مطارح الأنظار

الميرزا أبو القاسم الكلانتري الطهراني

مطارح الأنظار

المؤلف:

الميرزا أبو القاسم الكلانتري الطهراني


المحقق: علي الفاضلي
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: معهد الإمام الخميني والثورة الإسلامية
المطبعة: مؤسسة العروج
الطبعة: ١
ISBN: 978-964-7986-36-6
الصفحات: ٦١٥

الترجيح للعقلي إلاّ أنّ هذا في الحقيقة تعارض في النقليات ، وإلاّ فالترجيح للنقلي.

قال : وفاقا للسيّد المحدّث المتقدّم ، وخلافا للأكثر ، ثمّ قال بعد ذلك : هذا بالنسبة إلى العقلي بقول مطلق ، أمّا لو أريد بمعنى الأخصّ ـ وهو الفطري الخالي عن شوائب الأوهام ، الذي هو حجّة من حجج الملك العلاّم وإن شذّ وجوده بين الأنام (١) ـ ففي ترجيح النقلي عليه إشكال (٢). انتهى كلامه.

ومواضع النظر فيه وفي سابقه ما لا يحصى :

الأوّل : إن أرادوا من عدم اعتبار العلم فيما قالوا به من الموارد عدم حجّيته ـ مع كونه علما والمكلّف عالما بحسب معتقده وإن لم يكن كذلك في الواقع ـ فلا شكّ في كونه تكليفا بما لا يطاق ، وفساده ممّا نطق به الكتاب الكريم بل هو مذكور في عداد المسلّمات بين الشيعة والمعتزلة ، فلا مجال لإنكاره ؛ فإنّ التكليف بشيء فرع العلم بذلك الشيء ، ولا أقلّ من احتماله والمفروض عدمه أيضا.

وإن أرادوا أنّ بعد ملاحظة ما يعارضه من الدليل النقلي أو ملاحظة الاختلاف الواقع في العلوم العقلية ، فلا يبقى علما ، فبعد الغضّ عن الصغرى ووجود الاختلاف في النقلي أيضا ، فهو خلاف ما هو المفروض في المقام.

وإن أرادوا أنّ الدليل النقلي في محلّ تعارضه أيضا قطعي ، فهو يستلزم اجتماع المتناقضين.

وإن أرادوا عدم حجّيته من جهة الأخبار الواردة عنهم عليهم‌السلام في النهي عن الخوض في العلوم العقلية ـ فإنّ بعد النهي لو لم يصادفوا الواقع ، فيجري عليهم حكم المقصّر ، ويعاقب نظرا إلى أنّ الامتناع بالاختيار لا ينافي الاختيار عقابا وإن كان ينافيه خطابا ـ فلا نسلّم ورود النهي عنهم عليهم‌السلام في ذلك بل قضية العمومات الآمرة بطلب

__________________

(١) « ش » : الأوهام.

(٢) الحدائق ١ : ١٢٦ ـ ١٣٣ وما بين المعقوفين منه.

٢١

العلم ولو بالصين (١) خلاف ذلك.

لا يقال : قد ورد في جملة من الأخبار : من أنّ « دين الله لا يصاب بالعقول » (٢) ، ومن أنّ « من دان الله بغير سماع [ من صادق ] ، ألزمه الله [ التيه ] يوم القيامة » (٣) ومن أنّ « من قام جميع ليله ، وصام جميع نهاره ، وحجّ جميع دهره ، وتصدّق بجميع ما له ولم يعرف وليّ الله فيواليه ، ويكون جميع أعماله بدلالته ، لم يكن له على الله حقّ ولا هو من أهل الإيمان » (٤) ومن أنّ « ما من شيء أبعد في دين الله من عقول الرجال » (٥) إلى غير ذلك.

مضافا إلى أنّ كثرة الاختلاف ـ الواقعة في العلوم العقلية المستندة إلى اختلاف مراتب إدراكاتهم المنتهية إلى اختلاف استعداداتهم وملكاتهم في فنون الاكتساب ـ توجب اختلالا فيما هو صونه مطلوب ، وبقاؤه مرغوب.

لأنّا نقول : أمّا الأخبار الواردة في هذا المضمار ، فستعرف تحقيق القول فيها بما لا مزيد عليها. وأمّا حديث الاختلاف ، فهو لا يختلف في المقامين ؛ فإنّ أسباب الاختلاف لو لم يكن في العلوم النقلية أكثر ـ كما هو كذلك أيضا كما يشاهد ذلك في المسائل المرتبطة بالكتاب والسنّة والمباحث المنتسبة إلى الأدلّة العقلية ـ فلا أقلّ من تساويهما.

الثاني : إن أرادوا من عدم حجّية العقل عدم حجّيته ـ ولو كان بديهيا ـ فالضرورة

__________________

(١) الوسائل ٢٧ : ٢٧ ، باب ٤ من أبواب صفات القاضي ، ح ٢٠ ؛ بحار الأنوار ١ : ١٧٧ و ١٨٠ ، باب ١ ، ح ٥٥ و ٦٥ ، و ٢ : ٣٢ ، باب ٩ ، ح ٢١.

(٢) بحار الأنوار ٢ : ٣٠٣ ، باب ٣٤ ، ح ٤٠.

(٣) الوسائل ٢٧ : ٧٥ و ١٢٨ ، باب ٧ و ١٠ من أبواب صفات القاضي ، ح ٣٧ و ١٢. وسيأتي في ص ٧٦.

(٤) الوسائل ١ : ١١٩ ، باب ٢٩ من أبواب مقدّمة العبادات ، ح ٢ ، و ٢٧ : ٤٢ و ٦٥ ـ ٦٦ ، باب ٦ و ٧ من أبواب صفات القاضي ، ح ١١ و ١٣.

(٥) الوسائل ٢٧ : ١٩٢ و ٢٠٣ ـ ٢٠٤ ، باب ١٣ من أبواب صفات القاضي ، ح ٤١ و ٦٩ و ٧٣ و ٧٤ وفيها : ليس شيء أبعد من عقول الرجال عن تفسير القرآن وفي بعضها عن القرآن.

٢٢

قاضية بخلافه ، وإن أرادوا من عدم حجّيته إن كان نظريا ، فالضرورة قاضية أيضا بلزوم انتهائه إلى ضروري ، دفعا للدور والتسلسل ، واحتمال عدم كونه بديهيا في الواقع موجود فيما اختاروه من حجّية البديهي أيضا. وأمّا ما يقال ـ من عدم اعترافهم لمطلق البديهي بل خصوص ما تسالمت فيه الأنظار ـ مردود بأنّ النظري لا بدّ وأن ينتهي إلى بديهي كذلك لا محالة.

