مطارح الأنظار

الميرزا أبو القاسم الكلانتري الطهراني

مطارح الأنظار

المؤلف:

الميرزا أبو القاسم الكلانتري الطهراني


المحقق: علي الفاضلي
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: معهد الإمام الخميني والثورة الإسلامية
المطبعة: مؤسسة العروج
الطبعة: ١
ISBN: 978-964-7986-36-6
الصفحات: ٦١٥

الفروع على الاشتغال في الأصول ، بخلاف الأمارات المثبتة للتكليف ، فإنّها لا معارض لها ، فالظنون الفعلية غالبا فيها (١) ، وحيث إنّ القاضي في الاحتياط هو العقل ، فلا يحكم بترك الاحتياط في المظنونات ، وبالاحتياط في الموهومات كما أنّه لا يقضي بترك الاحتياط في السلسلتين بعد ارتفاع العسر الذي هو المانع في العمل بالاحتياط (٢) بالعمل بمظنون الاعتبار في الأمارات النافية للتكاليف ، وذلك ظاهر لا سترة فيه كذا أفيد. وللتأمّل فيه مجال كما لا يخفى على المتأمّل ، هذا تمام الكلام في التعميم على تقدير الكشف.

وأمّا على ما هو التحقيق من الحكومة ، فهل العقل ابتداء يحكم بحجّية الظنّ من غير ملاحظة مقدّمة أخرى غير المقدّمات المأخوذة في أصل الدليل ، أو يحتاج في الحكم بالتعميم إلى ملاحظة مقدّمة أخرى لبطلان الترجيح بلا مرجّح وإن لم يكن شاعرا بالملاحظة ، فكثيرا ما يحكم في قضايا كثيرة (٣) بواسطة مقدّمات خفية مع عدم العلم باستناد الحكم إليها ، وهو المسمّى بقضايا قياساتها معها.

والحقّ هو الثاني ، فإنّ مراتب إدراك العقل مندرجة بواسطة تدرّج مراتب مقدّمات الحكم ، ألا ترى أنّ العقل لا يدرك الإنسانية في الإنسان إلاّ بعد ملاحظة ما يفيدها من لوازمها ، أو ملزوماتها مع إدراك جسميّته بل وحيوانيّته أيضا ، فالعقل أوّلا بعد ملاحظة بقاء التكليف يحكم بالخروج عن عهدته ، وبعد سدّ باب العلم يحكم بتردّد بين الامتثال الإجمالي اللازم للاحتياط ، والخروج عن ربقة التكليف بالعمل بالبراءة والامتثال الظنّي بل ومطلق الامتثال ولو كان وهميّا ، وبعد ملاحظة عدم جواز الرجوع إلى البراءة بملاحظة المحاذير اللازمة على تقديرها يتعيّن الرجوع إلى الاحتياط والامتثال بغير العلم.

__________________

(١) « ل » : فيهما.

(٢) « ل » : والاحتياط.

(٣) « ل » : القضايا الكثيرة.

٢٦١

ثمّ بعد ملاحظة عدم وجوب الاحتياط بواسطة لزوم العسر والحرج يتعيّن الامتثال بغير العلم ، وحيث إنّ الظنّ أقرب إلى الواقع ، فتعيّن الظنّ ، فإنّه إذا تعذّرت الحقيقة ، فأقرب المجازات هو المتعيّن ، وحيث إنّه لا خصوصية في أفراد الظنّ ، فيحكم العقل بأنّ الحجّة بعد (١) هو ، أو مطلق الظنّ من غير فرق بين أفراده وأقسامه وأسبابه كما أنّه لا يحكم العقل بعموم اعتبار العلم في موارده إلاّ بعد ملاحظة انتفاء الخصوصيات المقتضية لجميعه علم خاصّ وإدراك مخصوص.

فظهر أنّ العقل لا يحكم ابتداء بأنّ المعتمد بعد الانسداد هو الظنّ مطلقا وإن كان لا يحتاج في الحكم بالعموم إلى ملاحظة المقدّمة القائلة ببطلان الترجيح بلا مرجّح تفصيلا ، فإنّها ممّا أودعه الله في خزائن نفوسهم.

ومن هنا يتّضح أنّ القائل بكلّية النتيجة والقائل بإهمالها لا نزاع لهما في الحقيقة ؛ لأول الأوّل إلى الثاني ، فإنّه يحكم بالعموم أوّلا من جهة مقدّمة مطويّة معلومة ، ويتوهّم عدم استناد الحكم إليها (٢) ، فهي خفيّة لشدّة ظهورها ، ومجهولة لقوّة بروزها عند النفس.

ثمّ إنّه قد يمكن (٣) أن يقال بأنّ القول بالتعميم إنّما يلازم بطلان الاحتياط على وجه التعميم من غير حاجة إلى انضمام مقدّمة أخرى.

وبيانه : أنّه قد تقدّم منّا في بطلان الاحتياط (٤) أنّ الضرورة الداعية إلى رفع اليد عن الاحتياط ـ مع أنّه هو الذي يقتضيه القواعد المتداولة بيننا من تقدّم الامتثال العلمي ـ ولو إجمالا ـ على غيره من وجوه الامتثال بل قد يعدّ في عرض الامتثال العلمي التفصيلي كما مرّ تفاصيله في أوائل الباب ـ إنّما تتقدّر (٥) بقدرها ، فقضية الاحتياط أوّلا

__________________

(١) « ل » : بعده.

(٢) « ل » : إليهما ( ظ ).

(٣) « ل » : يتمكن؟

(٤) سقط من قوله : « على وجه التعميم » إلى هنا من نسخة « ل ».

(٥) « ل » : تقدّر.

٢٦٢

من غير ملاحظة لزوم العسر على تقديره هو إتيان كلّ ما يحتمل الوجوب ولو وهما ، وترك كلّ ما يحتمل الحرمة كذلك ، ولمّا أنّ الاحتياط على هذا الوجه يوجب العسر الشديد ويورث الحرج الأكيد كما مرّ ، فاللازم هو التبعيض بين الاحتمالات التي يقع الاحتياط فيها على وجه يرفع العسر لا على وجه يبطل الاحتياط بالكلّية ، لعدم ما يقضي (١) بالإبطال لذلك ، فعلى هذا لا بدّ أوّلا من ترك الاحتمالات الوهمية التي خلافها مظنون بالظنّ الاطمئناني ، فإن بقي بعد ذلك محذور كما هو كذلك ، فلا بدّ من ترك الموهومات برمّتها ، فإنّها أولى بالترك ، كما يستقلّ به العقل ، فلا مناص حينئذ من إعمال الاحتياط في سلسلتي المظنون والمشكوك ، فإن لزم بعد ذلك عسر ـ كما ادّعاه بعضهم ـ كان الواجب ترك المشكوك أيضا إلاّ أنّه لا يخفى فساد هذا التوهّم ؛ إذ قلّما توجد واقعة مشكوكة يساوي (٢) طرفاها من غير حصول مزيّة لأحد طرفيها للفقيه في مقام الاستنباط ، فدعوى لزوم العسر على تقدير إلحاق المشكوكات بالمظنونات في إتيان الواجب وترك الحرام مجرّد مكابرة بعد ما عرفت من أنّها موارد قليلة لا تكاد توجد.

