة على أن يكون العلم معتبرا في الموضوع له سخيفة جدّا لا يكاد يلتزم بها العاقل.

ودعوى تبادر المعلومات منها وهم في خلط ؛ لاشتباه (١) العلم المرآتي بالعلم الموضوعي عنده إذ المعنى لا يتبادر إلاّ أن يكون معلوما حاضرا عند العالم على وجه يكون العلم مرآة للواقع ، ولا دخل في هذا العلم في معنى اللفظ.

ودعوى الانصراف إلى المعلومات وإن لم تكن في حيّز الطلب والتكليف مبنيّة على الخلط المختلط بالوهم المذكور.

وأمّا دعوى الانصراف في حيّز التكاليف ، فلو (٢) كانت القرينة المقتضية لذلك نقلية ، فعهدتها على مدّعيها إذ لم نجد إلى الآن في الأدلّة النقلية ما يقضي (٣) بذلك ، وإن كانت عقلية ، فنحن كلّما راجعنا وجداننا مرّة بعد أولى وعهدنا إلى عقولنا كرّة بعد أخرى لا نجد فيها ما يقتضي التصرّف في مدلول الخطاب بل غاية ما هناك أنّ العقل يحكم بأنّ المكلّف في تكليفه لا بدّ له من حامل على التكليف والطلب ، وقبل علم المكلّف بالخطاب لا حامل له ، فليس في العقل ما يقضي باعتبار العلم في معنى اللفظ فإنّ الخطاب وإرادة المولى أو كراهته ـ التي يعبّر عنهما تارة بالطلب ، وأخرى بالأمر والنهي ـ متساوية النسبة إلى العالم والجاهل فإنّ ما للطالب دخل فيه قد تمّ ، ولا ينشأ بعد العلم من الطالب والمولى طلب آخر وإرادة أخرى وإن لم يكن المكلّف عند الجهل

__________________

(١) « ج » : الاشتباه.

(٢) « ج ، م » : فإن.

(٣) « ج » : يقتضي.

٤٤٩

بالخطاب معاقبا من حيث إنّ معنى التكليف هو الحمل على الكلفة وفيما لو كان ذلك الحمل بطلب قولي أو غيره مع عدم العلم بالحامل لا حامل له على الفعل.

وبالجملة ، فنحن لا نضايق من القول بعدم ترتّب العقاب على المكلّف في الشبهة التكليفية البدوية من حيث عدم علمه بنفس التكليف بل هو كذلك كما عرفت إلاّ أنّه ليس باعتبار التصرّف في الأدلّة الواقعية.

على أنّ ذلك لو تمّ ، لما صحّ التمسّك بالأصل فيه إذ المعهود منهم في الاستدلال به إنّما هو في الأحكام الظاهرية ، وبعد التصرّف في الأدلّة الواقعية ـ وإن كان التصرّف (١) عقلا بتخصيص ونحوه ـ لم يكن ذلك من الأحكام الظاهرية في شيء لعدم ترتّب أحد الحكمين على الآخر لاختلاف موضوعيهما اختلافا عرضيا.

والحاصل : أنّ الأدلّة الواقعية الدالّة على لزوم الاجتناب عن الخمر والنجس شاملة (٢) للمقام ، والامتثال ممكن ، والعقل حاكم بلزوم تحصيل البراءة ولا مانع منه بعد العلم بالتكليف ووقوع المكلّف به في أشياء محصورة ، فالمقتضي للامتثال ـ وهو العلم بتعلّق التكليف الواقعي بالخمر الواقعي الموجود بين الإناءات المشتبهة ـ موجود ، والمانع مفقود ، والعقل حاكم بلزوم الامتثال ، فلا مناص منه كذا أفاد.

قلت : مضافا إلى أنّ التمسّك بالأصل المذكورة محلّ نظر فإنّ الأصل فيما إذا شكّ في البراءة والاحتياط عند التحقيق فيما لو كان الاحتياط حكما عقليا هو الاحتياط ، فالأصل في المسألة الأصولية أيضا هو الاحتياط ، وستعرف ذلك فيما سيأتي إن شاء الله تعالى.

