الفوائد الأصوليّة

الشيخ مرتضى الأنصاري

الفوائد الأصوليّة

المؤلف:

الشيخ مرتضى الأنصاري


المحقق: حسن المراغي « غفارپور »
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: شمس تبريزي
المطبعة: ايران يكتا
الطبعة: ١
ISBN: 969-94215-0-5
الصفحات: ٧٧٠

قلنا : هذا الفرد المحرّم منعنا اتّصافه بالوجوب التخييرى لانّ الحاكم بالتخيير اما الشرع او العقل ، والشرع لم يحكم بوجوب شيء من الافراد تخييرا فضلا عن الفرد المحرم ، وامّا العقل فهو مع امكان المندوحة وامكان الامتثال بالطبيعة فى الفرد المباح لا يرخص فى الامتثال بها فى ضمن الفرد المحرم ، فالوجوب بجميع اقسامه ينتفى فى ذلك الفرد حتى الوجوب المقدمى عند القائلين لانّ المقدمة المحرمة لا تتصف بالوجوب عندهم ايضا.

فان قلت : صحة العبادة لا بدّ لها من امر عينى او تخييرى وهذا الفرد على تقدير عدم كونه مامورا به يكون فاسدا فمن [اين] تثبت الصحة؟

قلنا : يكفى فى صحة الفرد انطباقه على المامور به واشتماله على الطبيعة المطلوبة ، بل الّذي يقتضى الصحة فى جميع الافراد حتى الافراد المباحة انّما هو مجرّد هذا المعنى لان ترخيص العقل فى الاتيان بالماهية فى ضمن الفرد لا مدخلية له فى الصحة لانّ المعتبر فى الصحة مطابقة الماتى به للمامور به شرعا ، ومن الواضح انّ الافراد المباحة من حيث كونها افرادا ليس مما يتعلّق بها الامر الشرعى والّا لكانت متصفة بالوجوب العينى.

والحاصل انّ مقتضى الصحة انما هو حصول الطبيعة المامور بها فى ضمن الفرد لا كون الفرد متعلّقا للامر ، ولا ريب انّ الفرد المباح والحرام من حيث حصول المطلوب فى ضمنها سيّان.

فان قلت : هب انّ الاوامر انّما متعلّق بالطبائع دون الافراد لكن لوازم الماهيات سارية الى جميع الافراد كالحلاوة فى افراد التمر فلا يلزم من جعل المطلوب نفس الطبيعة عراء الافراد عن الوجوب بل لا بد من سراية الوجوب

٣٠١

من الماهية الى الافراد حينئذ فيجتمع فى الفرد حينئذ الوجوب والحرمة.

قلنا : فرق بين الصفات واللوازم الذاتية وبين اللوازم الجعلية ، فانّ الاوّل يسرى الى الافراد حسب سريان الطبيعة ، بخلاف الثانى فانه يتبع مقدار الجعل فلا يسرى الى الافراد اذا كان الملحوظ فى جعله حال الطبيعة المطلقة يعنى احد وجوداتها ولو لم يكن متعلّق بطلب نفس ذلك الوجود الفرد ، ولذا لا يسرى الى افراد الماهية المامور بها الوجوب العينى مع اتّصافها به فتأمّل.

فان قلت : هب انّ الوجوب لا يسرى الى الفرد باعتبار كونه صفة جعلية انتزاعية عن الطلب المتعلّق لصرف الطبيعة ، لكن المصلحة والمحبوبية الّتى اقتضيا الوجوب ذاتيتان للطبيعة فلا بدّ من سرايتها الى الافراد ، فيلزم اجتماع الحب والكراهة فى الفرد المحرّم من حيث اشتماله على الطبيعة الحسنة والماهية القبيحة وهذا اجتماع الضدين فى محل واحد.

قلنا : لا نسلم انّ المحبوبيّة والمبغوضيّة لا يجتمعان فى الواحد الشخصى لجهتين مختلفين ، فانّ تعدّد الجهة مجد فى تكثر المتعلّق فى مثل الحبّ والبغض والمصلحة والمفسدة ونحوها من الاوصاف المختلفة باختلاف الجهات والحيثيات ، لانا نجد من انفسنا ان كثيرا من الاشياء محبوب عندنا لبعض ما يترتّب عليه من الآثار ومبغوض عندنا لبعضها الآخر ، كما فى كثير من الادوية والاغذية النافعة للطبائع من جهة والضارّة لها من جهة اخرى ، والسر فى ذلك هو ان متعلّق الحب والبغض او المصلحة والمفسدة مع تعدد الجهة انما هى الجهة المفروض تعددها حسب تعدد الحبّ والبغض ، وهذا بخلاف الوجوب والكراهة ونحوهما من الاحكام فانّهما اذا اجتمعا فى فعل

٣٠٢

واحد لزم اتّصاف ذلك الفعل بالمطلوبية والمنع واستحالته واضحة والوجدان اقوى بيّنة عليه وهذا الدليل عنده اقوى معظم ادلة المجوزين.