اللهمّ إلاّ أن يتمسّك بالإجماع في عدم لزوم الاحتياط فيها كما يظهر من ملاحظة طريقة السلف ، ومزاولة وظيفة الخلف كما تقدّم ، فعلى هذا لا وجه لترك الاحتياط في سلسلة المظنونات بجميعها ؛ لوجود المقتضي للاحتياط ورفع المانع عنه ، فإنّ العسر إنّما كان مانعا عنه فيما يلزم الحرج ، وأمّا في غيره ، فلا وجه في منعه ، ويبقى على ما هو قضية القاعدة أوّلا ومقتضاه حجّية كلّ ظنّ حصل في كلّ مورد من الموارد الفرعية كما هو كذلك بناء على ما تخيّله المحقّق القمّي ، ونسب إلى صاحب المعالم والمحقّق البهائي ، فبطلان الاحتياط على وجه العموم يقضي بحجّية الظنّ في موارده على وجه العموم.

__________________

(١) « ش » : يفضي.

(٢) في النسختين : تساوى.

٢٦٣

فإن قلت : إنّ الوجه في لزوم العسر ـ على ما مرّ ذكره ـ هو عدم جريان الاحتياط على وتيرة واحدة في موارده ، فتارة يقضي بترك شيء في حالة ، وأخرى بفعله في أخرى ، ومرّة يقضي بالتوقّف إلى غير ذلك من اختلاف وجوه الاحتياط ، فكلّ واقعة ينحلّ إلى وقائع عديدة ، ويتشعّب بشعب جديدة ، بخلاف ما إذا كان الظنّ حجّة ، فإنّه يجري على طريقة واحدة ، فالاحتياط مطلقا يلازم العسر ، ولا وجه للتخصيص بإلحاق الموهومات مثلا بالمظنونات.

قلت : نعم ، فاللازم هو الأخذ بالظنّ في كلّ مورد وترك وجوه الاحتياط والعمل به ، والجري على مقتضاه في جميع الوقائع ، ولا نعني بالحجّة (١) غير هذا كما لا يخفى على أولي (٢) الأنظار المستقيمة ، والأفهام القويّة.

ثمّ لا يخفى أنّه مع ذلك كلّه لا يعدّ من العمل بالظنّ على وجه يوجب طرح الأصول الخاصّة في مواردها في قبال الأمارات الظنّية كما هو المقصود من القول بحجّية الظنّ.

وتفصيل هذا الإجمال ، وتوضيح هذا المقال : هو أنّ القائل بالظنون المطلقة إنّما يتوصّل في سلسلة المظنونات بالظنون المثبتة للتكاليف بعد ادّعاء العلم إجمالا بأنّ جملة منها أمور واقعية ومطابقة لما هو في نفس الأمر ، وتطرح الأصول الخاصّة النافية للتكليف في قبالها ، ولا غائلة فيه بعد موافقته للاحتياط الذي توافق (٣) في حسنه الشرع والعقل ، وهو المناط في العمل بالظنّ ، وأمّا الظنون النافية للتكليف ، فالاحتياط لا يقضي بالعمل بها بل إنّما هو في العمل بالأصول المثبتة للتكليف كما مرّ ذلك غير مرّة.

وأمّا في سلسلة المشكوكات ، فقضيّة الاحتياط كما عرفت إلحاقها بالمظنونات

__________________

(١) « ل » : بالحجّية.

(٢) « ل » : ـ أولي.

(٣) « ل » : يوافق.

٢٦٤

أيضا (١) إلاّ أنّه خرجنا منها للزوم العسر أو الإجماع كما ادّعي ، لكنّه إنّما هو بالنسبة إلى العلم الإجمالي الكلّي الموجود بين جميع السلاسل ، وأمّا بالنسبة إلى الموارد الخاصّة ، فيؤخذ بالأصول الخاصّة كما هو الموروث من غيرهم من القائلين بالظنون الخاصّة.

وأمّا في سلسلة الموهومات ، فالقائل بالظنّ المطلق إنّما ترك الاحتياط ، للزوم العسر بالنسبة إلى العلم الإجمالي الدائر في جميع السلاسل كما أنّه لم يلتزم به في الموارد الجزئية التي يقتضي الأصول الجارية فيها التكليف ، مع أنّه لا دليل عليه إلاّ دعوى لزوم العسر على تقدير الأخذ بالاحتياط فيها ، والإنصاف عهدتها على مدّعيها.

وبالجملة ، فالقول بحجّية الظنّ المطلق على تقدير الاستناد إلى دليل الانسداد يتوقّف على بطلان الاحتياط في الموارد الخاصّة بالنسبة إلى العلوم الإجمالية الجزئية الحاصلة فيها بدعوى لزوم العسر بالنسبة إلى جميع مراتبها.

وليس على ما ينبغي إلاّ أن يقال بأنّه لا دليل على وجوب الاحتياط مطلقا كما صنعه المحقّق القمّي ، ويستفاد من ظاهر المعالم ، ونسب إلى البهائي ، لكنّه ظاهر البطلان كظهور فساد القول بأنّ العقل يستقلّ بأنّ الطريق بعد سدّ باب العلم هو الظنّ ـ وإن لم يقم دليل على بطلان الاحتياط بوجه يوجب العمل بالظنّ بعده ـ يقضي بذلك بعد جواز الرجوع إلى الامتثال العلمي بالاحتياط غاية ما في الباب هو الخروج عن مقتضى الاحتياط فيما دلّ دليل عليه ، ويبقى الباقي على حسبه ، فإنّ الضرورة تتقدّر (٢) بقدرها.

الثالث من الأمور التي ينبغي التنبيه عليها أنّ قضية الدليل على تقدير التعميم ولو بملاحظة مقدّمة مطويّة معلومة عدم الفرق بين خصوصيات الظنّ من جهة الأسباب مع أنّ هناك أمورا لا يجوز الاستناد إليها في شيء قطعا كالقياس وأضرابه من الظنون التي قام القاطع على عدم اعتبارها ولو كان خروجه بواسطة ظنّ قطعي

__________________

(١) « ل » : ـ أيضا.

