الفوائد الأصوليّة

الشيخ مرتضى الأنصاري

الفوائد الأصوليّة

المؤلف:

الشيخ مرتضى الأنصاري


المحقق: حسن المراغي « غفارپور »
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: شمس تبريزي
المطبعة: ايران يكتا
الطبعة: ١
ISBN: 969-94215-0-5
الصفحات: ٧٧٠

فى رفع الحكم بالحرج امتنان على العباد.

ومنها : ان المكلف به قد يكون قبيحا ولا يحسن الحكم الّا بايجابه للخوف عن تحريمه وهذا جار فى جميع الاحكام الصادرة تقية.

ومنها : انا نقطع بانه لا فرق فى تقبيح العقل بين القبيح الصادر من الشخص البالغ خمسة عشر سنة وبين الصادر عمن هو دونه بيوم او يومين مع ان الشارع كلف الاول ولم يكلف الثانى ، فيظهر من ذلك ان المصحح للتكليف هو الحسن فيه لا صفة المكلف به من الحسن او القبح والجواب امّا عن الاول فبمنع كون الفعل بوصف كونه عسرا مما يحكم بحسنه العقل بحيث لا يرضى بتركه وان لزم من ذلك الحرج على الفاعل ـ وتوهم انه لا وجه حينئذ للامتنان برفع التكليف بل هو نظير ترك التكليف لسائر الافعال الخالية عن الحسن ، مدفوع :

أوّلا ـ بورود مثله على مذهب هذا المنكر من كون التكليف تابعا لحسنه لا بحسن المكلف به ، فانا نقول ان الزام هذا الفعل العسر ان لم يكن فيه حسن ولا من جهة معارضة حسن فعل آخر كالتسهيل على العباد مع وصف كونه عسرا فلا وجه للامتنان برفعه بل هو كترك سائر الالزامات الخالية عن الحسن ، وان كان فيه حسن مع وصف كون المكلف به عسرا فلا وجه لترك الحسن من غير داع ولا امتنان فيه بل الامتنان بخلافه.

وثانيا ـ بالحلّ وهو انه يكفى فى الامتنان مراعات صفة العسر فى الفعل وكون الفعل معه غير بالغ حد الالزام او حد الرجحان اذا كان بالغا حد الالزام مع قطع النظر عن ملاحظة صفة العسر كما انه يكفى فيه على القول بتبعية التكليف لحسنه لا لحسن المكلف به مراعات جانب التسهيل على المكلف ،

٦٠١

فلا يقدح على القولين كون ترك المراعات قبيحا.

ألا ترى ان الله سبحانه منّ على نبيه ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ برفع بعض الامور الشاقة التى فيها الحرج مع ان ايجابها كان مخالفا للطف الواجب ، فمناط الامتنان فى الشرع ـ بل فى التكاليف العرفية ـ هو كون الفعل حسنا ذا مصلحة لا يرضى المولى بتركه ، مع قطع النظر عن كونه عسرا فانتفاء ذلك لصفة العسر لا يوجب عدم تحقق الامتنان.

وامّا عن الثانى باحد وجهين :

احدهما ـ ان التكاليف الصادرة تقية انّما صدرت على نحو التورية ، بان يكون قد اريد منها بعض التأويلات البعيدة مثل ان يراد بقوله : اغسل رجليك فى الوضوء معنى لا ينافى المسح ، او يكون الحكم فى نظره مقيدا بصورة التقية عند العمل او نحو ذلك فى المثال او فى غيره.

فيكون قد لبس الحكم على المخاطبين وطلب ما هو مطلوب فى نفس الامر وان وقع المخاطب فى خلاف الواقع بل ربما ظهر ذلك من بعض كلمات بعض الائمة ـ صلوات الله عليهم ـ فى مواضع عديدة على ما هو ببالى ، وبالجملة ففى الاخبار شبه ما فى الكتاب المنزل من الظواهر والبطون فليس فيها تكليف مخالف لمقتضى صفة المكلف به.

والثانى ـ ان التكليف الصادر على وجه التقية انما هو تكليف صورى وهو فى الإنشاءات نظير الكذب فى الاخبار فهو خارج عن محل الكلام ، فان الكلام فى الطلب الواقعى ، والّا فاى عاقل ينكر جواز ان يقول المولى الحكيم لاجل التقية مكان قوله : افعل الفعل الفلانى ، لا تفعله مع فرض كون الفعل الفلانى فى غاية الحسن ونهاية المصلحة عند المولى.

