الفوائد الأصوليّة

الشيخ مرتضى الأنصاري

الفوائد الأصوليّة

المؤلف:

الشيخ مرتضى الأنصاري


المحقق: حسن المراغي « غفارپور »
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: شمس تبريزي
المطبعة: ايران يكتا
الطبعة: ١
ISBN: 969-94215-0-5
الصفحات: ٧٧٠

والالتزام القلبى او العمل الخارجى (١) على طبق قوله ام يكون معناه مختلفا فيه بينهم ، وجهان.

وكيف كان فالمهم تعيين معناه فان من كلام كل من عرّفه بالعمل كما عرفت هو الثانى وصريح جماعة من متاخرى المتاخرين هو الاول حيث صرحوا بتحقق التقليد باخذ الفتوى لاجل العمل عند الحاجة وان لم يعمل بعد.

وفرعوا على هذا بعض ما سيجيء من احكام التقليد (من حكم الرجوع عن التقليد) والبقاء على التقليد بعد موت المجتهد.

ويشهد للقول الاول ان الظاهر عدم الخلاف فى معنى التقليد فى الاصطلاح ، نعم كلامهم (بين) صريح فى كونه العمل وبين ما لا يأبى (٢) الحمل عليه بل ربما عبر الشخص الواحد تارة بالعمل واخرى بغيره ، ولذا لم ينبه احد على وقوع الخلاف بينهم فى ذلك بل عرفت نسبة بعض تفسيره بالعمل الى علماء الاصول ويؤيده استدلالهم على حرمة التقليد بما دل على المنع عن العمل بغير العلم.

ويشهد للثانى كونه اوفق بالمعنى اللغوى واظهر فى عرف المتشرعة ولذا يقال : ان العمل الفلانى وقع عن تقليد إلّا ان يراد انه وقع على وجه التقليد.

وقد يقال : انه لو كان التقليد هو العمل امتنع ان يقع العمل على جهة الوجوب او الندب اذا كان مما اختلف فيه المجتهدون كغسل الجمعة ، بل امتنع ان يقع مشروعا اذا كان مما اختلف مع مشروعيته كصلاة الجمعة فى

__________________

(١) ـ فى المطبوع : الجارى

(٢) ـ فى المطبوع : لا ينافى

٦٨١

زمان الغيبة وصلاة القصر فى اربعة فراسخ ، فان وقوع العمل على صفة الوجوب بل المشروعة لا يتحقق إلّا بالتقليد فلو توقف تحقق التقليد على العمل لزم الدور (و) تسليم توقفه على الاخذ بالفتوى ومنع صدق التقليد عليه كما ترى.

ويمكن دفعه بان مشروعية العمل او وجوبه يتوقف على وقوعه على جهة التقليد لا على سبق التقليد ، فاذا فرضنا ان هنا مجتهدين ، احدهما يرى وجوب الجمعة والآخر يرى وجوب الظهر فالمكلف مخير بين ايقاع الجمعة وجوبا على جهة التقليد للاول وبين ايقاع الظهر كذلك على جهة التقليد للثانى.

وكذا الكلام فى غسل الجمعة فانه مخير بين ايقاعه وجوبا على وجه التقليد لموجبه وبين ايقاعه ندبا لنادبه.

وبالجملة توقف العمل على سبق صفة الوجوب له ممكن بل يكفى ان يكون للمكلف ان ياتيه على وجه الوجوب فافهم!

اذا عرفت موضوع التقليد فالكلام يقع تارة فى حكمه واخرى فى المقلد ـ بالكسر ـ وثالثة فى المقلد ـ بالفتح ورابعة فى المقلد فيه.

٦٨٢

بيان حكم التقليد

اما حكم التقليد فالمعروف بين اصحابنا جوازه بالمعنى الاعم ، وينسب الى بعض اصحابنا القول بالتحريم ويحكى عن بعض العامة ، والحق هو الاوّل : للادلة الاربعة ، آيتا النفر والسؤال (١) والسنة المتواترة الواردة فى الاذن فى الافتاء والاستفتاء عموما وخصوصا ومنطوقا ومفهوما والاجماع القولى والعملى عليه ، وحكم العقل بانه بعد بقاء التكليف وانسداد باب العمل ، وعدم وجوب الاحتياط للزوم العسر اذا دار الامر بين العمل على الاجتهاد الناقص الذى يتمكن منه العامى والعمل على الاجتهاد التامّ الذى يتمكن منه المجتهد ، كان الثانى ارجح لكونه اقرب الى الواقع ، لكن العمدة من هذه الادلة هو الاجماع والسنة.

