الفوائد الأصوليّة

الشيخ مرتضى الأنصاري

الفوائد الأصوليّة

المؤلف:

الشيخ مرتضى الأنصاري


المحقق: حسن المراغي « غفارپور »
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: شمس تبريزي
المطبعة: ايران يكتا
الطبعة: ١
ISBN: 969-94215-0-5
الصفحات: ٧٧٠

فان قلت : اذا فرض ثبوت الملازمة واقعا بين ذلك العنوان وبين مطلق ترك العبادة كالصوم مثلا كان الامر بها وتركها حينئذ لغوا ، لانّ المكلف لا يخلو عن واحد من الفعل والترك ، والمقصود من الطلب حصول المطلوب وبعد فرض حصوله من المكلف البتّة كان الامر به لغوا ، فلا يستقيم جعل الفعل والترك متعلّقين للطلب الاستحبابى تخييرا.

قلنا : ان كان مطلوبية الشيء وحسنه غير منوط بقصد القربة فبعد فرض حصوله من المكلف يقينا كان الامر لغوا ـ كما فى الواجبات والمستحبات التوصلية ، واما ان كان الحسن فيه متوقفا على قصد القربة ـ كما فى العبادات ـ وجب الامر به حينئذ لتوقف قصد القربة على ذلك.

وحينئذ نقول : انّ ترك الصوم وتركه سيّان فى الحسن والمطلوبية مع توقف حسن الترك على قصد الامتثال كما فى الفعل.

ولا يذهب عليك ان كلامنا هذا ليس اعترافا بما تقدم ذكره عن بعض الأجلّة ، حيث جعل مبنى الكراهة فى العبادات مطلوبية تركها مقيدا بقصد القربة لا مطلق الترك ، قائلا بانّه ليس من باب اتّصاف النقيضين لفى الفعل والترك المطلقين بالمطلوبية والرجحان ، بل من باب اتّصاف الضدين ، لان مرجع هذا الكلام الى تعلق الرجحان والطلب بذات الفعل والترك من حيث ذاتهما نظرا الى عدم صلاحية قصد القربة لان يكون قيدا فى المطلوب كما مر بيانه مفصلا.

وحاصل كلامنا : انّ الترك المقيد بامر خارج مجامع معه فى الوجود وهو الذى تعلّق به الطلب وان قصد القربة انّما هو المستفاد من جهة كون هذا

٢٨١

الترك المقيد بذلك الامر عبادة متوقفا حسنها على نية الامتثال.

بقى هنا شيء وهو : ان الكراهة بناء على ما ذكرنا كون الفعل والترك فيما لا بدل له من العبادات المكروهة مستحبين تخييريين من دون مزية لاحدهما على الآخر ، وهذا ينافى ما كاد يكون صريح النصوص والفتاوى من رجحان فعلها على تركها.

ويمكن دفع الاشكال بانّ ورود النهى فى العبادة كما يكشف عن مطلوبية تركها ، لكونه مصداقا ومحصلا لامر راجح معلوم عند الله ـ تعالى ـ ملازم للترك كما اوضحناه هنالك يكشف عن كون الترك افضل من الفعل وان كان هو ايضا مستحبّا ويشهد لذلك استعمال النهى فى المحاورات كثيرا فى هذا المقام ـ يعنى فى مقام تفضيل احد المستحبين التخييريين على الآخر على سبيل الارشاد مثلا اذا سئل المجتهد عن انّه : اذا دار الامر بين التسبيح والتقديس وبين قضاء حوائج الاخوان ، فبأيهما ينبغى ان يفعل؟ فقيل فى الجواب : لا تسبح. علم من هذا النهى امران :

احدهما ـ استحباب قضاء الحوائج

والثانى ـ رجحانه على التسبيح وهذا واضح.

ثم انّ هذا الكلام انّما هو فيما اذا لم يكن هناك دلائل آخر على رجحان الترك وافضليته من الفعل وكان مستند الكراهة صرف النهى ، وامّا فى مثل الصوم الدالّ على افضلية تركه عن الفعل ، افعال المعصومين ـ عليهم‌السلام ـ واقوالهم من التصريح بكونه معصية ومكروها ، فالامر واضح اذ لا حاجة حينئذ الى الاستدلال والاستناد بان صرف النهى مسوق لبيان تفضيل الترك

٢٨٢

على الفعل كما فى المثال المزبور والله العالم.