وأمّا الثالث ، فلأنّك قد عرفت شمول الخطاب للعالم والجاهل ، ولا قرينة على التقييد لا عرفا ولا عقلا لعين ما مرّ من عدم اعتبار العلم في معاني الألفاظ وضعا ، ولا يقضي بذلك العقل وإنّما هو قاض بعدم العقاب في صورة الجهل ، والعلم في المقام

__________________

(١) « ج ، م » : المتصرّف ( ظ؟ ).

(٢) « س ، م » : شامل.

٤٥٠

موجود إجمالا ونحن لا نجد قبحا في العقول أن يعاقب المولى عبدا يعلم بوقوع المنهيّ عنه في أشياء محصورة مردّدة مع ارتكابه لها.

وأمّا عن الثاني ، فبأنّ هذه الأخبار لا دخل لها بالمقام لعدم (١) إمكان المعارضة بين حكمي العقل والشرع.

وتحقيق ذلك : أنّ المنساق من هذه الأخبار بيان الأحكام الظاهرية في صورة الاشتباه كما يلوح ذلك بعد ملاحظة تقييد الحكم فيها بغاية حصول العلم ، ولعلّه لا يكون ذلك محلاّ للتأمّل والإنكار ، وقد عرفت أنّ العقل بعد ملاحظة شمول الخطاب الواقعي للمقام ليس له حالة منتظرة للحكم بلزوم الامتثال إلاّ أن يرتفع موضوع التكليف بارتفاع أحد أركانه من نسخه ، أو تقييد ما دلّ عليه بفرد دون آخر ، أو تخصيصه ونحو ذلك ، أو موت المكلّف ، أو امتثاله والمفروض وجود سائر الأركان سوى ما يحتمل من التقييد أو التخصيص بملاحظة هذه الأخبار وهو غير معقول إذ لا يعقل تصرّف ما هو في بيان الحكم الظاهري (٢) في الأدلّة الواقعية ، فالدليل (٣) الدالّ على لزوم الاجتناب عن الخمر الواقعي الموجود في الإناءين موجود في محلّه من غير أن يتطرّق فيه شائبة تخصيص بصورة عدم الاشتباه ، ووجود العلم التفصيلي والعلم بالتكليف وبوجود المكلّف به حاصل ، فيحكم العقل بوجوب الامتثال والخروج عن ربقة التكليف ، فلا مناص منه ، وحينئذ إمّا أن يؤخذ بهذه الأخبار ، أو بأدلّة الواقع ، لا سبيل إلى الأوّل لاستلزامه ترك أدلّة الواقع من غير وجه شرعي لعدم إمكان تصوير (٤) التقييد فيها بالنسبة إليها لاختلاف موضوعيهما (٥) بترتّب أحدهما على الآخر ، وليست (٦) هذه الأخبار بألفاظها متعرّضة لبيان تلك الأدلّة الواقعية حتّى يقال بالحكومة أيضا ، فتعيّن الأخذ بالأدلّة الواقعية ، وقضية ذلك هو الاحتياط ووجوب الاجتناب عن

__________________

(١) « س » : « بعد » بدل : « لعدم »؟

(٢) « س » : الظاهرية.

(٣) « م » : في الدليل.

(٤) « ج » : تصوّر.

(٥) « ج » : موضوعهما.

(٦) « م » : ليس.