ثم التحقيق (ان) التقليد انما يجب مقدمة للامتثال الظاهرى للاحكام الواقعية ، لان هذا هو المستفاد من جميع ادلته وليس له وجوب نفسى ولا شرطى للعمل شرطا شرعيا ويترتب على ذلك امور :

منها : انه لو لم يتنجّز على المكلف الاحكام الواقعية لغفلته عنها رأسا وعدم علمه الاجمالى بها فلا وجوب للمقدمة ، لعدم وجوب ذيها.

ومنها : انه لو احتاط العامى واحرز الواقع فى علمه صح عمله وترتب

__________________

(١) ـ آية النفر : التوبة ـ ١٢٢ آية السؤال : الانبياء ـ ٧ انظر تفسير الامام ـ عليه‌السلام ـ من آية النفر ومعناها الى وسائل الشيعة : ١٠١ / ١٨ ح ١٠.

٦٨٣

عليه اثره ، سواء كان من المعاملات او من العبادات ، اما الحكم فى المعاملات فهو اجماعى ، لان المقصود فيها ترتب الآثار على اسبابها الواقعية والمفروض احرازها بالاحتياط فمن اوقع العقد بالعربى تحرزا عن الخلاف فى اعتبار العربية فيها ، فلا وجه لعدم ترتب الاثر الواقعى عليه.

وامّا العبادات فالاقوى فيها ذلك ايضا وان كان ربما ينسب الى المشهور خلافه ، بل المحكى عن السيد الرضى فى مسئلة الجاهل بحكم القصر دعوى الاجماع على : ان من صلى صلاة لا يعلم احكامها فهى باطلة وعن اخيه السيد المرتضى تقريره على هذه الدعوى لكن الاقوى خلافه وعدم ثبوت هذا الاجماع بل فى شمول معقده لما نحن فيه تامّل.

ووجه المختار ان المقصود فيها اتيان المامور (به) بقصد القربة وهذا حاصل مع الاحتياط فيسقط وجوب التقليد فيها.

ودعوى لزوم التقليد فيها على العامى ان كان من جهة اشتراطه فيها شرعا فلا دليل عليه ، بل الدليل على خلافه من اطلاقات الاوامر واطلاق ادلة الاطاعة والقضية المشهورة :

من ان الناس صنفان مجتهد ومقلد ، ان اريد منها وجوب انتهاء العمل الى احدهما فهو مسلم ، لان الاكتفاء بالاحتياط فى خصوص المسائل لا بد ان يكون عن تقليد او اجتهاد ، وان اريد منها وجوب الاجتهاد او التقليد فى كل عمل بالخصوص فهو من المشهورات التى لا اصل لها ، وان كان من جهة لزوم نية الوجه فى العبادات وهى موقوفة فى حق العامى على تميزها بالتقليد.

ففيه : انه لا دليل على اعتبار نية الوجه بل الدليل على خلافه من اطلاق

٦٨٤

الاوامر وبناء العقلاء على الاكتفاء بها فى الاطاعة

توضيح الامر فى ذلك ان نية الوجه وهى الوجوب او الندب لا يعقل ان يكون مأخوذا وملحوظا فى ذات المامور به المتصفة بالوجوب او الندب ، لان نية الوجه مما يلحق المامور به بعد تعلق الامر به ، فلا يعقل اخذه فى موضوعه ، فتعين ان يكون على تقدير اخذه فى العبادة ماخوذا وملحوظا فى غرض الآمر وداعيه على الامر ، كما ان اعتبار نية القربة فى العبادات على هذا الوجه. بمعنى ان داعى الآمر على الامر وغرضه منه هو ايقاع المامور به بعد الامر بقصد التقرب والامتثال لا ان الامر تعلق باتيان الفعل بقصد التقرب.

فيسقط وجوب التقليد فيها.

ثم ان الاصل فى الامر بالشيء ان يكون الغرض منه نفس حصول المامور به ، لانه المتبادر (منه) عرفا ولغة ولهذا لو شك فى اعتبار نية التقرب كان مقتضى الاصل عدمه.

ثم اذا ثبت وجوب نية التقرب وكون العمل من العبادات ثم شك فى اعتبار نية الوجه فى الداعى ـ بمعنى ان الداعى هو مجرد اتيان المامور به على وجه التقرب المطلق او هو مع قصد التقرب به على الوجه الثابت له من الوجوب والندب كان اللازم الرجوع الى اطلاقات ادلة الاطاعة المتحققة فى عرف العقلاء باتيان الفعل لمجرد كونه متقربا الى الله من غير تعرض للوجه الثابت له وقصد ذلك الوجه.