واما القسم الثالث ـ من مكروه العبادة وهو ما كان سبب الكراهة فيه اجتماعه فى المصداق مع امر خارج مكروه كالوضوء بالماء المأخوذ من هذا الظالم او بالماء المشمّس ـ على القول بكراهة مطلق استعماله ـ فاصح تفسير الكراهة هنا ايضا ما عرفت فيما لا بدل له من كونها عبارة عن استحباب الترك لا لذاته ، بل لامر آخر راجح افضل من الفعل وذلك الامر هنا كون ترك هذا الفرد من العبادة مصداقا لترك المكروه بالمعنى المصطلح ، فكما انّ كراهة صوم المدعوّ الى طعام ترجع الى استحباب تركه لا لذاته ، بل لاجل كونه اجابة للمؤمن كذلك كراهة الوضوء بالماء المشمس ترجع الى استحباب ترك هذا الوضوء لا لكونه تركا للوضوء بل لاجل كونه تركا لامر مكروه وهو استعمال الماء المشمّس.

وقد تلخّص من جميع ما ذكرنا ان الوجوب التخييرى العقلى يجوز اجتماعه مع الكراهة على النهج المزبور ، وكذا يجوز اجتماع الاستحباب عينا كان او تخييرا مع الكراهة ، واما الوجوب التخييرى الشرعى فالظاهر أنه كالوجوب العينى فى عدم جواز اجتماعه مع الكراهة.

٢٨٣

بقى الكلام فى اجتماع الوجوب مع الاستحباب

فنقول : اما الوجوب والاستحباب العينيان فمما لا يجوز اجتماعهما فى شيء واحد سواء كانا نفيين او غيريين او مختلفين ، لانّ الوجوب يتضمّن المنع عن الترك والاستحباب تشتمل على عدم المنع من الترك ومن الواضح انّهما نقيضان لا يجتمعان وايضا الفعل الواحد لا يتحمل طلبين ولو المثلين فضلا عما اذا كانا ضدين ، لانّ اجتماع المثلين مستحيل ايضا نحو استحالة الضدين ، فحيثما يتحقّق فيه الوجوب العينى استحال تعلق الطلب الاستحبابى به.

نعم لما كان الاستحباب والوجوب عند العدلية مسبّبين عن الحسن والمصالح النفس الامرية ، فاذا اجتمع فى شيء واحد سبب الوجوب والاستحباب معا ـ كما فى الوضوء فى وقت المشروط به من الفرائض فلا جرم من اجتماع مصلحتى الوجوب والاستحباب فى ذلك الشيء لانّ المصالح ربما تتراكم ، فيثبت فى شيء واحد باعتبارات مختلفة مصالح متعددة لا على جهة الاختلاف فى الزيادة والنقصان كمصلحة الوجوب والاستحباب او على جهة التساوى كمصلحتى الوجوب لانّ الحسن والمصلحة مما يقبل الشدة والضعف ، فلا مانع من اجتماع المصلحتين فى شيء واحد ولو كانت كل واحدة منهما بدون الاخرى مقتضية للطلب الاستحبابى او الوجوبى ، واما اجتماع نفس الطلبين فمن المستحيلات الاولية سواء كانا مثلين كالوجوبين او

٢٨٤

الضدّين كالوجوب والاستحباب ، مثلا اذا امر الشارع باطاعة الوالد والوالدة ، فكل فعل امر به الوالد تتّصف بالوجوب لاشتماله على مصلحة الاطاعة ، وكذا يتّصف به ما امرت به الوالدة فاذا اتّفق انّهما امرا بفعل واحد شخصى اشتمل ذلك الفعل على المصلحتين الصالح كل منهما لايجاب ذلك الفعل على حدها.

وامّا الطلب الايجابى فيستحيل اتصافه به مرتين ، بل لا بد حينئذ باتصافه بالوجوب مرّة لكنّ مع تاكّده وقوّته حسب تاكّد المصلحة الداعية له ، فيكون علة ايجاب هذا الوجوب المؤكد انطباق الفعل على الطاعتين ويكون علّة ايجاب طبيعة الوجوب السارية الى جميع مراتبه القوية والضعيفة ، هو القدر المشترك بين اطاعة الوالدين واطاعة احدهما.

وبهذا البيان يندفع ما يتوهم فى مثل المقام كوجوب الوضوء المسبّب عن الاحداث المجتمعة فى الوجود دفعة من توارد العلّتين على المعلول الواحد.

والحاصل : انّ اجتماع الوجوب والاستحباب العينيين من المستحيلات الواضحة لكن اجتماع اسبابها ـ اعنى المصلحتين ـ لا مانع منه عقلا ونقلا ، كما لا مانع من القول بتأكّد الطلب فى صورة الاجتماع ، لانّ الطلب والكراهة نحو الحبّ والبغض مما يقبل الشدة والضعف ويساعده المركوز فى انفسنا من اختلاف مراتب الواجبات والمحرمات المطلوبية ، حتى انّ قياس حفظ نفس الامام ـ عليه‌السلام ـ مثلا بترك النظر الى الاجنبية لا يكاد يقبله طبع عاقل فضلا عن مسلم.

