الفوائد الأصوليّة

الشيخ مرتضى الأنصاري

الفوائد الأصوليّة

المؤلف:

الشيخ مرتضى الأنصاري


المحقق: حسن المراغي « غفارپور »
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: شمس تبريزي
المطبعة: ايران يكتا
الطبعة: ١
ISBN: 969-94215-0-5
الصفحات: ٧٧٠

يستند الى المنع والنهى.

فلو قيل بان الامر بالمضيّق يقتضى المنع والنهى عن الفرد من الموسّع الواقع فى وقته اتّجه الحكم بالفساد كما يقول به المشهور.

والّا فمجرد عدم كونه مامورا به لا يقتضى فساده كيف وليس شيء من الافراد بمأمور به ومأذونا فيه ، غير الاذن العقلى الّذى نشأ من انطباق الكلى المامور به عليها سواء وقعت فى وقت واجب مضيّق ام لا.

فلو كان الامر بالشيء لا يقتضى النهى عن الضدّ فلا فائدة فى القول بانّه يقتضى عدم الامر بعد ان كان مقطوعا به مع قطع النظر عن ذلك الامر المضيّق.

نعم يتم كلام البهائى بعد ثبوت احد امرين :

احدهما ـ ان يكون (الامر) المضيّق بمنزلة التخصيص والتقييد اللفظى بعنوان الضد الموسّع بغير الفرد الّذى وقع فى زمان ذلك المضيّق ، على ان يكون وجوب الازالة فورا بمنزلة الاستثناء عن قوله تعالى (أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلى غَسَقِ اللَّيْلِ) [الاسراء ـ ٧٨]

حتى يصير بمنزلة قولك «الّا الزمان الّذى فرض فيه شيء فورا» كالازالة فانّه لو تمّ انّ المضيّق يوجب مثل هذا التخصيص فى عنوان الضدّ لتم قوله ب «ان عدم الامر يكفى فى الفساد».

لانّ الفرد الواقع فى وقت الازالة حينئذ لم يكن اوّلا داخلا تحت المراد من «اقم الصلاة» فلم يكن الامر المتعلّق بالصلاة كافيا فى صحّة هذا الفرد الخارج اوّلا من غير الاحتياج الى المنع ولكن انّى له باثبات هذا؟ اذ كل احد

٤٠١

يعلم انّ الامر بالشيء لو اقتضى النهى او عدم الامر ، فانّما يقتضيهما من حكم العقل واستحالة التكليف بالامرين فى وقت وتقدّم المضيّق والاستحالة.

هذه لا يقتضى التخصيص والتقييد فى عنوان الصلاة بحسب المراد بل انّما يقتضى المنع العقلى الذى هو فى حكم المنع الشرعى عن الاتيان بغير الواجب الفورى.

وثانيهما ـ ان يكون التخيير فى افراد الموسّع بحسب الوقت تخييرا شرعيا مثل التخيير فى الواجبات التخييرية ، فانّ القول بانّ الامر بالشيء يقتضى عدم الامر دون النهى يفيد حينئذ مفاد القول بانّه يقتضى النهى لانّ الافراد حينئذ قد امر بها شرعا بخصوصها ، فمتى قلنا انّ الامر المضيّق يوجب خروجها عن صفة المامور به اتّجه الحكم بالبطلان من دون ان يكون هناك نهى.

ولكنّ التحقيق عندنا انّ التخيير فى الواجبات الموسّعة بحسب الاوقات تخيير عقلى نحو التخيير بين افراد الكلى المامور به لا تخيير شرعى كالتخيير فى الواجبات التخييرية هذه هى الاقوال فى المسألة.

[ثمرة النزاع]

وامّا ثمرة هذه النزاع فلا بأس بان نشير اليها قبل الشروع فى ذكر الادلة.

منها : ترتّب العقاب على فعل الضدّ وعدمه ، والاولى تبديل العقاب بالعصيان لانّ ترتّب العقاب فى النواهى الغيرية غير معلوم ، بل انّما المعلوم

٤٠٢

خلافه كما مر تحقيقه فى الواجب الغيرى.

وايضا العقاب امر اخروى راجع امره الى الله تعالى ، فلا فائدة فى جعله اثر الشيء من المسائل بخلاف العصيان ، فانّه لا يتفاوت فيه بين النفسى والغيرى والاصلى والتبعى من الاوامر والنواهى ، وله آثار شرعية اذا كان الضدّ من الامور الّتى يوجب العصيان فيه حكما من الاحكام كالسفر ، بل ربما يوجب الفسق لو قيل بان العصيان هذا من موانع العدالة وان كان الحق خلافه.