نعم لو ثبت من الخارج دليل من اجماع او غيره على عدم كفاية الاحتياط كما هو الظاهر فيما اذا كان الاحتياط يحصل بتكرار العمل الواحد

٦٨٥

مرة او مرات متعددة كشف ذلك عن ان الداعى على الامر بذلك العمل هو الاتيان به مقرونا بقصد وجهه.

والحاصل ان الاحتياط قد يحصل باتيان العمل مستجمعا لما يحتمل مدخليته فيه ، وقد لا يحصل الّا بالاتيان بامرين يعلم بكون احدهما هو الواجب.

والامران قد يكونان ماهيّتين متغايرتين كالظهر والجمعة والقصر والاتمام ، وقد يكونان فردين لماهيّة واحدة نحو الصلاة تارة مع الجهر بالبسملة وتارة مع اخفاتها بناء على احتمال الوجوب والتحريم فى الجهر بالبسملة.

والاحتياط فى الاول لا ضير فيه على المختار ولم يقم على بطلانه دليل بل الشهرة غير متحققة على خلافه فضلا عن الاجماع المتقدم عن السيدين ، والاحتياط على الوجه الثالث الظاهر المشهور عدم صحته بل لا يبعد دعوى عدم الخلاف فيه بل قد تدل على بطلانه لزوم تكرار العبادة مرات متعددة بحيث يعلم من طريق الشرع عدم مشروعيتها.

واما الاحتياط على النحو الثانى فالظاهر عدم انعقاد اجماع على بطلانه خصوصا اذا علم ان المجتهد ايضا يفتى بان الاحتياط يقتضى بان يأتى بعد الفعل المفتى بوجوبه بالفعل الآخر بنية القربة ، فالحاجة بالاول فى الاكتفاء به عن التقليد لا يخلو عن قوة ، لكن الاحوط فى الجميع عدم الاكتفاء بالاحتياط خروجا عن الخلاف.

ومنها : ان العامى لو لم يبن على احراز الواقع بالاحتياط ترك التقليد ، لكنه اتفق مطابقة عمله للواقع صح العمل وترتب عليه الاثر اما فى المعاملات

٦٨٦

فمطلقا واما فى العبادات فمع فرض تاتى نية القربة منه حين الشروع من غير تفرقة بين القاصر والمقصر فى ذلك ولا فى سقوط العقاب.

نعم الفرق بينهما مع مخالفة العمل للواقع فان المقصر يستحق العقاب مطلقا مع وجوب الاعادة والقضاء عليه عند انكشاف المخالفة والقاصر لا يستحق العقاب وان وجب عليه الفعل ثانيا مع انكشاف (الخلاف).

ثم الحكم هنا بالصحة اولى منه فى الاحتياط لان المحتاط لا يتمكن من نية الوجه بل غاية ما يحصل منه نية التقرب وإلّا فقد لا يحصل منه قصد التقرب بالعمل بالخاص بل بقصد حصول التقرب من هذا او فعل الآخر كما فى الاحتياط بتعدد العمل او تكراره بخلاف ما نحن فيه ، فان من تعلم الصلاة من ابويه ويفعلها بنية الوجوب ثم صادف الواقع فقد احرز الواقع مع قصد وجهه.

نعم قد يدعى ان هذا لا يتاتى من المقصر اذ مع تفطنه بوجوب التقليد واحتمال كون فتوى من يجب الاخذ منه مخالفا لما تعلم من ابويه كيف يتأتى منه نية القربة ، لكن الانصاف امكان فرضه فان كثيرا من المقصرين يعتقدون ان ما يفعلونه من التقصير ايضا مقرب ، بل قد ينهون عن شيء فى العبادة كالغصب فى مكان الصلاة او فى ماء الطهارة لكنهم ياتون به اعتقادا منهم انه مقرب وان فعله خير من تركه وان فيه ثوابا ، لكن دون ثواب الفرد المباح ، وكذا من لا يحسن قراءة الفاتحة والسورة فانه يصلى فى سعة الوقت وان نبه على عدم جوازه.

والحاصل انا نجد منهم نية القربة مع تنبيههم لعدم كون هذا الفعل مقربا ولعلّه من تسويل النفس لكن الظاهر كفايته اذا طابق الماتى به الواقع.

٦٨٧

ثم المخالف فى العبادات هو المشهور على ما حكى عنهم وفى المعاملات بعض المعاصرين حيث زعم خلافا للمشهور بل الاجماع ، وان المعاملة الواقعة ـ لا عن تقليد ولا اجتهاد لا يترتب عليها اثرها الوضعى اذا كان ترتب الاثر عليها من المسائل الخلافية بين المجتهدين ، مع اعترافه بان المعاملة التى يترتب عليها الاثر اجماعا من دون خلاف لا يعتبر فى صحتها احدا الامرين.