(٢) « ل » : تقدّر.

٢٦٥

الاعتبار ، فيشكل الأمر في الحكم بخروجها عن الدليل ؛ لاستلزامه تخصيص الدليل العقلي مع عدم قبوله للتخصيص.

وقبل الخوض فيه ينبغي رسم مقدّمة وهي أنّه قد اشتهر بينهم عدم جواز تخصيص الدليل العقلي ، وربّما يتوهّم أنّ المراد منه ما يقابل الدليل الشرعي الذي قد استقلّ العقل بإدراكه كقبح الظلم والعدوان ، وحسن العدل والإحسان ، فيجوز التخصيص في الأدلّة الشرعية ، وليس كذلك بل التحقيق أنّ التخصيص لا يجري في كلّ دليل لا يحتمل الخلاف في مضمونه بحسب ما يفيده من العلم بعد الظنّ.

والسرّ في ذلك أنّ الدليل في الاصطلاح هو ما يلزم من العلم به العلم بشيء آخر ، فهو واسطة في ثبوت العلم ولو كان علما شرعيّا بانتهائه إلى العلم الوجداني للعالم وفي إثبات المعلوم لديه ، فإن قام في الفرد المخصّص دليل على ثبوت الحكم له أيضا ، فلا معنى للتخصيص ؛ لاستلزامه تخلّف المعلول عن العلّة التامّة المفيدة للعلم ، وإلاّ فلا معنى أيضا للتخصيص ؛ لعدم دليل دالّ عليه أوّلا ، فلا تخصيص ، ولا فرق في ذلك بين أن يكون الدليل عقليا أو شرعيا.

أمّا الأوّل ، فواضح ؛ فإنّ العقل لا حكم له إلاّ بعد الإحاطة بجميع مراتب مدركه في مرتبة إدراكه ، فإن أدرك مثلا قبح الظلم ، فلا وجه للتخصيص ، وإلاّ فلا معنى له كما هو ظاهر.

وأمّا الثاني ، فلأنّا لو فرضنا قيام الإجماع على نجاسة عنوان الكافر ، فإن قام على نجاسة اليهود أيضا ، فنجاسته إجماعية لا تخصيص فيها ، وإن لم يقم ، فلا دليل على نجاسته ، وعلى قياسه الشهرة لو قامت على نجاسة الكافر مثلا.

نعم ، يجري التخصيص في الأدلّة اللفظية الظاهرة في المعنى بحسب الدلالة الوضعية لا بحسب الدلالة التابعة للإرادة ، وبحسب إفادتها تصوّر المعنى الموضوع له لا من

٢٦٦

حيث التصديق بكون المعنى مرادا للمتكلّم (١) ، وفي الحقيقة إطلاق الدليل عليها تسامح منهم من حيث إنّها ليست بعلّة تامّة للعلم بل لا بدّ فيها من إحراز عدم المانع ولو بأصالة عدم التخصيص والتقييد والمجاز ونحوها ، فإطلاق الدليل عليها إنّما هو صوريّ بواسطة أنّها مقتضيات للعلم.

ومن هنا يتّضح أنّ الدليل الحقيقي ولو كان لفظيّا لا يقبل التخصيص كما إذا كان عدم المانع مثلا معلوما إمّا بواسطة عدم قابلية المانع كما في العامّ اللفظي بالنسبة إلى مورده ، فإنّه حينئذ نصّ فيه ، ولا تخصيص ، وإمّا بواسطة أنّ عدمه معلوم وإن كان قابلا لمانعية المانع كما إذا ورد العامّ في مقام تأسيس قاعدة كلّية ، أو في مورد الامتنان.

فظهر أنّ الدليل على قسمين : حقيقي ، وصوري ، كما أنّ التخصيص أيضا على قسمين : حقيقي ، وصوري ، والدليل الحقيقي لا يقبل التخصيص بقسميه ، أمّا التخصيص الحقيقي ، فلأوله إلى التناقض المحال ، وأمّا التخصيص الصوري ، فلما عرفت. والدليل الصوري أيضا لا يقبل التخصيص حقيقة ؛ للتناقض ، فالتخصيص الصوري إنّما يختصّ عروضه بالدليل الصوري كأن يكون عنوان الحكم في الدليل بالصورة (٢) يعمّ الفرد المخصّص ولو بحسب الإجمال ، فيعرضه التخصيص الصوري.

ويعلم منه خروج الفرد المخصّص من (٣) العامّ الظاهر ولو بحسب التفصيل ، فلا تناقض أيضا ؛ لاختلاف محلّي الحكم إجمالا وتفصيلا ، ومحصّل الوجه في عدم جواز تخصيص الدليل الحقيقي يرجع إلى القول بعدم جواز تخلّف المقدّمتين في القياس عن النتيجة ، وذلك أمر واضح محقّق عند العدلية كما حقّق في محلّه.

وإذ قد عرفت هذه ، فاعلم أنّ الكلام في المقام تارة يقع في كيفية خروج الظنون التي قام القاطع على عدم اعتبارها كالقياس والاستحسان والرمل والجفر ونحوها بعد

__________________

(١) « ل » : « هو المراد » بدل : « مرادا ».

(٢) « ش » : بالصور.

(٣) « ل » : ـ من.

٢٦٧

أنّ حكمها معلوم من عدم جواز الاتّكال عليها كما في الاستثناء ، فإنّ المستثنى حكمه معلوم إلاّ أنّ (١) الكلام في كيفية خروجه من المستثنى منه ، وأخرى يقع في حكمها أيضا كما في الظنون التي قام الظنّ على عدم اعتبارها ، فلا بدّ من تشخيص الخارج من الدليل فيهما ، وعلى تقدير الخروج ففي كيفية الخروج ، فالكلام يقع في جهتين :

الجهة الأولى في كيفية خروج القياس وأضرابه ممّا قام القاطع والدليل العلمي على فسادها ، فنقول : لا إشكال في خروج القياس على تقدير الكشف ؛ إذ محصّل الكلام على هذا التقدير يرجع إلى أنّ الدليل قد دلّ على حجّية ظنّ (٢) في الجملة ، معلوم عند الله ، غير معلوم عندنا ، وذلك لا ينافي خروج القياس ، فإنّ أدلّة حرمة العمل به دليل شرعي علمي على أنّ الحجّة المجهولة المردّدة بين أسباب متعدّدة ليس هو القياس ، فإنّ الموجبة الجزئية لا تناقض السالبة الجزئية ، ولا فرق في ذلك بين أن يستند في التعميم إلى الوجوه المعمّمة ، أو لم يستند إليها ، وعلى الأوّل بين الاحتياط وغيرها.