وما ذكرنا فى تقريره يغاير تقريراتهم له فى بعض الجهات عدلنا عنها اليه لتشييده فانه يتمّ على القول بان متعلق الاوامر هو الافراد ايضا لان الفرد المعين المخصوص بخصوصيته ايضا ليس متعلق الوجوب بل الوجوب انّما يتعلق بالفرد الكلى الصادق على المحرّم وغيره على حد سواء بخلافه ـ على تقرير بعضهم كالمحقق القمى ـ فانّه جعل مبنى الاستدلال على تعلق الامر والنهى بصرف الطبيعة لا بشرط.

وجوابه ان غاية ما يلزم من ارجاع الامر الى الطبيعة وارجاع النهى الى الفرد ، انّ مادة الاجتماع كالصلاة فى المكان المغصوب يكون فردا لاحد الضدين وهو الواجب وعين الضد الآخر وهو الحرام وهذا ايضا مستحيل نحو استحالة اجتماع نفس الضدين.

توضيح ذلك انّ اجتماع الضدين يتصوّر على وجوه ثلاثة :

احدها ـ ان يجتمع نفسهما فى محل واحد كاجتماع السواد والبياض فى واحد شخصى.

والثانى ـ ان يجتمع مصداقهما فى الوجود الخارجى بحيث يعدّان موجودا واحدا كاجتماع الاسود والابيض فى بعض الموجودات الخارجية.

والثالث ـ ان يجتمع نفس احدهما ومصداق الآخر مثل ان يكون جسم واحد مصداقا للابيض ومحلا للسواد.

وجميع هذه الصور مستحيلة لانّ مرجعها جميعا الى اجتماع السواد و

٣٠٣

البياض فى موضوع واحد.

وحينئذ نقول : انّ الامر ان كان متعلقا بالطبيعة والنهى ايضا متعلقا بها ـ كما يقول المحقق القمى ـ لزم اجتماع نفس الوجوب والحرمة فى شيء واحد شخصى نحو اجتماع نفس السواد والبياض فى جسم واحد.

وان كان كل منهما متعلقا بالفرد ـ كما يقول به القائلون بان متعلّق الاوامر والنواهى هو الافراد ـ لزم اجتماع الواجب والحرام فى مصداق واحد على نحو الاتّحاد بحسب الوجود الخارجى نحو اجتماع الابيض والاسود فى بعض الاجسام على نحو الصدق والاتحاد.

وان كان متعلّق الامر هى الطبيعة ومتعلق النهى هو الفرد ـ كما هو مبنى الاستدلال على تقريرنا ـ لزم اجتماع نفس احد الضدين اعنى الحرمة مع مصداق الضد الآخر وهو الواجب ، ويكون ذلك الفرد حينئذ موضوعا للحرام بالحمل الاولى مثل قولنا : الانسان حيوان ناطق ، فيقال انّه حرام يعنى انه مما تعلق به النهى بخصوصه وموضوع الواجب بالحمل المتعارف مثل قولك : زيد انسان.

فيقال : انه واجب يعنى فرد من الواجب وهذا النحو من المغايرة لا يجدى فى الحمل فى اجتماع الضدين.

والحاصل انه لا مناص على القول باجتماع الامر والنهى من كون الفرد المحرم مصداقا للضدّين اعنى الواجب والحرام وهو مستلزم لاجتماع نفسهما كما لا يخفى ، واجتماع الضدين من المستحيلات الاولية ، على ان هذا الكلام فى الاستدلال لو تمّ لكان لا مانع من اجتماع الوجوب العينى مع تعدّد

٣٠٤

الجهة واختلاف الماهية بحسب المفهوم كالصلاة فى الدار المغصوبة حال ضيق الوقت ، مع ان احدا لا يلتزم بذلك ، ودعوى انّ عدم الاجتماع هنا مستند الى قبح التكليف بالفعل والترك عينا لا الى اجتماع الضدين مدفوعة بانّ منشأ القبح ليس إلّا كونه تكليفا بالمحال ، ولا سبب للاستحالة الا كون المكلف به جامعا بين الضدين ، فلو لا كان الامر والنهى بشيء من جهتين مستلزما لاجتماع الضدّين فى ذلك الشيء لما قبح التكليف بالفعل والترك معا اذ لا يتصور وجه للاستحالة الّا ذلك.

الثالث ـ من ادلة الجواز هو التمسّك والتشبّث بدليل العرف بادعاء انّ العبد اذا اتى بالمامور به فى ضمن الفرد المحرم عدّ مطيعا من جهة وعاصيا من اخرى ، فلو لا كان اجتماع الامر والنهى بمعنى كون الشيء الواحد واجبا وحراما باعتبار ماهيتين مختلفتين جائزا ، لكان امّا عاصيا ان قيل بانتفاء الامر او مطيعا ان قيل بانتفاء النهى ، او لا عاصيا ولا مطيعا ، لان الاطاعة لا يحصل إلّا بفعل المامور به ، والعصيان لا يتحقق الّا بارتكاب المنهى عنه.