الثالث : أنّ ما زعموه على تقدير تماميته ، فهو بعينه موجود في الأدلّة العقلية التي يستدلّ عليها بوجود الصانع ولزوم إرسال الرسل وغير ذلك من الأمور الاعتقادية التي يستعمل فيها البراهين النيّرة (١) العقلية ؛ فإنّا لا نجد فرقا في الأدلّة المستندة إليها فيها وفيما يستند إليها في عدم جواز اجتماع الأمر والنهي مثلا.

ثمّ إنّ ما أشكل على صاحب الحدائق من تعارض العقل الفطري والدليل النقلي ـ على ما نقله عنه في ذيل كلامه ـ فهو ممّا لا يعقل له وجه صحيح إلاّ أن يرجع النزاع معه لفظيا كما لا يخفى.

ثمّ إنّ السيّد الفاضل شارح الوافية بعد ما سلّم إدراك العقل أورد كلاما حاصله منع إناطة الإطاعة والعصيان بالواقع بل المدار عليه فيما لو أخبر به الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله ، أو أحد الأئمّة عليهم‌السلام قال : ألا ترى أنّ من نام فرأى في نومه أحدا من أهل العصمة أخبر بحكم فقطع به ، لا يجب إطاعته ، وقد استند في ذلك بالأخبار المتقدّمة (٢).

والجواب أنّ ما ادّعاه من الأخبار ممّا يتحقّق به موضوع الإطاعة والعصيان موقوف على دلالة دليل الإطاعة والعصيان على ذلك ، ولا ريب (٣) أنّهما من الآثار العقلية المترتّبة على مطلق حكم الله الواقعي المعلوم على أيّ وجه ، ولا يمكن فيه التخصيص بالنسبة إلى أفراد العلم ، أو العالم على ما عرفت ، مع أنّ المفروض حصول

__________________

(١) « ل » : المنيرة.

(٢) شرح الوافية ( مخطوط ) : ٨٨ / أ ـ ٨٨ / ب.

(٣) « ل » : فلا ريب.

٢٣

القطع بأنّ المدرك هو حكم الله تعالى ، فلا يجامع احتمال حرمته الأخبار فيه ؛ لأدائه إلى خلاف الفرض المستلزم لاجتماع النقيضين على ما لا يخفى ، فالأخبار الواردة في المقام على ما زعموه مخالفة (١) للقطع ، فلا بدّ من حملها على ما كانوا يتعاطونه في تلك الأزمنة من استنباط الأحكام الشرعية من القياسات العاميّة مضافا إلى أنّه هو الظاهر من مساقها ؛ لوضوح عدم نهوضها على النهي عن طريقة الاستدلال بالبراهين العقلية القطعية في استنباط الأحكام الشرعية مع ظهور معارضتها بالأخبار الدالّة على حجّية العقل كقوله عليه‌السلام : « به يثاب ويعاقب (٢) » (٣) وقوله عليه‌السلام : « العقل ما عبد به الرحمن » (٤) وقوله عليه‌السلام في رواية هشام المروية في الكافى : « أنّ لله حجّتين حجّة في الظاهر وهي الرسل وحجّة في الباطن وهو العقل » (٥) سيّما بعد اعتضادها بعمل الكلّ وخصوصا مع حمل الكلّ لها على ما عرفت.

وقد يقال في وجه الحمل باختصاص الأخبار الناهية في العقل الغير الصافي ، والآمرة بالعقل الصافي. وهو تحكّم لا شاهد عليه.

والحاصل أنّه لا فرق في ترتّب أحكام القطع عليه بين حصوله من دليل عقلي ، أو نقلي ـ سواء كانت تلك الأحكام قبل حصوله كوجوب تحصيله في المطالب الاعتقادية ، أو مقارنة لحصوله كاستحالة التكليف بخلافه ، أو بعد حصوله كأحكام الطهارة والنجاسة والكفر والإيمان والقضاء والإعادة إلى غير ذلك ـ فعلى مدّعي الفرق كالأخباري إقامة دليل بيّن في الفرق بينهما ، وتخصيص ما يدلّ على عدم الفرق مع امتناع تخصيصها عقلا بل شرعا ، فإنّه من بديهيات المعلومات.

__________________

(١) في النسختين : مخالف.

(٢) « ل » : وبه يعاقب.

(٣) انظر الوسائل ١٥ : ٢٠٤ و ٢٠٨ ، باب ٨ ، باب وجوب طاعة العقل ومخالفة الجهل ، ح ١ و ١٠.

(٤) الوسائل ١٥ : ٢٠٥ ، باب ٨ من أبواب جهاد النفس وما يناسبه ، ح ٣.

(٥) الكافى ١ : ١٦ ، كتاب العقل والجهل ، ح ١٢ ؛ عنه في الوسائل ١٥ : ٢٠٧ ، باب ٨ من أبواب جهاد النفس ، ح ٦.

٢٤

ودعوى أصالة عدم الحجّية في غير النقلي ـ بعد ما مرّ من بداهة اعتبار العلم ـ ظاهرة الوهن ، بيّنة الفساد.

ثمّ إنّه يمكن أن يفصّل في المقام بأن يقال : العلوم العقلية قسمان :

قسم يكون من طريق المصالح والمفاسد التي هي علل للأحكام الشرعية عند العدلية كأن يستدلّ على الحكم استدلالا لمّيّا مثل ما استدلّ بعضهم في لزوم عدالة الولي للصغير بأنّه يستحيل في حكمة الشارع تسليط من لا يأتمن على مال الطفل الذي لا يقدر على القيام بمصالحه ومفاسده.

وقسم ليس كذلك بل استدلال إنّي كالاستدلال على وجوب مقدّمة الواجب وحرمة الضدّ ، فيقال بحرمة القسم الأوّل تنزيلا للأخبار الناهية عليه ، وبصحّة الثاني حملا للأخبار الدالّة على حجّية العقل عليه ، والشاهد على ذلك دلالة سياقها عليه.

مضافا إلى تعارف الاستدلال اللمّي في زمنهم ، ولا مانع من حملها على العقل القطعي نظرا إلى جواز التكليف بما لا يطاق وبخلاف المعلوم إذا كان ناشئا عن سوء الاختيار على ما يراه بعضهم ، ولا ينافيه تداول الاستدلالات العقلية بين علمائنا ؛ لكونها من الدليل الإنّي دون اللمّي ، فإنّ الوسط في البراهين المتداولة بينهم مأخوذ من الشرع كما في الحكم بوجوب المقدّمة وحرمة الضدّ بخلاف اللمّ ؛ فإنّ الوسط فيه مستنبط من العقل ولو ظنّ المستنبط كونه قطعيا.