أمّا فيما إذا لم يستند إليها فظاهر ، وأمّا في صورة الاستناد ، فلأنّ جميع ما ذكر من أدلّة التعميم لا يجري في مورد القياس. أمّا الاحتياط ، فلأنّ حكم العقل الذي هو المناط في الاحتياط بعد العلم الإجمالي بالتكليف لا يزيد على رفع العقاب والخروج عن ربقة التكليف ، فلو علمنا من المولى بأنّه قد أسقط عنّا الاحتياط في بعض الموارد ولم يلزم علينا الإتيان بكلّ المحتملات ، فقد علمنا بعدم ترتّب العقاب على ترك بعض المحتملات ، واحتمال كون الواقع في المحتملات المتروكة إنّما عهدته عليه ولا ضير فيه.

والحاصل أنّ العقل يحكم بإتيان الكلّ من باب المقدّمة العلمية لتحصيل الواقع والمكلّف به فرارا من العقاب وبعد ما علم بعدم العقاب في موضوع على تقدير الترك ، فلا يحكم بالاحتياط هذا إذا قلنا بأنّ القياس داخل في العلم الإجمالي الدائر بين

__________________

(١) « ل » : ـ إلاّ أنّ.

(٢) « ل » : الظنّ.

٢٦٨

الظنون ، وأمّا إذا لم نقل به كما هو التحقيق ، فإنّ القياس خارج عن أطراف الشبهة ، إذ قضيّة الدليل لا تزيد على اعتبار ظنّ في الجملة ، وبعد العلم بحرمته نعلم علما تفصيلا بأنّه ليس هو ، فالأمر أظهر.

وأمّا الترجيح بلا مرجّح ، فلا ينافيه أيضا خروج القياس ، فإنّه على تقدير الكشف حكم ظاهري مرجعه إلى عدم العلم بالمرجّح وهو لا ينافي بالمرجّح في خصوص مورد كالقياس ، فإنّ أدلّة حرمة العمل به مرجّح لعدم العمل به ، ومحصّل لموضوع لا يجري (١) فيه ذلك الدليل الظاهري كما لا يخفى.

وأمّا عدم الكفاية ، فواضح عدم جريانه فيه بل ربّما يقال بأنّ العمل به يلازم المحذور المدّعى في عدم العمل بغيره من الخروج من الدين هذا كلّه على تقدير الكشف.

وأمّا على تقدير الأخذ بالظنّ من باب لزوم الاحتياط كما قرّرناه أخيرا ، فلا إشكال أيضا كما عرفت ، ويكشف عن ذلك رفع اليد عن الاحتياط فيما يلازم العسر والحرج مع أنّ الاحتياط في تلك الموارد ممّا يحصّل الواقع ، ويظهر ذلك في الغاية عند ملاحظة وجوب تكرار الصلاة فيما اشتبهت القبلة في أربع جهات مع احتمال كون القبلة في جهة أخرى متوسّطة بين الجهات الأربعة ، فالواجب أوّلا هو الصلاة بكلّ نقطة من الدائرة التي يفرض المكلّف مركزا لها كما لا يخفى إلاّ أنّ الشارع قد عفى عنها ولو كان مؤدّيا إلى خلاف الواقع ، فظهر أنّه لا منافاة في وجوب الاحتياط وترك بعض المحتملات بعد دلالة دليل على وجوب الترك أو جوازه.

وينبغي أن يعلم أنّ الظنّ القياسي لو اقتضى شيئا ، فعلى تقدير عدم إلحاق الموهومات بالمشكوكات في عدم اعتبار الأصول الجزئية في مواردها لا بدّ من إلحاق موهومه بالمشكوك في اعتبار الأصول الخاصّة في مواردها ، فإنّ الظنّ حينئذ كالعدم ،

__________________

(١) « ل » : لا يجدي.

٢٦٩

فما هو المناط في الاعتبار في المشكوكات موجود في هذا الموهوم ، هذا ما يقتضيه الجليّ من النظر.

وأمّا النظر الدقيق ، فلا يفرق في ورود الإشكال بين هذا المشترك ومذاق الحكومة كما تعرفه بعيد ذلك لكن على اختلاف ما بينهما.

وتوضيحه : أنّ بعد ما قطعنا النظر عن الاحتياط في كلّ المحتملات من حيث لزوم العسر على تقديره ، فلا بدّ من التبعيض فيها دفعا للمحذور كما عرفت ، وحينئذ فقد قلنا بأنّ العقل يستقلّ في إسقاط الموهومات عن سلسلة المحتملات ؛ لعدم الاحتياط فيها بالنسبة إلى العلم الإجمالي الدائر في جميع السلاسل ، وبالنسبة إلى العلوم الجزئية الحاصلة في الوقائع الخاصّة ، فالحكم بسقوط الموهومات مطلقا عقلي ، ولا فرق في نظره القياس وغيره من الأسباب حتّى قيل بأنّ موهومه ملحق بالمشكوك ، فتدبّر.

أمّا على تقدير حكومة العقل ، فالإشكال متّجه سواء قلنا بأنّ العقل أوّلا يحكم حكما كلّيا من غير حاجة إلى ضمّ مقدّمة أخرى ، أو قلنا بأنّ الحكم بالكلّية إنّما هو بعد ملاحظة بطلان الترجيح بلا مرجّح حيث إنّ الحكم هذا حكم واقعي مرجعه إلى العلم بعدم المرجّح كما في العلم ، وكيف كان فقد أوردوا لدفع الإشكال وجوها :

الأوّل ما أفاده المحقّق القمي (١) من منع حصول الظنّ من القياس وأشباهه فأكشف (٢) الشارع صراحة أو كناية عن حاله ، واستند في ذلك إلى وجهين :

أحدهما : أنّ مبنى الشرعيات على الجمع بين المختلفات والفرق بين المجتمعات ، فإنّ دين الله لا يصاب بالعقول الضعيفة ، ولا يستفاد من الآراء السخيفة ، فإنّ الحكم المستتبعة للأحكام لا يعلمها إلاّ الحكيم ، أو من هو من ربّه على صراط مستقيم ، ويكشف عن ذلك ملاحظة منزوحات البئر ، فإنّ البعير مثلا يخالف البقر مع اجتماعهما في غير الواقعة ، ووجوب الغسل للمنيّ دون البول ، وقضاء الصوم على الحائض دون

__________________

(١) القوانين ١ : ٤٤٨ ، و ٢ : ١١٤.