وقد مثل الحاجبى والعضدى له اذا امر المولى عبده بخياطة ثوب فخاطه فى المكان المنهى عنه قائلا بانّ هذا العبد مطيع من جهة الامتثال لامر الخياطة وعاص من جهة مخالفة النهى ، ولعل التمثيل هذا منزل على ما اذا كان المنهى عنه هو التصرف فى هواء المكان والّا لكان من امثلة اجتماع الامر والنهى فى شيء واحد موردا لا مصداقا كقراءة القرآن فى المكان المغصوب الذى هوائه مباح وكان خارجا عن محل البحث الّذى هو اجتماع المصداقى كما لا يخفى.

٣٠٥

وكيف كان فالجواب عن هذا الدليل هو المنع من صدق الاطاعة هنا اذ قد برهنا على امتناع تعلق الامر بالمنهى عنه وحيث لا امر لاطاعة جدا ، لان الاطاعة عبارة عن امتثال الامر.

نعم يسقط الامر فى التوصليّات باتيان المطلوب فى ضمن الفرد المحرم لاجل حصول مقصود الآمر او لانتفاء الموضوع على اختلاف الموارد ، ومثال الخياطة من قبيل الاوّل واين هذا من صدق الاتيان بالواجب وحصول الاطاعة.

وقد يوجه الاستدلال بان صدق الاطاعة دائما لا يتوقف على تعلق الامر الفعلى بالمأتى به ، بل ربما يتحقق من دون اتصافه بالوجوب الفعلى وذلك فيما اذا كان الماتى به مساويا مع سائر افراد المامور به فى المصلحة والاشتمال على غرض المولى ، وكان عدم الامر مستندا الى قصور الطلب عن التعلق به باعتبار مانع عن ذلك كتعلق طلب آخر بتركه.

وهذا نظير ما قلنا وبينا واستدللنا عليه فى البحث عن مقدمة الواجب ، من ان قصد الفعل غير معتبر فى تحقق الواجب وان كان الطلب قاصرا عن التعلق بغير المقصود نظرا الى عدم الفرق بينه وبين المقصود من حيث الاشتمال على غرض المولى.

وحينئذ نقول انّ تعلّق الطلب بالفرد انّما يمتنع لاجل اتّصافه بالحرمة ، لانّ المفروض مساواته مع المباح فى مصلحة الامر والاندراج تحت المامور به والاشتمال على غرض المولى ، فلو اتى به المكلف قاصدا الى تحصيل غرض المولى عدّ مطيعا وكان ممدوحا من هذه الجهة ، ولو كان عاصيا ومذموما

٣٠٦

من جهة اخرى ومن هذا البيان يندفع الفرق بين التعبّدى والتوصّلى ، لانّ الفرق بينهما ليس الّا من جهة اعتبار قصد التقرّب فى الاوّل دون الثانى ، وما ذكر من قصد تحصيل الغرض يكفى فى تحقق القربة من جهة هذا القصد كما لا يخفى.

وهذه قصارى ما توجّه به الاستدلال المزبور الّا انّه بعيد عن الوجاهة فى الغاية ، لانّ القصد الى تحصيل الغرض انّما يتصوّر فى التوصليّات الّتي يعلم مقصود الآمر من الامر بها ، واما التعبّديات الّتى لا علم بالمقصود بها سوى التعبّد والانقياد المتوقفين على قصد الامتثال بالمامور به ، فلا يتصور فيها القصد الى تحصيل الغرض جدا ، ولو علم فهذا القصد لا يقتضى إلّا اتّصاف العبد بالمدح من جهة كونه فى صدد تحصيل الاطاعة.

وامّا اقتضائه صدق الاطاعة الّتى يتوقّف على اتيان المامور به لداعى الامر فمستحيل مع فرض انتفاء الامر جدا ، ومن هنا يظهر وجه سقوط الامر فى التوصليات المطلوب فيها حصول نفس المطلوب دون التعبديات من حيث انّ المقصود فى التوصليات اعمّ من المطلوب ، وقضية ذلك حصول المقصود فى ضمن الفرد المحرم وان لم يكن مطلوبا باستحالة تعلّق الطلب بالحرام ، بخلاف التعبديات فان المقصود فيها ، اخص من المطلوب لاشتراط قصد التقرب فى سقوط الامر مع امتناع اعتباره فى نفس المطلوب كما مر غير مرّة.

فالمقصود منها لا يحصل إلّا باتيان الفرد المتّصف بالوجوب الفعلى مع قصد القربة فافترق التوصلى عن التعبدى فى موضعين وشاركه فى موضعين.

٣٠٧

فانّ سقوط التكليف تارة يكون بالاطاعة واخرى بالمعصية ، وثالثة باتيان الفرد المتصف بالوجوب لا بقصد القربة ، ورابعة بحصول الغرض وهما يتشاركان فى الاولين ويفارق التوصلى التعبدى فى الاخيرين ، فيسقط التكليف به فيها دون التعبدى كما ظهر ايضا.