وفرق بين القسمين بان المعاملة الاجماعية تكون صحتها واقعية غير تابعة لاجتهاد مجتهد بخلاف المعاملة المختلف فى صحتها فان الصحة الواقعية فيها غير معتبرة بالنسبة الى الجاهل لعدم تكليفه بالواقع فهى ملغاة بالنسبة الى المكلف عند عدم السبيل اليها لو فرض ثبوتها واقعا.

واما الصحة الظاهرية فتحققها تابعة لفعلية الاجتهاد او التقليد ، فحيث لا تقليد ولا اجتهاد فلا صحة وعدم الصحة تكفى فى الفساد.

فلا يقال ان الفساد ايضا كالصحة فى ان الواقعى منه ملغى والظاهرى منه تابع لفعلية الاجتهاد او التقليد المفروضى الانتفاء ، لان مجرد عدم ثبوت الاثر للمعاملة كاف فى الفساد وليس الفساد بحكم نفس الجاهل حتى يقال ان الصحة كما يحتاج الى الاجتهاد او التقليد فكذلك الفساد ، بل المراد ان هذه المعاملة الخالية عن التقليد اذا عرضت على المجتهد فحيث لا يجدها مؤثرة حين الوقوع لما فرض من تبعية تأثيرها لفعلية الاجتهاد او التقليد يحكم بكونها غير مؤثرة وهو معنى الفساد.

لكن فساد هذا الفعل غير مخفى لمنع ما ذكره من الغاء الواقع بالنسبة الى الجاهل تفصيلا العالم اجمالا بوجود واجبات ومحرمات يجب عليه امتثال

٦٨٨

تلك الاحكام فعلا وتركا خصوصا مثل اكل مال الغير الذى يعلم تفصيلا بحرمته ، فاذا وقع معاملة ولم تقصر فى معرفة حكمها تقليدا او اجتهادا وأحل له اكل ما ينتقل اليه بتلك المعاملة وان كان فى الواقع مال الغير.

(وامّا) اذا وقع معاملة من دون اجتهاد او تقليد فاتفق مخالفته للواقع عوقب على اكل مال الغير عصيانا للمحرمات الواقعية ، واما اذا اتفق موافقته للواقع فلا وجه لعقابه لما عرفت من عدم وجوب التقليد الا مقدمة فيسقط وجوبها عند تحقق ذى المقدمة بدونها.

ثم اذا رجع الفاعل الى المجتهد وافتاه بصحة تلك المعاملة وكونها سببا واقعيا حل له ترتيب الاثر عليها بعد ذلك وان لم يكن كذلك فى الواقع.

نعم على تقدير مخالفة الفتوى للواقع يعاقب على اعماله السابقة عن تقصير.

وقد زعم المعاصر المتقدم ان فتوى المجتهد بصحة تلك المعاملة نظير الاجازة فى الفضولى فقال :

«ان كونه مثلها يحتاج الى دليل» ومنشأ هذا التوهم ما زعمه من نفى الصحة عنها حين الوقوع لخلوها عن الاقتران بالتقليد والاجتهاد وان كان فى الواقع صحيحا وقد عرفت فساده.

وان الاجتهاد والتقليد طريقان مجعولان شرعا لاحراز الواقع فكلما ثبت وقوع عمل على طبق الواقع باحد الطريقين ترتب عليه آثاره من حين الوقوع كما لو ثبت صحته بالطريق الغير الجعلى وهو العلم بالواقع. (١)

__________________

(١) ـ فتأمل فيما أسّس ـ قدس‌سره ـ حق التأمل ولإيضاح مرامه ومستندات مدعاه تفصيل وهو موكول الى محله.

٦٨٩

المقام الثانى

فى المقلّد

بالكسر اعلم انه لا اشكال فى انه يجوز التقليد للعامى الصرف وكذا العالم الغير البالغ رتبة الاجتهاد وهو موضع وفاق هنا ، وهل (يجوز) لمن له ملكة الاجتهاد ، التقليد فيما لم يجتهد فيه فعلا ام يتعين عليه الاجتهاد قولان :

المعروف عندنا العدم ، بل لم ينقل الجواز عن احد منا وانما حكى عن مخالفينا ، على اختلاف بينهم فى الاطلاق والتفصيلات المختلفة.

نعم اختار الجواز بعض سادة مشايخنا فى مناهله.

وعمدة ادلة القائلين بالمنع :

الاصل بتقريرات وعموم الادلة الدالة على وجوب الرجوع الى الكتاب والسنة فى الاحكام خرج منه العاجز عن ذلك.