٤٥١

المشتبهات ، وعلى تقدير التسليم فلا يقول به القائل لجواز المخالفة القطعية إذ بعد التصرّف والتقييد يصير الحكم بجواز ارتكاب أطراف الشبهة حكما واقعيا ، ومقصوده إثبات الحلّية الظاهرية تعويلا على هذه الأخبار ، فلا وجه للقول بتقييد هذه الأخبار للأدلّة الواقعية كما لا وجه للأخذ بهذه الأخبار في قبال حكم العقل بعد شمول الخطاب للمقام بالامتثال وحصول العلم كما في صورة العلم التفصيلي ، فلا بدّ من القول بأنّ هذه الأخبار محمولة على الشبهة البدوية الحكمية أو الموضوعية إذ هناك لا علم بالتكليف ، فلا يحكم العقل بلزوم الامتثال ، فيصحّ من الشارع العفو وعدم العقاب وإثبات الإباحة الظاهرية عند عدم العلم بالتكليف. والحاصل أنّ هذه الأخبار بحكم العقل القاطع محمولة (١) على الشبهات البدوية كما عرفت.

فإن قلت : لا شكّ أنّ الأحكام الشرعية بأسرها سواء كانت اقتضائية أو تخييرية لا تتعلّق (٢) إلاّ على عنوانات اختيارية مقصودة للمكلّف فإنّها هي مهابط الحسن والقبح اللذين عليهما يدور رحى الأحكام الشرعية من غير فرق في ذلك بين الوجوب والحرمة فكما أنّ الوجوب لا يتعلّق (٣) إلاّ على عنوان مقصود له فكذا التحريم على وجه يكون صدور الفعل من المكلّف على عنوانه المحرّم مستندا إلى اختيار المكلّف ، ولا يكفي في ذلك صدوره على وجه الاختيار بعنوان آخر غير عنوان المحرّم ، فعلى هذا لو علم المكلّف بحرمة الإناء المخصوص وارتكبه ، حرم قطعا لعدم انفكاك ذلك من القصد إليه بعد العلم به وإن لم يكن الداعي إلى الفعل هو العنوان المحرّم ، وأمّا إذا لم يعلم بحرمة الإناء المخصوص تفصيلا ففيما لم يكن الداعي إلى الفعل هو العنوان المحرّم والوصول إليه ، فلا تحريم (٤) فيه بل يجوز ارتكابه لأنّ العنوان المحرّم بعد عدم العلم به غير مقصود للفاعل ، فلو صادف الخمر الحقيقي ، فقد وقع منه شرب

__________________

(١) « س ، م » : محمول.

(٢) « س » : لا يتعلّق.

(٣) « ج » : لا تتعلّق.

(٤) « س » : فلا يحرم.

٤٥٢

الخمر اتّفاقا ، ولا يتّصف الفعل الاتّفاقي الخارج عن مقدرة المكلّف من حيث هو اتّفاقي بالحسن والقبح باتّفاق من القائلين بالتحسين والتقبيح العقليين ، فلا يتعلّق به الحكم الشرعي وهو التحريم ، فيجوز ارتكابه ، وهكذا كلّ واحد من الإناءات المشتبهة فيجوز المخالفة القطعية.

قلت : لا خفاء في أنّ المطلوب بالأمر هو نفس الفعل ، وفي النهي (١) هو ترك الفعل وعدم إيجاده ، فالمكلّف به في الأوّل هو الفعل ، وفي الثاني (٢) هو الترك ، ولا بدّ أن يكون المكلّف به (٣) مقدورا للمكلّف ، اختياريا ، مقصودا له ففي الأمر لا بدّ أن يكون الفعل اختياريا ، وفي النهي لا بدّ أن يكون الترك اختياريا بمعنى أن يكون ترك شرب الخمر مقصودا في النهي ، وفعل الصلاة مقصودا في الأمر ، فالقصد قيد للترك لا للمتروك (٤) ، فالمقصود للمكلّف لا بدّ أن يكون هو الترك ، وترك شرب الخمر إذا كان مقصودا لا يتحقّق إلاّ عند ترك جميع الأفراد المحتملة ، وإلاّ لم يكن قاصدا للترك والمفروض اعتبار تعلّق القصد به.