٢٨٥

اذا عرفت هذا فهنا امران لا بد من التنبيه عليه :

احدهما ـ ان قضية ما ذكرنا من تاكّد الطلب حسب تاكّد المصلحة ان يكون ثواب كل واجب ازيد من ثواب كل مستحب ، لانّ طلب الواجبات لا خفاء فى كونه آكد من طلب المستحبات فيكون المصلحة ايضا آكد ، وبه صرّح الشهيد فى القواعد مستثنيا منه اربعة مواضع خارجة بالنص من اراد الاطلاع راجعها. (١)

بل عن البهائى فى شرح الاربعين دعوى الاجماع على ذلك ، واستدل فى القواعد عليه بان الواجب اكثر مصلحة وبالحديث القدسى :

«ما يقرّب الىّ عبدى بمثل اداء ما افترضت عليه» (٢)

__________________

(١) ـ ورد فى نضد القواعد : «الثانية : الواجب افضل من الندب غالبا لاختصاصه بمصلحة زائدة ولقوله فى الحديث القدسى : «ما يقرّب الىّ عبدى بمثل اداء ما افترضت عليه» وقد يتخلف ذلك فى صور :

الاولى ـ الابراء من الدين ندب وانظار المعسر واجب

الثانية ـ اعادة المنفرد صلاته جماعة فان الجماعة مطلقا تفضل صلاة الفرد بسبع وعشرين درجة وصلاة الجماعة مستحبة مع انها افضل من السابقة وهى واجبة.

الثالثة ـ الصلاة فى الاماكن الشريفة فانها مستحبة وهى افضل من غيرها من مائة الف الى اثنى عشر صلاة.

الرابعة ـ الصلاة بالسواك والخشوع مستحبة ويترك لاجله سرعة المبادرة الى الجمعة وان فات بعضها مع انها واجبة لانه اذا اشتد سعيه شغله الانتهاز عن الخشوع.

وكل ذلك فى الحقيقة غير معارض لاصل الواجب وزيادته لاشتماله على مصلحة ازيد من فعل الواجب لا بذلك القيد. صص ٢٠٠ ـ ١٩٩

(٢) ـ ورد فى هامش النسخة المخطوطة : «قال الشيخ فى شرح الاربعين قبل ذكر الحديث

٢٨٦

ويشكل الاستثناء على ما ذكره لانّ حكم العقل التخصيص ، فاذا فرضنا انّ كثرة المصلحة يقتضى الثواب بحسبها كما هو ظاهر عند العقل وقلنا بان مصلحة الواجب اكثر من مصلحة المستحب لما فى طلب الواجب من التأكد الكاشف عن تاكد المصلحة ، امتنع بعد ذلك تخصيص هذه القاعدة بل يجب التأويل فيما ينافيها من الاخبار وكالحديث المزبور حديث مباهاة الله على الملائكة اذا قضى العبد النوافل معلّلا بانّه يقضى ما لا يجب عليه فانه بدل ايضا على فضل الفرائض بالنسبة الى النوافل ، اذ المباهاة انما يتحقّق اذا كان النفل دون الواجب فى الفضل والثواب فكانه ـ تعالى ـ يقول مباهيا على الملائكة ـ : انظروا الى عبدى كيف يهتم بالنفل الذى ثوابه اقلّ من ثواب الفرض فكيف اهتمامه بالفرض الواجد لفضيلة زائدة ، ويمكن تنزيل المباهات على وجه يكون دليلا على افضلية النافلة عن الفريضة بان يقال :

انّ سبب المباهات انما هو اشتغال العبد بعبادة اكمل من الفريضة اعنى النافلة ، فليتدبّر فى تخريج الوجهين.

وقد يشكل فيما ذكرنا ـ مضافا الى الموارد المخصوصة الّتى ورد فيها

__________________

السادس والثلثين خاتمة هذا الحديث كما عرفت صريح فى ان الواجب افضل من الندب وقد استثنى من ذلك شيخنا الشهيد وغيره مواضع : الاوّل ـ الابراء من الدين فانه مستحب وهو افضل من انظار المعسر وهو واجب. والثانى ـ السلام ابتداء فانه افضل من رده وهو واجب. الثالث ـ اعادة المنفرد صلواته جماعة فان صلاة الجماعة مطلقا تفضل على صلاة المنفرد بسبع وعشرين درجة. الرابع ـ الصلاة فى البقاع الشريفة فانها مستحبة وهى افضل من الصلاة فى غيرها. الخامس ـ الخشوع فى الصلاة مستحب ويترك لاجله سرعة المبادرة الى الجمعة وان فات بعضها مع انها واجبة ايضا.»

