الفوائد الأصوليّة

الشيخ مرتضى الأنصاري

الفوائد الأصوليّة

المؤلف:

الشيخ مرتضى الأنصاري


المحقق: حسن المراغي « غفارپور »
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: شمس تبريزي
المطبعة: ايران يكتا
الطبعة: ١
ISBN: 969-94215-0-5
الصفحات: ٧٧٠

فى مقام بيان العموم فيقبل ان يكون فى مقام بيان البعض ، وكما ان الثانى يحتاج الى قرينة فكذلك الاوّل لتساوى نسبتهما الى اللفظ.

وامّا حمل المفرد المعرف باللام على العموم بدليل الحكمة ، بناء على عدم استفادته عموم الحكم من تعلق الحكم بالطبيعة المستلزم لوجوده فى كل مقام وجدت الطبيعة فليس من قبيل حمل اللفظ المجمل على العموم من جهة الحكمة ، لان الحكم اذا تعلق بالطبيعة باعتبار وجودها المردّد بين جميع وجوداتها وبعضها ، فيقال : ان خصوص الوجود الفلانى غير دخيل فى تحقق الحكم المعلق على الطبيعة المهملة بدليل انه لو كان دخيلا لبينه فى مقام البيان حيث انه المفروض ، فالسكوت عنه فى مقام البيان دليل على عدم مدخليته وكذلك الخصوصية الاخرى.

وهكذا فاذا حكم بعدم مدخلية الخصوصيات بالتقرير المزبور فيبقى الحكم متعلقا بالماهية ، بشرط الوجود من غير مدخلية وجود خاص وهذا هو العموم.

والفرق بين هذا والمجمل ان موضوع الحكم فى المجمل غير معلوم واللفظ الدالّ على الموضوع مردد بين الكل والبعض ، فنفى احدهما بقرينة مقام البيان لا يثبت الآخر لجواز العكس ، لان نفى ارادة احدهما لا يستلزم فى نفسه ثبوت ارادة الآخر بل من جهة ان اللفظ لا يخلو عن ان يراد به احدهما فكلما انتفى احد طرفى مانعة الخلو ثبت الآخر بخلاف المفرد المعرف وشبهه.

فان موضوع الحكم المعبر عنه باللفظ غير مجهول بل هو معين وهى

٥٤١

الطبيعة الموجودة فى الخارج ، وانما الاجمال فى امر خارج عن اللفظ وهو ان الحكم فى نظر المتكلم هل هو متعلق لجميع وجودات الطبيعة ام ببعضها.

وليس لفظ المفرد مستعملا فى جميع الوجودات على الاول وفى بعضها على الثانى حتى يصير مجملا ، فاذا ثبت ان خصوصية وجود دون اخرى لا مدخل لها فى الحكم عند الشارع والّا لبيّنه فى مقام البيان ، تولد من مجرد نفى مدخلية الخصوصيات كون الحكم فى نظر المتكلم متعلقا بالطبيعة من غير اعتبار خصوصية من الخصوصيات فتأمل.

ثم لو قلنا بالعموم ، فهل العام هو الانتفاع بانحائه او مطلق الاستعمال او مطلق التعرض ولو بمثل النظر فاللمس ونحو ذلك وجود اقربها الاول لعدم تبادر التعرض بل مطلق الاستعمال وامّا مثل قوله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ «انّ الله اذا حرم شيئا حرم ثمنه» فالمراد هو تحريم عنوان خاص من العنوانات التى ورد فى كلام الشارع سواء كان المحرم اكله او وطئه او مطلق الانتفاع به.

وامّا قوله ـ (ص) : «لعن الله اليهود حرمت عليهم [الشحوم] فباعوها واكلوها» (١) فالمذمّة واللعن ليس من جهة ان المراد من حرمة الشحوم حرمة مطلق الانتفاع به حتى بيعها ، بل من جهة ان ما حرم اكله او الاسراج ، يحرم بيعه للاكل والاسراج وهم كانوا يبيعونها لاجل ذلك على من لم يبال بذلك منهم فتأمل.

ثم ان المجمل الوارد فى كلام الشارع المتعلق بعمل المكلف :

__________________

(١) ـ روى الحديث الفريقان انظر : صحيح البخارى : ص ٣ / ١٠٧ صحيح مسلم : ص ٢ / ١٢٠٧ سنن النسائى : ص ٧ / ٢٧٣.