لا يقال : في الأحكام المأخوذة من العلم كحرمة الظلم ونحوها لا يمكن أن يقال : إنّ الوسط مأخوذ من الشرع.

لأنّا نقول : أمثال ذلك مأخوذة (١) من العقل المستقلّ من الضروريات ، ولو لا ذلك ، لما كان من اللمّي ، ويشهد بذلك ملاحظة خبر أبان (٢) أيضا في وجه دون وجه ؛ لأنّه يمكن

__________________

(١) في النسختين : مأخوذ.

(٢) في هامش « ش » : روى المشايخ الثلاثة [ في الكافى ٧ : ٢٩٩ ، باب الرجل يقتل المرأة ، ح ٦ ؛

٢٥

أن يقال : إنّ أبانا (١) كان ظانّا بالظنّ القوي ، وإنكار المعصوم عليه إنّما هو لتعجّبه بعد كشف الواقع له ، فإنّه لا معنى للتعجّب بعد ذلك ، أو يجعل ظنّه الشخصي معارضا لكلامه عليه‌السلام ، فحينئذ تخرج الرواية عن الشهادة ، بل يمكن دعوى أنّ الأظهر في جميع ذلك النهي عن العقل الظنّي ، فالحقّ عدم التفصيل بين أفراد العلم.

__________________

والفقيه ٤ : ١١٨ / ٥٢٣٩ باب الجراحات والقتل ؛ والتهذيب ١٠ : ١٨٤ باب ١٤ ، ح ١٦ ] في صحيح أبان بن تغلب قال للصادق عليه‌السلام : ما تقول في رجل قطع إصبعا من أصابع المرأة : كم فيها؟ قال : « عشرة من الإبل ». قال : قلت : قطع اثنين؟ قال : « عشرون ». قلت : قطع ثلاثا؟ قال : « ثلاثون ». قلت : قطع أربعا؟ قال : « عشرون ». قلت : سبحان الله! يقطع ثلاثا فيكون [ عليه ] ثلاثون ، ويقطع أربعا فيكون [ عليه ] عشرون؟ إنّ هذا كان يبلغنا ونحن بالعراق فنبرأ منه ونقول : إنّ الذي جاء به الشيطان ، فقال : « مهلا يا أبان ، إنّ هذا حكم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله إنّ المرأة تعادل الرجل في ثلث الدية فإذا بلغ [ ت ] الثلث رجعت ( في النسخة رجعت المرأة ، ولم ترد المرأة في مصادر الحديث ) إلى النصف ، قال : « يا أبان ، إنّك قد أخذتني بالقياس ، والسنّة إذا قيست محق الدين ». « منه ».

(١) في النسختين : أبان.

٢٦

الامر الثالث :

قد يستفاد من تضاعيف كلمات جماعة من متأخّري المتأخّرين ـ ومنهم الشيخ الأجلّ فيلسوف القوم الشيخ جعفر في مقدّمات كتابه الموسوم بكشف الغطاء (١) ـ عدم حجّية قطع القطّاع. ولعلّ المراد منه ما لا يستند قطعه بأمارة تفيده غالبا ، وأمّا إذا استند إلى سبب مفيد له كالإجماع ، فلا ينبغي الارتياب في اعتباره.

ثمّ إنّهم إن أرادوا من عدم اعتبار قطعه عدم ترتّب أحكام القطع على قطعه فيما يعتبر فيه العلم الموضوعي بالنسبة إلى غير القاطع من عدم جواز تقليده وعدم قبول شهادته ، فهو في محلّه ، كما لو أريد ذلك بالنسبة إلى القاطع كذلك كالإفتاء والشهادة ، فلا يجوز له الإفتاء وإن كان يجوز له العمل به لكنّ الكلام على تقديره في انصراف الدليل الدالّ على اعتبار العلم في موضوع الإفتاء والشهادة إلى مثل المقام وعدمه على ما عرفت فيما سبق.

وإن أرادوا أنّ قطعه غير معتبر في حقّه بالنسبة إلى أحكام ما علمه المترتّبة عليه بواسطة عللها الواقعية على أن يكون طريقا إليه ، فسقوطه واضح ؛ لاستلزامه خلاف الفرض في وجه ، واجتماع النقيضين في وجه آخر ، والتكليف بما لا يطاق مرّة ، وتخصيص عمومات الأدلّة من غير مخصّص أخرى ، واللوازم بيّنة البطلان.

وأمّا الملازمة ، فلأنّه لو حصل له القطع بموضوع من الموضوعات (٢) للأحكام الشرعية كأن قطع بأنّ اليوم الفلاني من أيّام شهر رمضان ، فلا يخلو إمّا أن يجب عليه الصوم فيه ، أو لا يجب ، والأوّل هو المطلوب.

وعلى الثاني إمّا أن يكون مكلّفا بخلاف ما قطعه ، أو لا يكون مكلّفا به.

__________________

(١) كشف الغطاء ١ : ٣٠٨ ، وفي ط الحجري : ٦٤.

(٢) « ش » : موضوعات.

٢٧

وعلى الأوّل إمّا أن يقطع بتكليفه بخلاف ما قطعه أوّلا مع بقاء قطعه ، أو يقطع بخلافه مع زوال قطعه ، والرابع هو الأوّل ، والثالث هو الثاني كما هو ظاهر ، والثاني هو الرابع ؛ فإنّ ما دلّ على وجوب الصوم في شهر رمضان بعمومه يشمل القطّاع ولا مخصّص كما في المسافر والمريض ، والأوّل هو الثالث ، إذ شرط التكليف لو لم يكن هو العلم به ، فلا أقلّ من الاحتمال ، والمفروض أنّ بعد العلم لا يتصوّر الاحتمال بخلافه ، فكيف بالعلم بخلافه ، وظهوره ممّا يأبى عن إطالة الكلام ؛ فإنّ عدم الجواز والجواز فرع احتمالهما.

وإن أرادوا وجوب تنبيهه على خلاف قطعه ، ففيه : أوّلا عدم جريانه فيما لو علم بمطابقة قطعه للواقع أو شكّ فيها ؛ إذ لا دليل على وجوبه مضافا إلى وجوده على عدم جوازه فيما لو علم بمطابقته.