٢٨٧

النصّ بافضلية المستحبّ عن الواجب كالسلام وردّه وابراء المدين والمعسر وانظاره (١) وغيرهما مما ذكره فى القواعد ـ بان المركوز فى نفوس المتشرّعة فضل كثير من المستحبات على كثير من الواجبات فى الثواب ، فان احد لا يشك فى انّ صوم رجب وشعبان مثلا فى الصيف فى البلدان الحارّة افضل من نحو رد السلام واداء الدين القليل ، وردّ الوديعة الحقيرة ودفن الميت وامثالها من الواجبات.

وكذا لا شكّ فى انّ زيارة الحسين ـ عليه‌السلام ـ فى الاوقات المعهودة من النواحى البعيدة المشتملة على مشاقّ كثيرة لا يبلغها فى الفضل والثواب كثير من العبادات الواجبة فضلا عن الواجبات التوصّلية الّتى نفعها غالبا يصل الى غير العامل.

أترى انّ المواظبة على نافلة الليل سفرا وحضرا صيفا وشتاء واطعام الفقراء والمساكين وتزويج العزاب من السادات والمؤمنين وامثال ذلك من الاعمال الساطع فضلها وبهائها بين سائر المخلوقات من الارضى والسماوى كبناء المساجد الجامعة والقناطر العظيمة من الشوارع العامة ، العائدة نفعها الى عباد الله ـ تعالى ـ ابد الدهر ، هل يوازيها فى الفضل والثواب وحصول التقرب من الله ـ جلّ اسمه ـ كل فرد من الواجبات حتى مثل ردّ السلام.

وعلى هذا فامّا ان يقال بانّ تاكّد الطلب لا يكشف عن تاكّد المصلحة ، فلا يلزم من كون طلب الواجب آكد من طلب المستحب كون مصلحته ايضا كذلك ، او يلزم بان ثواب الواجب مطلقا ـ كائنا ما كان ـ اكثر من ثواب كل

__________________

(١) ـ كذا فى الاصل المخطوط

٢٨٨

مستحب ، ويتصرف فى الادلة الواردة فى الموارد المخصوصة او يطرح ، فان مجرد الاستبعاد لا يقتضى رفع اليد عن حكم العقل متى لم يكن هناك دليل قاطع على خلافه من اجماع ونحوه ، مع انّ الاجماع قد ادّعى على خلافه كما عن البهائى ـ رحمة الله عليه ـ فى شرح الاربعين.

وهذه المستحبّات المزبورة المشار اليها وامثالها كان بمرأى من العلماء القائلين بانّ ثواب الواجب اكثر لاختصاصه بمصلحة زائدة فهم اولى واحرى بان لا يقولوا بذلك.

وامّا ما يقال من انّ الواجب فى حد ذاته يقتضى كون ثوابه اكثر من ثواب المستحب ، لكن الآتى بالواجبات خصوصا التوصليات انّما ينوى بفعلها دفع المضرّة والعقاب بخلاف فاعل المستحبات ، فانّه انّما ينوى بفعلها جلب المنفعة والثواب ، وقضية قوله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ «لكل امرئ ما نوى» (١) ، ان لا يصل الى فاعل الواجب إلا دفع العقاب ويصل الى فاعل المستحب منفعة الفعل وثوابه ، وهذا لا ينافى كون ثواب الواجب اذا كان مقصود العبد منه جلب المنفعة ايضا اكثر من ثواب المستحبّ.

وفساده واضح من وجهين :

احدهما ـ انّ العقاب المترتب على ترك الواجبات انّما هو باعتبار اشتمال فعلها على مصلحة محتّمة ، فدفع العقاب ووصول تلك المصلحة المحتمّة المستتبعة للمنافع والثواب الاخروى متلازمان ولا يتفارقان ، فحيثما يحصل دفع المضرّة يصل الى الفاعل تلك المصلحة ايضا.

__________________

(١) ـ ورد هذا الحديث فى اكثر مجاميع الحديث من الفريقين وهو المشهور

٢٨٩

نعم قد يرتفع العقاب بسقوط التكليف كما فى التوصليات التى تحصل لا عن قصد.

وثانيهما ـ ان الاشكال باق على حاله اذا فرضنا قصد الفاعل وصول الثواب اليه من ردّ السلام مثلا ، نعم لا مضايقة فى التزام زيادة ثواب الزيارة عن اكثر الواجبات ولكنه ليس من باب زيادة ثواب المستحب عن ثواب الواجب ، لان الزيارة عن مظاهر الولاية التى وجوبها فوق وجوب جميع الواجبات حتى الصلاة ، لان الولاية ليست عبارة عن مجرد عقد بالمحبة بل هى والايمان مشروطان بعمل الجوارح ايضا ولذا ورد فى الروايات ان من ترك زيارة الحسين ـ عليه‌السلام ـ فهو ناقص الايمان.