٥٤٢

قد يكون اجماله ذاتيا ، بمعنى ان المتكلم القاه مجملا ، وقد يكون اجماله عرضيا بمعنى انه كان مبينا فطرأ عليه الاجمال ، وورد القسم الثانى فى مقام التكليف مما لا خفاء فيه ، وامّا القسم الاول ـ فاطلقوا عدم جواز التكليف به.

والتحقيق : انه ان كان على وجه يمكن امتثاله فى الجملة ـ اى ولو بالامتثال الاجمالى ـ امكن التكليف به ، سواء كان اصل التكليف مجملا كلفظ الامر المردد بين الوجوب والندب او التحريم والكراهة ، او كان المكلف به مجملا نحو : «ائتنى بعين» مع دوران الامر بين الوجوب وغير الحرمة ، او «لا تأتنى بعين» مع دوران الامر بين الحرمة وغير الوجوب ، وامّا اذا لم يمكن الامتثال اصلا فلا يجوز.

وامّا ما ربما يتوهم من جواز التكليف مع الامتثال الاجمالى ومثل له : بالتكليف بالصلاة الى القبلة مع عدم التمكن من الصلاة الّا الى جهة واحدة مع الحكم بفسادها لو انكشف المخالفة ـ فهو توهم فاسد ـ لان التكليف حينئذ ليس بالصلاة الى القبلة الواقعة المجملة ، بل بالصلاة الى جهة يحتمل ان يكون قبلة ، ولا ينافى ذلك وجوب اعادته لو انكشف الخلاف ، لان وجوب الاعادة يكشف عن الوجوب الواقعى المتعلق بالصلاة الى القبلة الواقعية ، وان لم يتعلق هذا الوجوب بالمكلف فى مرحلة الظاهر ، وانما تعلق به فى مرحلة الظاهر التكليف بالصلاة الى القبلة المحتملة فيما هو مجمل اعنى الصلاة الى القبلة الواقعية لم يكلف به وما كلف به ـ اعنى الصلاة الى الجهة المحتملة ـ ليس مجملا.

٥٤٣

والحاصل ان التكليف بالمجمل ليس قبيحا اذا امكن امتثاله ، لان امتثال التكليف المجمل او التكليف بالمجمل انما هو على نحو تكليفه كما ان التكليف التفصيلى بالامر التفصيلى يقتضى الامتثال التفصيلى من جهة المامور به ومن جهة الامر على المشهور ، من عدم كفاية قصد مجرد القربة وعدم كفاية الاتيان بامرين يعلم دخول الواجب فى ضمنها مع امكان اتيان الواجب المعلوم تفصيلا ، وان كان فى اشتراط التفصيلية من جهة الامر والمامور به كلام ، بل الاقوى عدم اشتراط التفصيلية من جهة الامر ، بل يكفى مجرد قصد المطلوبية المشتركة او المردّدة بين الوجوب والندب ، بل وعدم اشتراط كون المأتى به امر معلوما بالتفصيل بل يكفى اتيانه فى ضمن امرين كما يظهر من صاحب المدارك فى مسئلة الصلاة فى الثوبين المشتبهين مع التمكن من الصلاة فى الطاهر اليقينى.

ثم انا وان قلنا : بجواز التكليف مع عدم التفصيل للتكليف او للمكلف ، لكن الحكماء بل مطلق المتكلمين بل مطلق الطالبين حتى المجانين ، بل مطلق الطالبين ، ولو كان بغير الكلام من الاشارة ونحوها من اصوات البهائم المفهمة لمطالبهم لامثالهم هو بيان المطلوب ما لم يعرض داع الى الاجمال ، وهذا مما لا شبهة فيه فالاجمال تحتاج الى داع وعرض ، ولا يتحقق فى كلام بدونه وحينئذ فكل مجمل يصل الينا من الشارع فيحكم بكونه مجملا عرضيا بمعنى : انه كان حين الالقاء مبيّنا وقد اختفى بيانه ، ولا يجرى هنا اصالة عدم القرينة المبيّنة ، لان اصالة عدم الداعى للاجمال واردة على ذلك الاصل.

ثم على فرض وقوع التكليف بالمجمل فحكمه وحكم المجمل العرضى

٥٤٤

هو :

انه ان كان الشك فى اصل الالزام الوجوبى او التحريمى ، كما لو دار الامر بين الوجوب وغير التحريم او بين التحريم وغير الوجوب ـ فالاصل : البراءة ، وان كان بينهما فالتخيير.