وبالجملة ، متعلّق التكليف لا بدّ أن يكون فعلا اختياريا مقصودا للمكلّف ، والتكليف تارة هو الأمر ، وأخرى هو النهي ، وفي الأوّل لا بدّ أن يكون المكلّف قاصدا للفعل ، وفي الثاني لا بدّ أن يكون قاصدا للترك حتّى يحصل الامتثال وإذا كان المكلّف قاصدا لا بدّ له من عدم الارتكاب ، وإلاّ لم يكن قاصدا للترك وهذا خلف.

فإن قلت : إنّ المستفاد من الأخبار الدالّة على رفع الحكم عند الاشتباه هو أنّ المحرّم ارتكاب الحرام قصدا وعمدا إليه ، فلا يجب الاجتناب من الخمر المردّد عند عدم القصد إلى عنوانه.

__________________

(١) « م » : ـ النهي ، وفي « س » : « ما » بدل : « النهي »!

(٢) « م » : النهي.

(٣) سقط قوله : « في الأوّل هو الفعل » إلى هنا من نسخة « س ».

(٤) « ج ، س » : للتروك!

٤٥٣

قلت : إنّ من المعلوم أنّ هذه الأخبار لا دلالة فيها على هذه الدعوى لعدم المنافاة بين أن يكون حكم الشيء من حيث الاشتباه شيئا ولكن بعد اجتماعه مع عنوان آخر كأن يكون مقدّمة لواجب شيئا آخر كما في المقام فإنّ الخمر المردّد ـ يعني المشتبه (١) ـ حكمه عدم وجوب الاجتناب ، وذلك لا ينافي أن يكون الموضوع المشتبه واجب الاجتناب إذا كان مقدّمة للوصول إلى الحرام ، وكان تركه مقدّمة للعلم بحصول امتثال الخطاب الدالّ على لزوم اجتنابه.

على أنّ لنا أن نقول بالفرق بين الأوامر والنواهي ، ففي الأوّل لا بدّ أن يكون الفعل مقصودا بخلاف الثاني فإنّ المطلوب منه إنّما هو مجرّد عدم وقوع المنهيّ عنه وإن لم يكن مقصودا ، وأمّا عدم تعلّق الطلب بفعل غير مقصود ، فإنّما هو بواسطة قصور فيه ، وإلاّ فالمقصود فيه (٢) يكون أعمّ.

المورد الثاني (٣)

في أنّه هل يجب الموافقة القطعية بعد ما عرفت من حرمة المخالفة القطعية ، أو لا؟ والكلام في هذا المورد وإن كان ظاهرا بعد حرمة المخالفة القطعية فإنّ التحقيق أنّ القول بحرمة المخالفة القطعية (٤) في المورد الأوّل يلازم القول بوجوب الموافقة القطعية فإنّها معلولي (٥) علّة واحدة إلاّ أنّه لا بأس في تحرير (٦) المقال لتوضيح الحال فإنّ المسألة ربّما (٧) يعسر (٨) على بعض الأفهام الوصول إلى حقيقتها ، فنقول : الحقّ ـ كما عليه جمهور المحقّقين ـ وجوب الموافقة لأنّ المفروض في المقام الأوّل عدم التصرّف في الأدلّة الواقعية وبقاؤها بحالها من غير احتمال متطرّق فيه من التخصيص والتقييد ونحوهما

__________________

(١) « س » : ـ المشتبه.

(٢) « ج » : ـ فيه.

(٣) مرّ المورد الأوّل في ص ٤٤٥.

(٤) سقط قوله : « فإنّ التحقيق » إلى هنا من نسخة « س ».

(٥) كذا. والظاهر : فإنّهما معلولا.

(٦) « م » : في تجديد ، « ج » : بتجديد.

(٧) « م » : ممّا.

(٨) « س ، م » : تعسّر.