وعمدة ادلة الجواز : استصحاب جواز التقليد ، وعموم ادلّة السؤال عن اهل الذكر ولا يرد عليها اقتضائها الوجوب المنفى فى حقه بالاجماع على جواز الاجتهاد فى حقه لان جواز الاجتهاد فى حقه لا ينافى وجوب التقليد عليه ما لم يجتهد لدخوله فى عنوان الجاهل.

وربما ايد ذلك بل استدل عليه باستمرار السيرة من زمن الائمة عليهم‌السلام ـ الى ما بعده على الرجوع الى فتاوى الغير مع التمكن من الاجتهاد و

٦٩٠

لزوم الحرج على المجتهد لو الزم بوجوب تحصيل جميع مسائل اعماله لمجرد وجود الملكة فيه.

ويرد على الاستصحاب ان صحة التقليد انما كانت لموضوع العاجز عن الاستنباط ولا اقل من الشك فى ذلك ، وقد بينا ان فى هذه المواضع لا يجرى الاستصحاب عندنا نعم ظاهر المشهور اجرائه فى امثال المقام ، والجواب عنه حينئذ ان عمومات وجوب الرجوع الى الكتاب والسنة حاكمة على الاستصحاب.

فان قلت : ان العمومات تحكم على الاستصحاب اذا كان خروج العامى (عنها) من جهة حكم العقل بقج تكليف العاجز اذ حينئذ يبقى غيره اما لو خرج هو بالشرع ولا يعلم ان حكم المخصص عليه باق الى ان يصير عالما بالفعل او الى ان يصير عالما (بالقوة) فمقتضى استصحاب حكم التخصيص بقائه ، وليس هذا من تقديم الاستصحاب على العام بل من قبيل انسحاب حكم التخصيص فى زمان الشك فى بقائه كما تقرر فى محله.

قلت : هذا حسن لو كان الشك فى الحكم من جهة الزمان او من جهة شمول العام للعنوان المسبوق بعنوان المخصص.

فنقول فى المقامين الاصل بقاء حكم المخصص ، اما لو كان الشك فى شمول العام لعنوان مقابل للعنوان المخرج إلّا انه لا يكون مسبوقا (به) فان المرجع هنا اصالة العموم ، فان العالم المتمكن من الاجتهاد الفعلى (هنا) عنوان فى مقابل العامى قد يكون مسبوقا به وقد لا يكون كما فى من بلغ الحكم عالما يتمكن من الاجتهاد ، فان مرجع الشك هنا الى وحدة المخرج و

٦٩١

تعدده لا الى بقاء الحكم فى الزمان اللاحق للمخرج وعدمه فافهم واغتنم.

واما عموم وجوب السؤال ووجوب قبول انذار المنذرين ، فان المامور بسؤال اهل الذكر غير اهل الذكر والمراد به ـ على تقدير كونه اهل العلم ـ هم المتمكنون من تحصيل العلم بمجرد المراجعة الى الكتاب والسنة لا العلماء بالفعل وحينئذ فالمأمور بالسئوال من لم يتمكن من تحصيل العلم بمراجعة الادلة فيختص العاجز عن الاجتهاد وقوله ـ تعالى ـ (إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ) لا يدل على ارادة اهل العلم الفعلى مضافا الى تفسير اهل الذكر بالائمة ـ صلوات الله عليهم ـ فدلت على وجوب رجوع كل احد الى الائمة ـ عليهم‌السلام ـ واقوالهم خرج منه العاجز عن ذلك وهو العامى فالآية من ادلة المنع لا الجواز.

واما آية النفر فان قلنا بدلالتها على وجوب قبول الخبر الواحد فهى ايضا من ادلة المنع لا الجواز كما لا يخفى ، وان قلنا بعمومها للخبر والفتوى ، فنقول ليس فى الآية تعرض لتفصيل من يجب انذاره بالافتاء ومن يجب انذاره بالاخبار ، واطلاقها مسوق لبيان حكم آخر وهو وجوب الانذار عليهم ووجوب الحذر على المنذرين.

واما وظيفة المنذرين فى الحذر ، وان حذر بعضهم بالاخبار وبعضهم بالفتاوى فليست الآية مسوقة له.

وان قلنا : باختصاصها بالفتوى ، فنقول : ان الظاهر من جعل الانذار بالفتوى غاية المتفقهة او النفر عجز المنذرين عن التفقه ولو بالرجوع الى اخبار المنذرين فيختص بالعاجزين عن الاجتهاد.

٦٩٢

اللهمّ الّا ان يقال ان حصر الغاية فى الافتاء مبنى على عجز اغلب القوم عن الاجتهاد لكن لا يجوز ان يخص القوم بالعاجزين لاجل هذه الغلبة ، لان العام الاصولى لا يحمل على بعض افراده بمجرد الغلبة.