وامّا اذا كان الاجمال فى المكلف به :

فامّا ـ ان يدور الامر بين المتباينين ، وامّا ان يكون بين الاقل والاكثر.

والاقل والاكثر المتردّد بينهما قد يكونان بحيث لا يكون مجزيا بحسبه اذا اتى به ، لو فرض كون المطلوب هو الاكثر كالدين مثلا ، وقد يكونان بحيث لا يكون مجزيا بحسبه اذا اتى به ـ لو كان المطلوب واقعا هو الاكثر ـ كالمركب من اجزاء لا يراد الاتيان ببعضها كالمعاجين مثلا.

وعلى التقادير فاما ان يدور الامر بين الوجوب وغير التحريم او بين التحريم وغير الوجوب او بين الوجوب والتحريم.

وامّا اذا دار الامر بين الوجوب وغير التحريم ، فالقول بوجوب الجميع بين المتباينين او التخيير بينهما مبنى على مسئلة اخرى.

وهى ان التكليف الواصل الينا مع اجمال متعلقه ، امّا ان يعلم انه كان مجملا عند الالقاء أو لا ، فان علمنا بذلك فيجب على المخاطبين وعلينا الامتثال بالجميع ، لما عرفت من جواز التكليف بالمجمل ذاتا مع امكان الامتثال الاجمالى فيجب على المخاطبين والمشاركين امتثاله وان لم نعلم بذلك ، بل كان مبيّنا حين الالقاء ولو بضميمة اصالة عدم داعى الاجمال.

فنقول : لا ريب ان المخاطبين كانوا مكلفين تنجيزا بامتثاله التفصيلى

٥٤٥

حيث كانوا عالمين بتفصيله كما هو المفروض.

وهل يشترك الغائبون معهم مع علمهم التفصيلى او القدر المسلم من الاشتراك ما اذا كنا ايضا عالمين بالتفصيل ، اما لاحتمال اشتراط التكليف التخييرى بالعلم التفصيلى فوجب على الحاضرين لوجدان الشرط ولا يجب على الغائبين لفقدانهم اياه ولا ينافى ذلك اطلاق الاشتراك ، وامّا لانه وان سلم اطلاق التكليف وعدم اشتراطه بالعلم التفصيلى ، لكن نمنع من اطلاق الاشتراك حتى فيما لو جهلنا التكليف الذى علموه تفصيلا مقتضى اصالة البراءة.

وان كان هو الثانى : فيقتصر فى مخالفتها على القدر المجمع عليه وهو : تحريم ترك كلا الامرين ، ولا دليل على وجوب الجمع الّا ان الاقوى هو الاوّل لفساد الاحتمالين المذكورين فى توجيه نفى تعلق التكليف بالامر الواقعى المجمل.

امّا الاوّل : فلان دعوى اشتراط التكليف بالعلم التفصيلى لا يستقيم اما اوّلا فلانه ان اريد الوجوب الواقعى للشيء المجمل مشروط بالعلم التفصيلى ، ففيه : ان الثابت عندنا ان الاحكام الواقعية الشأنية غير منوط ثبوتها بالعلم وإلّا لزم الدور ، ـ كما ذكره العلامة فى النهاية فى دفع التصويب وفى التحرير فى مسئلة عدم معذورية الجاهل بحرمة الغصب على ما حكاه فى الرياض ـ لان العلم فرع الحكم فلا يتوقف عليه.

فان قلت : ان الذى لا يعقل توقفه على العلم بل العلم تابع له هو نفس الحكم ، وامّا موضوع الحكم الذى هو موضوع كلامنا حيث ان الكلام فى

٥٤٦

اجمال التكليف به لا التكليف ، فلا مانع من توقف الحكم على العلم بالموضوع.

قلت : ذاك فى المجمل المصداقى الخارج عن مسئلة اجمال اللفظ كما اذا حكم الشارع بوجوب الاجتناب عن النجس ووجوب استقبال القبلة ، حيث انه يمكن ان يقال : يتعلق الحكم على ما علم انه نجس وتعلق وجوب الصلاة لا ما علم انها قبلة وكلامنا ليس فيه وانما الكلام فى نفس متعلق الحكم الذى هو معنى اللفظ الوارد فى حيز الحكم.

ولا ريب ان بمعرفته يعرف الحكم مثلا اذا قال : «ائتنى بعين» فالعلم بالمراد من «العين» فى هذا الكلام جزء سبب لمعرفة وجوب اتيان الشيء الفلانى المراد من اللفظ ، فلا يمكن ان يناط وجوب ذلك بالعلم بذلك الشيء.