(٢) كذا. ولعلّ الصواب : فكشف.

٢٧٠

الصلاة إلى غير ذلك ، فبعد ملاحظة أمثال ذلك في الشريعة كيف يحصل الظنّ باتّحاد مناط الحكم في الواقعتين حتّى يستتبعه الظنّ بالحكم في المقيس.

وثانيهما : الأخبار الدالّة على أنّ السنّة إذا قيست محق الدين كما في خبر أبان بن تغلب (١) وفي غيره أيضا بطرق متعدّدة ، فإنّ هذه الروايات تدلّ على أنّ محق الدين في القياس ، فبملاحظة ذلك لا يحصل الظنّ بالحكم في المقيس.

وفيه إجمالا : أنّ منع حصول الظنّ من القياس مكابرة فإنّ الوجدان شاهد صدق على ذلك ، وتفصيلا : أنّ الجمع بين المختلفات كالتفريق بين المجتمعات لا يقضي بعدم حصول الظنّ منه ، كيف ويحصل العلم منه المعبّر عنه بتنقيح المناط ولو لم يحصل الظنّ منه ، يلزم الطفرة ولو على بعض الوجوه وهي ممّا قضت الضرورة ببطلانها مع أنّ الغالب هو الجمع بين المتقاربات والمؤتلفات بحيث يحكم المتدرّب في الشرعيّات بأنّ موارد الافتراق أقلّ قليل بالنسبة إليها ، ويرشدك النظر في الأحكام الثابتة في حقّ الرجال ، فإنّ الغالب اشتراك النساء لهم فيها ، ومشاركة أحكام الإماء للعبيد ولو في الأغلب ، وكيف لا مع أنّ جملة منهم ذكروا في عداد الأدلّة إلحاق الفرد المشكوك فيه بالأعمّ الأغلب ، والمنكر لذلك مكابر لنفسه مع إمكان فرض البحث في فرض الحصول.

ودعوى امتناع حصول الظنّ منه بعد ما جاء من الخبر فيه أغرب من سابقه ، وأعجب من لاحقه ، إذ مفاده لا يزيد على وجوب الإعراض عنه وعدم الاستناد إليه ، ولا دلالة فيه على الامتناع لو لم يكن فيه تلويح بالإمكان.

نعم ، لا يبعد دعوى عدم حصول الظنّ منه في الغالب بعد ملاحظة موارد تخلّفه عن الواقع وعدم كشفه عنه كما يلاحظ ذلك في مراجعة حالات الفضلاء في أمور معاشهم.

__________________

(١) تقدّم في ص ٢٥.

٢٧١

الثاني : ما التزم به المحقّق المذكور (١) أيضا من جواز العمل بالقياس حال الانسداد فيما إذا أفاد الظنّ.

وتوضيحه : أنّه لا ريب في بطلان العمل بالقياس في مذهبنا ، فمن (٢) مارس قليلا أهل هذا المذهب في الجملة ولا سيّما بعد ملاحظة الإجماعات المنقولة والأخبار المتكاثرة الواردة عن العترة الطاهرة بحيث يحتمل عدم جواز الملاقاة لمن أنكر ذلك في جميع الموارد ، إلاّ أنّه قد يظهر من جماعة الاستناد إلى الأولوية المستقرّة (٣) الظنّية حتّى قيل : إنّها قوّة الفقيه ، ومن جماعة أخرى الاعتماد على الاستقراء الذي هو في حقيقة الحال مرجعه إلى القياس ؛ إذ من الواضح فساد الاستناد في إثبات حكم جزئي لجزئي مثله من غير أن يكون هناك جامعة بينهما ؛ لعدم الملازمة بين حكميها لولاها ، وإليه ينظر مقالة أهل الميزان من أنّ الجزئي ليس بكاسب ولا بمكتسب ، وذلك يكشف عن إمكان التخصيص في حكم القياس.

فعلى هذا نقول : إنّه لا دليل على حرمة العمل بالقياس وما يقاربه حال الانسداد ، لإطلاق معاقد الإجماعات المنقولة وإطلاق الروايات الواردة في المقام ، ضرورة عدم اشتمالهما حال الانسداد إلاّ بالإطلاق بضميمة أصالة الحقيقة وأصالة عدم التقييد وغير ذلك من الأصول التعبّدية التي لا تفيد العلم بل ، ولا الظنّ ، وبرهان الانسداد إنّما يدلّ على حجّية مطلق الظنّ حال الانسداد ، فمفاده خاصّ بالنسبة إليها ، والخاصّ يقدّم على العامّ كالمقيّد على المطلق ، ولا سيّما فيما كان الخاصّ عقليّا ، وحال أخبار القياس ليس أولى من حال الأدلّة الدالّة على حرمة العمل بالظنّ لا دلالة ولا كثرة.

بل وجملة منها إنّما وردت في مقام الردّ على الفرقة الهالكة حيث إنّهم نبذوا الكتاب (٤) اختصّ علمه بهم (٥) وراء ظهورهم مع تمكّنهم من الرجوع إلى باب العلم ،

__________________

(١) القوانين ١ : ٤٤٩ ، و ٢ : ١١٥.

(٢) كذا. ولعلّ الصواب : لمن.

(٣) « ل » : ـ المستقرّة.

(٤) « ش » : كتاب.

(٥) « ل » : ـ اختصّ علمه بهم.

٢٧٢

ولأجل ذلك قد أكثروا في النهي عن اتّباعه كثيرة وقليله ، والتزم أصحابهم في الاجتناب عن سلوك سبيله.

وجملة منها وردت فيما إذا أمكن التوقّف والاحتياط في حكم المسألة ، فإنّه لا بدّ فيه من الوقف ، ولا يجوز الرجوع إلى القياس مثل ما رواه ثقة الإسلام في الكافى في الصحيح ، عن سماعة بن مهران ، عن أبي الحسن موسى عليه‌السلام قال : قلت : أصلحك الله إنّا نجتمع ، فنتذاكر ما عندنا ، فما يرد علينا شيء إلاّ وعندنا فيه شيء مسطّر ، وذلك ما أنعم الله علينا بكم ، ثمّ يرد علينا الشيء الصغير ليس عندنا فيه شيء ، فينظر بعضنا إلى بعض ، وعندنا ما يشبهه ، فنقيس على أحسنه فقال عليه‌السلام : « فما لكم والقياس؟ إنّما هلك من هلك بالقياس » ثمّ قال : « إذا جاءكم ما تعلمون ، فقولوا به وإن جاءكم ما لا تعلمون فها » وأهوى بيده إلى فيه (١) الحديث.