ومنها : فساد العبادة الواقعة فى وقت المامور به على القول بالاقتضاء.

والظاهر انّ هذه الثمرة من المسلمات بين اكثر الاصحاب سيما القدماء منهم ، كما يظهر من تتبع كلماتهم وفتاويهم فى ابواب الفقه ، كما فى باب قضاء الصلاة.

فانّ كثيرا من القدماء كالشيخين والسيدين والقاضى والحلّى والآبى ـ على ما حكى عنهم وعن غيرهم ـ ذهبوا الى فورية القضاء وفساد الحاضرة قبل الاتيان بالفائتة ، مستندين الى اخبار دالّة على وجوب المسارعة فى الفائتة ولم يعترض عليه احد من المتاخرين القائلين بعدم الفساد بانّ النهى عن الضدّ المتولّد من الامر لا يقتضى الفساد ، بل اجابوا عنها بقدح الدلالة على الفورية او بقدح السند.

فهذا المحقق قد صرح فى محكى المعتبر : بانّ القول بالمضايقة يقتضى الحكم بتحريم جميع الاشياء.

قال فيما حكى عنه : انّ القول بالمضايقة يلزم منه منع من عليه صلاة كثيرة

٤٠٣

ان يأكل شبعا ، (١) وان ينام زائدا على الضرورة ، ولا يتعيش الّا لاكتساب قوت يومه له ولعياله ، وانّه لو كان معه ليومه حرم عليه الاكتساب والتزام ذلك مكابرة صرفة والتزام سوفسطائى.

ولو قيل قد اشار ابو الصلاح الحلبى الى ذلك ، قلنا نحن نعلم من المسلمين كافة خلاف ما ذكره ، فانّ اكثر الناس يكون عليهم صلوات كثيرة ، فاذا صلى الانسان شهرين يومه استكثره الناس انتهى.

ويستكشف من كلامه هذا انّه لا مناص فى الحكم بفساد الحاضرة قبل الفائتة على القول بالمضايقة ، مع انّ اقتضاء النهى المتولّد من الامر المضيّق الفساد ، لو كان عندهم محل مناقشة لكان الاشارة الى منع الفساد من امتن الدليل على الصحة.

اللهم الّا ان يكون نظرهم فى خصوص حرمة الضدّ فى الواجبات والمباحات لا فى صحّته وفساده اذا كان من العبادة ، وصرّح ابن ادريس ـ فيما حكى عنه ـ بالفساد مستدلا :

بان قبح ما يستلزم القبيح اجماعى.

ويظهر ايضا من كلماتهم فى باب الدين انّ النهى المتعلّق بالعبادات من وجوب الاداء فورا يقتضى الفساد ، حتّى انّ العلامة قد صرح ـ فى محكى القواعد ـ بفساد الصلاة فى اوّل وقتها فى حقّ من عليه دين الواجب ادائه

__________________

(١) ـ فى مطارح الانظار : شيئا ص ١١٩ وليس فى المعتبر : صص : ٤٠٨ ـ ٤٠٩ ـ ج ٢ اورد كلام المحقق مع حذف وتصرف كذا اورد المصنف هذا الكلام فى رسالته «المواسعة والمضايقة» الطبعة الحجرية سنة ١٣٢٦ ه‍ ـ اصفهان آخر كتاب المكاسب.

٤٠٤

فورا.

وبالجملة معظم الاصحاب خلفا عن سلف لا يتناقشون فى امثال هذه المسائل فى الكبرى اعنى فى كون النهى موجبا للفساد بل انّما يناقشون فى الصغرى ، المراد بها ثبوت فورية المامور به.

نعم قد صدر من المحقّق الثانى ـ فى محكى شرح القواعد ـ قول بصحة العبادة ولو كان آثما فى تقديمها على اداء الدين.

ثمّ تبعه بعض من متاخرى المتاخرين كالشيخ الفقيه فى «كشف الغطاء» وتبعه تلميذه المحقق الشيخ فى «الحاشية» مع زيادة تحقيق منه فى تصحيح ذلك.

ثم تبعهما فى الفصول وغيره كصاحب القوانين ونحوه.

قال فى كشف الغطاء فى البحث عن المقدمات : «[لان] انحصار المقدمة فى الحرام بعد شغل الذمة لا ينافى الصحة وان استلزم المعصية».