والحاصل : انّ الدليل العقلى انما يقتضى فضل ثواب كل واجب عن ثواب كل مستحب ولم يقم دليل صالح للمعارضة معه سوى الاستعمال الّذى ذكرناه والامر فيه سهل بعد عدم ترتب ثمرة واضحة على ذلك.

والثانى ـ انّ المحقق الخوانسارى فى «شرح الدروس» وبعض اتباعه ذهبوا فى قبال المانعين عن صحة غسل من نوى الجمعة والجنابة فى غسل واحد ـ كالقاضى سعيد الدين والفاضل والشهيدين ـ الى صحة ذلك بانين له على مختارهم فى هذه المسألة من جواز اجتماع الامر والنهى ، فحكموا باجتماع الوجوب والاستحباب فى غسل يوم الجمعة اذا كان عليه غسل جنابة وكان قد نوى بفعل واحد امتثال الامرين.

والتحقيق : انّ القول باجتماع الوجوب والاستحباب هنا غير جائز ، ولو على القول بجواز اجتماع الامر والنهى او اجتماع الوجوب والاستحباب

٢٩٠

فيما هو من شعب هذه المسألة ، لانّ اجتماع الوجوب فى غسل يوم الجمعة مبنى على مسئلة التداخل لا على هذه المسألة التى يبحث فيها عن اجتماع الطبيعتين المطلوبتين فى شيء واحد.

توضيح ذلك : انّ موضوع البحث فى مسئلة التداخل هو انّه اذا وجب فردان من طبيعة واحدة او وجب احدهما واستحب الفرد الآخر فهل يجرى فى مقام الامتثال بهذا الفردين اتيان فرد واحد بنيّتهما معا ام تحتاج الى التعدد فى الوجود الخارجى ولا يكفى التعدد الاعتبارى الحاصل بالنيّة ، وموضوع البحث فى مسئلتنا هذه انّه اذا تعلّق الوجوب والاستحباب او الوجوب والحرمة بماهيتين مختلفتين متباينتين على جهة العموم من وجه او مطلقا فهل يجوز ان يكون مادة الاجتماع مستحبا وواجبا او واجبا وحراما على وجه يجتمع فى تلك المادة حكمان مختلفان باعتبارين مختلفين ام لا.

وبعبارة اخرى انّ البحث فى مسئلة التداخل فى انّ الماهية الواحدة اذا اجتمع فيها اسباب الوجوب والاستحباب المقتضى كل واحد منها مطلوبية فرد من الماهية ـ لو خلى وطبعه ـ فهل يكفى فى مقام الامتثال اتيان فرد من الماهية بنيّة المجموع او لا بد من الاتيان بافراد متعدّدة حسب تعدّد الاسباب ، وفى مسئلتنا هذه انّه اذا اجتمع الماهيتان المختلفتان المتعلق [ب] كل واحدة منهما طلب على حدّة فى بعض المصاديق الخارجية فهل يكون ذلك المصداق الواجد لهاتين الطبيعتين متّصفا بكلا الطلبين بالاعتبارين ام لا بد من اتصافه باحدهما خاصة دون الآخر ، وحينئذ فالواحد الشخصى فى مسئلة التداخل على القول به يكون متّصفا لحكمين متضادين من جهة واحدة وهى

٢٩١

كونه فردا من الطبيعة الواحدة وفى هذه المسألة يكون متّصفا بهما من جهتين :

احدهما ـ كونه مصداقا لهذه الطبيعة والاخرى كونه مصداقا لماهية اخرى.

وقد اعترف المانعون والمجوزون فى هذه المسألة باستحالة الاجتماع اذا كان الفرد من قبيل الاوّل ، فغسل الجنابة لمن عليه الجنابة ـ على القول باستحبابه ووجوبه ـ واحد شخصى تعلّق به الحكمان المتضادان من غير تعدد الجهة ، لانّ الجهة التعليلية الّتى نتصور فيه من حيث انتسابه قارة الى الجنابة واخرى الى الجمعة مثلا باتفاق الكل لا يكثر موضوع الحكم بخلاف الحيثيّة التقيدية الّتى يدعيها القائلون بجواز اجتماع الامر والنهى فانّ تكثّر الموضوع بسببها وعدم التكثر من مطارح الانظار فيما نحن فيه ، فبناء جواز تداخل الاغسال على جواز اجتماع الامر والنهى كما عن المحقق المزبور لعله خلط بين الحيثية التقييدية والحيثية التعليلية ، حيث تخيل ان تعدد الجهة المتصورة فى التداخل الى التقييدية ايضا بارجاعه الى هذه المسألة بان يقال : انّ الجنابة كاشفة عن عنوان بحث الغسل بسببه والجمعة كاشفة عن عنوان آخر تستحب الغسل بسببه ، فاذا افترقت إحداهما عن الاخرى كالجنابة فى غير يوم الجمعة كان الغسل واجدا لعنوانها خاصة فاذا اجتمعا كان الغسل جامعا للعنوانين معا وواجدا لهما ، نحو وجدان الصلاة فى الدار المغصوبة لطبيعة الصلاة المطلوبة وطبيعة الغصب المنهى عنها.