انّ ما فى المقام من اختصاص الامر بغير الفرد المحرم تخصيص عقلى ، مستند الى صرف وجود المانع وهو النهى مع وجود المقتضى الّذي هو الحسن والمصلحة لا انّه تخصيص شرعى تعبدى يوجب خروج ذات المحرم عن اطلاق الامر ، حتّى يتفرع على ذلك فساده فى صورة عدم النهى الفعلى كحالة الجهل والغفلة ايضا ، فيستظهر المجوز على المانع ويقول : انّ مادّة الاجتماع كالصلاة فى الدار المغصوبة لم يتعلق بها الامر ، على هذا حكم معاشر المانعين ، وقضية ذلك فساد الصلاة الّتى هى مصداق للغصب وتصرّف فى مال الغير ولو ارتفع عنه النهى الفعلى كما فى حال الجهل والنسيان ونحوهما من الاحوال المانعة عن مجيء الخطاب الفعلى مثل عدم البلوغ والاضطرار ، مع انّكم لا تقولون بذلك بل تلتزمون بصحة صلاة الصبى فى المكان المغصوب وصلاة الجاهل بالغصب او ناسيه او الواقع فيه اضطرارا.

لانّا نقول : انّ اختصاص الطلب ببعض افراد المامور به دون بعض تارة يكون باعتبار فقدان المقتضى كما فى التخصيصات اللفظية القاضية بخروج الفرد الخاص عن مراد المتكلّم بالعامّ مثل قولك : اكرم العلماء الّا زيدا ، فانّ عدم وجوب اكرام زيد انّما هو لاجل فقدان مصلحة الامر وعدم اندراجه من

٣٠٨

رأس تحت مراد المتكلّم من لفظ العام ، واخرى يكون باعتبار وجود المانع مع العلم بوجود المقتضى ، وذلك حيثما علمنا انّ عدم تعلق الامر به مستند الى قصور الطلب باعتبار مانع عقلى عن ذلك وفهمنا اشتمال الفرد على تمام مصلحة الامر وانّه لو لا ذلك المانع لكان هذا الفرد وسائر الافراد متساوية فى الاندراج تحت الطلب والامر كما فى باب التزاحم ، فانّ ارتفاع الوجوب عن الواجب الّذي زاحمه ما هو اعم منه فى الوجوب او ارتفاع الوجوب العينى عن احد الواجبين المتزاحمين المتساويين فى الاهتمام ليس الّا لممانعة وجوب الآخر مثل وجوبه عنه ، بحيث لو فرض انتفاء هذا المانع بان خرج احدهما عن الوجوب كان الآخر متّصفا بالوجوب نحو غيره من الافراد.

وحينئذ نقول : انّ قولنا : «انّ الفرد المحرّم لا يسرى اليه الامر الّا الامر بالطبيعة» ليس معناه انّه خروج عن تحتها بنحو التقييد والتخصيص اللفظى القاضى بخروج ذاته وهو نفس تصرف الباطل عن تحت الطبيعة المامور بها ، حتى يلزمه الفساد على اى نحو وقع وفى جميع الاحوال ، بل معناه انّه مع وجدان مصلحة الامر واندراجه تحت الطبيعة المامور بها ، لا يتصف بالوجوب لمانعية من النهى والحرمة الفعلين كعدم اتّصاف احد المتزاحمين بالوجوب العينى لما هناك من ممانعة وجوب الآخر عنه ، فكما انّ الوجوب العينى فى احد المتزاحمين يدور مدار عدم الوجوب العينى فى الآخر ، بحيث لو فرض ارتفاع الوجوب عن احدهما مثل ان ينقضى وقته او يتعذر فعله او نحو ذلك ، كان الآخر واجبا عينيا لوجود المقتضى وارتفاع المانع ، فكذلك الوجوب فى الفرد المحرم يدور مدار عدم النهى بحيث لو ارتفع النهى بجهل

٣٠٩

او صغر او اضطرار اتّصف ذلك الفرد بالوجوب نحو اتّصاف بقية الافراد.

فان قلت : كما ان الوجوب والحرمة متضادّان لا يجتمعان فى محل واحد ، كذلك المصلحة والمفسدة اللّتين هما علّتا الوجوب والحرمة عند العدلية ايضا متضادّان ، فما معنى قولك : انّ عدم تعلق الوجوب بالفرد الحرام مستند الى وجود المانع كما فى باب التزاحمين لا الى فقد المقتضى اعنى المصلحة كما فى التخصيصات اللفظية.

قلنا قد عرفت غير مرّة انّ المصلحة والمفسدة لا مضادّة بينهما بوجه مع تعدد الجهة ، لان موضوع كل من المصلحة والمفسدة حينئذ الجهة.