هذا مع ما تقدم منا (١) فى مسئلة حجة الخبر الواحد من عدم دلالة الآية على حجية الانذار الذى لا يفيد العلم للمنذرين سواء كان بطريق الاخبار ام بطريق الافتاء ، وذلك للاخبار المعتبرة المستفيضة التى وقع الاستشهاد فيها بالآية على وجوب تحصيل المعرفة بامام الزمان ـ عليه‌السلام ـ لمن بعد عن بلد الامام فراجع ما ذكرنا هناك او باب ما يجب عند مضى الامام عليه‌السلام ـ من اصول الكافى.

واما قوله ـ عجل الله فرجه ـ : «واما الحوادث الواقعة فارجعوا فيها الى رواة حديثنا فانهم حجتى عليكم» فالجواب انا نقول : ان المجتهد بالملكة من الرواة فهو مامور بالرجوع اليه لا بالرجوع الى غيره ، هذا اذا قلنا ان المرجع الى فتواهم وان اريد الرجوع الى روايتهم كان دليلا على المنع لا الجواز ، اذ يجب على كل احد حينئذ العمل بالروايات خرج العاجز عن ذلك. (٢)

واما ما ذكر من الاستدلال بالسيرة وان العلماء لا يزالون يتركون الاجتهاد مما يحتاجون اليه من المسائل ولذا يختارون الاسفار المباحة والراجحة مع العلم بعدم اجتهادهم فعلا فيما يحتاجون اليه.

والجواب عن ذلك منع ذلك الا مع سلوك طريق الاحتياط.

__________________

(١) ـ يريد ما مر ضمن هذه الفوائد وكذلك بحوثه فى «فرائد الاصول».

(٢) ـ فى تفسير الشيخ الاعظم ونظره بحث وتأمل.

٦٩٣

واما لزوم الحرج عليهم بالزامهم بالاجتهاد او الاحتياط فهو ممنوع ، لان الواجب الاجتهاد فى المسائل المحتاج اليها غالبا تدريجا الاهم فالاهم نظير ما يجب على المقلد التقليد فيه.

واما المسائل التى يتفق احيانا فاما ان يحتاط فيه ، وان قام دليل على عدم وجوب الاحتياط قلد فيه اذا لم يتيسر له الاجتهاد زمان الحاجة لاشتغاله بالاجتهاد فى الاهم منه ويشغل آخرا بما هو اهم منه ، وكذلك اذا لم يتمكن من الاجتهاد فى المسألة لعدم الاسباب او لوجود مانع.

ثم ان المجتهد فعلا لا يجوز له التقليد اجماعا ولا فرق ظاهرا بين من استنبط الحكم الواقعى بالعلم او الظن ، وبين من توقف فى المسألة لتعارض الادلة او عدمها ، فان وظيفته الرجوع الى الاصول لا التقليد لعدم جريان ادلة التقليد ، لان ظاهرها الجاهل الغير المتمكن من الرجوع الى الادلة لا من راجع ولم يجد دليلا واعتقد بخطإ (من) يدعى الدليل ، ومثله القول فى الرجوع الى الشاهد واهل الذكر (١) فانه لا يرجع اليهما مع العلم بخطائهما فى توهم ما لا يصلح الاستناد اليه مستندا.

لكن هذا يتم فيما لو اطلع على خطأ ذلك المجتهد دون من احتمل استناده الى مستند صحيح لم يطلع هذا المتوقف عليه ، فالاحسن الرجوع الى الاجماع وسيرة المجتهدين.

__________________

(١) ـ فى المطبوع : الخبرة

٦٩٤

الكلام فى المقلَّد

بالفتح ، فنقول انه يعتبر فيه امور : البلوغ والعقل والايمان ولا اشكال فى اعتبار هذه الثلاثة والظاهر ان الاجتهاد فى حال الصغر او عدم الايمان وكذا الافتاء حالهما لا يضر اذا كان فى زمان العمل بالغا مؤمنا ، ولا اشكال ايضا فى كون العدالة شرطا ، انما الكلام فى ان المشروط بهما هو قبول اخباره بفتواه او جواز التعويل بفتواه ، ويظهر الثمرة فيما لو علم صدقه فى اخباره بفتواه او اخبر بها حال عدالته او علم فتواه من غير جهة اخباره وظاهر تمسك بعضهم فى اعتبارها بوجوب التثبت فى خبر الفاسق ، وبعدم كونه امينا وبعدم قبول شهادته المستلزم لعدم قبول فتواه بطريق اولى هو الاول ، لكن ظاهر اطلاق معاقد اجماعاتهم فى عدم جواز استفتاء غير المجتهد الورع هو المنع عن العمل بقوله وان علم فتواه من خبره او من الخارج.