فاذا قلنا : ان الحكم ليس موقوفا على العلم به ، والمفروض ان العلم به انما يحصل بمعرفة جنس الحكم اعنى الوجوب او غيره وشخص المحكوم عليه فشيء من العلمين لا يجوز ان يكون شرطا فى الحكم.

نعم يمكن ان يتوقف تعلق الحكم على معرفة معنى اللفظ لكن لا يتفاوت حينئذ : العلم بلفظ الحكم او لفظ موضوعه فى جواز اشتراط الحكم به.

لكن هذا خارج عن محل الكلام اذ الكلام فى العلم بالموضوع لا بمعنى اللفظ وبينهما تباين جزئى.

وامّا الموارد التى حكم الشارع بعدم التكليف مع العلم الاجمالى بالوجوب ، فان اريد به موارد التى جوز الشارع فيها المخالفة القطعية بترك

٥٤٧

كلا الامرين ، فهو كاشف عن عدم تعلق الطلب بذلك الامر المردّد.

وان اريد به الموارد التى حكم فيها بعدم وجوب الموافقة القطعية ، فهو فى موارد لم يرد خطاب تفصيلى متعلق بامر مجمل بل كان من قبيل ما اذا علم التعبد بورود دليل على وجوب شيء.

لكن لا يدرى انه خوطب بوجوب ذلك الشيء او خوطب بوجوب هذا الشيء ، بحيث لا يكون شيء من الخطابين متوجها الى الشخص تفصيلا ، كما فى صورة اختفاء النص ، او يطلع على ورود خطابين ولم يعلم ايهما المطابق للواقع ، كما فى الدليلين المتعارضين ، وفى هذين المقامين لم يعلم تفصيلا وجوب شيء مجمل ، وبعبارة اخرى تردد الواجب بين امرين ولم يوجب عليه المتردد بين الامرين.

والمناط فى تعلق التكليف هو وجوب الامر المجمل تفصيلا لا اجمال لما وجب عليه واقعا.

ولا ريب ان ادلة الاشتراك بعد ورودها يجعل جميع مقامات الشريعة من قبيل وجوب الامر بالمجمل ، حتى فيما اختفى الدليل او تعارض النصان فضلا عما نحن فيه من تعلق الخطاب بامر مجمل ولو كان تامل فى الاولين ، لم يتامل فيما نحن فيه.

هذا كله مضافا الى ان مقتضى عموم ادلة وجوب اطاعة الله ورسوله (ص) ووجوب العمل بالكتاب والسنة هو امتثال اوامرهما.

ولو كان المامور به مجملا ولا يحتاج الى ادلة الاشتراك مع انه لا يخلو الحال من انه امّا ان تعلق الوجوب بمجرد الخطاب الملقى الى المشافهين

٥٤٨

المجمل بالنسبة الينا اولا وعلى الثانى فلا بد من التزام جواز المخالفة القطعية لان المفروض عدم تعلق التكليف فلنا ترك كلا الامرين اذ لا يلزم من ذلك ترك شيء كلفه بفعله.

فان قلت : انها محرمة بالاجماع.

قلت : حرمتها كاشفة عن تعلق الطلب بذلك الامر الواقعى ولا مناص حينئذ عن القول بوجوب الموافقة القطعية.

فان قلت : انا نرى ان الشارع حكم فى بعض موارد العلم الاجمالى بعدم وجوب الاحتياط ـ كما فى الشبهة الغير المحصورة ، وكما فى تعارض النصين المحكوم فيه بالتخيير وان امكن الاحتياط بالجمع ، وكما اذا اختلف الامة على قولين ولم يوجد دليل على احدهما ـ فانهم بين قائل بالتخيير وبين طارح للجميع وراجع الى الاصول ، ولم يقل احد بوجوب الجمع والاحتياط اذا امكن.

قلت : [فى] هذه الموارد لم يرد خطاب مجمل حتى يجب امتثاله ، امّا الشبهة الغير المحصورة فلاشتراط التكليف بالعلم التفصيلى بالمصداق الخارجى او الاجمالى مع حصر ما اشتبه فيه المعلوم واشتراط التكليف بالعلم بالموضوع الخارجى لا يضر فان كلامنا فى عدم اشتراط العلم بالمراد من الموضوع الكلى الوارد فى الخطاب.