وحينئذ يكون البحث فى جواز التداخل وعدمه من شعب البحث عن

٢٩٢

اجتماع الامر والنهى او اجتماع الواجب والمستحب المختلفين بحسب الماهية المتحدين بحسب المصداق احيانا ، فتكثر الجهة على وجه كونها تقييدية فى مثل غسل الجنابة يوم الجمعة نحو تكثرها فى موارد اجتماع الامر والنهى.

وهذا جيّد لو لا ان فيه تكلّفا واضحا لكنه يجب حينئذ ان لا يعتبر فى صحة التداخل قصد الامتثال بالجميع كالجمعة والجنابة ، بل ينبغى حصول الامتثال بالامرين اذا قصد احدهما خاصة ، لانّ المفروض انّ الغسل مثلا فى صورة اجتماع الجمعة والجنابة مشتمل على عنوان الوجوب وعنوان الاستحباب ، ومتى حصل الغسل حصل العنوانان فيسقط الامر ويتعذّر الامتثال ثانيا لاستحالة تحصيل الحاصل.

والحاصل : انّه على تقدير كون الاسباب كاشفة عن عنوان راجح متحقق فى الفعل فمجرّد اجتماعهما يكشف عن اجتماع تلك العناوين فى الفعل ، فاذا حصل فى الخارج سقط مجموع الاوامر المسبّبة عنها ، وان كان الفاعل غير قاصد للجميع فلا وجه حينئذ لاعتبار نيّة الجميع هذا.

ثم لا تنس ما قدّمنا فى اجتماع الوجوب والاستحباب من انّ اجتماعهما عبارة عن تأكّد الطلب ، فلا يكون الفعل الواحد متّصفا بحكمين متضادين ، فان هذا الكلام جار فى مسئلة التداخل ايضا والله العالم.

هذا كله فى اجتماع الوجوب والاستحباب العينيين.

٢٩٣

فى اجتماع الوجوب التخييرى والاستحباب العينى والكراهة العينية.

اما اجتماع الوجوب التخييرى والاستحباب العينى فلا اشكال فيه ان كان المراد بالاجتماع اشتمال الفرد على مزية زائدة توجب افضليته عن سائر الافراد ، وكان المراد بالامر الوارد فيه من الشارع مجرد الارشاد الى ذلك ، نظير النهى الوارد فيما له بدل من العبادات المكروهة كما تقدّم بيانه على وجه حسن.

وهل يمكن التزام اجتماع نفس طلب الاستحبابى مع الوجوب التخييرى خلاف ما فى اجتماع الوجوب واستحباب العينيين كما مرام لا؟

الظاهر نعم بل الظاهر انّه لا استحالة فى اجتماع الوجوب التخييرى مع الكراهة المصطلحة وان منعنا ذلك فيما تقدّم ، لان استحالة الاجتماع انما هى لاجل كون الاحكام اضدادا ، ونحن كلما نرجع الى الوجدان لا نجد بين الوجوب التخييرى وبين الاباحة والاستحباب والكراهة ضدية عقلا ولا شرعا ولا عرفا.

والسرّ فى ذلك هو انّ الوجوب التخييرى سواء كان عقليا او شرعيا مأخوذ فى حقيقته جواز ترك الواجب الى بدل ، فكما انّ جواز الترك هذا لا ينافى فضل الوجوب الّذي هو عدم جواز الترك بوجه ، كذلك رجحان هذا

٢٩٤

الترك او مرجوحيته على وجه يتعلّق به الطلب الاستحبابى ، اذا النهى التنزيهى لا ينافى وجوب فعله اصلا.

وتوضيح المرام انّه اذا كان الشيء مطلوبا عينا ، مطلق تركه يكون ممنوعا ولا يخفى انّ المنع عن مطلق ترك الشيء لا يجتمع مع اتصاف الفعل بالاباحة او الاستحباب او الكراهة ، لاشتمالها على الرخصة فى الترك وهذا واضح ، وامّا اذا كان الشيء مطلوبا على وجه التخيير بينه وبين غيره كما فى تخييرات الشرعية او العقلية ، مثل مطلوبية الفرد اذا كان المامور به هو الكلى فمطلق تركه ليس ممنوعا جدا بل الممنوع انما هو تركه لا الى بدل.