وبالجملة ، لا حجّة على القول ببطلان القياس في حالة الانسداد إلاّ إطلاق بعض الروايات ومعاقد الإجماعات ، وبعد إعمال الأصول لا يفيد إلاّ الشكّ ، ودليل الانسداد قطعي فكما يقدّم على الأدلّة الناهية عن اتّباع مطلق ما وراء العلم ، كذا يقدّم على هذه الإطلاقات أيضا.

ودعوى الإجماع في حال الانسداد عهدتها على مدّعيها ؛ إذ المجمعين بعد قطع النظر عن مداركهم في الحكم بعدم الحجّية أغلبهم ممّن يرون انفتاح باب العلم الشرعي أو الوجداني ، فكلماتهم في الأغلب إنّما هو في بيان أحكام الانفتاح.

ومنه يظهر دعوى الضرورة المذهبية أو الدينية في وجه على حرمة الاستناد إليه ، فإنّ الإشكال في بيان ما يستند إليه تلك الضرورة ، إذ ليس يقبل كلّ ما يقال أو يدّعى إلاّ بإلقاء دليل قاطع ، وبرهان ساطع ، فمدّعي الإجماع أو الضرورة مطالب بوجههما (٢) ، فعليه بالبيان ، فإن كان ممّا يستند إليه الإجماع أو الضرورة في العادة ، فيعمّ الاتّفاق ،

__________________

(١) الكافى ١ : ٥٧ ، باب البدع ، ح ١٣.

(٢) « ل » : بوجهيهما.

٢٧٣

وإلاّ فلا يصغى إليه.

هذا غاية ما يمكن الانتصار (١) لهذا الوجه إلاّ أنّه لا يجدي أيضا بعد التحقيق والتدقيق ، فإنّ الأدلّة المتكثّرة الواردة في مقام وإن كان ممّا لا يفيد القطع كلّ واحد منها في حدود ذواتها إلاّ كلّ واحد منها لا يخلو عن إفادة ظنّ ولو في أضعف مراتبه وإن كان ممّا استند في دلالتها إلى تعبّدي ؛ إذ قد يفيدان الظنّ أيضا.

نعم ، لا يطّرد إفادة الظنّ فيه ، لأنّه يمنع حصول الوصف منه كما لا يخفى ، وبعد انضمام رواية أخرى إليه يزداد ذلك الظنّ قوّة إلى أن ينتهي إلى العلم ، وذلك باب شائع ، وطريق واسع يستند العلوم الحاصلة من اليقينيات غالبا إلى هذه الطريقة ، ولا بعد فيها.

ومنه يظهر الوجه في جملة من المسائل الكلامية للاعتقاد استناد المشهور إلى الروايات والآيات مع أنّ غاية ما يستفاد منها الظنّ ، وهم لا يقولون باعتبار الظنّ ولو كان حاصلا من الأمارات الخاصّة فيها ، فإنّ ازدياد الأسباب الظنّية يوجب تراكم الظنون ، فيزداد باشتداد كلّ بلحوق ظنّ آخر حتّى يصير علما ، ولو لا هذا ، لانقطع التواتر ولو في جهة اللفظ ، فإنّ الإخبار بصدور لفظ من لافظ من حيث هو لا يفيد إلاّ الظنّ بصدوره منه ، وبعد الإخبار به ثانيا يشتدّ ذلك الظنّ مرتبة إلى أن يصل إلى اليقين.

وبالجملة فمن المعلوم لكلّ واحد (٢) من العلماء بل لا يبعد دعوى إلحاق العوامّ بهم عدم جواز الاستناد في زماننا هذا إلى القياس ، وليس هذا العلم ممّا لا (٣) يستند إلى سبب يحصل منه العلم في العادة بل على الأمور النقلية من الاعتقاديات (٤) وغيرها إلى مثل هذه الأسباب كما هو غير خفيّ على المتدبّر.

__________________

(١) « ل » : الانتصار به.

(٢) « ل » : أحد.

(٣) « ل » : ـ لا.

(٤) « ل » : الاعتقادات.

٢٧٤

الثالث من وجوه الدفع ما استند إليه المحقّق أيضا (١) ، ومحصّله : أنّ حجّية الظنّ إنّما هو (٢) فيما انسدّ فيه باب العلم ، وفي مورد القياس باب العلم ليس بمنسدّ ، للعلم الضروري بحرمة العمل به في شريعتنا ، فخروج القياس إنّما هو من جهة خروج موضوع الحكم في دليل العقل.

وفيه : أنّ عدم انسداد باب العلم في مورد القياس بالرجوع إلى الأصول في موارده إن كان مع قطع النظر عن الأدلّة الدالّة على حرمة العمل بالقياس ، فمن المعلوم أنّه غير سديد ؛ لتساوي أفراد ماهيّة واحدة في كلّ حكم لا يرجع إلى خصوصية خارجية ، وإن كان بعد ملاحظة ما دلّ على عدم جواز الاستناد إليه ، فغير مفيد ؛ فإنّه هو محلّ الإشكال ، ومحطّ فحول الرجال ، كيف؟ وهو لم يأت بما يشفي العليل ، ويروي الغليل.

نعم ، لو قلنا باختلاف موضوعي حكم العقل بحجّية الظنّ والشرع بحرمة العمل بالقياس إمّا حقيقة ، وإمّا اعتبارا كما ستقف عليها ، فله وجه إلاّ أنّه سيجيء عدم استقامتها أيضا.

الرابع ما تكلّفه أيضا (٣) في المقام من أنّ الاستثناء إنّما هو ممّا دلّ على مراد الشارع ظنّا ، لا أنّ الظنّ الحاصل منها مستثنى من مطلق الظنّ.

ولعمري إنّه وجه غير معلوم المبنى بل والمعنى أيضا ، وغاية ما يتعسّف في بيان مرامه هو أنّه طاب ثراه بعد ما قرّر الدليل في كلّ المسائل الجزئية نظرا إلى بطلان الرجوع إلى الأصول فيها من غير حاجة إلى انضمام بعض الوقائع إلى أخر جعل مبنى الإشكال جزئية النتيجة ، فإنّه لا يعقل الاستثناء من الظنون الشخصية الحاصلة في الموارد المستندة إلى أسبابها الخاصّة ، فلهذا قد عدل إلى جعل الاستثناء من الأمارة دون (٤) الظنّ الحاصل منها ، فكأنّه يلتزم بأنّ للعقل حكمين :

__________________

(١) القوانين ١ : ٤٤٨ ـ ٤٤٩ ، و ٢ : ١١٤.