وامّا مسئلة تعارض النصّين واختلاف الامة على قولين فلانه لم يوجد خطاب تفصيلى متوجه الى الحاضرين ، حتى يجب امتثاله على الغائبين ، بل نعلم اجمالا بورود خطاب من الشارع دال على شيء معلوم بالتفصيل ، ولا

٥٤٩

يعلم تفصيلا بورود خطاب دال على شيء مجهول والكلام فى الثانى لا الاوّل.

فان قلت : فاىّ فرق بينهما؟

قلت : الفرق بينهما هو ان فى صورة الخطاب التفصيلى بالامر الاجمالى علم تفصيلا بالتكليف ، فلا يجرى ادلة البراءة عما لا يعلم.

وفى صورة العلم الاجمالى بالخطاب لا شيء يتوجه الينا ، وانما يعلم اجمالا بورود خطاب اختفى علينا.

ولا ريب فى ان التكليف لا يكون بنفس ذلك الخطاب للقبح ولا بنفس هذا العلم الاجمالى لانه متعلق بورود الخطاب والعلم بورود الخطاب لا يقبل ان يتوجه الينا للجهل به رأسا لا ينفع فى اثبات التكليف.

٥٥٠

فى الادلّة العقلية

٥٥١

بسم الله الرحمن الرحيم

[فائدة ١٩]

فى الادلّة العقلية

عرّف بعضهم «الدليل العقلى» (١) بانه حكم عقلى يتوصل به الى حكم شرعى ، واهمال تقييد التوصل «بصحيح النظر» وبيان ارادة شأنية التوصل لا فعليته ، للاعتماد على بيان ذلك سابقا عند تعريف مطلق الدليل بانه «ما يمكن ان يتوصل بصحيح النظر فيه الى حكم شرعى».

فالغرض من هذا التعريف الاشارة الى ذلك اعتمادا فى تفصيله بما علم هناك.

ثم ان بعضهم قسموه الى ما يستقل به العقل والى ما يتوقف على وصول خطاب من الشرع ، ومثلوا للاوّل بحكم العقل بالحسن والقبح وللثانى بالاستلزامات كاستلزام وجوب الشيء لوجوب مقدمته ، ولحرمة ضده واستلزامه تعليق الحكم على شرط او وصف او غاية لانتفائه عند انتفائها ، وتحريم التأفيف لتحريم الضرب (٢) والحكم بثبوت الافطار اذا ثبت القصر و

__________________

(١) ـ انظر : مطارح الانظار : ص ٢٢٩ وبعدها

(٢) ـ كذا فى اصل المخطوط

٥٥٢

ثبت التلازم بينه وبين الافطار.

اقول : وكل من التحديد والتقسيم المذكورين لا يخلو عن شبهة.

امّا التحديد فانه ان اريد من التوصل بالحكم العقلى الى الحكم الشرعى الاستقلال فى الايصال ، كما هو شأن الدليل بالنسبة الى المطلب الخبرى.

ففيه : ان الحكم العقلى الواحد لا يمكن فيه ذلك ، اذ لا بد فى كل مطلب من حكمين لان الاكتساب لا يحصل باقل من مقدمتين ، فالدليل العقلى دائما مركب من حكمين.

نعم قد يتسامح ويطلق الدليل على نفس الاوسط وان اريد منه المدخلية فى التوصل وان لم يكن تمام الموصل.

ففيه : ان كون بعض المقدمات عقليا لا يوجب عدّ الدليل من الادلة العقلية.

توضيح ذلك ان المقدمتين قد يكونان عقليين كما اذا ثبت بالعقل قبح الكذب وثبت بالدليل العقلى ان كل قبيح فى العقل محرم عند الشرع ، وقد يكون الكبرى عقلية كما اذا ثبت من الشرع وجوب ازالة النجاسة عن المسجد.

وثبت بالعقل ان كل واجب مقدمة واجبة وضده حرام ، وقد يكون بالعكس كما اذا ثبت بالعقل قبح الظلم ، ودلّ الدليل الشرعى من الكتاب والسنة على حرمة كل قبيح.

وقد يكونان شرعيين كما اذا ثبت وجوب القصر فى اربعة فراسخ ، وثبت بالشرع عدم انفكاك الافطار عن القصر والتلازم بينهما.