٦٠٢

وان شئت فقل ان الكلام فى الاحكام المنزلة من الله ـ عزّ اسمه ـ على نبيّه ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ وامّا الإنشاءات الصادرة عن الائمة ـ عليهم‌السلام ـ الذين هم المختصون بالتقية بيان للتكليف لا تكليف حقيقى الّا على سبيل الحكاية والتبليغ.

وامّا عن الثالث ـ فبانا لم نلتزم وجوب الحكم من الشارع على طبق العقل بل قلنا انه لو حكم فانما يحكم على طبقه.

ونظير ذلك ان العقل قد ينافره بعض افعال البهائم والاطفال الغير المميزة مع انه لا حكم فيها لا عقلا ولا شرعا ، فكما ان المنافرة الفعلية ليست علة تامة للحكم العقلى فكذلك الحكم العقلى ليس علة تامّة للشرعى فتأمل.

ويمكن ايضا التزام كون الظلم حراما شرعيا بمعنى كونه مبغوضا لله وتركه محبوبا عنده على الصّبى المميز المدرك لقبح الظلم كما هو غاية الامر انتفاء العقاب لحديث «رفع القلم وانه لا يكتب عليه السيئات» (١) بل نفس هذه العبارة الواردة فى الاخبار اعنى «لا يكتب عليه السيئات» يدل على كون السيئة سيّئة فى حقّه وانّما رفع عنه المؤاخذة عليها بل كتابة الحسنات له كما فى بعض الاخبار النافية لكتابة السيئات عليه تدل على ذلك فانها تشمل ما لو ترك الصبى المميز القبيح لقبحه او لكونه مبغوضا لله تعالى فان الظاهر من بعض الاخبار ان الله تعالى يثيبه على ذلك ولا شك ان الثواب كاشف عن ثبوت الحكم الشرعى لكن نفى العقاب لا يكشف عن انتفائه فتأمل.

__________________

(١) ـ رواه الفريقان : جامع احاديث الشيعة : ج ١ ص ٤٢٠ وبعدها جامع الاصول لابن اثير : ج ٤ صص ٣٤٩ ـ ٢٧٢ ـ ٢٧١.

٦٠٣

[المقام الاوّل : كون العقل حجة برأسه]

وامّا المقام الاوّل وهو كون العقل حجّة برأسه اكتفى به الشارع فى بعض الاحكام ، ولو لبعض العباد فهو وان دلّ عليه بعض الاخبار مثل ما دل على انها الحجة بين الله وبين عباده الّا ان ذلك مما لم يثبت ولو ثبت فلم يثبت الّا فى حق من اطلع على اخبار اهل البيت ـ عليهم‌السلام ـ وهذا الشخص غالبا يطلع على ما ورد من ان لكل واقعة حكما مخزونا عند اهله.

وامّا ثبوت هذا المطلب بدليل غير تلك الاخبار من ادراك عقلى بحيث يكون حجية حكم العقل كنفس حكمه ضروريا حتى ينفع بالنسبة الى اهل الفترة واشباههم ممن لم يطلع على ثبوت الاحكام اجمالا او تفصيلا ، فان اريد به ورود التكليف الاصطلاحى على وجوب متابعته فلم يقم عليه دليل ، وان اريد ان العقل بعد ما حكم بقبح شيء على سبيل الجزم فلا محالة يحكم بعدم رضاء الشارع على ذلك ، فان من علم بعدم رضاء مولاه بالاباق او بقتل ولده يحكم عقله باستحقاق العقاب ، فالانصاف ان هذا مما لا يدركه العقل ضرورة وان لم نتحقق التكليف الاصطلاحى ، وانحصار الجزاء فيه ممنوع ومما يؤيد ما ذكرنا ما سيجيء من تفسير اللطف.

٦٠٤

فيما استدلوا به على نفى اعتبار العقل (١)

ثم انه قد استدلوا على نفى اعتبار العقل بوجوه :

منها ـ قوله تعالى : (وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً) [الاسراء : ١٥]

دل على نفى التعذيب قبل تبليغ الرسول ، حتى فيما يستقل به العقل وانتفاء العذاب يكشف عن عدم الحكم.

وفيه اولا ـ ان الظاهر من الآية سيما بملاحظة سياقها انتفاء العذاب الدنيوى قبل بعث الرسول وهو كذلك ، لان الظاهر انه مما يترتب على تكذيب الرسل مع ان الآية قابلة للتخصيص بما لا يستقل فيه العقل لاجل ما ذكرنا من الدليل كيف واستقلال العقل باستحقاق الثواب والعقاب على بعض الافعال مما لا مجال لانكاره كما ذكرنا سابقا.