(٢) كذا.

(٣) القوانين ١ : ٤٤٨ ، و ٢ : ١١٤.

(٤) « ل » : إلى دون.

٢٧٥

أحدهما : ما يصير به الأمارات حجّة ، فيستثنى منها القياس ، ولا ضير فيه لتعدّدها ، فيجوز الاستثناء منها.

وثانيهما : ما به يصير الظنون الشخصية الحاصلة في الموارد الشخصية حجّة عند تعارضها للظنون النوعية التي تثبت حجّيتها ، وقد يساعد إلى هذا ما يظهر منه في بعض بياناته لهذا المطلب في ذيل مبحث حجّية الأخبار ، فراجعه.

وكيف كان ومع ذلك ، فلا يجدي شيئا ؛ لأنّ الدليل الدالّ على اعتبار الأمارة بعد التنزّل عن وجوده ـ لظهور عدم دلالة دليل على اعتبار الظنون النوعية والأمارات ـ إن دلّ على اعتبارها كلّية على نحو ما قد عرفت الكلام فيها ، فالإشكال باق بحاله ، وإلاّ كأن كان (١) مهملا ، ودالاّ عليه على سبيل الإجمال ، فيجوز الاستثناء ، والأمر في ذلك بالنسبة إلى كلّ من الظنّ والأمارة سيّان ، فلا وجه للعدول مع بقاء الإشكال بحاله.

الخامس : ما أفاده بعض الأعاظم في التعليقة (٢) ، وتبعه بعض الأجلّة (٣) ، وقد يستفاد من مطاوي كلمات الأستاذ الشريف أيضا وهو أنّ حكم العقل بحجّية الظنّ في الأحكام الشرعية أو في الطرق إليها ليس حكما أوّليا واقعيا مطابقا لما اقتضته المصلحة الخاصّة الكامنة في الشيء من غير اندراجه تحت عنوان غير وصفه العنواني الذاتي بل هو حكم ظاهري ثانوي مطابق للمصلحة العامّة من حيث اندراجه تحت عنوان خارج عن وصفه (٤) العنواني (٥) الذاتي كما في حكم العقل بحجّية البراءة عند إعواز النصوص (٦) ، فبملاحظة تغيّر العنوان (٧) في موضوع حكم العقل يرتفع (٨) حكمه بارتفاع

__________________

(١) شطب على « كان » في نسخة « ل ».

(٢) هداية المسترشدين : ٣٩٥.

(٣) الفصول : ٢٨٥.

(٤) في النسختين : وصف.

(٥) « ل » : العنوان.

(٦) « ل » : النصّ.

(٧) « ل » : العنواني.

(٨) « ش » : ويقع.

٢٧٦

موضوعه ، وليس ذلك تخصيصا في حكم العقل في شيء ، فحكم العقل بحجّية الظنّ معلّق على عدم ورود نهي عن العمل ، وبعد كشف الشارع عن حرمته ، فلا موضوع لحكم العقل ، فلا تناقض بين حكمي الشرع والعقل ؛ لاختلاف الموضوعين.

أقول : وكأنّ المجيب إنّما بنى على الجواب المذكور نظرا منه إلى بعض ما أسلفنا نقله منه في بحث حجّية قطع القطّاع من أنّ حجّية القطع أيضا حكم ظاهري موقوف على عدم ورود منع من الشارع عن العمل به ، وقد تقدّم فساده (١) بما لا مزيد عليه.

مضافا إلى وجهين آخرين :

أحدهما : أنّ معيار الفرق بين الحكمين وميزان التمييز بين الجهتين هو الرجوع إلى الوجدان ، ونحن كلّما نراجع وجداننا مرّة بعد أولى ، وكرّة بعد أخرى لا نجد منها الحكم على حجّية الظنّ بعد المقدّمات المعهودة إلاّ حكما جعليا واقعيا لا تمازجه حيثية زائدة على حيثية ذاته وجهة نفسه.

وتحقيق الحال هو أن يقال : إنّ حكم العقل بشيء يقع تارة على نحو لا تدانيه مخالطة عنوان غير نفسه كما في حكمه بقبح الظلم والعدوان ، وحسن العدل والإحسان ، وأخرى على وجه يلاحظ فيه اعتبار عنوان (٢) آخر بحيث لو قطعنا النظر عن انضمام هذا العنوان ، لما كان العقل في إدراكه مستقلاّ كما في الحكم بالبراءة ، فإنّه مع قطع النظر عن كون التتن مجهول الحكم لا حكم للعقل في حلّيته ولا في حرمته ، فبملاحظة اندراجه تحت هذا الموضوع ليستقلّ العقل بإدراك حكمه ، وليس حكم العقل بحجّية الظنّ حين انسداد باب العلم من جهة تحيّر العقل في حكم الظنّ ، فيندرج تحت موضوع آخر معلّق على عدم وورد نهي من الشارع كما يظهر ، ولكن استفسار (٣) حال من أراد سلوك سبيل بلدة مع انسداد باب العلم إليها ، فإنّه يأخذ بما يظنّ كونه سبيلا

__________________

(١) تقدّم في ص ٢٩ ـ ٣٠.

(٢) « ل » : ـ عنوان.

(٣) كذا. والصحيح : استفسر.

٢٧٧

إليها من حيث كشفه عن الواقع مثل ما لو كان السبيل علميا ، فالعقل إنّما يحكم بحجّية الظنّ في حال الجهل بالمظنون لا من حيث إنّ الظنّ مجهول الحكم يستند إليه.

وبالجملة ، فمع قطع النظر عن العنوان الزائد على نفس الظنّ وحيثية كشفه عن الواقع يحكم العقل بحجّيته ، وليس ذلك من الحكم الظاهري في شيء كما لا يخفى.

نعم ، ليس ممّن يرى حكم العقل بحجّية العلم حكما ظاهريا أشباه هذه الكلمات بعيدا ، فتدبّر.

وثانيهما : أنّه (١) مع الغضّ عن الوجدان ، فهو ممّا ينافيه البرهان.

أمّا إجمالا ، فلأنّ النهي الشرعي الوارد على خلاف ما حكم به العقل ظاهرا لا فرق فيه بين أن يكون علميا أو ظنّيا ينتهي إلى علمي كما اعترف به في مباحث البراءة من تقديمه الأدلّة الظنّية على الأصول العملية ، فعلى هذا لا فرق بين القياس وغيره من أسباب الظنّ سوى ما عرفت من أنّ خروج القياس قطعي وغيره ظنّي ، وظاهر أنّ مجرّد كونه قطعيا وغيره ظنّيا مع انتهائه إلى العلم لا ينهض فرقا بين المقامين.