٥٥٣

والظاهر من صاحب الوافية دخول القسم الرابع فيه حيث قال :

«القسم السابع من الادلّة العقلية التلازم بين الحكمين فانه اذا ثبت تلازم حكمين وتحقق احدهما فانه يدل على تحقق الآخر ، والتلازم قد يكون مستفادا من الشرع كتلازم القصر [فى الصلاة] والافطار [فى الصوم فى السفر] المستفاد من قوله [عليه‌السلام] : «اذا قصّرت افطرت واذا افطرت قصّرت» (١). وقد يكون مستفادا من حكم العقل كما يقال ان الامر بالشيء فى وقت معين لا يزيد عليه يستلزم عدم الامر بضده فى ذلك الوقت ، والّا لزم التكليف بما لا يطاق [وهو قبيح عقلا مع قطع النظر عن كونه منصوصا ايضا] وهذا القسم مما يتوقف حكم العقل فيه على ورود الخطاب الشرعى انتهى». (٢)

وانت خبير بانه اذا كان ما ذكره من ثبوت القصر فى موضع وثبوت التلازم بينه وبين الافطار شرعا بقوله : «اذا قصّرت افطرت» وصارت الصغرى

__________________

(١) ـ هذا جزء من حديث ورد فى «الفقيه» و «التهذيب» قال الشيخ ره : الحسين بن سعيد عن حماد بن عيسى عن معاوية بن وهب عن ابى عبد الله عليه‌السلام قال : اذا دخلت بلدا وانت تريد المقام عشرة ايام فأتم الصلاة حين تقدم ، وان اردت دون العشرة فقصر ما بينك وبين شهر فاذا تمّ الشهر فأتم الصلاة : قال : قلت : دخلت بلدا اوّل يوم من شهر رمضان ولست اريد ان اقيم عشرا فقال : قصر وافطر. قلت : فانى مكثت كذلك اقول غدا او بعد غد فافطر الشهر كله واقصر؟ قال : نعم هما واحد اذا قصرت افطرت واذا افطرت قصرت». التهذيب ـ ج ٣ ص ٢٢٠ ـ الفقيه ج ١ ص ٤٣٧ وفيه اختلاف يسير لفظا.

(٢) ـ ما بين المعقوفين زيادة فى الوافية ، اوردناه من شرح الوافية المخطوط : بشرح السيد صدر الدين القمى.

٥٥٤

والكبرى شرعيين ، فلا دخل للعقل الّا فى استنتاج النتيجة على تقدير صدق المقدمتين فلا يبقى دليل شرعى ، لان الاستنتاج من المقدمتين دائما بحكم العقل.

وقد ذكر بعض شراح الوافية تقرير دخول هذا القسم فى الادلة العقلية بعد ما اعترض عليه بقوله : فان قلت متى كان ثبوت الملازمة بطريق شرعى كمثال القصر والافطار والمقدمة الشرعية كالوضوء للصلاة ، كان الدليل على الحكم الذى لم ينص عليه بخصوصه شرعيا لا عقليا.

فقال مجيبا عن الاعتراض : قلت اثبات الحكم بطريق الملازمة نوع من عمل العقل وان كان ثبوت الملازمة التى بها يستدل العقل من طريق الشرع ، فانه حين يستدل فانما يستدل بالملازمة المحررة عنده من اى طريق اصابها ، وكيف يكون الدليل على الحكم فى مثله شرعيا.

والدليل الشرعى الدالّ على الملازمة لم يدل على هذا الحكم بخصوصه ولا تناوله بعمومه ، لانه انما دلّ على حكم وضعى وهو التلازم.

ثم العقل يستدل بالحكم الوضعى الذى دل عليه الدليل الشرعى على هذا الحكم التكليفى الخاص فيقول : ان الشارع قد حكم بالتلازم بين القصر والافطار وقد امرك الآن بالتقصير ، فهو يامرك بالافطار بحكم تلك الملازمة والّا فلا ملازمة.

بل لو كان الخطاب الشرعى خطاب تكليف يستفاد منه الوضع ، حتى يكون عاما متناولا لهذا الحكم التكليفى كان يقول : «قصّرت فافطر» ثم استدللت على الحكم التكليفى بالملازمة لكان استدلالا عقليا لانه استدلال

٥٥٥

بالملازمة المحررة.

نعم لو استدل ابتداء بالخطاب لكان شرعيا ، لانه استدلال بالعموم انتهى كلامه رفع مقامه.» (١)

وفيه : انه ليس معنى الكبرى الكلية التى هى احدى مقدمتى القياس الا الحكم بكون الاوسط ملزوما للاكبر ، وهذا معنى اندراج النتيجة اجمالا فى الكبرى ، وبذلك يندفع الدور المشهور عن بعض اهل التصوف على اهل الاستدلال (٢) ، لا الحكم بثبوت الاكبر لكل فرد من افراد الاوسط والّا لزم الدور المذكور.

