الفوائد الأصوليّة

الشيخ مرتضى الأنصاري

الفوائد الأصوليّة

المؤلف:

الشيخ مرتضى الأنصاري


المحقق: حسن المراغي « غفارپور »
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: شمس تبريزي
المطبعة: ايران يكتا
الطبعة: ١
ISBN: 969-94215-0-5
الصفحات: ٧٧٠

ثم اقام الدليل على اعتبارها فى المقصود.

الرابع ـ تشريع الحكم فى بعض الموارد يقينا واحتمالا لحكم غير مطّردة ، فليس وجه فى موارد فقدان الحكمة الّا مصلحة اطراد الحكم الراجع الى المصلحة فى التكليف لا المصلحة فى نفس الفعل كتشريع غسل الجمعة برفع ارياح الآباط ، وتشريع العدّة لحفظ الانساب عن الاختلاط وكراهة الصلاة فى الحمّام لكونه مظنة للرشاش ، وفى الاودية لكونها مظنّة لمفاجأة السيل مع ثبوتها عند القطع بعدمها الى غير ذلك.

وفيه : اوّلا ـ انه ليس نقضا على قاعدة كون حكم العقل دليلا بل على تبعية الحكم الشرعى للمصلحة فى الفعل.

وثانيا ـ المنع عن ذلك فان الحكمة المذكورة من باب التقرب الى الافهام والعلة الحقيقية هو الحسن والقبح ، والمراد بالحكمة هى امّا العلّة الغالبة كاشفة فى القصر والافطار وامّا العلّة الموجودة فى اوّل من كلف من المكلفين كرفع ريح الابط ، وإلّا فنقول ان فى فعل من لم يوجد فى حقه الحكمة مصلحة اخرى ايضا.

وثالثا ـ ان تكليف بعض المكلفين وهم الاولون معلل بالحكمة وامّا الباقون الذين لا يجرى فيهم الحكمة فيحصل الفعل بعد امر بعض المكلفين به حسن يوجب الزامه على الآخرين وليس هذا الحسن متفرعا على تكليف نفسه ، بل متفرع على تكليف غيره فيتفرّع عليه تكليف نفسه.

الخامس ـ النقض بالعسر والحرج النافين للحكم مع وجود المصلحة وتقريره بوجهين :

٥٨١

الاوّل ـ ان الحكم المنفى لاجل الحرج امّا ان يكون فى متعلقه حسن ام لا ، وعلى الاول تثبت الانفكاك بين الحسن والحكم ، وعلى الثانى فلا معنى للامتثال برفع الحكم الذى لا حسن فى جعله ، لان الجعل اذا كان قبيحا ولو لاجل اللغوية فى امتنان فى نفيه ، وبعبارة اخرى الحكم الشرعى على مذهب العدلية تابع للحسن بحيث يقبح تخلفه عنه ، ولذا اورد عليهم الاشاعرة بلزوم عدم كونه تعالى مختارا فى جعل الاحكام.

واجابوا عن ذلك : بان انتفاء القبح لصارف لا ينافى الاختيار فعلى هذا جعل الحكم على خلاف الصفة قبيح ، فلا امتنان فى رفع الحرج اذ لا صفة فى الامر المرتفع حكمه للحرج.

والثانى ـ ان الشارع المقدس اخبرنا بافعال وانها حسنة حسنا ملزما وانه لم يامر بها لمكان الحرج ، كما فى قوله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ «لو لا ان أشقّ على امّتى لامرتهم بالسواك او لاخرت العميمة الى ثلث الليل» (١) دل على انحصار المانع بمشقة الالزام فصفة الفعل تامة فى اقتضاء الوجوب.

والجواب عن التقرير الاوّل :

اولا ـ ما تقدّم من ان الكلام فى كون الحكم العقلى الذى احرزه العقل دليلا على الحكم الشرعى واذا احرز العقل الحكم لحسن الفعل بحيث يستحق فاعله المدح من كل عالم بفعله وتاركه الذم منه لم يؤثر فى نفى ذلك كونه عسرا وان كان فى غاية العسر ، ألا ترى انه لا يسوغ العقل قتل مؤمن ظلما تفصيا عن الحرج اللازم على تركه.

__________________

(١) ـ كتاب من لا يحضره الفقيه : ج ١ ص ٥٥. الموطأ : ج ١ ص ٦٤ طبعة مصر ١٣٤٩ ه

٥٨٢

وثانيا ـ بالنقض بما ذكرت من كون تبعية التكليف للحسن فيه لا فى المكلف به.