ويشهد بذلك قضاء الوجدان بانّ الشيء اذا كان نافعا من جهة وضارّا من جهة اخرى اتّصف بالمحبوبية والمبغوضية من جهتين.

نعم بين علتى الوجوب والحرمة الثابتين اعنى المصلحة والمفسدة المطلقين ضدية نحو ما بين الوجوب والحرمة وامّا اجتماع مقتضى احدهما مع علة الآخر كما فى المقام فلا استحالة فيه جدا لعدم الضدّية.

فان قلت : سلّمنا عدم المضارّة بين مقتضى الوجوب والحرمة ـ اعنى المصلحة والمفسدة ـ اذا لم يبلغا حدّ العلّة التامة لكن ينبغى عند اجتماعهما فى شيء واحد يتعدد ملاحظة عليّة احدهما على الآخر ، فان كان الغالب هى المصلحة كان متصفا بالطلب ، وان كان الغالب هى المفسدة كان محلا للمنع ، وان تساويا اتّصف بالاباحة.

وحينئذ نقول : اذا ارتفع النهى الفعلى عن الفرد المحرّم كالصلاة فى المكان المغصوب مع جهل او اضطرار او نحوهما ، فلا ريب فى بقاء المفسدة

٣١٠

الّتى كانت مقتضية للنهى ، لانّ العلم والجهل والاضطرار وامثالها من الوجوه والاعتبارات لا يختلف باختلافها المصالح والمفاسد النفس الامرية على التحقيق ، فحينئذ ينبغى الموازنة بين منقصة النهى ومصلحة الامر.

ثمّ الحكم بمقتضى ما هو الاغلب والآكد لا بالوجوب ، ليس الّا لما هو قضية قولكم بصحة صلاة الجاهل والمضطرّ باعتبار تعلّق الوجوب بها حينئذ ، لارتفاع المانع الّذي هو النهى الفعلى.

وبالجملة ينبغى الحكم بفساد العبادة ايضا ولو ارتفع النهى لما فيه من المنقصة المانعة من تعلّق الوجوب من غير فرق بينه وبين ما اذا كان النهى الفعلى موجودا لانتفاء الامر فى الصورتين.

قلت : بعد تسليم انّ المنقصة لا يرتفع بما يرتفع به النهى الفعلى كالجهل والاضطرار مع ان للمنع فيه مجال واسع ومعركة للآراء ـ نقول انّ الّذى نقول من موازنة المنقصة والمصلحة ثم الاخذ بالغالب انّما يجدى فيما اذا كان ما فيه المنقصة من الفرد اختياريا للمكلّف ، بحيث امكن زجره وتبعّده عن ذلك الفرد ، امّا بالنهى او تقييد الامتثال بالامر لغيره من الافراد ، وامّا اذا كان مما يقع فيه المكلف قهرا ويصل اليه المنقصة البتّة ، سواء كان قد قصد الامتثال بالواجب له او لم يقصد كما فى صورة الجهل والاضطرار.

فلا يثمر ملاحظة الغلبة بل يجوز الامر به ولو كانت المنقصة اكثر مما فيه من المصلحة ، اذ المفروض انّه لا بد له من الاقتحام فى تلك المنقصة وانّها لازمة له ، سواء كان تعلّق الامر به ام لا وسواء قصد الامتثال بالمامور به فى ضمنه ام لا ، وسواء امتثل به فى بقية الافراد ام لا.

٣١١

والحاصل ان وجود المصلحة يقتضى تعلق الوجوب ولا يمنع عنه سوى النهى الفعلى والمفروض عدمه وسوى المنقصة التى يمكن المكلف من الاحتراز عنها اذ لو لم يمكن من ذلك فمجرد وجودها غير صالح للمانعية ، والسّر فى ذلك هو ان المانع عن تعلق الوجوب بواحدها من الافراد ، انما هو لزوم كون فعل الحكيم على وفق الحكمة اذ لا حكمة فى الامر بما فيه منقصة معارضة للمصلحة مع امكان الامتثال بما ليس فيه تلك المنقصة المعارضة وهذا المانع غير موجود فيما لا مناص للمكلّف من الوقوع فى تلك المنقصة ، فيكون الفرد الواحد للمنقصة والعارى عنها متساويين فى مصلحة الامر.

اذا عرفت ذلك كلّه فههنا فيه تنبيه للتحقيق وهو انّ ما ذكرنا من تعلق الوجوب بالحرام عند ارتفاع النهى الفعلى عنه لجهل او اضطرار وشبههما ، انّما هو اذا كان ذلك الارتفاع غير مسبب عن اختيار المكلف ، واما اذا كان كذلك مثل ان اوجد المكلف باختياره سبب الحرام ، ولمّا يقع فيه بعد ـ كما اذا نهاه عن الارتماس فى ماء بئر فى نفسه من فوقه عصيانا للنهى ـ فهل يجوز تعلّق الوجوب حينئذ بذلك الحرام فيحصل البراءة من التكليف الممكن امتثاله فى ضمنه كالغسل فى المثال المزبور ام لا؟