وقد يجاب عن الآية بوجوه أخر مثل ان الرسول اعم من الظاهر والباطن وان بعث الرسول كناية عن مطلق التبليغ من باب ذكر المقيد وارادة المطلق لغلبة تحقق ذلك المطلق فى ضمن هذا المقيد ، كما فى قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلى ذِكْرِ اللهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ) [الجمعة : ٩]

حيث ان السعى يجب بدخول الوقت لابتداء المنادى ، وان الآية انما يدل على نفى تحقّق العذاب فعلا قبل البعث فلا ينافى ثبوت الاستحقاق مع البيان

__________________

(١) ـ انظر : مطارح الانظار ص ٢٤١ ـ الفوائد المدنية : للمولى محمد امين الاسترآبادى

٦٠٥

العقلى لجواز العفو قبل تبليغ الرسول نظرا الى عدم تاكّد الحجة.

وفى الاوّل ما لا يخفى وفى الثانى انه خلاف الظاهر فان مجرد غلبة تحقق المطلق فى ضمن المقيد انما يصلح ان يكون مصححا لارادة تعلق الحكم بالمطلق مع دلالة اللفظ على تعلقه بالمقيد ، ولا تصلح لان يكون قرينة على ذلك كما فى عكسه حيث يكون الغلبة قرينة على ارادة المقيد من المطلق.

وفى الثالث ـ ان نفى التعذيب الفعلى ظاهر فى عدم تحريم الفعل حتى انه قد يصرف لاجله بعض ظواهر التحريم عن ظهورها ، ولعل من هذا القبيل رفع اليه عن ظاهر النهى عن فعل لورود الدليل انه لا بأس به.

وربّما يقال ان الاخبار بنفى التعذيب ينافى اللطف حيث ان الوعيد لطف لكونه مقربا الى الطاعة ومبعدا عن المعصية فالاخبار بعدم العقاب مقرب الى المعصية ولا اقل من ان ذلك لا فائدة فى بيانه.

وفيه : ان بيان نفى العقاب لو قبح فانما يقبح اذا كان لمن لم تبلغه دعوة الرسول ، فكان مرجعه فى تكاليفه الى العقل فيما يستقل فيه.

ومعلوم ان هذا البيان انما وقع فى القرآن المجيد الصادع لحكم جميع ما يستقل به العقل وبعض ما لا يستقل او جميعه فلا يلزم من بيان ذلك مخالفة اللطف بالنسبة الى من بين له.

والحاصل ان بيان نفى العقاب انما يقبح لمن يكون هذا البيان له مبعدا عن الطاعة ومقربا الى المعصية ، دون من ليس بالنسبة اليه لذلك وفائدته بالنسبة الى هذا الشخص اظهار سعة رحمة الله تعالى بانه لا يعذب قبل تاكيد

٦٠٦

الحجة وتكرر البيان بالشرع الداخلى والخارجى.

ونظير ذلك على ما هو ببالى مع بعد العهد ما ذهب اليه الشيخ فى «عدّته» من كفاية الوصول الى المعارف ولو بالتقليد من دون الّا (١) ان النظر واجب مستقل لكنه معفو عنه (٢) ، ويمكن دفعه بوجوه :

احدها النقض بكثير من المحرمات المخبر عنها العفو كالصغائر لمجتنبى الكبائر وكالظهار على ما قيل وكالمحرمات بالنسبة الى الصبى على ما اخترناه.

الثانى ـ ان الخطاب السمعى بالمستقلات العقلية قبل سماع الآية فلا يوجب نقض الغرض.

الثالث ـ ان دلالة الآية على العفو ظنية فلا يوجب نقض الغرض بيانه ان الخطاب به انما يقدح بالنسبة الى من يستفيد من الآية القطع بالعفو وهو المعصوم او تاليه الذى لا يضره سماع مثل ذلك نظرا الى ان الرادع له عن المعاصى مجرد قبحها وعدم رضاء الشارع بها لا خوف العقاب وامّا فى حق

__________________

(١) ـ كذا فى الاصل.

(٢) ـ قال الشيخ فى آخر «فصل فى ذكر صفات المفتى والمستفتى» : ... ان الذى يقوى فى نفسى ان المقلد المحق فى اصول الديانات وان [كان] مخطئا فى تقليده غير مؤاخذ به وانه معفوّ عنه وانما قلنا ذلك لمثل هذه الطريقة التى قدمناها لانى لم اجد احدا من الطائفة ولا من الائمة (ع) قطع موالاة من سمع قولهم واعتقد مثل اعتقادهم وان لم يسند ذلك الى حجّة عقل او شرع وليس لاحد ان يقول ان ذلك لا يجوز لانه يؤدّى الى الاغراء بما لا يؤمن ان يكون جهلا ...