٤٥٤

فيها ، والمفروض أيضا شمول تلك الأدلّة للمكلّف حال إرادة ارتكاب البعض ، فكأنّ الخطاب بمسمع منه وهو يحكم بعدم (١) جواز تناول الخمر وشربه في الواقع وإن كان مردّدا بين الإناءين فكأنّه يسمع خطاب الله تبارك وتعالى : أيّها العبد ، اجتنب عن هذا الخمر الموجود في الإناءين (٢) ، ولا يتمّ تحصيل الامتثال إلاّ بترك جميع المحتملات ، فلا بدّ من تركه فإنّ الخطاب العامّ ينحلّ إلى خطابات خاصّة ، ولا فرق بينهما إلاّ في كون أحدهما نصّا ، والآخر ظاهرا ، وبعد فرض عدم التخصيص يرتفع احتماله ويساوي الخاصّ في كونه نصّا ، فالخطاب العامّ مرجعه إلى الخطاب الخاصّ كما عرفت ، فالقائل بجواز ارتكاب (٣) وعدم جواز (٤) ارتكاب ما يساوي الحرام مؤاخذ في كلا جزءي دعواه فإنّك إمّا أن تقول بتخصيص في قوله : اجتنبوا عن الخمر بتقريب أنّه يجب الاجتناب على العالم تفصيلا ، وإمّا أن لا تقول به ، فعلى الأوّل ، فلا وجه للقول بحرمة ارتكاب ما هو بقدر الحرام لعدم دليل على حرمته حينئذ ، وعلى الثاني ، فلا وجه للقول بجواز ارتكاب البعض للعلم بحامل التكليف وهو الخطاب الشامل لجميع الأحوال ولجميع الأشخاص ، فلا وجه لهذا القول في وجه.

وأمّا التمسّك بالأخبار في هذا المقام ، فممّا لا وجه له أيضا إذ لك أن تقول : إنّ المقام ممّا علم حرمته بالعقل بعد بقاء الخطاب على حاله ولزوم امتثاله ، والقول بأنّ الحرمة المعتبرة في الغاية لا بدّ وأن يكون هي الحرمة المجهولة ، والحرمة المعلومة ليست هي مدفوع بأنّ التمثيل بخبر « كلّ شيء يكون فيه حلال وحرام » (٥) مبنيّ على تقريب غير مختصّة معلومة (٦) الحرمة فيه بكونها هي الحرمة المجهولة كما لا يخفى ، فتأمّل.

ولا ينافيه قوله : « بعينه » لأنّ الحرام بعينه موجود بين الإناءين فتدبّر.

__________________

(١) « ج ، س » : لعدم.

(٢) سقط قوله : « فكأنّه يسمع » إلى هنا من نسخة « س ».

(٣) « ج » : ارتكاب الأطراف.

(٤) « س » : ـ جواز.

(٥) تقدّم في ص ٣٥٩.

(٦) كذا.

٤٥٥

وعلى تقدير الدلالة فإمّا أن يقال بدلالتها على جواز ارتكاب الجميع (١) ، أو البعض معيّنا ، أو غير معيّن ، فعلى الأوّل لا وجه للتخصيص بالبعض ، وعلى الثاني فهو ترجيح بلا مرجّح ، وعلى الثالث لا دلالة فيها عليه لأنّ الأفراد الانتزاعية الاعتبارية ليست داخلة في العامّ ، والفرد الغير المعيّن ـ كما هو مفاد أحدهما ـ فرد اعتباري انتزاعي ، وذلك نظير ما ستطّلع عليه في بحث التعارض حيث زعم بعضهم أنّ أحد الخبرين لا بعينه مندرج في الأدلّة الدالّة على حجّية الخبر بعد زعمه لعدم شمولها لهما ولأحدهما معيّنا ، لمكان التعارض ولزوم الترجيح بلا مرجّح فإنّ من الظاهر أنّ بعد ما قد اعترف بعدم (٢) شمولها للخبرين ولواحد معيّن منهما لا وجه للشمول على هذا الوجه لأنّ أحدها ليس إلاّ فردا انتزاعيا ، ولا مدخل للعامّ فيه ، فليتأمّل (٣).