فترك الواجب التخييرى له اعتباران :

احدهما : ان لا يكون الى بدل.

والثانى ـ ان يكون الى بدل وهو بالاعتبار الاوّل واحد لفعل الوجوب الذى هو المنع عن النقيض وبالاعتبار الثانى واحد لنقيض هذا المنع وهو الجواز.

وقضية القاعدة ان يتّصف الفعل بملاحظة كل واحد من الاعتبارين بحكم من الاحكام ، لانّ الفعل بالاعتبار الثانى واقعة من الوقائع فى عرض الفعل بالاعتبار الاوّل فلا يكفى اتصافه بالوجوب بالاعتبار الاول فى حكمه بالاعتبار الثانى ، بل لا بد له بهذا الاعتبار ايضا ان يأخذ شيئا من الاحكام الخمسة.

ولمّا استحال اتّصافه بالحرمة لاشتمالها على وجوب الترك مطلقا فينافى الوجوب العارض للفعل بالاعتبار الاوّل وهو الوجوب لا الى بدل ، فلا بدّ

٢٩٥

من اتصافه امّا بالاباحة او بالاستحباب او بالكراهة.

فان كان البدل الذى يقاس اليه الترك مساويا للفعل فى الرجحان كان الفعل حينئذ مباحا وان كان ارجح كان الفعل حينئذ مكروها مطلوبا بالنهى التنزيهى ، لان المكروه ما كان تركه ارجح من فعله ، وان كان مرجوحا كان الفعل حينئذ مباحا مستحبا لان المستحب ما كان تركه مرجوحا.

وبهذا البيان يندفع ما كان يتوهم من انّ الفعل اذا كان بالاعتبار الثانى يعنى بملاحظة تركه الى بدل واقعة عرض الفعل بالاعتبار الاوّل اعنى بملاحظة تركه لا الى بدل فلا مانع من اتصافه حينئذ بالحرمة ، كما يقول به المجوّزون لاجتماع الامر والنهى.

لانّ الحرمة اذا عرضت للفعل باحد الاعتبارين خرج الفعل عن قابلية حكم آخر ولو بالاعتبار الثانى فانّ حرمة الفعل بملاحظة تركه الى بدل يقتضى الوجوب العينى لذلك البدل ، فيكون الفعل حينئذ بجميع اعتباراته غير واجب بل حراما من باب المقدّمة وهذا لان المفروض اتّصاف الفعل باعتبار تركه لا الى بدل بالوجوب على حدّ اتصاف ذلك البدل ، فاذا فرض اتّصاف البدل بالوجوب العينى خرج الفعل عن الوجوب مطلقا بل ربما يتّصف بالحرمة المقدميّة فتدبّر.

وخلاصة المقام مع كشف اللثام عن وجه المرام هو ان الفعل الواحد اذا اتّصف بالوجوب العينى امتنع اتّصافه حينئذ بحكم آخر من الاحكام جدا لاشتماله على المنع من الترك مطلقا واشتمالها على عدم المنع منه ، واذا اتّصف بالوجوب التخييرى امتنع اتصافه بالحرمة ايضا مثل العينى ، واما

٢٩٦

الاستحباب والكراهة والاباحة فلا يجوز اتّصافه بها ايضا مع قطع النظر عن وجوبه التخييرى ، لان الاباحة مثلا مع قطع النظر عن كون الفعل واجبا تخييريا اذا عرضت له اقتضت مساواته مع تركه مطلقا ، لانّ المباح فى غير الواجبات التخييرية هو الّذى يكون فعله وتركه مطلقا سيّان او ليس له حتّى يحصل فى تركه اعتباران وكذا الاستحباب والكراهة ، ومع قطع النظر عن وجوب الشيء تخييرا لا يعرضان له جدّا ضرورة اقتضائهما جواز تركه مطلقا وهو ينافى عدم جواز تركه لا الى بدل ، ولكن مع ملاحظة الوجوب التخييرى لذلك الشيء بحيث فرض موضوع هو الواجب المخيّر لا نفس الصلاة الواقعة فى الحمام فى التخييرى العقلى او نفس الصوم فى التخييرى الشرعى ، فلا مانع من اتصافه بالاستحباب او الكراهة او الاباحة بل الّذي يقتضيه النظر انّه لا مناص من اتّصافه باحد الاحكام الثلاثة الّتي جنسها جواز الترك الى بدل.

فيكون الموصوف بالوجوب حينئذ نفس العبادة والموصوف بالاستحباب مثلا اختيارها فى هذا الفرد كالايقاع فى المسجد فى التخيير العقلى.