فاذا فرض الملازمة بين القصر والافطار فليس معناه ثبوت الافطار فى مورد القصر من حيث انه معنون بهذا العنوان الواقع وسطا ، وبعد ذلك لا وظيفة للعقل الا الاستنتاج الذى هو شأنه فى جميع الادلة الشرعية والعقلية والعادية. بالجملة فليس هنا من حكم من الشرع بالتلازم بين القصر والافطار وحكم من العقل بان كل مورد للتقصير مورد للافطار حتى يكون هذه هى الكبرى ، ويكون مأخذها من حكم الشرع بالملازمة.

ألا ترى انه يكفى بعد قولنا : العالم متغير ، حكم العقل بكون التغير ملزوما للحدوث اذ ليس مرجعه الّا الى قولنا كل متغير حادث ، وليس هذا الحكم

__________________

(١) ـ العبارة المنقولة ليست من شرحى السيد بحر العلوم والسيد صدر الدين القمى ره لعلها من شرح السيد الاعرجى ولم نعثر على الجزء الثانى من نسخته المخطوطة

(٢) ـ يريد الشيخين أبا سعيد ابى الخير والشيخ الرئيس ابن سينا وقصّتهما مشهورة فى كتب المنطق.

٥٥٦

الكلى متفرعا على تلك الملازمة.

اللهم إلّا ان يقال ان المراد من المقدمتين فى القياس ما لا يحتاج الانتاج بعد فرض صدقهما الى مقدمة اخرى ، فاذا ثبت شرعا انه يجب القصر فى اربعة فراسخ ، وثبت ايضا الملازمة بين القصر والافطار ، فوجوب الافطار فى موضع وجوب القصر انما يحتاج الى مقدمة عقلية اخرى بديهية ، وهى استحالة انفكاك احد المتلازمين عن الآخر.

وهذا بخلاف قولنا : «[العالم] متغير وكل متغير حادث» فان التوصل بها الى حدوث العالم لا يحتاج الى مقدمة اخرى لا بديهية ولا نظرية.

ومن هذا القبيل وجوب المقدمة الشرعية فانه اذا ثبت الامر بالصلاة وانه لا صلاة إلّا بطهور لم يثبت وجوب الطهور الّا بحكم العقل ، بناء على وجوب ما لا يتم الواجب الا به هذا.

ولكن الانصاف ان الدليل المحتاج الى مثل هذه المقدمات العقلية المذكورة فى الاذهان كاستحالة اجتماع الضدين وارتفاع النقيضين وتخلف اللازم عن الملزوم لا يسمى من اجل ذلك دليلا عقليا.

وبعبارة اخرى اذا كان دلالة المقدمات الشرعية على المطلب بواسطة هذه المقدمات سمى الدليل شرعيا ويكون دلالتها بالالتزام ، ألا ترى ان القرائن اللفظية للحقائق هى الالفاظ الدالة على معان تعاند الحقيقة عقلا او عادة او شرعا ، ومجرد دلالتها على المعاندة بحكم العقل لا يجعلها قرينة عقلية.

فالتحقيق : ان المراد بالدليل العقلى هنا ليس مقابلا للنقلى بل مقابل

٥٥٧

للكتاب والسنة والاجماع ، فكما لا يلزم فى الكتاب واخويه ان يثبت بها بالاستقلال حكم شرعى ، فكذلك دليل العقل فالمراد به حكم عقلى يتوصل به الى الحكم الشرعى كما يتوصل بالمقدمة الى ذيها سواء كان سببا تاما او غيره. وامّا التقسيم فلان حكم العقل فى المقامين غير محتاج الى خطاب شرعى او كما انه يستقل بحسن العدل وقبح الظلم ، كذلك يستقل بعدم انفكاك وجوب المقدمة عن وجوب ذيها ، وعدم انفكاك حرمة الضد عن وجوب الشيء ، وعدم انفكاك عدم المسبب عن عدم السبب ، وعدم انفكاك الغاية عن انتهاء المغيّا عندها ، وعدم انفكاك حرمة الايذاء الشديد عن حرمة الخفيف ، وعدم انفكاك الملزوم عن عدم اللازم.