فنقول : لو لم يكن فى التكليف جهة محسنة لم يكن امتنان فى نفيه ، ولو كان قبح نفى التكليف دخل فى ذلك انه يجوز ان يعلم فى فعل متصف بحسن ملزم مجهول للمكلفين انه لو الزم عليهم لا وقع اكثرهم فى المعصية ، ومضرة هذا عليهم اشد من اعلامهم بحسن ذلك الفعل ، فيكون تركهم له عن جهل اهون من تركهم له مع العلم فوجه الامتنان تبعيدهم عن المعصية بترك الزام ذلك الفعل عليهم.

وامّا عن التقرير الثانى : الكلام فى اعتبار العقل يقع تارة فى ان كشفه وادراكه معتبر ام لا؟

واخرى من ان حكم العقل وانشائه فى فعل باحد الاحكام الطلبية هل يلزمه حكم الشارع فيه بذلك الحكم ام لا؟

والحق فى المقام الاول هو الاعتبار مطلقا ، لان الادراك اذا كان قطعيا فكونه طريقا الى الواقع عند القاطع مما لا يحتاج الى توقيف من الشارع او غيره ممن يجب اطاعته ، ومجرد احتمال مخالفته للواقع مع قطع النظر عن اعتقاد المعتقد لا يوجب منع المعتقد عن العمل به ، لسقوط هذا الاحتمال عنده.

وان شئت فاعتبر ذلك فى الاحول اذا لم يعلم انه احول فهل يمكن ردعه عما هو عليه من ابصار الواحد اثنين.

وليس مرادنا من اعتبار الادراك القطعى الّا هذا المقدار لا كون الشارع

٥٨٣

راضيا بالعمل به مع مخالفته الواقع ، فان إرادة المخالف وجوب عمل القاطع على خلاف ما ادركه فهو تكليف بما لا يطاق وان اراد عدم رضاء الشارع بالعمل بالعقول الناقصة الغير الواصلة الى الواقع فهو حق إلّا ان هذا لا ينفع بالنسبة الى القاطع.

نعم يثمر فى الحكم بعدم جواز الرجوع الى المقدمات العقلية المحصلة لهذا القطع الملقى كثيرا فى خلاف الواقع ، ليكون ما يفسده اكثر مما يصلحه ، لكن الانصاف عدم قصور العقل فى العقليات الواضحة القريبة من الضرورة.

وامّا الكلام فى المقام الثانى : اعنى مطابقة الحكم العقلى للحكم الشرعى ، ليكون كل ما حكم به العقل حكم به الشرع فهو موقوف على اثبات حكم العقل اولا وردّ ما عليه الاشاعرة من نفى التحسين والتقبيح العقليين ثم اثبات مطابقته مع الشرع.

لكن الظاهر ان هذا المطلب مما لا يحتاج الى الاثبات لصيرورته من البديهيات فلا جدوى للتعرض لاثباته ، وجعل الضرورى فى معرض النظر والاستدلال مع ان ما استدلوا به لذلك مما عدى دعوى الضرورة غير خال عن النظر فراجع وتدبر.

نعم يتفرع عليه مسئلة اخرى لا بأس بالتعرض لها [(١)]

وامّا الاحتمال الاول من احتمالات هذا القول وهو كون الذات مقتضية للحسن او القبح بحيث لا ينافى ضم المانع معه فهو مانع لان عدم المانع جزء من العلة التامة للحسن ، فيكون الحسن الفعلى مستندا الى الذات مع عدم

__________________

(١) ـ فى النسخة المخطوطة ثلث الصفحة بياض فى هذا الموضع.

٥٨٤

المانع.

وحينئذ فنقول : المانع المنضمّ اليه اما ان يكون ذاتا اخرى ، وامّا ان يكون اعتبارا من الاعتبارات.

وعلى الثانى فيرجع الى جواز كون الحسن والقبح بالاعتبارات لان المفروض وجوب العمل بمقتضى هذا الاعتبار ، اللهم الّا ان يدعى ان الكلام فى ان الوجوه والاعتبارات لا تصير منشأ للحسن والقبح لا انها لا تؤثر فيهما ولو على وجه المانعية والاسقاط.

وفيه : ان الكلام فى الحسن بالمعنى الاعم الشامل للمباح فلا ينفك الاعتبار المنضم عن اقتضائه او اقتضاء القبح.

نعم لو كان المراد بالحسن او القبح خصوص الرجحان والمرجوحة المانعين عن النقيض او غير المانعين ، امكن ان يقال بكون الذات مقتضية لها ، ولا يقدح حينئذ انضمام اعتبار مانع عن الصفة موجب لدخول الفعل فى حد المباح.

وعلى الاوّل فاما ان يكون الذات الاخرى علّة تامة ، واما ان يكون كالذات الاولى مقتضية :

والاوّل رجوع عن القول بكون الذات مقتضية فى جميع الموارد اذ الظاهر من القول بالذات هو الايجاب الكلى ، فيناقضه فرض العلية التامة الّا ان يلتزم ان المراد بكون الذات مقتضية بالمعنى الاعم من المقتضى والعلة التامة.