وبعبارة اخرى هل العبرة فى الارتفاع بحال الفعل او بحال المقدمات ـ وان شئت قلت هل يعتبر فى الاضطرار الرافع للنهى والمقتضى لتعلق الوجوب وصحة الامتثال ـ ملاحظة حال المكلف حين مباشرة المنهى عنه او حين صدور النهى؟

فان كان الاوّل لزم الحكم بصحة العبادة لانّ الفعل بعد تحقّق مقدماته

٣١٢

يكون واجبا فلا يكون موردا للنهى جدّا ، وان كان الثانى لزم الحكم بالفساد لكونه حين صدور النهى كان اختياريا متعلّقا للخطاب بقوله : «لا ترتمس» فى المثال المزبور فيكون غير مامور به.

ثمّ المراد بكونه اضطراريا كونه كذلك بالنسبة الى النهى ، وامّا بالنسبة الى الامر فليفرض كونه اختياريا مثل ان يكون الغسل فى المثال المزبور موقوفا على نحو حال من الارتماس باق تحت قدرته وجودا وعدما ، فانّ الاضطرار بالقدر المشترك بين فردين لا ينافى بقاء الاختيار بالنسبة الى تعيين احدهما ، وليس فى كلام الاصحاب عنوان مستقل لهذا المرام غير انّ فى كثير من فتاويهم فى الفقه ما يشعر بالاوّل ، حيث انّهم يحكمون بفساد عبادة الجاهل بحكم الغصب وكذا بفساد صلاة كل من جهل بحكم شيء من المحرّمات الّتى يدور فساد الصلاة مدار حرمتها الفعلية كالقران والتكفير ولبس الحرير ونحوها ، مما استفيد مانعيتها من صرف النهى على القول بانّها كذلك ، وهذا لا ينطبق الّا على الوجه الاول من كون الاضطرار الناشئ عن الاختيار غير معتبر فى زوال حكم النهى الّذى هو الفساد.

فيظهر منهم حينئذ انّ ارتفاع النهى الفعلى انّما يجدى فى صحة العبادة اذا كان مسببا عن الاضطرار والجهل الغير الصادرين عن سوء الاختيار كما انّه يظهر عكس ذلك من حكمهم بصحة صلاة من توسط دارا مغصوبة زمن الخروج اذا لم يفض الى زيادة تصرّف من حيث الركوع والسجود ونحوهما كحالة الضيق ، فانّ الخروج لا خفاء فى كونه من افراد الغصب المحرّم ولا فى كونه منهيا عنه بالنهى عن مطلق الغصب قبل الدخل فلا يبقى وجه لصحة

٣١٣

الصلاة حينئذ الّا ملاحظة ارتفاع النهى الفعلى بسبب الاضطرار الناشئ عن اختيار المكلف.

والتحقيق هو انّ مناط تعلق الوجوب وصحة العبادة ليس مجرد زوال النهى بل لا بدّ فيها ان يكون العبادة مصداقا للمعصية ، لانّ العصيان يمنع عن تحقق الاطاعة ببداهة العقل.

ومن الواضح انّ الاضطرار الناشئ عن سوء الاختيار انما يرفع على ما هو الحقّ عندنا نفس الخطاب وامّا العصيان فليس مما يرتفع بمثل الاضطرار الناشئ عن الاختيار والّا فلا يتحقق العصيان قطّ ، لانّ صدور كل فعل من الافعال الاختيارية مسبوق بعلّته التامّة الّتى لا يتعقّل انفكاكه عنها بعد تحقّقها ، فيكون الفعل حين صدوره من المكلف واجبا بالعرض ناشئا عن اختياره علة الوجود ، فالارتماس فى المثال المزبور وان لم يكن قابلا لتعليق النهى به بناء على كون الامتناع بالاختيار منافيا للاختيار تكليفا ، الّا انه عين المعصية الّتى كانت منهيا عنها لانّ زمان المعصية لا بدّ ان يتأخّر عن زمان النهى فى جميع المحرمات المنهى عنها.

وان شئت قلت : انّ الارتماس المزبور فى المثال المذكور واجد النهى الفعلى لانّه هو الّذى كان منهيا عنه ولا معنى لاتّصاف الشيء بالنهى الفعلى الّا تعلق النهى به وجود علته التامة وإلّا فبعد فرض وجودها يخرج عن كونها اختياريا كما لا يخفى ، وامّا حكمهم بصحة الصلاة حال الخروج عن الدار المغصوبة فلا يكون نقضا عينا ، لانّ حكمهم بها انّما هو لاجل منع تعلّق النهى بالخروج من اوّل الامر قبل الدخول فى الدار ، لانّ الخروج باعتبار كونه

٣١٤

تخلصا عن الغصب مامور به عقلا ونقلا.