عدة الاصول : ص ٢٩٤ الطبعة الحجرية فتأمل.

٦٠٧

غيرهم فلا يفيد ظاهر الآية الّا الظن النوعى لاصالة عدم القرينة الصارفة عن الظاهر وهو لا يوجب إلّا من العقاب المقطوع باستحقاقه الا لمن لا يبالى بالمعاصى فيرتكبها باضعف ما يوجب الغرور مثل ما يسمعون من طريق مرسل ان السيئات لا يكتب فى ثلاثة ايام من شهر ربيع الاول والحاصل ان الآية لا يوجب القطع ولا الظن الشخصى بارادة العفو عن القبائح العقلية قبل ارسال الرسل.

فربما يعترض عليه بان العفو عنه حتما موجب لعدم تخلف المقلد له اذا علم انه مما لا يؤاخذ عليه ولا يسأل عنه.

والجواب عن ذلك بمثل ما ذكرنا من ان هذا العفو لم يطلع عليه المقلدة حتى تكون موجبا لتقاعدهم عن النظر ، وانما اطلع عليه الاوحدى من العلماء.

فان قلت : ان المقلدة ايضا لم يطلعوا على وجوب النظر.

قلت : وجوب النظر يمكن ان يؤخذ بطريق التقليد بخلاف مسئلة العفو ، فانه ليس من الاحكام الشرعية.

وفيه تأمل ونظير ما ذكرنا من عدم قبح الاخبار بنفى العقاب اذا لم يوجب التقرب الى المعصية امّا مطلقا وامّا بالنسبة الى بعض الاشخاص ما ورد من العفو عن نية السوء مع حرمتها ، فانه لا ينافى اللطف فى تحريمها لان التبعيد عنها والتقرب الى تركها انما يحصل بما ورد من الوعيد على ترك المنوى ، فانه يكفى فى تركه القصد اليه والاخبار بنفى العقاب على القصد لا يوجب التقرب اليه مع وجود الوعيد على المقصود.

٦٠٨

ويشبه ان يكون من هذا القبيل ما اشتهر من ورود الراوية بانه لا يكتب السيّئة فى ثلاثة ايام من يوم الغدير الى ما بعده ، فان هذا لو قبح فانما يقبح لو وصل على وجه القطع الى عوام الناس الذى لا يبالون بالمعاصى ولو يلعبون فيها بادنى بشارة بل اتكالا على توبتهم وعلى رحمة الله تعالى.

فكيف اذا قطعوا من اخبار المخبر الصادق بانهم لا يؤاخذون عليها مع ان الاخبار بنفى التعذيب على الوجه العام بالنسبة الى المعاصى لا اشكال فى كونه مقربا الى المعصية ـ بل مخلا بالنظام فالموجب لعدم توغلهم فى المعاصى فى هذه الايام ، هو عدم سماعهم لهذه الرواية على وجه يقطعون به او يطمئنون عليه.

وانما علم بذلك الائمة ـ عليهم‌السلام ـ واصحابهم الذين يقربهم الى المعاصى بشارة الاجر عليها ، لانهم لا يحترزون عن المعاصى خوفا من النار بل واظن انهم كانوا اظنّاء بمثل هذه الروايات الواردة لبيان سعة رحمة الله ـ تعالى ـ لا لتغير الجهال والعوام كارهين لانتشارها ولا ينبغى للشخص اظهار امثال ذلك ، بل وقد يحرم اظهاره لبعض الاشخاص.

ولنرجع الى ما كنا فيه فنقول : ان نفى فعلية التعذيب وان كان يجتمع مع الحرمة الّا ان فيه ما ذكرنا من انه ظاهر فى الاباحة ظهورا قويا قد يصرف به بعض ظواهر التحريم ، فلا بد من الرجوع بالاخرة الى ما دل على حجية العقل ليثبت به الحكم الشرعى على وجه اليقين ، ويجمع بينه وبين الآية بالقول بالحكم الشرعى مع نفى العقاب على المخالفة.

وانت خبير بان الجمع بينهما بتخصيص الآية اولى.

٦٠٩

ثم اولى هذا مضافا الى ان التزام عدم العقاب على مخالفة مقتضى العقل يسقط القول لحجية العقل عن الثمرة كما لا يخفى الوجه فى طائفة من الاخبار الدالة على نفى التكليف قبل بيان الشرع مثل قوله ـ عليه‌السلام :

كل شيء مطلق حتى يرد فيه نهى.

وقوله ـ عليه‌السلام : ان على الله بيان ما يصلح الناس وما يفسدهم وان الزمان لا يخلو عن امام معصوم ليعرف الناس ما يصلحهم وما يفسدهم وان اهل الفترة واشباههم معذورون ويكون تكليفهم يوم القيامة وان الله ـ تعالى ـ يحتج على العباد بما انهم عرفهم.