فإن قلت : إنّ قوله : « كلّ شيء فيه حلال وحرام فهو لك حلال حتّى تعرف الحرام منه بعينه » (٤) يدلّ (٥) على أنّ الشارع لم يرد الامتثال في صورة الاشتباه على وجه يعمّ الصورة المفروضة مع وجود العلم الإجمالي ، فبالحقيقة مرجع التعارض إلى الحكومة كما في أخبار الضرر وأدلّة العسر ونحو ذلك فإنّها حاكمة على سائر الشرعيات : وضعياتها وتكليفياتها ، فقوله : « اجتنب عن الخمر » مقتضى إطلاقه وشموله للعالم والجاهل سواء (٦) سواء كان علمه تفصيليا أو إجماليا بعد العلم به وبوجود (٧) المكلّف به ، وهذا أمر ظاهر إلاّ أنّ الخبر المذكور يدلّ على أنّ الشارع قيّد المطلوب بهذا الأمر بما لو حصل للمكلّف علم تفصيلي بالمكلّف به وبالتكليف كما أنّ مقتضى قوله : « صلّ » شموله لصورة يلزم فيها العسر وغيرها.

__________________

(١) « ج » : الكلّ.

(٢) « س ، م » : لعدم ( ظ ).

(٣) « م » : فتأمّل ، « ج » : فلتأمّل.

(٤) تقدّم في ص ٣٥٩.

(٥) « س ، م » : ـ يدلّ.

(٦) « م » : ـ سواء.

(٧) « ج ، م » : لوجود.

٤٥٦

وقوله : ( ما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ )(١) إنّما (٢) فسّر المطلوب بقوله : « صلّ » بأنّ المراد والمطلوب هو ما إذا (٣) لم يستلزم الصلاة العسر ولا ضير في ذلك فإنّه باب واسع في الأدلّة الشرعية لا مجال لإنكاره.

قلت : إن أريد أنّ قوله : « كلّ شيء » حاكم على الأدلّة الواقعية على وجه يكون مقيّدا للواقع كما في أدلّة العسر والحرج بالنسبة إلى سائر الشرعيات ، فواضح سقوطه ؛ لأنّ المنساق منه ومن أشباهه ـ كما هو المستفاد من تقييد الحكم بحصول المعرفة بالحرام ـ بيان الحلّية الظاهرية عند عدم العلم بالحرام الواقعي ، ولا يعقل تقييد الحلال الواقعي بالعلم بحرمته إذ لو كان هو الحلال في الواقع ، فلا حرمة فيه حتّى تكون (٤) الحلّية مقيّدة بالعلم بحرمته.

اللهمّ إلاّ أن يراد من الخبر أنّ الإناءين المشتبهين شيء فيه حلال هو الخلّ وفيه حرام هو (٥) الخمر ، وذلك الشيء حلال لك في الواقع حتّى تعرف الخمر منه بعينه ، فاستعمل الحرام وأريد منه ما يصير حراما في بعض الأوقات كما إذا علم أنّه خمر إلاّ أنّه مجاز لا يصار إليه إلاّ بدليل معدوم.

على أنّه لا يكون حينئذ حكما واقعيا لعدم اختلاف الموضوعات بالعلم والجهل.

نعم ، لبعض المتأخّرين في بعض المقامات كالنجاسة ونحوها كلام يشعر بالتصويب فيها ، مع أنّ ذلك لو تمّ لما صحّ القول بإبقاء القدر المحرّم ، وقد عرفت فيما سبق دعوى الإجماع على حرمة المخالفة القطعية.

وإن أريد أنّ قوله : « كلّ شيء فيه حلال وحرام » إنّما يكون حاكما على الأدلّة الواقعية لكن لا على وجه التقييد بل المستفاد منه عدم العقاب على تقدير تناول الخمر صورة الاشتباه ، فكما أنّ الأدلّة الواقعية شاملة للمكلّف حال الجهل في الشبهة البدوية

__________________

(١) الحج : ٧٨.

(٢) « م » : وإنّما.

(٣) « س » : ـ إذا.

(٤) « ج ، س » : يكون.

(٥) « ج » : وهو.