بل الّذى تدلّ على وجوبه هو عموم قوله «لا تغصب» ضرورة دلالته بالفحوى او من باب الوجوب المقدّمى على وجوب ما هو مقدّمة للخلاص عن الغصب والخروج باعتبار كونه مقدّمة للتحرّز عن الغصب المتأخر عن مقدار زمان كونه متّصفا بالوجوب نحو الوجوب العارض لاسباب الواجبات او ترك المحرمات فلا يكون فى شيء من الازمنة متعلقا للنهى ، امّا بعد الدخول فى الدار فواضح مما ذكرنا ، وامّا قبل الدخول فهو وان كان من حيث ذاته غصبا مقدور الترك بترك الدخول الّا ان المأخوذ فى موضوعه تاخّره عن زمان الدخول ، فهو اذا باعتبار موضوعه متعلّق الوجوب دون النهى ، اذ لا يخفى كونه بملاحظة ذاته وموضوعه هذا مصداقا للتخلص عن الغصب او سببا له.

وهذه الملاحظة لازمة لوجوده الخارجى باعتبار كونه تخلصا عن الغصب ودافعا للاقبح يستحيل ان يتّصف الّا بالمطلوبية والوجوب وسيأتى لهذا زيادة توضيح عند البحث عن اجتماع الامر والنهى باعتبار الجهتين اللتين لا ينفكّ إحداهما عن الاخرى.

وبالجملة اذا وجب الفعل المحرّم باختيار المكلف فهو كما اذا لم يجب وكان باقيا بصفة الاختيار فى عدم جواز تعلق الامر به وعدم حصول الامتثال بالواجب فى ضمنه لا يقال حصول الاضطرار بالنسبة الى الارتماس المشترك بين الغسل وغيره لا يمنع عن تعلق المطلب والتكليف بالاوّل بعد تحقّق الاضطرار بالقدر المشترك ، لانّ المانع امّا كونه فعلا اضطراريا غير قابل لتعلق

٣١٥

التكليف فليس لانّ المفروض بقاء الاختيار بالنسبة الى احد الفردين ، كما هو الشأن فى كل مقام يضطرّ فيه المكلف الى امر مشترك بين الفردين ، واما تعلّق النهى الفعل به وهذا ايضا غير موجود لانّ النهى الفعلى قد ارتفع بعد تحقق الاضطرار عن القدر المشترك فكيف عن الخصوصية.

واما كونه معصية وهو ايضا ممنوع لانّ الفرد من حيث الخصوصية لم يكن متعلق النهى قطّ ، فلا يكون معصية من حيث كونه فردا.

وان كان معصية من حيث الوجود القدر المشترك وهو الارتماس المطلق فى ضمنه كيف واتيان مجموع الافراد فى آن واحد خارج عن غير القدر والنهى. (١)

وان كان متعلقا بجميع الافراد من حيث كونها افرادا الزم تعلق النهى بامر محال.

وان كان متعلّقا ببعض دون بعض فهو ترجيح بلا مرجح.

وان كان متعلقا بالفرد الكلى فهذا مرجعه الى ما قلنا من خلو الفرد المخصوص المعين بوصف خصوصية عن النهى ، فما المانع حينئذ من تعلق الامر به من حيث الخصوصية مثل تعلق الامر بفرد خاص من الارتماس المضطر اليه باعتبار خصوصية الغلبة.

لانّا نقول : سلّمنا انّ الفرد من حيث الخصوصية الفردية لم يتعلّق به النهى السابق حتى يكون معصية ، لكن من حيث كونه فردا من المحرّم وهو الارتماس مثلا لا خفاء فى كونه معصية ، كما اعترف بذلك ، ومن الواضح انّ

__________________

(١) ـ كذا فى المخطوط.

٣١٦

الشيء الّذى هو فرد من المعصية لا يجوز ان يكون طاعة من حيث الخصوصية على انّ مع توجه النهى الى الخصوصية ممنوع.

وما ذكر من لزوم كونه تكليفا بالمحال لامتناع جميع الافراد فكيف يكون منهيا عنه ، يدفعه انّ المحال انّما هو النهى عن جميع الافراد عينا ، واما اذا كان على سبيل التخيير الناشئ من امتناع الاجتماع فلا استحالة فيه فان المكلف فى كل آن منهى عن جميع المحرّمات مع اجتماعها فى الوجود غير ممكن ، فمعنى النهى العينى عن جميع افراد المحرم على سبيل الاستيعاب هو وجوب ترك كل واحد منها اذا اقتدر عليه.

وهذا لا ينافى كون الفرد من حيث كونه فردا منهيا عنه هذا.

٣١٧

تذنيب

[اجتماع الامر والنهى فى المغصوبة]

قد اتّفق المانعون والمجوّزون على عدم جواز اجتماع الامر والنهى فيما لا يمكن انفكاك احدى جهتى الامر والنهى عن الاخرى اذا لم يكن سبب اجتماعهما معصية المكلف ، لاستحالة التكليف بالممتنع ببديهة العقل.