وأمّا تفصيلا ، فلأنّ الوجوه الناهضة على حجّية الظنّ لا يخلو من أحد المشارب المتقدّمة صراحة وإشارة ، وعلى التقادير لا يعقل خروج القياس في وجه ، ولا وجه لتخصيصه بالخروج في وجه آخر.

وبيان ذلك : إنّ المستدلّ تارة يبطل الأصول العملية في مواردها بحجّية الظنّ فيها كما (٢) يظهر من بعض العامّة في استنادهم إلى قبح ترجيح المرجوح على الراجح ، واعتمادهم على لزوم دفع الضرر كما حرّر مفصّلا ، وأخرى يحكم ببطلان الأصول في مواردها ، إمّا لعدم جريانها ، أو لعدم اعتبارها بواسطة وجود مانع منه ، ثمّ بعد ذلك يحكم بحجّية الظنّ في مواردها.

__________________

(١) « ل » : أنّ.

(٢) « ل » : ـ كما.

٢٧٨

فعلى الأوّل لا وجه لاعتبار الظنّ إلاّ حيثية رجحانه على غيره ، وهذه جهة تعليلية إن صحّت ففي الكلّ ، وإن بطلت ففيه ، وعلى التنزّل ، فلا فرق بين القياس والشهرة إلاّ بأن يقال : إنّ الأوّل منهما قطعي الخروج ، فيحكم به بخلاف الثاني ، فإنّه بواسطة العمومات الناهية عن العمل بالظنّ ، ولا عبرة بالعامّ في قبال ما دلّ على اعتبار الظنّ ، وهو إخراج وخروج عن طريقه علمائنا الأعلام ، ومشايخنا الكرام.

وعلى الثاني ، فتارة نقول بجريان الدليل في كلّ المسائل الخاصّة كما هو مذاق المحقّق القمّي ، أو في المجموع كما هو مشرب التحقيق.

فعلى الأوّل لو قلنا بعدم حجّية أصالة البراءة فيما لم تفد ظنّا ، ولا دليل على وجوب الاحتياط شرعا ، ولا وجه للتخصيص إذ لا تعليق في حكم العقل بحجّية الظنّ في المقام ، ولو قلنا بأنّ العمل بالبراءة إنّما هو من جهة التعبّد بها شرعا ، فمرجعه إلى عدم ثبوت التكليف عند عدم العلم به ، وذلك في مورد القياس والشهرة سواء إلاّ بالاقتراح المذكور.

وعلى الثاني فإن قلنا بالإهمال في النتيجة ، فلا إشكال كما عرفت ، وإن قلنا بعدمه ، فلا وجه للخروج ، فإنّ رفع اليد من الاحتياط الكلّي في سلسلة الموهومات والاستناد إلى الظنّ ليس إلاّ لوصف (١) الظنّ الموجود في مورد القياس والشهرة ، وتجويز إخراج أحدهما يوجب خروج الآخر ، ولا تعليق في الحكم.

قلت : ولعلّ المجيب يستند في الفرق بين القياس وغيره من أسباب الظنّ إلى عدم ورود دليل على المنع في غيره أصلا ، ووروده فيه ، لا إلى العموم والخصوص حتّى يورد عليه بالاقتراح ، فإنّ العمومات الناهية عن العمل بالظنّ بناء على حجّية الظنّ ولو في الجملة ليس باقيا على ما هو الظاهر منها إمّا بتخصيصها بالأصول ، أو بإجمالها في المقام ، أو لعدم انصرافها إليه ، فالعمدة في المقام هو الرجوع إلى الوجدان ، وعدم

__________________

(١) « ل » : بوصف.

٢٧٩

تعليق في الحكم الحاصل من البرهان.

السادس : ما أفاده أستاذنا المرتضى دام علاه من أنّ حكم العقل بوجوب الأخذ بالظنّ حال الانسداد إنّما هو من حيث إنّ الظنّ أقرب إلى الواقع ، وبعد أنّ الشارع الحكيم العليم بخفايا الأمور قد كشفه عن حاله بتخلّفه عن الواقع بأنّ ما يفسده أكثر ممّا يصلحه ، وبأنّ السنّة إذا قيست محق الدين ، أنّ مناط حكم العقل ليس موجودا في الظنون القياسية وغيرها من أشباهها ، كما يرشدك إلى هذا ملاحظة أحوال العقلاء فيما إذا اعتمدوا على أمارة غير معتبرة واقعا مع تخيّلهم بملازمتها له ، فإنّه بعد ما ظهر لهم الحال من كثرة التخلّف ، فلا يعتدّون بها.

وأورد عليه سلّمه الله بأنّا وإن سلّمنا كشف الشارع عن حال القياس ، وكثرة تخلّفه عن الواقع إلاّ أنّ ذلك لا يوجب عدم حجّية ظنّه بعد حصوله منه ؛ إذ حكم الشارع لا يزيد (١) على إفادة عدم مطابقته للواقع نوعا والظانّ يحتمل أن يكون هذه الظنون الحاصلة في موارد الأقيسة من الأفراد النادرة المطابقة للواقع.

نعم ، كشف الشارع إنّما يتمّ في عدم حصول الظنّ منه على نحو ما يحصل من غيره من الأمارات ، فإنّه أقلّ فائدة من غيره ، لا أنّه لا يحصل منه الظنّ في وقت كما زعمه المحقّق القمّي ، أو بعد حصوله ليس معتبرا.

وبالجملة ، الظنّ الحاصل من القياس مرجعه إلى الاستقراء غالبا ؛ لأنّ (٢) استنباط الجامع إنّما هو منه غالبا ، وكشف الشارع عن عدم مطابقة هذه الغلبة للواقع نوعا لا ينافي مطابقة غلبة صنفه منها للواقع كما لا يخفى.

قلت : وهو كذلك نظير ما مرّ في حجّية القطع الحاصل من الأدلّة العقلية النظرية في قبال الأخباري ، فإنّ تطرّق الخطأ على ما استندوا إليه لا يوجب عدم الحجّية بعد حصوله ، وقد مرّ ذلك فيما مرّ بما لا مزيد عليه.

__________________

(١) « ل » : ـ لا يزيد.

(٢) « ل » : « إلاّ أنّ » بدل « لأنّ ».

٢٨٠