وعلى الثانى ـ فانضمام هذا الذات المقتضى بخلاف مقتضى الذات الاولى لا يوجب منع الذات الاولى عن مقتضاها ، اذ الذاتان سيان فى

٥٨٥

الاقتضاء وعدم العلية التامة فمنع إحداهما للاخرى عن مقتضاها ترجيح بلا مرجح.

ولو فرض إحداهما اقوى فهى العلة التامة فى هذا المقام وان امكن ان يعارضها فى مقام آخر ما هو اقوى منها ، بحيث يكون المعارض فى ذلك المقام كالعلة التامة.

وامّا القول بالصفات اللازمة فهو ممكن الّا انا لم نعثر على قائل به.

وامّا القول بالوجوه والاعتبارات ، فان اخذت على وجه التقييد فالامثلة كثيرة كضرب اليتيم المقصود من التاديب او المقصود منه التشفى ، وامّا الماخوذ على وجه التعليل فهو ممكن ، الّا انّا لم نعثر على مثال يتعين فيه.

وربما يفرض فى الفعل المختلف حسنا وقبحا باعتبار الزمان بناء على ان الزمان ليس من المشخصات ، فلا يؤخذ على وجه التقييد المستلزم لتعدد الفعل بتعدده وفيه تأمل.

بقى الكلام فى ان العلم والجهل هل يؤثران ام لا؟

والتحقيق : ان العلم والجهل امّا ان يضاف الى موضوع الحسن والقبح وموصوفهما ، وامّا ان يلاحظ بالاضافة الى نفس الصفتين.

فان اخذ بالاضافة الى الموضوع فلا مانع من اختلاف صفة الموضوع بهما بان يكون ثابتا لموضوع بشرط العلم به ، والقبح ثابتا للشيء مع عدم الجهل به وامثلته كثيرة فى المستقلات وغيرها ، فان عدم الاعتناء بالعالم عند النزول على الانسان قبيح بشرط كونه من العلماء ، فمع الجهل لا قبح فيه اصلا.

وكذا قتل المؤمن فى الجهاد باعتقاد انه كافر واجب القتل ، ونحو

٥٨٦

الصلاة فى النجاسة ونحوها مما اشترط الصلاة بعدم العلم به لا بالعلم بعدمه.

بل التحقيق مدخلية العلم بالموضوع دائما اذ مع الجهل به لا يتحقق القصد الى ذلك العنوان المحكوم عليه بالحسن او القبح ، فيخرج ذلك العنوان عن كونه اختياريا بل قد يخرج الفعل بالجهل عن كونه معنونا بذلك العنوان ، كالفعل الذى لا يعلم انها اهانة او تعظيم اذ لا يتحقق مع الجهل الاهانة ولا التعظيم.

وان اخذ بالقياس الى نفس الصفة فلا يعقل تاثيرهما فيهما اذ من المحال عقلا تأثير العلم والجهل فى متعلقهما ، بان يكون للعلم مدخل فى وجود المعلوم وللجهل مدخل فى ارتفاعه.

لكن لا تذهب عليك ان ما ذكرنا انما هو بالنسبة الى الحسن والقبح بمعنى كون الفعل بحيث لو صدر من العالم المختار لاستحق المدح او الذم ، لانهما بهذا المعنى هما اللذان يتعلّق بهما العلم والجهل.

وامّا الحسن والقبح بمعنى كون الفعل بحيث يستحق فعلا المدح والذم عليه فلا اشكال فى اختلافهما بالعلم والجهل ، لان تقبيح الجاهل ظلم وتحسينه فى غير موضعه.

والعلم والجهل لا يتعلقان بالحسن والقبح بهذا المعنى بالنسبة الى هذا الشخص بل متعلقهما المعنى الاوّل.

والحاصل ان الحسن والقبح نظير الحكم الشرعى من ان الواقعى منه الذى لا يتغير بالعلم والجهل عند المخطئة هو الحكم الشأنى ، اى ما من شأنه ان يتنجّز على المكلف ، وامّا التكليف المنجّز الفعلى فلا اشكال ولا خلاف

٥٨٧

فى تعدده وتغيّره بالاعتقاد ، ولذا اتفق الكل على تعدد الحكم الظاهرى.

ثم انه استدل على بطلان القول بالذاتية والصفات اللازمة بوجوه :

الاوّل ـ انه لو كان كذلك لما جاز النسخ مع انه جائز وواقع ضرورة ، بيان الملازمة ان الذات الواحدة ان كانت حسنة لم يجز النهى عنها فى زمان ، وان كانت قبيحة لم يجز الامر بها.