ويؤيده عطف الورع على الاجتهاد فى قولهم لا بد فى صحة استفتاء العالم من اجتهاده وورعه ، ويدل عليه مضافا الى ظاهر الاجماعات المنقولة ما تقدم فى التوقيع من قوله ـ عجل الله فرجه ـ فانهم حجتى عليكم ، فان الحجية المطلقة فى الفتوى والرواية لا يكون إلّا مع العدالة ، فالمراد بالرواة عدولهم فينحصر الحجة فى العدول لان امره ـ عليه‌السلام ـ بالرجوع الى العدول فى مقام السؤال عن المرجع يدل على الحصر كما لا يخفى.

إلّا ان يقال لا نسلم وجود الدليل على تقييد الرواة بالعدول (فى الرواية)

٦٩٥

اذ يحتمل ان يكتفى فى الرواية بالظن بالصدق مع كونه اماميا فيكون الحجّة قول الامامى المظنون الصدق فى الرواية والفتوى فلا يدل على اعتبار العدالة فضلا عن كونها معتبرة فى العمل.

وربما يستدل على اعتبار العدالة فى العمل لقوله ـ عليه‌السلام ـ : «واما من كان من الفقهاء حافظا لنفسه صائنا لدينه مخالفا لهواه مطيعا لامر مولاه فللعوام ان يقلدوه» (١) لكن بملاحظة صدر الخبر وذيله يعلم ان المراد اعتبار العدالة من جهة الامن من الكذب فى الرواية والافتاء بغير ما انزل الله تعمدا.

__________________

(١) ـ هذه الرواية من الاحتجاج فهى ضعيفة السند راجع لتحقيق فيها الى التنقيح : ص ٢٢١ ـ وسائل الشيعة ج ١٨ ص ٩٥.

٦٩٦

فى عدم جواز تقليد الميّت

ومن جملة الشرائط حياة المجتهد فلا يجوز تقليد الميت على المعروف بين اصحابنا ، بل فى كلام جماعة دعوى الاتفاق والاجماع عليه ، وفى «الفوائد الملية فى شرح الجعفرية» حكاية الاجماع عن المحقق الثانى وغيره على ذلك بعد ان استظهر هو بنفسه الاتفاق على ذلك.

وعن «المسالك» دعوى تصريح الاصحاب باشتراط الحياة فى العمل بقول المجتهد وعن رسالته التى صنفها فى هذه المسألة دعوى قطع الاصحاب على انه لا يجوز النقل عن الميت وان قوله يبطل بموته.

وعن الوحيد البهبهانى فى بعض (كلامه) انه اجمع الفقهاء على ان المجتهد اذا مات لا حجة فى قوله.

وفى المعالم : العمل بفتاوى الموتى مخالف لما يظهر من اتفاق اصحابنا على المنع من الرجوع الى فتوى الميت مع وجود الحيّ ، وفى رسالة ابن ابى جمهور الاحسائى ـ قدس‌سره ـ ما يظهر منه دعوى الاجماع الامامية على انه لا قول للميت ، وفى كلام بعض مشايخنا المعاصرين دعوى تحقق الاجماع على ذلك ، الى غير ذلك مما ربما يطلع عليه المتتبّع.

وقد بلغ اشتهار هذا القول الى ان شاع بين العوام الى ان «قول الميت كالميت».

وهذه الاتفاقات المنقولة كافية فى المطلب بعد اعتضادها بالشهرة العظيمة بين الاصحاب ، حتى ان الشهيد انكر على من ادعى وجود القائل به

٦٩٧

فقال :

ان بيد اهل العصر فتوى مدونة على حواشى كتبهم ينسبونها الى بعض المتاخرين تقتضى جواز ذلك.

ثم اخذ فى تزييف ذلك بعد القطع فيها بمخالفتها لفتوى المعروفين من ارباب الكتب والتصانيف من الامامية بوجوه :

منها : انها غير مصحّحة السند ولا متصلة السند الى من نمى اليه.

ومنها : انها مشتملة على جواز الحكم والقضاء للقاصر عن درجة الاجتهاد مع ان الاجماع واقع على بطلان ذلك منقول مصرح فيكفى بها عارا ومنقصة انتهى موضع الحاجة.

ويدل على المنع مضافا الى ما ذكر اصالة عدم الحجّية لعدم شمول ما دل على جواز التقليد والرجوع الى العلماء لما نحن فيه اما الاجماع فواضح الاختصاص ونحوه آيتا السؤال والنفر ، واما السنة فالموجود فيها الامر بالرجوع الى العلماء عموما وخصوصا واما العقل فلا يدل على جواز التقليد الا بعد ثبوت انسداد باب العلم والظن الخاص للمقلد.