وثانيا إن أريد من وجوب التنبيه وجوبه فيما لو علمنا باشتباهه في الحكم الشرعي ـ كأن يقطع بوجوب شيء محرّم أو عكس ذلك ـ فلا ينحصر ذلك في القطّاع ؛ لعموم ما دلّ على وجوب الإرشاد ، فيجري في غير القطّاع أيضا كآية النفر وأمثالها.

وإن أريد وجوب تنبيهه فيما إذا اشتبه في موضوع من موضوعات الأحكام الشرعية كأن اعتقد الخمر خلاّ ، أو مال الغير مالا له ، فإن قلنا بوجوب الأمر بالمعروف فيه ، فلا اختصاص له فيه ، فيجري في غيره أيضا ، وإلاّ فلا يجب مطلقا.

والحقّ فيه أن يقال : إن كان الإقدام في الموضوع المشتبه يوجب فسادا في العرض كما إذا اعتقد الأجنبية زوجته ، فالإقدام في وطئها يوجب فسادا في العرض ، أو في النفس كأن اعتقد غير القاتل قاتلا ، أو فسادا في العقل كأن اعتقد الخمر خلاّ ، يجب على قاطبة الناس إرشاده وردعه إلى خلاف معتقده ؛ أمرا بالمعروف ونهيا عن المنكر ، ففي الأمثلة المذكورة يجب ردعه بخلاف ما إذا حسب مال غيره ملكا لنفسه ، أو اعتقد النجس طاهرا فاستعمله أو نسي صلاته إلى غير ذلك من الأمثلة ، فلا يجب ردعه.

٢٨

تذييل (١) :

قد تمسّك بعض (٢) من يرى عدم حجّية القطع فيما لم يرد فيه (٣) دليل شرعي بقوله تعالى : ( وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً )(٤).

وأورد عليه المحقّق القمّي رحمه‌الله (٥) بأنّ بعد التسليم من دلالة الآية على ما زعمه المستدلّ لا بدّ من تأويله في مقابلة ما دلّ على وجوب اتّباع حكم العقل القطعي ، لعدم مقاومة الدليل الظنّي للدليل القطعي.

فاعترضه بعض الأجلّة حيث قال :

وهذا الجواب على إطلاقه غير مستقيم عندي ؛ لأنّ استلزام الحكم العقلي للحكم الشرعي ـ واقعيا كان أو ظاهريا ـ مشروط في نظر العقل بعدم ثبوت منع شرعي عنده من جواز تعويله عليه.

قال : ولهذا يصحّ عقلا أن يقول المولى الحكيم لعبده : لا تعوّل في معرفة أوامري وتكاليفي على ما تقطع به من قبل عقلك ، أو يؤدّي إليه حدسك بل اقتصر في ذلك على ما يصل منّي إليك بطريق المشافهة أو المراسلة أو نحو ذلك.

ثمّ أفاد طاب ثراه : ومن هذا الباب ما أفتى به بعض المحقّقين من أنّ القطّاع ـ الذي يكثر قطعه بالأمارات التي لا توجب (٦) القطع عادة ـ يرجع إلى المتعارف ولا يعوّل على قطعه الخارج عنه.

قال : فإنّ هذا إنّما يصحّ إذا علم القطّاع ، أو احتمل أن يكون حجّية (٧) قطعه مشروطة (٨) بعدم كونه قطّاعا ، فيرجع إلى ما ذكرنا من اشتراط حجّية القطع بعدم المنع ،

__________________

(١) « ل » : « الأمر الرابع » بدل : « تذييل ».

(٢) هو الفاضل التوني في الوافية : ١٧٢.

(٣) « ل » : ـ فيه.

(٤) الإسراء : ١٥.

(٥) القوانين ٢ : ٦.

(٦) « ش » والمصدر : لا يوجب.

(٧) « ل » والمصدر : حجّيته؟

(٨) المصدر : مشروطا.

٢٩

لكنّ العقل قد يستقلّ في بعض الموارد بعدم ورود منع شرعي ؛ لمنافاته لحكمة فعلية قطعية ، وقد لا يستقلّ بذلك لكن حينئذ يستقلّ بحجّية القطع في الظاهر ما لم يثبت المنع ، والاحتجاج بالآية على تقدير دلالتها إنّما يقتضي منع حجّية القسم الثاني ، والجواب المذكور إنّما يقتضي منع دلالتها على القسم الأوّل (١). انتهى كلامه.

وأنت ـ بعد ما أحطت خبرا بما قدّمنا لك ـ تطّلع على أنّه لا مساس للاعتراض المذكور على الإيراد المزبور حيث إنّه يمتنع (٢) تكليف العالم على خلاف ما علمه حين ما علمه إلاّ أن يزول علمه هذا خلف. نعم ، ما ذكره ـ من اشتراط حجّية القطع بعدم ورود حكم الشرع على خلافه ـ قد يتصوّر قبل حصول العلم ، وأمّا بعد حصوله ، فلا يعقل فتدبّر ، ولا تغفل.

__________________

(١) الفصول : ٣٤٣.

(٢) « ل » : لا يمتنع.

٣٠

الأمر الرابع (١) :

قد عرفت فيما سبق أحكام العلم التفصيلي تفصيلا ، فلا بأس بالإشارة إلى الأحكام الثابتة للعلم الإجمالي إجمالا.

فنقول : إنّ العلم عبارة عن حالة بين العالم والمعلوم ، بها ينكشف المعلوم عنده ، فلا ريب في كونها أمرا بسيطا غير قابل للإجمال والتفصيل ، ففي توصيفه بهما تسامح من جهة اتّصاف متعلّقه بهما.

نعم ، قد يقال بأنّ العلم لو كان من العلوم التصوّرية ، وقلنا بأنّ (٢) العلم هو الصورة الحاصلة ، فيصحّ اتّصاف نفس العلم بالوصفين المذكورين إلاّ أنّه خارج عمّا نحن بصدده ؛ فإنّ العلم المبحوث عنه في المقام هو العلم التصديقي لا التصوّري كما لا يخفى.