الثانى ـ انهما لو كانا ذاتيين او بالصفات اللازمة لم يمكن التخلف مع انه قد يقع كما فى الكذب النافع والصدق الضار.

الثالث ـ انهما لو كانا كذلك لزم اجتماع الصفتين فيما لو قال : لا كذبن غدا اما فى خبر الغد حيث انه ان كان صادقا حسن من حيث الصدق وقبح من حيث افضائه الى كذب خبر الامس ، وان كان كاذبا فبالعكس كما هو احد التقريرين المحكمين لهذا الاستدلال.

وامّا فى نفس هذا الكلام حيث انه اما ان يطابق الواقع اولا ، فهو على الاوّل حسن من جهة المطابقة ، قبيح من جهة استلزامه وقوع متعلقه الذى هو صدور الكذب وعلى الثانى قبيح من جهة المخالفة حسن لاستلزامه انتفاء متعلقه الذى هو الكذب القبيح.

واجيب عن الاولين :

تارة بان الزمان ماخوذ فى متعلق كل واحد من حكم الناسخ والمنسوخ فبتعدّد الذات يتعدّد الزمان ولا ينافى ذلك اطلاق النسخ عليه اصطلاحا ، لان هذا الاطلاق بملاحظة اتحاد الفعل مع قطع النظر عن الزمان وكذلك النفع والضرر المنضمين الى الكذب والصدق موجبان لتعدد حقيقتهما فيكون كل

٥٨٨

من الصدق والكذب على نوعين مختلفين فى صفتى الحسن والقبح فلم يمكن التخلف.

واخرى بتسليم اتحاد الذات وصفاتها فى النسخ وفى الكذب النافع والصدق الضارّ الّا ان هناك ذاتا اخرى متحدة مع هذه الذات فى الوجود مقتضية لصفة مخالفة لصفتها غالبة عليها ، فيعمل بمقتضاها من ارتكاب اقل القبيحين مثلا نكاح الاخت قبيح دائما الّا انه لو فرض صحة ما روته العامة من انه كان حلالا فى بدو شريعة آدم ـ عليه وعلى جميع النبيين واوصيائهم ـ عليه‌السلام.

فنقول : ان ابقاء النسل من نفس ذريّة آدم ـ عليه‌السلام ـ كان حسنا بحيث يكون تركه اقبح من نكاح الاخت فامر ارتكابا لاقل القبيحين وكذلك الكذب قبيح مطلقا الّا ان اهلاك النفس المعصومة اقبح منه فيرتكب الكذب لانجاء نبيّ ـ عليه‌السلام ـ ارتكابا باقل القبيحين.

ويرد على الاوّل : ان ذلك غير القول بالوجوه والاعتبارات على جهة التقييد كما لا يخفى.

نعم لو قيل بها على جهة التعليل كان الفرق بينهما فى ان اختلاف الكلى الواحد فى الحسن والقبح على القولين الاولين باختلاف الموضوعات ، وعلى هذا القول باختلاف الجهات مع وحدة الموضوع ، لكن هذا فرق اعتبارى اذ الظاهر انه ما من جهة واعتبار الّا ويمكن جعله من قبيل التقييد للموضوع.

ثم لازم القول بالذات على هذا الجواب ان لا يتصف بالحسن والقبح فى

٥٨٩

بعض الموارد الّا ذات الشخص الخارجى والجزئى الحقيقى دون الطبيعة الكلية ، كما ذكرنا فى احتمالات هذا القول اذ قد لا يستقل العقل بنفى مدخلية الخصوصيات المقسمة فى اختلاف الطبيعة حسنا وقبحا ، فكما ان طبيعة الكذب صارت بسبب انضمام النفع اليه على قسمين حسن وقبيح ، كذلك يمكن ان ينضم الى الاخبار الكاذب النافع ما يوجب قبحه ، فينقسم الكذب النافع بواسطة الى قسمين مختلفين فى الحسن والقبح.

ثم يمكن ان ينضم الى كل قسم منه بمثل ذلك وهكذا الى ان يبقى ما لا يقبل التقسيم وهو الجزئى ، فلا يمكن للعقل ان يحكم ـ قبل ملاحظة جميع خصوصيات الفعل الخارجى ـ بحسنه او قبحه.

نعم قد ذكر ان بعض الكليات مما يستقل العقل بعدم صلاحيتها لان ينضم اليها خصوصية مقسمة كحب الله عزوجل والاستكبار عليه والظلم على المحسن ونحو ذلك.

ويرد على الثانى : ان الكلام فى الحسن والقبح الفعليين ومن المعلوم ان الكذب النافع لا يتصف بهما ومجرد كون الفعل على وجه لو سلم عن معارضة الاقبح لكان فاعله مستحقا للذم لا يجدى فى محل الكلام هذا ، مع ان العرف قاض بعدم القبح اصلا فى امثال المقام.