وامّا فى التخيير الشرعى فيكون الموصوف بالوجوب هو نفس الصوم مثلا والموصوف بالاستحباب هو اختياره على العتق مثلا ، فاختلف المتعلّقان حينئذ فى الحقيقة وان كان الامتثال باحدهما يستلزم الامتثال بالآخر ، هذا مثل ما اذا نذر فعل الواجب فى ضمن فرد معين راجح فانّه موضع وفاق انعقاد هذا النذر ، مع انّ فائدة النذر ايجاب المنذور ولا يتعقل وجوب الواجب ثانيا الّا باعتبار ما قلنا من انّ نفس الفعل شيء والالتزام ببعض افراده وخصوصياته

٢٩٧

شيء آخر.

فليتدبّر فى تنقيح المقام فان فيما ذكرنا غنية عما لم يذكروا تمام الكلام فى مثل هذا المقام الذى هو من مطارح الانظار غير (١) ممكن ، هذا فى اجتماع الوجوب التخييرى مع الاستحباب والكراهة العينيين.

__________________

(١) ـ كذا فى اصل المخطوط.

٢٩٨

فى اجتماع الوجوب التخييرى مع الاستحباب التخييرى

وامّا اجتماعه مع الاستحباب التخييرى كما فى اعطاء الزكاة لمن التمسها من المستحقين قاصدا به الزكاة واجابة المؤمن ، فلا اشكال فيه ايضا اذا كان المراد اجتماع مصلحة الوجوب ومصلحة المستحب المقتضى لتأكّد الطلب كما فى اجتماع الوجوب والاستحباب التعيينى وقد سبق.

وامّا اذا كان المراد اجتماع نفس الطلبين نظير ما فى الوجوب التخييرى والاستحباب العينى كما تقدّم ، ففيه اشكال نظرا الى انّه غير مورد الاجتماع لان تركه مطلقا ليس بجائز ، بل الموصوف بالجواز انّما هو تركه الى بدل لاتّصاف الفعل بالوجوب التخييرى كما هو المفروض المتضمن للمنع من تركه لا الى بدل.

فلو قلنا فى مورد الاجتماع بالاستحباب فلا بدّ من ان يكون المراد به رجحان الفعل مع جواز تركه المقيّد بكونه الى بدل كما فى الاستحباب العينى مع الوجوب التخييرى ، وهذا يستلزم كون الامر المتعلّق بذلك المستحب الكلى الصادق على مورد الاجتماع وغيره كالاجابة مستعملا فى معنيين :

احدهما ـ رجحان الفعل مع جواز الترك المطلق من غير تقييد له بكونه لا الى بدل كما فى غير مورد الاجتماع.

والثانى ـ رجحان الفعل مع جواز الترك المقيّد بكونه الى بدل كما فى مورد الاجتماع وهذا غير جائز.

٢٩٩

اللهم الّا ان يقال : بان اختلاف المطلق فى جهات الحسن مع اشتراكها فى الاشتمال على مصلحة الطلب الاستحبابى مثلا لا يستلزم استعمال الامر فى المعانى المتعددة ، فمحبوبية الاجابة ومطلوبيتها تارة من جهة مرجوحية تركها مطلقا واخرى من جهة مرجوحية تركها الخاص اعنى الى بدل ، وهذا ليس استعمال الامر المتعلق بالاجابة فى المعنيين ضرورة استعماله فى الطلب فى جميع الافراد الّا انّ بعض الافراد باعتبار مرجوحية تركه الى بدل يتصف بالمطلوبية من هذه الجهة.

فليتدبّر حتى يتّضح كنه الكلام ، هذا تمام الكلام فى الجواب الحلّى على استدلال المجوزين بالنقض بالعبادات المكروهة وهو الاستدلال الاوّل.

الثانى ـ من ادلّتهم على الجواز هو ان المقتضى للجواز موجود والمانع مفقود ، امّا المقتضى فهو الخطابان المتعلّق احدهما بالطبيعة المامور بها والثانى بالطبيعة المنهى عنها كالصلاة والغصب مثلا المتصادقين على الصلاة فى الدار المغصوبة.

امّا فقدان المانع فلأنّ المانع لو كان فليس الّا اجتماع الضدّين فى محل واحد وهذا ليس بلازم ، لانّ متعلّق الحرمة هو الفرد ، بناء على ما هو المعروف من تعلّق النواهى بكل فرد فرد على سبيل الاستغراق والاستيعاب باعتبار سريان الماهية فى جميعها ، ومتعلّق الوجوب الطبيعة بناء على تعلق الاوامر بالطبائع دون الافراد ، فاختلف المحل حينئذ فلا يكون هناك اجتماع الضدّين فى محل واحد.

قولك : ان الفرد ايضا واجب تخييرا ولو لم يكن عينا.

٣٠٠