وكيف (٣) كان ، فالبحث فيه تارة يقع من حيث ثبوت التكليف به بمعنى أنّه بعد حصول العلم إجمالا بوجوب شيء ، فهل يتنجّز التكليف به مثل ما إذا علمه تفصيلا ، أو لا ، كما إذا علمنا بوجوب صلاة مردّدة بين الظهر والجمعة ، وأخرى يقع من حيث كفايته في الامتثال بمعنى أنّه كما يمتثل مع الإتيان بالمأمور به مثلا تفصيلا ، فهل يكفي في الامتثال إتيان المكلّف بعدّة أمور يعلم إجمالا وقوع المأمور به فيها أو لا ، كما إذا اشتبهت جهة القبلة ، فيأتي بأربع صلوات في أربع جهات ، أو لا بدّ من تعيين جهة القبلة تفصيلا؟ فهاهنا مقامان :

أمّا الكلام في المقام الأوّل ، فيقع في موردين : الأوّل في جواز المخالفة القطعية وعدمه ، الثاني في أنّه على تقدير عدم جواز المخالفة القطعية ، فهل الواجب تحصيل الموافقة القطعية ، أو يكفي فيه الفرار من المخالفة القطعية؟ والمتكفّل لبيان هذا المورد هو

__________________

(١) « ل » : ـ الأمر الرابع.

(٢) « ل » : إنّ.

(٣) « ل » : فكيف.

٣١

الأدلّة القطعية ، فليطلب منها ، وأمّا الكلام في المورد الأوّل ، فسيجيء إن شاء الله.

فلنشرع لبيان المقام الثاني لقلّة أبحاثه ، فنقول : إذا دلّنا دليل شرعي على وجوب شيء خاصّ ، فلا يخلو إمّا أن نتمكّن من الامتثال تفصيلا كأن نعلمه بالخصوص ، أو لا نتمكّن منه ، فعلى الثاني فلا ريب في كفاية الامتثال الإجمالي بل لا كلام لأحد فيه عدا ما يظهر من الحلّي ، فإنّه قال في المحكي عنه : من (١) وجد ثوبين يقطع بنجاسة أحدهما دون الآخر عليه الصلاة عاريا ، ولا يجوز تكرار الصلاة فيهما (٢). وهو ضعيف جدّا لا ينبغي الالتفات إليه.

وعلى الأوّل فالتحقيق في المقام التفصيل بين العبادات وغيرها ، فعلى الأوّل يحكم ببطلان العبادة كأن يأتي بالصلاة في أربع جهات مع إمكان تحصيل العلم بالقبلة تفصيلا ، أو مع حصول العلم تفصيلا ، وفي الثاني يحكم بصحّة المعاملة كأن يأتي بالبيع مشتملا على جميع ما يحتمل اشتراطه فيه.

أمّا الثاني ، فلأنّ المقصود فيه حصول ما هو في نفس الأمر معتبر في تأثيره وهو حاصل ولو مع عدم علمه به ، فيقع مؤثّرا في محلّه. ودعوى اشتراط صحّة العمل ـ ولو كان معاملة أيضا بالاجتهاد والتقليد ـ واهية جدّا ، ولا فرق في ذلك بين علمه بالوجه الصحيح إجمالا لكن مع اشتباهه بعده وجهله به رأسا ، فإنّه لو طابق الواقع ، يؤثّر أثره المطلوب منه على أيّ وجه اتّفق ، ولا مدخل للعلم والجهل فيه بل قد نفى الخلاف عن ذلك بعضهم إلاّ عن بعض متأخّري المتأخّرين (٣) القائلين باشتراط صحّة العمل بالاجتهاد و (٤) التقليد.

ولا فرق في ذلك أيضا بين أن يقع العمل مكرّرا كما إذا تكرّر الصيغة المعتبرة في العقود فيما إذا كان مختلفا فيها وبين أن يقع العمل واحدا جامعا لجميع ما يحتمل تأثيره

__________________

(١) « ش » : إنّ من.

(٢) السرائر ١ : ١٨٤ ـ ١٨٥ ، نقله بالمعنى.

(٣) انظر بحث البراءة : ص ٥٩٢ ـ ٥٩٣.

(٤) « ل » : أو.

٣٢

فيه وجودا وعدما كما هو ظاهر.

وأمّا الأوّل فتفصيل الكلام فيه أن يقال : إنّ العبادة ـ التي يراد الامتثال بها على وجه إجمالي ـ تقع على وجهين ، فتارة على وجه يتكرّر العمل كأن يصلّي إلى أربع جهات مع التمكّن به من استعلام حال القبلة الواقعية ، وأخرى على وجه لا يتكرّر بل العمل مع وحدته يشتمل على جميع ما يحتمل اعتباره فيه كالصوم فيما إذا أمسك المكلّف عن جميع ما يحتمل كونها مفطرا ، ضرورة عدم خروج العمل عن وحدته حينئذ ، فعلى الأوّل لا شكّ في بطلان العمل كما هو المأخوذ من طريقة الشرع وسيرة العلماء ، وقد نفى الخلاف عنه المحدّث البحراني ؛ فإنّه بعد ما حكى عن العلاّمة (١) عدم جواز الصلاة في الثياب المشتبه طاهرها بنجسها على وجه التكرار مع التمكّن من الصلاة في الثوب الطاهر يقينا قال : هذا وإن كان حسنا إلاّ أنّ وجهه لا يبلغ حدّ الوجوب (٢).

وعلى الثاني فالمشهور ـ على ما حكي أيضا ـ على عدم جوازه مع التمكّن من تحصيل العلم التفصيلي باستعمال ما يوجبه من غير لزوم عسر على تقديره إلاّ أنّ الدليل لا يساعد عليه بل قضية صدق الإطاعة في الصورة المفروضة عرفا من دون تزلزل في النيّة جواز الامتثال الإجمالي حينئذ.

لا يقال : نيّة الوجه وقصده ـ على ما ذهب إليه المعظم ـ واجب فلا يصدق الإطاعة بدونها.

لأنّا نقول : مع الغضّ عن وجوبه ، فلا ريب في كفايتهما ولو على وجه إجمالي ، فإنّ المفروض قطع العامل باشتمال عمله على جميع أجزائه وشرائطه ، فينوي على هذا

__________________

(١) منتهى المطلب ٣ : ٣٠١ ، وفي ط الحجري ١ : ١٨٢ ؛ نهاية الاحكام ١ : ٢٨٢.

(٢) الحدائق ٥ : ٤٠٧ قاله صاحب المدارك ٢ : ٣٥٨ واستجوده صاحب الحدائق كما سيأتي أيضا في بحث البراءة : ٥٧٩.

٣٣

الوجه ، وبعد صدق الإطاعة التي عليها المدار لا ضير في عدم النيّة تفصيلا كما لا يخفى.

ودعوى وجوب العلم بوجه وجوب العمل ومعرفة الواجب والمندوب عهدتها على مدّعيها ؛ فإنّه إن كان من جهة عدم صدق الإطاعة بدونه ، فقد عرفت صدقها بدونه ، وإن كان من جهة وجوب نيّة الوجه ، فقد عرفت آنفا ما فيه.