نعم ربما يحكمون فى بعض الافعال بانه حسن من جهة كذا وقبيح من جهة كذا إلّا ان هذا فى الحقيقة توقف فى الفعل من جهة العجز عن ادراك الصفة الفعلية ، ومما ذكر يظهر ضعف قياس ارتكاب اقل القبيحين على ارتكاب اقل الالمين فى قطع بعض الاعضاء.

٥٩٠

وعن الثالث :

امّا عن تقريره الاول : فبأنه ان كان المراد بقوله : «لا كذبن هذا الكذب فى خبر من اخبار الغد.»

ففيه : ان كل خبر صادق فى الغد لا يوجب كذب خبر الامس لامكان الكذب فى غيره وان كان المراد الكذب فى جميع اخبار الغد فكذب خبر لا يوجب صدق خبر الامس لجواز صدقه فى غيره ، وحكى عن التفتازانى جعل هذا الايراد وجها لاضراب العضدى عن هذا التقرير الى التقرير الثانى ، ويمكن دفعه بتغير المثال بان نقول : لاكذبن غدا فى الخبر الفلانى والاحسن فى الجواب عن هذا التقرير منع كون صدق خبر الغد قبيحا ، لان غاية ما يلزم منه صيرورة خبر الامس كاذبا ولا دليل على قبح ذلك ، ولو جعل خبر الامس من قبيل الوعد لا محض الاخبار كان من قبيل الوعد بالقبح ولا يحسن الوفاء به بل يقبح.

وبه يظهر الجواب عن التقرير الثانى لو كان «لاكذبن» من قبيل الوعد ، وعلى تقرير حمله على مجرد الاخبار فنقول : ان صدقه يتوقف على الكذب فى الغد ولا دليل على قبح ما يتوقف على القبيح.

نعم ما يتوقف عليه القبيح قبيح فهو حسن من دون قبح ولو سلمنا قبح ما يتوقف على القبيح فنقول انه قبيح من دون حسن والقول بان الصدق فى ذاته حسن فكيف يتخلف عن مقتضى ذاته رجوع الى الوجه الثانى من وجوه ابطال القول بالذات.

٥٩١

فى بيان تطابق العقل والشرع

معنى تطابق العقل والشرع : ان كلما حكم به الشرع حكم به العقل وكلما حكم به العقل حكم به الشرع والقضية الثانية هى المسألة الاصولية حيث انه يبحث فيها عن كون العقل من الادلة الشرعية نظير البحث عن حجية خبر الواحد والاجماع ونحوهما.

وامّا الاولى فهى المسألة الكلامية ولما كان للثانية ارتباط بها كما ستعرف حين التصدى لها مع انها فى نفسها مسئلة نفيسة.

فنقول ان ظاهر تلك القضية ان فى كل مقام وجد حكم شرعى فلا محالة يوجد هناك حكم عقلى نظير الحكم الشرعى مطابق له ، فكل واجب شرعا حسن عقلا على وجه لا يرضى العقل بتركه ، وكذلك قياس سائر الاحكام وهذا الحسن او القبح العقلى تارة يدركه العقل وتارة لا يدركه.

فالمراد بكونه عقليا : كونه واقعيا يمكن ان يدرك بالعقل بغير توسط الشرع ، او المراد كونه مما يحكم به العقل فعلا بعد ملاحظة الموضوع ، وهو الفعل تفصيلا بجميع جهاته وخصوصياته.

ثم انكار هذه القضية منسوب الى لازم الاشاعرة بناء على تفهيم الحسن والقبح الواقعيين مع قطع النظر عن حكم الشرع ، مضافا الى تجويزهم الترجيح بلا مرجح فلا يضرهم التنزل وتسليم الحسن والقبح ، اذ اللازم من ذلك وجود صفتى الحسن والقبح فى الواقع لا دخلهما فى حكم الشرع ، كما ان

٥٩٢

افعال الله ـ سبحانه ـ عندهم غير معللة بالمصالح وان كانت موجودة فيها وحيث ثبت فى محله بطلان الترجيح بلا مرجح وجبت اناطة الاحكام بمرجحات اوجبت تخصيص كل فعل خاص بحكم مخصوص وهذا مما لا اشكال فيه ولا خلاف بين العدلية.

وامّا ما وقع من بعضهم فى ردّ تمسك القائل بكون الاوضاع بالمناسبات الذاتية ، بانه لو لا ذلك لزم تخصيص بعض الالفاظ ببعض المعانى من دون مخصص من ارادة الوضع مخصصة فهو مردود او مأول.