وصحيحة زرارة : لو ان رجلا قام ليله وصام نهاره وتصدق بجميع ماله وحج جميع دهره ولم يعرف ولاية ولى الله فيواليه ويكون جميع اعماله بدلالته اليه ما كان له على الله عزوجل حق فى ثوابه ولا كان اهل الايمان». (١)

مع ان التصدق سيما المندوب منه مما يستقل بحسنه العقل ، وفى صحيحة منصور ابن حازم عن ابى عبد الله ـ عليه‌السلام ـ قلت من عرف ان له ربا فينبغى ان يعرف ان لذلك الرب رضى وسخطا وانه لا يعرف رضاه وسخطه الا بوحى او رسول فمن لم يأته الوحى فعليه ان يطلب الرسول الى غير ذلك من الاخبار.

والجواب عنها : بعدم نصوصية شيء منها بل عدم ظهوره فى المدعى

__________________

(١) ـ هذا من حديث طويل جاء فى الكافى والمحاسن كما جاء فى جامع احاديث الشيعة ج يك صص ٥١٢ و ٥١٣ وفى المخطوط تصرف فى ترتيب الفاظ الحديث.

٦١٠

كما لا يخفى ، فكيف يعارض ما استدل به المثبت مضافا الى معارضتها باخبار اكثر منها واظهر دلالة على الاعتبار بالعقل وانه الحجة بين الله وبين العباد وهى الحجة الباطنة وبه يثاب وبه يعاقب وغير ذلك من الاخبار.

الثالث ـ ما عليه العدلية من ان التكليف مما يستقل به العقل لطف والعقاب بدون اللطف قبيح.

٦١١

بيان كلام صاحب الوافية :

«ان الكلام فى اثبات الملازمة بين حكمى العقل والشرع قليل الجدوى»

اعلم انه ذكر صاحب الوافية ان الكلام فى اثبات الملازمة بين حكمى العقل والشرع قليل الجدوى اذ قلما يوجد حكم عقلى غير منصوص عليه فى الشرع واستحسنه السيد الصدر فى شرح الوافية لكن لم يستوجهه القاضى المحقق القمى ـ قدس سرّه ـ نظرا الى ان حجية ظن المجتهد الذى تدور عليه رحى الفقه عند القائلين بانسداد باب العلم والظن الخاص فى معظم الفقه من ثمرات هذا النزاع ، فان الدليل عليها هو العقل ، لان العمل بظن المجتهد مما يستقل به العقل بعنوان القطع لانسداد باب العلم وانحصار المناص فى الظن.

وردّ ذلك بعض من تأخر بما حاصله : منع هذا الحكم العقلى وهذا الرد لا وقع له لا مكان دعوى وجود الثمرة عند من يقول بتمامية هذا الحكم كما عليه جماعة من متاخرى المتاخرين.

وقد استدلوا على حجيّة خبر الواحد بوجوب دفع الضرر المظنون وقبح ترجيح المرجوح واحسن من ذلك رده بقيام الاجماع على حجيّة الظن مع فرض تمامية مقدمات دليل الانسداد كما يظهر دعوى ذلك من غير واحد من

٦١٢

العلماء.

لكن التحقيق فى الجواب : ان يقال : ان الاحكام العقلية المتعلّقة بحجية الظن عند الانسداد :

منها : هو راجع الى فعل الله ـ تعالى ـ كقبح التكليف بما لا يطاق.

ومنها : ما هو راجع الى فعل العبد كوجوب الاطاعة الظنية وقبح العمل بالموهوم مع فرض بقاء التكليف وعدم سقوطه وعدم وجوب تحصيل العلم وعدم مرجع شرعى.

ولو كان اصلا اما ما كان راجعا الى فعل الله ـ جل ذكره ـ فهو خارج عن محل الكلام فى الملازمة اذ لا يتصور الحكم الشرعى فى افعال الله تعالى.

وامّا ما هو راجع الى فعل العبد فيكفى فيه حكم العقل ولا يحتاج الى صدور الحكم عن الشارع لان هذا الحكم راجع الى حكم العقل بوجوب اطاعة الله سبحانه ، فكما ان العقل يحكم بوجوب الاطاعة العملية مع العلم التفصيلى بالمكلف به ولا يحتاج الى حكم الشارع بوجوب الاطاعة ولو حكم به كان ارشادا محضا كاوامر الطبيب لا يترتب على مخالفته سوى اثر ترك المامور به ، كذلك يحكم بوجوب الاطاعة الظنية عند فقد العلم بالمكلف به وفقد ما يقوم مقامه مع فرض سقوط التكليف.