فإن قيل : قد ادّعى السيّد رضي الدين (١) ـ فيما سأل عن أخيه علم الهدى من إتمام الجاهل بالحكم في السفر ـ الإجماع على بطلان صلاة من لم يعرف (٢) أحكامها ، فأجاب السيّد علم الهدى ـ مع تسليمه الإجماع على المسألة الكلّية ـ بأنّه أيّ مانع من الحكم بالصحّة في خصوص المورد من جهة دليل خاصّ؟ فالإجماع على ما ادّعاه السيّد ، وقرّره علم الهدى (٣) منعقد على بطلان العمل فيما لم يعرف وجه العمل.

قلنا : يحتمل دعوى الإجماع من السيّد على بطلان عمل الجاهل من غير استناده فيه إلى تقليد أو اجتهاد كما هو الحال في أكثر عوامّ العباد (٤) ، وهو كذلك لكن لا ربط له بالمقام ، فإنّا ندّعي كفاية الامتثال الإجمالي ؛ لانتهائه إلى الاجتهاد أو التقليد.

ومن هنا يظهر ضعف ما قد (٥) يمكن الاستناد إليه في المقام ممّا اشتهر بينهم (٦) « الناس صنفان : مجتهد ومقلّد » ولكن مع ذلك ينبغي مراعاة جانب الاحتياط ، فإنّه طريق

__________________

(١) حكاه في الذكرى ٤ : ٣٢٥ ـ ٣٢٦ ، وفي ط الحجري : ٢٦١ ؛ وروض الجنان ٢ : ١٠٥٨ وفي ط الحجري : ٣٩٨ ؛ وعن الذكرى في مدارك الأحكام ٤ : ٤٧٢ ـ ٤٧٣ ؛ وذخيرة المعاد : ٤١٤ ؛ والحدائق ١١ : ٤٢٩ ؛ انظر رسائل الشريف المرتضى ٢ : ٣٨٣ ـ ٣٨٤. وسيأتي عنه أيضا في ص ٥٧٩.

(٢) « ش » : لا يعرف.

(٣) « ش » : ـ علم الهدى.

(٤) « ل » : أكثر العوامّ.

(٥) « ل » : ـ قد.

(٦) ذهب إليه الشهيد الأوّل في الألفية والنفلية : ٣٩ ؛ والشهيد الثاني في روض الجنان ٢ : ٦٦٣ ، وفي ط الحجري : ٢٤٨ ؛ والقمّي في القوانين ٢ : ١٤٠ ونسبه إلى المشهور من فقهائنا ، ونسب إلى المشهور أيضا النراقي في المناهج : ٣١٧ ؛ وشريف العلماء كما في تقريراته للفاضل الأردكاني ( مخطوط ) : ٣٥. انظر أيضا بحث البراءة : ٥٧٧.

٣٤

النجاة وتحصيل العلم التفصيلي كما رآه المشهور فيما يمكن تحصيله.

فإن قلت : لا معنى للاحتياط في المقام ؛ فإنّه يصحّ فيما لم يكن الشكّ في وجوده كافيا في الحكم بعدم وجوده كأن (١) يكون هنا إطلاق يرجع إليه ومثل ذلك ، وأمّا في المقام ، فلا يصحّ ؛ لأنّ الإطاعة والامتثال من المفاهيم المنتزعة من وقوع فعل المأمور به على وجهه ، فمع انتزاع العقل لها لا معنى للحكم بالاحتياط فيها ، ومع عدم الانتزاع لا شكّ في عدم وقوع الفعل على وجهه ، ولا مناص عن العمل به ، فلا احتياط ، وكذا ما يتعلّق بكيفية الإطاعة والامتثال من كونها تفصيليا أو إجماليا وذلك ظاهر لا سترة عليه.

قلت : نعم ، ولكنّ الشارع في أوامره قد يعتبر حصول الإطاعة والامتثال على وجه خاصّ ، فيشكّ في حصوله مع حصول الامتثال على وجه يعمّه ، فالاحتياط يقضي بتحصيل الإطاعة على ذلك الوجه ؛ لاحتمال أن يكون الداعي في الأمر حصولها على وجه خاصّ.

وتوضيحه : أنّ الشارع تارة يأمر أمرا توصّليا غير مقيّد بحصول الإطاعة والامتثال ، وأخرى يأمر أمرا تعبّديا مقيّدا بحصول الإطاعة ، فلا بدّ من تحصيلها ، فمرّة على وجه خاصّ كأن يعتبر الامتثال التفصيلي مثلا ، وأخرى على وجه يعمّ الإجمالي أيضا ، فيمكن حصول الإطاعة العامّة بانتزاعها العقل مع الشكّ في وجود الإطاعة الخاصّة مع احتمال مطلوبيّتها على هذا الوجه ، فيحسن في العقل الاحتياط وتحصيل العلم بالمأمور به الواقعي بتحصيل الامتثال التفصيلي ، فلا إشكال ، هذا كلّه فيما إذا دار الأمر بين الامتثال الاجمالي والتفصيلي العلمي.

وأمّا فيما لو دار الأمر بين الامتثال الإجمالي والتفصيلي الظنّي بالظنّ الخاصّ كالتقليد ـ على ما رآه الجماعة من كونه من الظنون الخاصّة ـ فالكلام بعينه هو الكلام تقسيما وحكما على إشكال.

__________________

(١) في هامش « ش » : مثال للنفي لا المنفي.

٣٥

أمّا فيما لو دار الأمر بين الامتثال الإجمالي والتفصيلي المظنون بالظنون المطلقة ، فلا ريب في تقدّم الامتثال الإجمالي ؛ لأنّ القول باعتبار الامتثال الظنّي موقوف على بطلان الامتثال الإجمالي والاحتياط على ما سيجيء إن شاء الله ، وذلك بخلاف الظنون الخاصّة ؛ فإنّها بمنزلة العلم.

وأمّا الظنون المطلقة ، فبعد لم يثبت حجّيتها في قبال الامتثال الإجمالي والمفروض عدم التمكّن من الامتثال العلمي التفصيلي ؛ لانسداد باب العلم ، فلا مناص من الامتثال الإجمالي كما تقدّم عدم الخلاف فيه إلاّ المنقول عن ابن إدريس (١).