انما الكلام فى ان المرجح يجب ان يكون حسن الفعل او قبحه ، او يجوز ان يكون غيرهما اذا العقل لا يستحيل التكليف لاجل حسن فى نفسه لا فى المكلف به ويطلق عليه اصطلاحا التكليف الابتلائى ، وتخصيص بعض الافعال بذلك دون بعض ، لعلّه لعلم الشارع بعدم حسن الابتلاء بذلك لخصوصية فيه.

والحاصل انه لا كلام فى انه لا بد فى التكليف الشرعى من حسنه ، وانما الكلام فى انه هل يعتبر حسن المكلف به ام يكفى حسن التكليف لامور لا يرجع الى حسن المكلف به.

وتوهم ان الفعل بعد تعلق الامر الابتلائى به يصير حسنا من حيث تعلق طلب المولى به ودخوله فى عنوان الاطاعة التى يستقل العقل لحسنها ، يندفع بان الكلام فى اثبات الحسن الذى يتبعه امر الشارع ويحدث الامر بسببه لا فى الحسن الذى يتبع امر الشارع ويحدث بسبب الامر ، ومعلوم ان حسن الفعل من حيث دخوله فى عنوان الاطاعة انما يثبت له بعد تحقق طلب الشارع.

٥٩٣

ثم لو سلمنا انه لا بد من حسن فى المكلف به لكن لا يثبت بذلك ما ذكروه من تبعية الاحكام للمصالح الكامنة فى متعلقها ، فان الحسن والقبح لا ينحصران فيما يرجع مصلحته او مفسدته الى الفاعل ، بل لا يحسن الشيء او يقبح الا لتضمنه مصلحة او مفسدة يعود الى الفاعل فكل موافق لمصلحة الفاعل حسن وكل مخالف لها او موافق للمفسدة قبيح لكن ليس كل حسن موافقا للمصلحة وكل قبيح موافقا لمفسدة الفاعل او مخالفا لمصلحته فتأمّل.

وكيف كان فما ذكروه من الدليل العقلى على هذه الكلية المعبر عنها ب «تبعية الاحكام للمصالح الراجعة الى المحكوم المبتنى على بطلان الترجيح بلا مرجح» غير واف بها.

والاولى التمسك فى ذلك بظواهر الشرع بوجهين :

احدهما ـ ان المتبادر من الامر عرفا هو كون المامور به حسنا عند الآمر محبوبا عنده ذا مصلحة وكون الداعى الى طلبه هى المصلحة الموجودة فيه ، فيكون جميع ما امر به الشارع حسنا عنده ذا مصلحة ، ومن المعلوم ان المصالح لا ترجع الا الى العباد.

والثانى ـ ما يستفاد من ظواهر بعض الآيات والاخبار مثل قوله ـ تعالى ـ خطابا للنبىّ ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ (قُلْ إِنَّما حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَواحِشَ ما ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ)

[٣٣ : الاعراف] دل على حصر المحرمات فى القبائح.

وقوله ـ تعالى ـ : (قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ) [٢٩ : الاعراف] دلّ على ان كل عدل مامور به لكنه لا يدل على ان كل مامور به عدل.

٥٩٤

وما دلّ من الآيات على مجازات الناس بنفس اعمالهم الدالة على تجسّم الاعمال مثل قوله ـ تعالى ـ (وَما تُجْزَوْنَ إِلَّا ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) [٣٩ : الصافات] وقوله ـ تعالى ـ (فَلا يُجْزَى الَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئاتِ إِلَّا ما كانُوا يَعْمَلُونَ) [٨٤ : القصص] وعلى مجازاتهم بحسب اعمالهم وعلى طبقها ، فانه ايضا على تفاوت مراتب الاعمال الحسنة او القبيحة فى الجزاء وان اشترك بعضها مع بعض فى الحسن او القبح اذ لو لا ذلك لتساوت جميع الحسنات فى الجزاء لكون الكل اطاعة وكذا جميع السيئات لكون الكل معصية.

ومنه يظهر دلالة ما دلّ على تفاوت الطاعات فى المحبوبية وتفاوت المعاصى فى المبغوضية مثل ما دلّ ان العمل الفلانى كالصلاة او غيرها احبّ الاعمال الى الله ـ تعالى ـ وان العمل الكذائى ابغضها اليه.

فانه لو لا اتصاف الافعال بصفتى الحسن والقبح على سبيل الشدة والضعف لتساوت الكل قبل الامر فى عدم المحبوبية وبعده فى تحقق الاطاعة وكذا قياس القبح.

واظهر من الكل قول امير المؤمنين ـ سلام الله عليه ـ فى وصيته الّتى كتبها الى ابنه الامام الزكى ابى محمد الحسن ـ صلوات الله عليه ـ وهى مذكورة فى «نهج البلاغة» وفيها قوله ـ عليه‌السلام ـ فانه لم يأمرك إلّا بحسن ولن ينهاك الّا عن قبيح» (١)

ويمكن ان يخدش فى دلالته بان : غاية كون كل مامور به حسنا وكل

__________________

(١) ـ نهج البلاغة : ص ٣٩٦ صبحى صالح

٥٩٥

منهى عنه قبيحا وامّا بلوغ حسن الاوّل وقبح الثانى حد المنع عن النقيض فغير واضح منه فتأمل.

