ثمّ إنّ شيخنا الأعظم رحمهالله قد فرّق بين الاصول الشرعيّة كالاستصحاب وبين الاصول العقليّة ، فقال بورود الاصول الشرعيّة على القرعة خلافاً للُاصول العقليّة كالبراءة العقليّة فإنّ القرعة واردة عليها لأنّ موضوعها « لا بيان » والقرعة بيان.
وبما ذكرنا ظهر ضعف هذا الكلام لأنّ موضوع القرعة ـ كما قلنا ـ هو المجهول المطلق ، وهو ليس حاصلاً حتّى في موارد البراءة والاحتياط العقليين ، ولذلك لا يتمسّك حتّى الشيخ رحمهالله نفسه بذيل القرعة في أطراف العلم الإجمالي ، مع أنّ وجوب الاحتياط فيها من الاصول العقليّة.
وتمام الكلام في مسألة القرعة وتحقيق مثل هذه المباحث يحتاج إلى رسم امور ( وإن كان استيفاء البحث فيها موكولاً إلى محلّ آخر ) (١).
وقد يدلّ عليها الأدلّة الأربعة من الكتاب والسنّة والإجماع وبناء العقلاء ( لا دليل العقل ) :
أمّا الكتاب : فهو آيتان إحديهما : قوله تعالى في قصّة زكريا وولادة مريم : ( وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلَامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ ) (٢) فإنّه بعد ما وقع التشاّح بين الأحبار لتعيين من يكفل مريم حتى بلغ حدّ الخصومة ولم يجدوا طريقاً لرفعه إلاّ القرعة تقارعوا بينهم ، فوقعت القرعة على زكريّا.
ثانيهما : قوله تعالى : ( وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنْ الْمُرْسَلِينَ إِذْ أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنْ الْمُدْحَضِينَ ) (٣) وقصّة يونس ( إباقه من قومه ثمّ وروده في سفينة ووقوع القرعة عليه ثلاث مرّات ) معروفة.
إن قلت : إنّ الآيتين وردتا في الشرائع السابقة ، وقد مرّ أنّ الأقوى عدم حجّية استصحابها للشريعة اللاحقة.
قلنا : إنّ تمسّكنا بهما في المقام ليس مبنيّاً على حجّية استصحاب الشرائع السابقة ، بل مبنى
__________________
(١) راجع كتابنا القواعد الفقهيّة : المجلّد الأوّل من الطبعة الثانية ، القاعدة السادسة.
(٢) سورة آل عمران : الآية ٤٠.
(٣) سورة الصافات : الآية ١٣٩ ـ ١٤١.