٤٥٧

ومع ذلك يستفاد من قوله : « رفع » ونحوه رفع العقاب ، فكذلك في المقام الأدلّة الواقعية شاملة لصورة العلم الإجمالي ، فما المانع من أن يكون هذا الخبر وأضرابه واردا في مقام بيان عدم ترتّب العقاب على ارتكاب الخمر حال الاشتباه؟ فبطلانه غير خفيّ على ذي مسكة لأنّ المراد بعدم العقاب إن كان عدم الاستحقاق ـ كما يستفاد من تنظير المقام بالشبهة البدوية ـ فمتّضح الفساد إذ ليس للشارع أن يحكم بعدم الاستحقاق بعد وجود علّته التامّة فإنّ الاستحقاق من الأمور التي لا تعلّق لجعل الشارع فيه بل هو من الآثار العقلية للمخالفة والإطاعة ، ونفي الاستحقاق في الشبهة البدوية إنّما هو لعدم تحقّق علّته التامّة وهو العلم بحامل التكليف ، ولذلك كان العقاب قبيحا عقلا (١) أيضا ، والمفروض في المقام ثبوت التكليف ، فلا يصحّ قياسه بها لوجود الفارق وهو حكم العقل بالاستحقاق فيه لأنّ العلم بحامل التكليف وهو الخطاب الشامل للعلم التفصيلي والإجمالي علّة تامّة للامتثال على وجه يحصل معه العلم بدفع الضرر العقابي ، وقد مرّ أنّ الشرع لا يمكن وروده على خلاف حكم العقل في خصوص الضرر العقابي كما في أمثاله من العناوين المقتضية للحسن والقبح في حدود ذواتها على وجه لا يتغيّر حكمها بلحوق عنوان آخر كما في الكذب بالنسبة إلى الله (٢) تعالى والشرك وأضرابهما.

نعم ، فيما لو (٣) علم المكلّف إجمالا بالتكليف لا تفصيلا يصحّ أن يجعل الشارع طريقا للوصول إلى الواقع على وجه لو كان هو الواقع فهو ، وإلاّ كان مسقطا عنه لكن لا على وجه البدلية ليصحّ القول بالإجزاء فيما لو انكشف الخلاف ، ولا على وجه التقييد كما زعمه بعض الأجلّة على ما مرّ تفصيل الكلام في تزييفه في مباحث الظنّ ، ولا على وجه لا يترتّب عليه العصيان فيما لو صادف الواقع وتخلّف عن الطريق فإنّه واقع جعلي ، وفهم هذا المقام كما ينبغي يحتاج إلى لطف قريحة ولطافة سليقة فإنّ فيه نوع

__________________

(١) « م » : عقليا.

(٢) « ج » : إليه.

(٣) « س ، م » : ـ لو.

٤٥٨

خفاء وغموض.

وبالجملة ، فلا قبح في العقول أن يجعل الشارع قول العدل طريقا إلى الواقع عند اشتباه الخمر بالخلّ على ما نبّهنا عليه في نظير المقام في الشبهة الوجوبية ، ولا منافاة بين أدلّة الواقع وبين ما به يصير إليه (١) طريقا بل يؤكّده لما عرفت من أنّها طريق إليه ومفادها واقع لكن جعلا على وجه يكون امتثال الواقع فيه ، ولا يكون مسقطا عنه كما في البدلية.

فاتّضح أنّه على تقدير جعل الطريق لا تعارض بين أدلّة الواقع وبين ما يدلّ على طريقية الطرق الظاهرية ، فلا يصير موردا للمعارضة.

وإن كان المراد بعدم العقاب العفو ولو كان مستحقّا أيضا ، ففيه أوّلا : أنّ أحدا لم يحم حول هذه المقالة بعد الغضّ (٢) عن عدم دلالة الرواية عليه.