والمفروض قيام الادلة الثلاثة المتقدمة على اعتبار قول المجتهد الحى فلا يجوز التعدى عنه الى ما لم يقم عليه دليل الا بعد عدم كفاية الظن الخاص والمفروض تمكن المقلد من الحى.

وربما يتمسك للمنع بوجوه أخر لا تنهض للدلالة عليه مطلقا واما ما لم يرجع الى الاصل المتقدم مثل ان المناط فى العمل ظن المجتهد الذى ينعدم بموته ومثل ان الميت لا عبرة بمخالفته فى تحقق الاجماع.

ثم ان بعض المعاصرين من المحدثين والمجتهدين مال الى تقوية

٦٩٨

خلاف ما عليه المشهور وجواز تقليد الميت وربما يستظهر من كلام الصدوق فى ديباجة الفقيه ، بل ومن الكلينى فى ديباجة الكافى ، ومن العلامة فى بعض كلماته على ما حكاه عنه ولده ، فيما حكى عنه ، وكل ذلك ضعيف دلالة او سندا.

وربما استدل عليه بعض من انتصره بوجوه اقواها وجوه :

احدها ـ الاستصحاب لان المجتهد فى حال حياته كان جائز التقليد ولا دليل على ارتفاع الجواز بالموت فيستصحب.

الثانى : ان عمدة ادلة التقليد دليل الانسداد حيث ان باب العلم بالواقع مسدود وليس للمقلد اقرب الى الواقع امارة (اقرب) من قول المجتهد ومن المعلوم ان لا فرق فى القرب الى الواقع بين الحى والميت.

وتوهم وجوب الاقتصار فى مقتضى دليل الانسداد على القدر المتيقن وقول الحىّ مدفوع فى محله بان دليل الانسداد ليس كاشفا عن حكم الشارع بالعمل بالظن النوعى للمقلد حتى يكون القضية مهملة يجب الاقتصار (فيها) على المتيقن ، وانما هو حاكم ومنشئ للحكم بتعين الاطاعة الظنية بعدم وجوب الاطاعة العلمية للتعذر او التعسر والاهمال والاجمال فى حكم العقل حتى تؤخذ بالمتقين ويطرح المشكوك وتمام الكلام فى محله. (١)

الثالث ـ اطلاق بعض الاخبار مثل قوله ـ عليه‌السلام ـ فى التوقيع المروى فى الاحتجاج والغيبة [و] كمال الدين من قوله ـ عجل الله فرجه ـ واما الحوادث الواقعة فارجعوا فيها الى رواة احاديثنا فانهم حجتى عليكم و

__________________

(١) ـ الرسائل : ص ٩٤ الطبعة الحجرية ـ تبريز ـ ١٣٢٠ ه‍ ـ الدليل الرابع من ادلة حجية مطلق الظن وهو الموسوم بدليل الانسداد.

٦٩٩

انا حجة الله عليهم (١) ، فان صدره وان كان ظاهرا بل صريحا فى كون المرجع حيا إلّا ان التعليل بكونهم حجة على الناس يقتضى عدم الفرق بين حالتى حياتهم وموتهم.

ويرد على الاستصحاب ما مرّ مرارا من عدم جريانه فيما احتمل مدخلية وصف فى عنوان الحكم كالحياة فيما نحن فيه ، مع انه يجب رفع اليد عنه على تقدير الجريان بالحكايات المتقدمة للاجماع والاتفاق المعتضدة بالشهرة العظيمة ، حتى انه لم يوجد مخالف معروف الى زمان المتاخرين.

وعلى دليل الانسداد انه انما يجرى فيما اذا لم يكن للمكلف طريق خاص منصوص من الشارع والتقليد طريق خاص ورد التعبد به بالاجماع وسيرة المسلمين والاخبار المتواترة الدالة على جواز الافتاء والاستفتاء فى الجملة وحينئذ فلما لم يعلم ان الطريق الخاص تقليد المجتهد مطلقا او خصوص الحى وجب الاخذ بالمتيقن وهو الحىّ ، ونظير هذا انه اذا قام الدليل الخاص على حجية الخبر بالخصوص فى الجملة وكان هناك قدر متيقن كاف فى استنباط معظم الاحكام عنه وجب الاخذ به ولم يصر الى حجية مطلق الظن.

وعلى الروايات : ان الظاهر من موردها على تقدير دلالتها على التقليد هو الرجوع الى الحى وان لم تدل على اعتبار الحياة بل يمكن ان يستدل من الحصر المستفاد من مقام تحديد المرجع على عدم جواز الرجوع الى غير الحى ، فافهم!

__________________

(١) ـ وسائل الشيعة : ١٠١ / ١٨.

٧٠٠