وفيما ورد فى استماع الغناء ـ واستغفر الله ـ مما يكره فانه لا يكره الّا القبيح ، دل كالآية المتقدّمة على حصر المكروهات فى القبائح.

ويؤيد ذلك ما ورد عن مولانا الرضا ـ عليه‌السلام ـ فى صدر الرواية المشتملة على علل الاحكام التى يذكرنا النقى الجليل المتكلم الفضل ابن شاذان ومضمونه على ما هو ببالى «تعليل الاحكام بالمصالح» ولا اذكر متن الرواية ولا يحضرنى كتاب من الاخبار.

ويؤيده ايضا ما حكى عن بعض انه حصل لنا ـ بملاحظة اكثر المأمورات وانها حسنة ومعظم المنهيات وانها قبيحة ـ الظن القوى بان جميعها كذلك.

بل ربما حصل من تتبع الاحاديث وطريق السمع العلم بذلك ، اذ فى كل موضع سئل عن الائمة ـ صلوات الله عليهم ـ العلة فى حكم احالوا بتقرير العلة ولم يجيبوا قط بان الله يامر بدون سبب تعبدا.

وهذا الكلام وان كان للنظر فيه مجال ، الّا انه لا يخلو عن تاييد لما استفدناه من الآثار المتقدمة.

نعم هنا بعض ما يعارض مظاهره (١) بعض ما ذكرنا مثل قول مولانا السجاد ـ عليه‌السلام ـ فى دعاء التحميد من الصحيفة : «ثم امرنا ليختبر طاعتنا ونهانا ليبتلى شكرنا فخالفنا عن طريق امره وركبنا متون

__________________

(١) ـ كذا فى المخطوط لعل الصحيح : ظاهره

٥٩٦

زجره» (١) واظن وجود مثله ايضا فى غير هذا الموضع ولكن الظاهر ان المراد من ذلك كون اصل الامر والنهى ـ اعنى مطلق التكليف ـ لاجل اختبار الناس وابتلائهم وتميز المطيع الشاكر من العاصى الكافر ليجزى الذين أساءوا بما عملوا ، ويجزى الذين احسنوا بالحسنى وهو راجع الى ما يذكره المتكلمون من اثبات حسن التكليف بدليل اللطف.

وما ذكروه فى هذا المقام من تبعية الاحكام للصفات الكامنة فى متعلقاتها الظاهر انهم لا يريدون به كونها علة تامّة للتكليف بمقتضاها ، ضرورة انه كان يمكن توجيه الامر الارشادى لبيان تلك المصالح والمفاسد نظير اوامر الطبيب حتى لا يترتب على مخالفتها ما عدا المفسدة المترتبة على فعل القبيح او ترك الحسن لا الثواب والعقاب المترتبان على التكاليف المولوية ، بل المراد انه بعد ما اقتضى اللطف اصل التكليف الصادر على نهج تكاليف المولى للعبد لاجل ايصال النفع المستحق ـ اعنى الثواب ـ كان خصوصيات التكاليف تابعة لتلك الصفات فالاختبار غايتان لاصل التكليف والمصالح والمفاسد مرجحات لخصوصياته فافهم.

__________________

(١) ـ كذا فى الصحيفة فى دعاء التحميد.

٥٩٧

[بيان قاعدة كلما حكم به العقل حكم به الشرع]

وامّا القضية الثانية : وهى ان كلما حكم به العقل حكم به الشرع فالمراد بحكم العقل ليس ادراكه لحكم شرعى اذ لا معنى للتطابق هنا ، بل الكلام فى خطأ العقل وصوابه فى الادراك.

والمخالف هنا كما عرفت طائفة من الاخباريين بل المراد إنشاءات العقل لا ادراكاته.

فمعنى القضية كما عرفت فى القضية الاولى ان كل واجب عقلى اى فعل حسن لا يرضى العقل بتركه فهو واجب شرعى وهذا يتصور على وجهين :

الاوّل ـ ان يكون الشارع قد اكتفى فى بعض الاشياء بحكم العقل فجعل العقل رسولا وواسطة منه الى العباد فى ذلك البعض.

والثانى ـ ان يكون الشارع صدر منه الحكم الشرعى على لسان الرسول الظاهرى مطابقا للعقل ، ونتكلم فى الثانى ثم فى الاول.