والحاصل : ان هذا الحكم العقلى من فروع حكم العقل بوجوب اطاعة الشارع وحرمة تفويت اوامره مهما امكن ، نظير حكم العقل بالتخيير بين المحتملين الذين يقطع بوجوب احدهما فان وجوب احدهما وحرمة المخالفة القطعية عقلى لا يحتاج الى تشريع حكم مطابق له ، اذ لو طلب لم

٦١٣

يكن طلبه تشريعا بل كان طلبه ارشادا خارجا عن الحكم الشرعى ، فان الاوامر الارشادية لا يفيد حكما شرعيا من الاحكام الخمسة وان كان فعل المامور به فيها محكوما فى نفسه بحكم شرعى.

ثم لو سلمنا الحاجة الى الحكم الشرعى فى المقام كان جميع ما ورد من البحث على الاطاعة والترهيب عن المعصية وحفظ النفس عن النار وغير ذلك ـ كافيا ، لان المفروض عدم سقوط التكليف فعلا بسبب تعذر العلم والظن الخاص ، فالعقاب على ترك ما يقدر ان يحصله بالظن ، فيجب التجنب عنه بمقتضى الآيات والاخبار.

ثم ان هذا كلّه اذا قررنا دليل العقل على وجه ينتج حكومة العقل بوجوب العمل بالظن.

امّا اذا قرر على وجه يكشف مقدماته بالمتبع فى الاحكام عند الشارع هو الظن امّا لاجل الاجماع ، وامّا لاجل نفس المقدمات لبقاء التكليف وعدم جواز الرجوع الى الاصول الراجعة الى البراءة وعدم وجوب الرجوع الى ما يرجع الى الاحتياط وقبح ترجيح الشارع العمل بالموهوم على العمل بالمظنون.

فيتعيّن كون المتبع عند الشارع الظن فحينئذ لا حكم عقلى بالتحسين والتقبيح فى فعل المكلف حتى يتكلم فى الملازمة بينه وبين حكم الشرع بل الحكم العقلى على هذا التقرير يرجع الى حكم العقل بتعيين احد اطراف المنفصلة الحقيقية بعد نفى ما فيها فهو يرجع الى الملازمات العقلية.

والنزاع فى تطابق العقل والشرع ليس فيها لان العقل فيها يدرك حكم الشرع لا انه يحكم بحكم ليلاحظ التطابق بينه وبين حكم الشرع فافهم هذا.

٦١٤

ولكن هذا المقدار من حكم العقل لا يكتفى به فى باب حجية الظن لان المقصود من حجية الظن كونه بحيث يعاقب على ترك مقتضاه وان لم يطابق الواقع ، فيكون مظنون الوجوب واجبا شرعيا يحكم بعصيان تاركه ويترتب عليه جميع آثار الوجوب الشرعى.

اللهم الّا ان يتم ذلك بقبح التجرى ، ويقال ان ترك مظنون الوجوب وان لم يثبت كونه واجبا شرعيا إلّا انه تجرّ على المولى وهو قبيح عقلا يستحق العقاب عليه ، بل سيجيء ان محتمل الوجوب او الحرمة اذا كان بحيث لا يمكن نفى التكليف فيه بقاعدة قبح التكليف من غير بيان لا يجوز فيه الترك او الفعل ، لكن هذا لا يحوج المسألة الى اثبات الملازمة بين العقل والشرع ، لان حرمة التجرى قد استفيدت من كثير من الآيات والروايات مثل فحوى ما دل على («إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا [لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ])(١) ، وما دل على ان المسلمين الملاقين بسيفهم القاتل والمقتول فى النار لان المقتول اراد قتل صاحبه وغير ذلك.

ثم انه ربما يقال ان ثمرة الملازمة يظهر فيمن بعد عن بلاد المسلمين وارتكب القبائح العقلية كان غير مقصر فى طلب الاحكام ، فانه يستحق العقاب بناء على ثبوت الملازمة.

وفيه : ان مسئلة الملازمة اذا كانت نظرية بين اولى الانظار من العلماء فلا يخلو امّا ان يكون ذلك البعيد العهد ممن يعتقد بالملازمة ، وامّا ان يكون ممن لم يعتقد ، فان كان معتقدا بالملازمة فهو مستحق للعقاب وان لم تقل بالملازمة واقعا لان مخالفة الاعتقاد تجرّ قبيح.