واما اذا كان سبب اجتماع الجهتين عصيان المكلّف وسوء اختياره مثل من توسّط ارضا مغصوبة ، ففى جواز اجتماع الامر والنهى فى الخروج حينئذ قولان :

احدهما ـ الجواز وهو المحكى عن ابى هاشم واختاره المحقق القمى ناسبا له الى اكثر افاضل المتاخرين وظاهر الفقهاء.

والثانى ـ العدم وهو مختار كل من يمتنع عن اجتماع الامر والنهى فى غير المقام ، وهم بين من يقول بانه منهى عنه وليس بمأمور به ومن يقول بالعكس مع جريان حكم المعصية عليه ، وهو المحكى عن الفخر الرازى واختاره بعض من اجلّتنا ما دلالة الى التفكيك بين الامر والنهى بحسب الزمان كما سنشير اليه ، وبين من يقول بذلك بدون اجراء حكم المعصية.

وقد نسب ذلك الى قوم من دون التصريح بهم ولعلّه الظاهر من قول جماعة كالعضدى والحاجبى بكونه مامورا به وليس منهيا عنه بل هو الظاهر

٣١٨

من كلام الفقهاء القائلين بصحة الصلاة حين الخروج. فالاقوال حينئذ اربعة ، اقواها فى النظر هو الاخير.

لنا على كونه مامورا به ، انّ التّخلص عن الغصب واجب عقلا وشرعا ولا سبيل اليه الّا بالخروج ، فيكون مامورا به عينا وعلى عدم كونه منهيا عنه ومعصية ما ستعرف فى تزييف الاقوال الأخر.

حجة القول الاوّل ـ وهو اجتماع الامر والنهى معا انهما ـ لهو الامر بالتخلص والنهى عن الغصب ـ دليلان يجب اعمالهما ولا موجب لتقييد احدهما بالآخر ، اذا الموجب امّا فهم العرف كما فى العام والخاص المطلقين مثل قوله : صلّ ولا تصلّ فى الدار المغصوبة لانهما ليسا من قبيل ذلك ، او العقل فكذلك ، لانّه لا استحالة فى كون الخروج واجبا عينا وحراما باعتبارين مختلفين ، لانّ منشأ الاستحالة امّا لزوم اجتماع الضدين وقد ظهر جوابه عند من يجوز اجتماع الامر والنهى فى شيء واحد مع تعدّد الجهة.

وامّا لزوم التكليف بما لا يطاق وفيه انّه لا دليل على استحالته اذا كان سببا عن سوء اختيار المكلّف بل الّذى يظهر من حكم الفقهاء ، بكون المرىء مكلّفا مع عدم صحة العبادة منه والمستطيع مكلّفا بالحج اذا أخّره اختيارا خلاف ذلك.

وفيه ان المانعين من اجتماع الوجوب والحرمة فى الخروج كلاهما موجودان :

امّا الاوّل : وهو لزوم اجتماع الضدّين فلما حقّقناه فى ابطال حجج المجوّزين من انّه لا مناص عن تصادق الضدّين فى الواحد الشخصى على

٣١٩

القول به ، وانه لا يجدى تعدّد الجهة فى استحالة ذلك وفى خروجه عن اجتماع الضدّين.

وامّا الثانى : وهو لزوم التكليف بما لا يطاق فهو ايضا موجود فى المقام اذ لا يخفى على احد انّ التكليف بالفعل والترك معا فى آن واحد تكليف بمستحيل يوجب نسبة المكلف الى سخافة الرأى وركاكة العقل من غير فرق بين ان يكون العبد مسبوقا بالمعصية ام لا ، فانّ احدا من العرف والعقلاء لا يتوقّف فى توبيخ الآمر حتّى يستفصل عن حال العبد من انّه بسبب سوء اختياره استحق لهذا التكليف الّذى يستحيل امتثاله ، او ان الآمر كلف به من غير صدور معصية عنه.

وامّا ما يقال : من ان الامتناع بالاختيار لا ينافى الاختيار فليس معناه انه يجوز التكليف بالممتنع الذى كان امتناعه ناشئا عن سوء اختيار المكلف ، كيف واستحالة ذلك مما لا يخفى على كل من يمنع عن التكليف بالممتنعات الذاتية ، بل معناه ـ على ما سبقت منا الاشارة اليه فى بحث وجوب المقدمة ـ انّ افعال العباد باعتبار عروض الامتناع لها اختيارا ، كما اذا اختار العبد علّة وجود الفعل او عدمه لا تتصف بالاضطرار الموجب لسقوط التكاليف رأسا بل هى اختيارية قابلة لتعلّق التكاليف لا انّها بعد عروض الامتناع لهما فعلا ولو بسوء اختيار المكلف يجوز التكليف الفعلى بها.

نعم يترتّب على هذا الامتناع الاختيارى احكام التكاليف الفعلية من العقاب والذمّ فى عدم الامتثال ، وهذا احد المعنيين لقولهم «الامتناع بالاختيار لا ينافى الاختيار» وهو المشهور فى معنى القول المزبور.

٣٢٠