فنقول قد يستدل عليه بانه بعد ما ثبت ان لكل واقعة مطلقا او لكل واقعة يحتاج الى حكمها العباد ـ حكما شرعيا صادرا عن الشارع مخزونا عند خزانه وثبت بالكلية المتقدمة ايضا ان كلما حكم به الشرع حكم به العقل ، فنقول اذا حكم العقل فى فعل بحكم ، فنقول انه لا بد فيه من حكم صادر عن الشارع بمقتضى ما ذكرنا ، وهذا الحكم ان كان مطابقا لحكم العقل فهو المطلوب وان كان مخالفا ثبت انتقاض ما ذكرنا من الكلية المتقدمة القائلة :

٥٩٨

بان حكم الشرع موافق لحكم العقل.

ويضعفه ما عرفت من ان تلك الكلية لم يثبت بدليل عقلى ولا بطريق نقلى يفيد العلم بالكلية وعدم التخلف ، وان لفّقنا لها جملة من الآيات والاخبار المعتضدة بالاستقراء والاعتبار.

فالتحقيق فى المقام ، التفصيل فى حكم العقل بين ما اذا كان الحكم ارشاديا يقصد منه التبعيد عن المفسدة والتقريب الى المصلحة وبين ما اذا كان حكمه لاجل ملائمة الفعل فى نفسه او منافرته كذلك.

فالأوّل لا يلازم حكم الشارع الّا على النحو الذى حكم به العقل من الحكم الارشادى نظير امر الطبيب الذى لا يترتب على مخالفته عدا المفسدة دون الحكم على النهج المتعارف بين الموالى والعبيد.

والثانى : فيه تفصيل بين الاحكام بان يقال ان العقل اذا استقل بوجوب شيء او حرمته بحيث لا يرضى بتركه او بفعله بعد الاحاطة بجميع ما هو عليه من الخصوصيات ، فالحكم الالزامى لا يجوز ان يتعلق بفعل القبيح ولا التحريمى بفعل الحسن لما ذكرنا من عدم حكم الشارع بخلاف حكم العقل فى اعتقاد الغافل ، فلا يرد ما قيل من ان المسلم ان الشارع لا يوجب القبيح الواقعى ولا يحرم الحسن الواقعى ولا ما حكم عقولنا بحسنه او قبحه ، فلو حكم الشارع هنا فلا يحكم بخلافه.

وامّا وجوب صدور الحكم منه فلم يثبت عليه دليل غاية الامر انه يجب عليه بيان المصالح والمفاسد ، وهو لا ينحصر فى انشاء الحكم ، لكن هذا المقدار كاف بعد ما ثبت ان لكل واقعة حكما ، مضافا الى ما سيجيء من

٥٩٩

اتفاق اصحابنا والمعتزلة على كون التكليف فيما يستقل به العقل لطفا فلا يخل به الحكيم.

فنقول : ان الحكم الالزامى لا يجوز ان يتعلق بفعل القبيح ولا التحريمى بفعل الحسن لما ذكرنا من عدم حكم الشارع بخلاف حكم العقل فى اعتقاد الغافل ، فلا يرد ما قيل من ان المسلم ان الشارع لا يوجب القبيح الواقعى ولا يحرم الحسن الواقعى لا ما حكم عقولنا بقبحه وحسنه.

توضيح الرد انه ليس لنا مرآة للواقع الا اعتقادنا ولا ينفعنا التكلم فى الواقع مع قطع النظر عن الاعتقاد ، والّا فانا لا ننكر ان الشارع لا يتعدى فى حكمه الحسن والقبيح الواقعيين دون المحكوم بهما فى عقولنا لكن الواقع لا يوصل اليه الّا بالادراك فالمدرك واصل فى اعتقاده وان كان مخطأ.

وكذلك لا يجوز حكم الشارع بكراهة ما يستحب عقلا او تحريمه او استحباب ما هو مكروه غير محرم عقلا او ايجابه ، بخلاف ايجاب المستحب والمباح وتحريم المكروه والمباح.

والحاصل ان الحكم الشرعى دائر مدار حسن التكليف فاذا لم يؤد صفة المكلف به من الحسن او القبح الى قبح التكليف بخلاف مقتضى صفة الفعل فلا مانع عن الاختلاف وان ادى فلا يجوز ، ومن هنا ظهر فساد تجويز التخلف مطلقا وكان منشأ توهم ذلك ما يتراءى من التخلف فى بعض موارد التى ذكرها وليس شيء منها فى الحقيقة من موارد التخلف.

منها : ان الشارع كثيرا ما يرفع وجوب شيء بلزوم العسر على الفاعل بل قد يوجب العسر على اكثر الفاعلين رفع الحكم عن الكل ، ولا يخفى ان الحكم العقلى هنا موجود خصوصا فى مورد فقد الحرج مطلقا ، والّا لم يكن

٦٠٠