__________________

(١) ـ النور : ١٩

٦١٥

فى ان الاصل فى الافعال الخالية عن امارة المفسدة :

الحظر ام الاباحة؟ (١)

اعلم : ان الاقوى فى الافعال الخالية عن امارة المفسدة المقطوع بعدم الضرر فى تركها ما اختاره الشيخ ـ ره ـ فى العدّة من التوقف ووجوب التحرز مستدلا بقبح الاقدام على ما لا يؤمن فيه المضرّة ومرجعه الى ان دفع الضرر المشكوك واجب عقلا ، ويدل عليه بناء العقلاء على التزام التجنب وعدم اقدامهم على فعل الّا مع ظن السلامة فيه. (٢)

وربّما يتوهم ان هذا مناف لما استمر عليه فتوى الفقهاء من عدم وجوب دفع الضرر المشكوك فى باب التكاليف الشرعية كالتيمم والافطار والقصر مع الشك فى الضرر.

نعم ربما مال بعضهم كالفاضل الهندى فى مسئلة الافطار من شرحه على الروضة وتبعه بعض من تأخر عنه الى سقوط التكليف مع الشك ، لكن لا لاجل وجوب دفع الضرر المشكوك بل لاجل تعلق سقوط التكليف فى الادلة الشرعية على خوف الضرر المتحقق عرفا مع الشك ، والّا فمع اناطة سقوط التكليف بنفس الضرر لا اظن احدا حكم بالسقوط من جهة وجوب

__________________

(١) ـ انظر مطارح الانظار : ص ٢٤٥ وبعدها.

(٢) ـ عدّة الاصول : ص ٢٩٦.

٦١٦

دفع الضرر المشكوك ولذا اطبق العلماء ظاهرا على ان المائع المحتمل كونه خمرا يجب الاجتناب عنه وكذا اكل الطعام مع عدم ظن الضرر فيه.

ودفع هذا التوهم تحتاج الى توضيح وهو :

انّما الضرر امّا دنيوى وامّا اخروى ومرجعه الى العقاب ، امّا الثانى فليس موضوعا للاحكام الشرعية ، بل هو تابع لها ووجوب التحرز عن المعلوم منه عقلى ثابت بالفعل المستقل بحيث لا يمكن ان يزاحمه ضرر آخر كما يمكن ذلك فى الضرر الدنيوى كما سيجيء.

ولو حكم به الشارع كما يقوله : اتقوا النار او لا تعصوا كان ارشاديا محضا لا يترتب عليه سواء اثر نفس المادة المنهى عنها وهى المعصية اعنى عقابها ولا يترتب العقاب على مخالفة هذا الامر كما الشأن فى كل امر ارشادى فلا يترتب على اطاعة الاوامر الارشادية ومخالفتها سوى اثر نفس المادة المنهى عنها وهى المعصية اعنى عقابها ولا يترتب العقاب على مخالفة هذا الامر كما الشأن فى كل امرار شادى فلا يترتب على اطاعة الاوامر الارشادية ومخالفتها سوى آثار نفس المامور به او المنهى عنه فعلا او تركا وإلّا لزم التسلسل فى العقاب.

ويعلم من ذلك حكم الضرر الاخروى المشكوك وانه يجب عقلا ارشادا دفعه لا شرعا بحيث يترتب العقاب على التعريض.

وربّما يقال بثبوت العقاب على التعريض نظرا الى قبحه عقلا وتطابق العقل والشرع ، وامّا صورة القطع بالعقاب فهو وان كان الاقدام بنفسه قبيحا ايضا الّا ان عقابه يتداخل مع عقاب اصل الفعل ، ولهذا الكلام محل آخر.

٦١٧

وكيف كان فالاحكام الشرعية المقيدة فى الشريعة بعدم الضرر ليس المراد بالضرر فيها إلّا ان الضرر الدنيوى وهو المستقل فى ادلة نفى الضرر.

وحينئذ فنقول ان سقوط ما يسقط بالضرر الدنيوى ليس لاستقلال العقل بالسقوط ، كيف والمحقق فى قول الواجب او فعل المحرم ضرر اخروى اعظم بمراتب من الضرر الدنيوى فالمستند فى السقوط حكم الشرع به.

ولذا ترى ان الشارع حكم بوجوب التعريض للهلاك فى الجهاد ، واطبقوا على حرمة قتل النفس المحترمة مع القطع بهلاك نفسه لو لم يفعل وحكموا باباحة تسليم النفس للقتل اذا اكره على اظهار كلمة الكفر بل باستحبابه ، اذا كان المكره ممن يقتدى به ويكون فى تسليمه للقتل اغرار للدين.