وثانيا : أنّ المقصود حقيقة هو إثبات استحقاق المرتكب للشبهة المحصورة ، وما علينا بيان فعلية العقاب فإنّه بيده يفعل ما يشاء ، ويحكم ما يريد ، فلعلّ العفو مستند (٣) إلى رحمته الواسعة ، وقد مرّ أنّ الاستناد إلى الرواية وأشباهها في الحكم بالإباحة ـ على (٤) تقدير التسليم ـ ممّا لا يجدي للقائل بعدم وجوب الموافقة القطعية لعدم دلالتها على جواز ارتكاب أحدها كما هو المقصود في المقام ؛ إذ بعد عدم اعتبار الفرد المعيّن لاستلزامهما الترجيح بلا مرجّح وعدم ملاحظة المجموع نظرا إلى خلاف الفرض لا يعقل دخول الفرد الانتزاعي واعتباره في العامّ الدالّ على الإباحة ؛ لخروج منشأ الانتزاع عنه كما لا يخفى بل لك أن تقول : إنّ هذه قاعدة سارية في غير المقام أيضا هي أنّه كلّما خرج عن العامّ بعض أبعاضه (٥) الشخصية لا وجه للقول بأنّ الأمر المنتزع منها

__________________

(١) « م » : النسبة.

(٢) « س » : النصّ وفي « م » كتب أوّلا : « الغضّ » ثمّ شطب عليها وكتب : « النصّ ».

(٣) « م » : مستندا!

(٤) « ج » : وعلى.

(٥) « ج » : الخاصّة.

٤٥٩

داخل فيما لو شكّ في أنّ الخارج هو خصوص ذلك أو غيره ، ومن هنا قلنا بسقوط الاستصحابين وسائر الأصول المتعارضة عند التعارض ؛ لخروج أحدهما قطعا عن الدليل الدالّ على حجّية الأصول ولا معيّن لأحدهما بالخصوص إذا لم يكن أحد سببا ، والفرد الغير المعيّن أيضا فرد انتزاعي ، وبعد خروج منشأ الانتزاع لا وجه للقول بدخوله فيه ، فلا بدّ من التساقط.

نعم ، يستثنى من ذلك ما لو علمنا بمطلوبية المتعارضين واشتمالهما على مصلحة الحكم حتّى عند التعارض كما في تزاحم الحقوق كإنقاذ غريقين وإطفاء حريقين ، ولتحقيق المقام محلّ آخر ، فتدبّر.

ثمّ إنّ القائل بعدم جواز المخالفة القطعية في المورد الأوّل وعدم وجوب الموافقة القطعية في المورد الثاني ربّما يظهر من بعضهم الاستناد إلى عدم جواز تحصيل العلم في الوقوع في المحرّم كما هو صريح بعضهم.

وقد تجشّم بعض (١) الآخر في المقام بما لم نقف له على محصّل إلاّ بالرجوع إلى ذلك بتقريب أنّ ارتكاب الباقي مقدّمة لتحصيل العلم في الوقوع في المحرّم ، وكما أنّ ارتكاب نفس الحرام حرام ، فكذا تحصيل العلم بالوقوع في المحرّم (٢).

واعترض عليه بعض الأجلّة (٣) بأنّ تحصيل العلم بالحرام لو كان حراما لحرم على من نسي معاصيه أن يراجع ما يفيده تذكّرها ، فيحرم على من شرب مائعا أن يستعلم من كونه خمرا وهو ممّا لا يقول به أحد.

وفيه : نظر لأنّ تحصيل العلم بالوقوع في الحرام يقع على وجهين ، فتارة بالفحص عن أحواله السابقة وأعماله المتقدّمة من غير أن يكون مشتغلا بما يحتمل أن يكون هو المحرّم قطعا كما في مفروض المعترض من تذكّره لها واستعلامه عمّن يصاحبه ، أو عن

__________________

(١) كذا.

(٢) نقل الاستدلال القمّي في القوانين ٢ : ٢٤ والأصفهاني في الفصول : ٣٦١ ، والنراقي في المناهج : ٢٣٠.

(٣) الفصول : ٣٦٢.

٤٦٠