وتوضيحه : أنّ كفاية الظنّ في الامتثال ـ على ما هو مفاد دليل الانسداد ـ موقوفة (٢) على بطلان الاحتياط ، أو كونه مستلزما للحرج الشديد ، فما لم يثبت بطلان الاحتياط والامتثال الإجمالي لا يثبت كفاية الامتثال الظنّي ؛ فإنّ العقل رجّحه على العمل بالظنّ ما لم يستلزم محذورا ؛ لأنّ المدار عند العقل على حصول الواقع والوصول إليه ، ولا شكّ أنّ الاحتياط هو الأقرب من غيره.

ثمّ إنّه لو دار الأمر بين الامتثال الإجمالي ومثله لكن كان أحد الإجمالين أقلّ إجمالا وأقرب إلى التفصيل من الآخر ، يقدّم ما هو الأقرب إلى التفصيل وجوبا أو احتياطا على حسب اختلاف المذاهب كما عرفت من صاحب المدارك والعلاّمة.

ومن فروعه ما (٣) لو دار الأمر بين الصلاة في أوّل الفجر في أربع جهات وبين تأخير الصلاة إلى انتشار ضوء النهار ليعلم أنّ القبلة ليست إلاّ في جهات ثلاثة مثلا فيقلّ تكرار الصلاة ، ونظائره كثيرة.

__________________

(١) تقدّم في ص ٣٢.

(٢) في النسختين : موقوف.

(٣) « ل » : ـ ما.

٣٦

تتمّة

لو كان عند المكلّف تكليفان يتمكّن من الامتثال في أحدهما تفصيلا ولا يتمكّن منه في الآخر ، ولكنّه يقلّ إجماله فيما لو ترك الامتثال تفصيلا في الأوّل ، فهل له تركه (١) تقليلا لإجمال الآخر ، أو لا؟ وجهان : أقواهما العدم ؛ فإنّ ترك التفصيل في الأوّل لتحصيل قلّة الإجمال في الثاني يوجب ترجيح المرجوح على الراجح ، وظهور قبحه يكفي عن إظهاره.

ومن هنا يظهر وجاهة ما ذهب إليه العلاّمة في النهاية من أوّل احتماليه ؛ فإنّه أورد فيه كلاما على ما حكي عنه حاصله : أنّه لو نذر شخص لكلّ صلاة من صلاته اليومية تيمّما ، فاتّفق نسيان صلاتين من يوم واحد له ، فللخروج عن عهدتهما طريقان :

أحدهما : أن يتيمّم أوّلا ويأتي بأربع صلوات مردّدة بين الفجر والظهرين والمغرب ، ثمّ يتيمّم ثانيا ويأتي أيضا (٢) بأربع صلوات مردّدة بين الظهرين والعشاءين فيمتثل التكليف بالتيمّم تفصيلا ، والتكليف بالصلاة في كلّ واحدة منهما مجملة مردّدة بين الأربع ، فالمجموع الحاصل منه تيمّمان وصلاة ثمانية ، فتلك عشرة كاملة.

وثانيهما : أن يتيمّم لكلّ صلاة من الصلوات الخمس (٣) ، فيقطع بخروج ذمّته عن الصلاتين الفائتتين والتيمّمين في ضمن تيمّمات خمسة وصلوات خمس (٤) ، ولا شكّ في (٥) أنّ الأوّل أولى ؛ لأنّ ترك التفصيل في الأوّل إلى قلّة الإجمال في الثاني يوجب ترجيح المرجوح على الراجح ، وقس عليه صورا أخر لذلك ، فلا حاجة في التعرّض لها بعد العلم بالقاعدة.

__________________

(١) « ش » : تركه إليه.

(٢) « ل » : ـ أيضا.

(٣) « ش » : الخمسة.

(٤) « ش » : خمسة.

(٥) « ل » : ـ في.

٣٧

أمّا الكلام في المورد الأوّل من المقام الأوّل الباحث فيه عن جواز المخالفة القطعية وعدمها بعد العلم الإجمالي ، فاعلم أنّ الإجمال إمّا في نفس التكليف ـ كدوران الأمر بين الواجب والحرام أو المستحبّ أو المكروه ، وكلّ واحد منها مع الآخر وغيرها من صور الدوران ـ أو في موضوع التكليف بعد العلم به كالواجب المردّد بين الظهر والجمعة ، أو فيهما معا.

ثمّ العلم الإجمالي تارة يتعلّق بالحكم الشرعي الكلّي كالأمثلة المتقدّمة ، وأخرى يتعلّق بموضوعاته (١) الخارجية كما في الشبهة المحصورة واشتباه جهة القبلة أو اشتباه المرأة المنذور وطؤها بالأجنبية إلى غير ذلك ، أو في نفس المكلّف ، فتارة من جهة دوران موضوع ـ كالجنابة ـ بينه وبين غيره ، وأخرى من جهة دورانه بين موضوعين كالخنثى المردّد بين موضوعي الذكورة والأنوثة. وقبل الخوض في بيان أحكامها ، فلنذكر أمرين :

أحدهما : أنّ الكلام في المقام وجودا وعدما إنّما هو من جهة أنّ العلم الإجمالي هل هو طريق إجمالي إلى الواقع ، أو لا؟ كما أنّ العلم التفصيلي طريق تفصيلي (٢) إليه ، فكما أنّ الأحكام الثابتة بواسطة عللها الواقعية تترتّب على متعلّقاتها عند العلم التفصيلي ، فهل تترتّب تلك الأحكام على موضوعاتها عند العلم الإجمالي ، أو لا؟ وأمّا من جهة الموضوعية ، فلا يتعلّق غرض بالبحث عنه ، لعدم دخولها تحت ضابطة وقاعدة.

وثانيهما : أنّه لا ريب في أنّه إذا تولّد من (٣) العلم الإجمالي في واقعة علم تفصيلي في واقعة أخرى فهو ممّا لا مناص عن العمل به في محلّه ، فكأنّه هو خارج عمّا نحن فيه ؛ لما تقدّم من أنّه معتبر بنفسه لا يحتاج إلى جعل ، والذاتي لا يتخلّف ولا يختلف ، فلو لاقى ثوبه لكلّ من الإناءين فيما إذا علم بنجاسة أحدهما إجمالا ، يجب الاجتناب عنه ،

__________________

(١) « ل » : بموضوعات.

(٢) « ل » : ـ طريق تفصيلي.

(٣) « ل » : عن.

٣٨

وكذا لا يجوز الاقتداء في الصلاة لمن وجد في ثوب مشترك بينه وبين غيره المنيّ (١) ؛ للعلم التفصيلي بنجاسة ثوبه في الأوّل ، وبطلان صلاته في الثاني ، فإنّه لو كان منه ، فهو ظاهر ، وكذا لو كان من الإمام ؛ لإناطة صحّة صلاته بصحّة صلاة الإمام.