وحينئذ فالعقل لا يستقل بوجوب دفع مثل هذا الضرر ويكون استقلاله بوجوب الدفع مشروطا بان لا يثبت من الشرع ضرر فى الترك اعظم من ذلك الضرر الدنيوى ، او ثبت من الشرع تلافى ذلك الضرر بشيء مساو له او اعظم ، ليكون ارتكابه مباحا او مستحبا : فاذا علمت حال الضرر المعلوم عرفت ان الضرر المشكوك انما يجب دفعه اذا لم يحكم باباحة التعريض له او وجوبه ، لان المجمل ليس اعظم من المقطوع.

واذا شك فى الضرر وحكم الشارع بمقتضى اصالة عدم الضرر بترتب احكام عدم الضرر عليه كالوضوء والصوم المدلول عليه بعموماتهما مع الشك فى الضرر واباحة شكوك الطريق المدلول عليه باصالة الاباحة شرعا الثابتة بالشرع مع الشك فى الضرر ، فالعقل لا يستقل بوجوب التحرز عن

٦١٨

الضرر المشكوك لتدارك هذا الضرر فى نظر الشارع.

نعم لو قطع النظر عن الشرع حكم العقل بوجوب الدفع ، وكذلك لو علق الحكم الشرعى على مجرد خوف الضرر ـ كما زعمه الفاضل المتقدم ومن تبعه ـ لم ينفع اصالة عدم الضرر اذ لا يرتفع بها عنوان الخوف ، وكذلك لا ينفع اصالة الاباحة الشرعية الثابتة بادلة حل الشبهة لان الموضوع وهو الخوف غير مرتفع.

ومما ذكرنا يعلم انه لا منافاة بين ذلك وبين تمسكهم فى وجوب معرفة الله بوجوب دفع الضرر المحتمل.

استدلوا على الاباحة الظاهرية بقضاء الضرورة بالاباحة فى الظاهر مع عدم ما يدل على خلافها لظهور ان التكليف باقسامه الاربعة مشروط بالعلم والنسيان واذ ليس فليس.

وفيه انه ان اريد بالاباحة مجرد عدم الحرج على المكلف ، فهو مسلم لكن هذا فى الحقيقة قول بعدم الحكم كما يقوله الاشاعرة.

لانهم يقولون ايضا بعدم الحرج كما صرح به العضدى.

وان اريد انشاء العقل الرخصة وتخييره بين الفعل والترك ، فهو لا يلزم من نفى الاحكام الاربعة وكما ان الاحكام الاربعة شرعية كانت او عقلية ظاهرية او واقعية مشروطة بالعلم والنسيان ، فكذلك الاباحة خصوصا الاباحة العقلية.

واحتجوا ايضا بان الله ـ تعالى ـ خلق العبد وما ينتفع به ، فالحكمة تقتضى اباحته له ليترتب على خلقه ما هو المقصود وفيه نظر واضح.

٦١٩

واحتجوا ايضا ببناء العقلاء على عدم اقتصارهم على مقدار الضرورة من الحركات ما لم يقم على خصوص حركة امارة مفسدة ومجرد احتمال المفسدة المسبب عن الامكان الذاتى لا يوجب الكف عن فعل عند العقلاء ، بل يعدّون من يكف من دون امارة سوداويا.

وفيه ان الغالب فى نظر العقلاء ظن عدم الضرر فى حركاتهم ولو فرض الاحتمال المساوى لزم الكف مع ان رجحان الكف حينئذ اجماعى فاذا لا يحكم بالاباحة بل برجحان الترك وتردد الامر بين الكراهة والحظر تعين الاحتياط فتامل.

احتجّ الحاظر بان التصرف فى ملك الغير بدون ترخيص المالك قبيح ، ولا ترخيص هنا عقلا ولا نقلا كما هو المفروض.

وقد يجاب عنه بمنع قبحه مع عدم تضرره كما فى اخذ قطرة من بحر مملوك ثم ردّها اليه او اخذ حبّة من بلد عظيم ثم وضعها مكانها.

نعم قد يثبت تحريم مثل ذلك شرعا.

وفيه انه لا اشكال فى القبح مع منع المالك وان لم يتضرر وكذا مع الشك فى الرضى والمنع ، وما نحن فيه كذلك لاحتمال عدم الرضا ولا يجب التنبيه حينئذ.

نعم لا يبعد منع القبح مع عدم التفات المالك والّا فيقال فى الجواب ان احتمال المنع فيما نحن فيه ليس الّا لاحتمال مضرة راجعة الينا لا اليه تعالى ، ولا من دون غرض اصلا لكون المنع عن الانتفاع حينئذ قبيحا ، لانه تفويت نفع بلا ترتب ضرر على احد ، فمرجع هذا الدليل الى احتمال المفسدة فى الفعل

٦٢٠