فان هذه القضايا كلها على تقدير ثبوتها ملازمات عقلية لا يتوقف تحققها على تحقق الملزوم. نعم لو قسم الحكم العقلى باعتبار التوصل به الى الحكم الشرعى ، الى ما لا يحتاج فى التوصل به الى خطاب شرعى والى ما يحتاج كان مستقيما ، فان التوصل من حكم العقل بالتلازم بين وجوب شيء ووجوب مقدمته وحرمة ضده مثلا الى الحكم الشرعى بوجوب مقدمته او حرمته متوقف على ثبوت الخطاب الشرعى بوجوب ما يتوقف على فعله او تركه ، وكذلك التوصل بحكم العقل ببقاء ما كان ولم يظن عدمه الى ثبوت حكم شرعى يتوقف على خطاب شرعى يدل على الحكم فى الحالة السابقة.

وهكذا فيكون التقسيم المذكور اشارة الى ان المراد بالتوصل فى التعريف اعم من التامّ والناقص ولعل بعضهم اراد ذلك واشتبه الامر على بعض آخر.

٥٥٨

فى تقسيم الحكم العقلى الى التكليفى والوضعى

ربّما ينقسم الحكم العقلى الى التكليفى والوضعى ، ومثل للوضعى [ب] شرطية القدرة للتكليف وبسببية العجز لعدمه.

وفيه : ان شرطية القدرة ليست حكما عقليا وانما الحكم العقلى هو قبح التكليف بما لا يقدر الموجب لانتفاء صدوره عن الحكم. فهذا المعنى يعبر عنه بعبارة الشرطية وكذلك الحكم بسببية العجز لعدم التكليف.

وبالجملة : فالحكم الوضعى العقلى فى مقابل التكليفى غير موجود ، وان قلنا بوجوده فى الشرعيات بمعنى جعل الشارع شيئا سببا او شرطا لشيء بحيث يترتب عليه الثبوت عند الثبوت او الانتفاء عند الانتفاء لكن العقل لما حكم اولا بالانتفاء عند الانتفاء فهذا ليس حكما بل نفى حكم.

اللهم الّا ان يراد ان العقل يحكم بما يمكن يعبر عنه بالشرطية فانه يمكن ان يعبر قبح التكليف بغير المقدور بشرطية القدرة. قيل ان مؤدى حكم العقل فى التحسين والتقبيح العقليين قد يكون حكما واقعا كوجوب شكر المنعم وحرمة كفرانه ، وقد يكون حكما ظاهريا كحكمه باباحة الافعال الخالية عن امارة المفسدة واليه مرجع مسئلة اصل البراءة والاستصحاب فى وجه.

اقول : الحكم الظاهرى هو ما ثبت لموضوع من حيث اتصافه بجهة له الحكم وهذا غير متحقق فى الحكم العقلى باباحة الاشياء الخالية عن امارة المفسدة لان الاباحة ان كان للشيء بوصف انه مجهول الاباحة والحظر فحكم العقل بالاباحة ممنوع.

٥٥٩

فى ان معنى حكم العقل بالحسن والقبح [هو] استحقاق الثواب والعقاب

اعلم : ان النزاع المعروف بين العدلية والاشاعرة فى التحسين والتقبيح انما هو من حكم العقل بالحسن والقبح بمعنى استحقاق الثواب والعقاب ، فيثبت بمجرد ثبوتها بهذا المعنى كون حكم العقل دليلا على حكم الشرع.

اذ لا نعنى بالواجب والحرام الشرعيين الا ما استحق العقاب على تركه او فعله.

نعم اثبات الحكم الشرعى بذلك ، بمعنى انشاء الشارع خطابا فى ذلك الفعل على وجه الاقتضاء او التخيير ، موقوف على اثبات تشريع جميع الاحكام وايداعها عند اهلها.

فكيف حكم العقل ـ عن صدور الخطاب فى الفعل الخاص ـ على طبق حكم العقل لكنه لا حاجة الى ذلك.

ألا ترى انه لو جزم العبد بان قتل ولد المولى موجب لاستحقاق الذم والعقاب لم يفرق الحال بين ان يرد من المولى فى الواقع نهى عن قتل الولد فيكشف حكم العقل عنه ، وبين ان لا يرد فى حسن مؤاخذة المولى على قتل ولده ، وحينئذ فيكون العقل احد اللسانين للشارع.

وذهب بعض المتأخرين الى منع الملازمة بين حكم العقل وحكم الشرع

٥٦٠