لكن قد يظهر من بعضهم (٢) صحّة الصلاة في الفرض بل قد يلوح منهم في موارد أخر عدم الأخذ بالعلم التفصيلي الحاصل من العلم الإجمالي.

فمنها : ما قد يستفاد من جملة منهم (٣) عدم لزوم الاجتناب في الشبهة المحصورة ولو لم يضع قدر المحرّم من المشتبهات.

ومنها : ما عن العلاّمة في التهذيب (٤) من جواز خرق الإجماع المركّب ، وترك القولين إلى الرجوع إلى أحد (٥) الأصول ، وعن الشيخ (٦) من (٧) القول بالتخيير الواقعي ، ولا ريب أنّها مخالفة للعلم التفصيلي من حيث الوقوع في المحرّم قطعا تفصيلا في الأوّل ، وطرح

__________________

(١) « ش » : المني به.

(٢) التذكرة ١ : ٢٢٤ ، وفي ط الحجري ١ : ٢٣ ؛ منتهى المطلب ٢ : ١٧٩ ، وفي ط الحجري ١ : ٨١ ؛ قواعد الأحكام ١ : ٢٠٨ ؛ نهاية الإحكام ١ : ١٠١ ؛ تحرير الأحكام ١ : ٩٠ ، وفي ط الحجري ١ : ١٢ ؛ مدارك الأحكام ١ : ٢٧٠ ؛ ذخيرة المعاد : ٥٢ ؛ مشارق الشموس : ١٦٣ ؛ الحدائق ٣ : ٢٦ ـ ٢٨. انظر مفتاح الكرامة ٣ : ٢٨.

(٣) مدارك الأحكام ١ : ١٠٨ و ٢ : ٢٥٢ ؛ المفاتيح للفيض الكاشاني كما عنه في الحدائق ١ : ١٤٨ ؛ الأربعين حديثا للمجلسي : ٥٨٢.

قال في الحدائق ١ : ٥٠٢ بعد نقل كلام صاحب المدارك : وقد تقدّمه في هذا الكلام شيخه المولى الأردبيلي وقد جرى على هذا المنوال جملة ممّن تأخّر عنه من علمائنا الأبدال.

وقال أيضا في الحدائق ٥ : ٢٧٦ ـ ٢٧٧ : الأوّل بالنسبة إلى المحصور ؛ فإنّ الحكم فيه ما ذكرناه كما عليه كافّة الأصحاب إلى أن انتهت النوبة إلى السيّد السند السيّد محمّد والشيخ حسن وقبلهما شيخهما المحقّق الأردبيلي فنازعوا في الحكم المذكور ، وتبعهم جمع ممّن تأخّر عنهم.

(٤) التهذيب : ٢٠٥ ، والأمر عكس ذلك ظاهرا فلاحظ.

(٥) « ل » : ـ أحد.

(٦) العدّة ٢ : ٦٣٧.

(٧) « ل » : عن.

٣٩

قول الإمام في الثانيين.

ومنها : ما ذكره غير واحد (١) في كتاب الصلح من أنّه لو أودع شخصان عند أمين ثلاثة دراهم أحدهما لأحدهما والباقي للآخر ، فاشتبهت الدراهم ، فتلف درهم منها ، ثمّ ادّعى أحدهما والآخر كلاّ منهما ، كان لصاحب الدرهمين درهم ونصف ، وللآخر نصف درهم ، فإنّ قضية ذلك على ما قلنا عدم جواز التصرّف في النصفين لغيرهما فيما لو اجتمعا عنده ؛ للعلم التفصيلي بأنّ أحد النصفين لأحدهما ، وأنّه تصرّف في ملك الغير.

ونظيره ما ذكروه (٢) في كتاب القضاء من أنّه لو تداعيا عينا في يدهما ولا بيّنة ، قضي بها بينهما نصفين إمّا مع الحلف ، أو بدونه على الخلاف المزبور في محلّه ، ومقتضاه جواز تصرّف غيرهما فيما لو اجتمع النصفان عنده على حدّ تصرّفه في ملكه مع العلم تفصيلا بتصرّفه في ملك الغير من غير رضاه.

ومنها : ما ذكروه أيضا من أنّه لو اختلف البائع والمشتري في أنّ المبيع ثوب أو عبد ، أو في الثمن كذلك أنّهما يتحالفان ، ورجع الثمن إلى المشتري ، والمبيع إلى البائع مع أنّ أحدهما عالم بأنّه متصرّف في مال الغير بدون إذنه.

والجواب عن ذلك كلّه (٣) أمّا إجمالا ، فبما عرفت مرارا من أنّ العقل يستقلّ في أنّ العلم التفصيلي من أيّ سبب حصل ينهض طريقا إلى الواقع ، ويستقيم دليلا عليه

__________________

(١) المقنع : ٣٩٨ ؛ العويص للمفيد : ٤٨ ـ ٤٩ ؛ النهاية : ٣١٤ ؛ السرائر ٢ : ٦٩ ؛ الجامع للشرائع : ٣٠٦ ؛ تذكرة الفقهاء ٢ : ١٩٥ ط الحجري ؛ تحرير الأحكام ٣ : ١٤ ـ ١٥ ، وفي ط الحجري ١ : ٢٣١ وفيه ناقش في الحكم ؛ الدروس ٣ : ٣٣٣ ؛ جامع المقاصد ٥ : ٤٣٦ ؛ مجمع الفائدة ٩ : ٣٤٤ ؛ كفاية الأحكام : ١١٧ ؛ الحدائق ٢١ : ١٠٢ ؛ الرياض ٩ : ٤٧ ، وفي ط الحجري ١ : ٦٠١ ـ ٦٠٢ ؛ مستند الشيعة ١٧ : ٣٤٩ ؛ جواهر الأحكام ٢٦ : ٢٢٦ ؛ كتاب الخمس للشيخ الأنصاري : ٢٤٥ ـ ٢٤٦.

(٢) قواعد الأحكام ٣ : ٤٦٨ ؛ ارشاد الأذهان ٢ : ١٤٩ ؛ تحرير الأحكام ٢ : ١٩٤ ط الحجري ؛ ايضاح الفوائد ٤ : ٣٧٩ ؛ الدروس ٢ : ١٠٠ ؛ مسالك الأفهام ١٤ : ٧٨ ؛ مجمع الفائدة ١٢ : ٢٢٥ ؛ كشف اللثام ٢ : ٣٥٣ ط الحجري.

(٣) « ل » : ـ كلّه.

٤٠