ومراده انّه اذا عصى بترك المامور به المضيّق مثلا فاتى بالضدّ ، فلا ينافى ذلك صحة ذلك الضدّ اذا كان من العبادات.

قال : «واى مانع من ان يقول الآمر المطاع لماموره ، اذا عزمت على معصيتى فى ترك كذا كذا ، فافعل كذا ، كما هو اقوى الوجوه فى حكم الجاهل [بالجهر والاخفات و] القصر والاتمام فاستفادته من مقتضى الخطاب لا من دخوله تحت الخطاب ، فالقول بالاقتضاء اى اقتضاء الامر بالشيء النهى عن ضدّه وعدم الفساد اقرب الى [الصواب و] السداد» انتهى (١).

__________________

(١) ـ انظر : كشف الغطاء : البحث الثامن عشر من المقصد الاول من الفن الثانى. الطبعة الحجرية سنة ١٢٧١ ه

٤٠٥

وقد ذكرنا هذه العبارة وغيرها فى بحث مقدمة الواجب ، وبيّنا فسادها وفساد ما قيل من توجيهها وتشييدها من كلمات الشيخ فى الحاشية وكلمات اخيه فى الفصول ببيان مشبع ، فلا نطيل بذكرها وذكر ما فيها هنا ، بل نشير اجمالا الى حاصل كلام الشيخ فى الحاشية ونجيب عنه.

وحاصل كلامه من تصادم الامرين المضيّقين من المستحيلات الاولية ، ولكنّ مصادقة الامر المضيّق والامر الموسّع لا ضير فيها لانّ مرجعه الى وجوب الموسّع على تقدير العصيان فى ترك المضيّق ووجوب المضيّق مطلقا وهذا لا عيب فيه ، لانّه ليس من التكليف بالامرين فى آن واحد ولا فى التسوية بين المضيق والموسع فى الوجوب ، بل هو تقديم للمضيّق على الموسّع.

ثم بقاء وجوب الموسّع على تقدير العصيان ترك المضيّق ، ولا استحالة فى ذلك وانّما الاستحالة فى طلب شيئين فى آن ، فلا بدّ فى جعل الامر فيها تخييريا عقليا.

هذا حاصل جميع كلماته تلويحا وتصريحا ، وانت خبير بان هذا كرّ على ما فرّ ، لانّا اذا قلنا ببقاء الامر بالموسّع على تقدير العصيان بالمضيّق لزم ان يكون المكلّف حال اتيانه بالموسّع مكلفا باتيانه وباتيان المضيّق ايضا ، لانّ العصيان لا يوجب سقوط التكليف فى ثانى العصيان فيلزم اجتماع الامرين فى ان واحد وهو مستحيل باعترافه.

هذا مضافا الى استلزام القول بصحة الموسّع على تقدير العصيان اجتماع

٤٠٦

الامر والنهى اى الوجوب والحرمة فى ترك المضيّق عن جهة كونه محرما ذاتا وواجبا من باب المقدمة والوصلة الى الموسّع.

وحاول الفاضل المحشّى عن هذا الاشكال ولم ينل الى مقصوده ، فانّه باق كما كان فقد اوردنا كلماته وفسادها فى مبحث المقدمة فارجع اليها وتأمل. وكيف كان فلا ينبغى للمتامل المحقّق التأمل فى الثمرة المزبورة وان الضد على تقدير كونه من العبادات يكون فاسدا جدّا ، سواء قلنا بان النهى هذا اصلى نفسى ، او قلنا بانّه تبعى ، ولا ينافى ذلك ما تقدّم منا فى مقدمة الواجب من ان الامر الغيرى لا يجعل الشيء عبادة ما لم يكن فيه رجحان ذاتى ، وانّه لا يوجب صحة العبادة قبالا بقول من جعل صحة المقدمة العبادية وفسادها من الثمرات فى وجوب المقدّمة وعدمه.

وذلك لانّ الفرق بين الامر والنهى واضح ، لانّ النهى سواء كان غيريا او نفسيا اصليا او تبعيا فيه طلب ترك ، وطلب الترك لا يجتمع مع طلب الفعل ، فيكون باطلا بناء على اقتضاء النهى فى العبادات الفساد ، بل عين الحكم بالفساد اذا كان من المعاملات ايضا بناء على اقتضاء النهى فيها ايضا الفساد.

وبالجملة هذه الثمرة على الظاهر لا اشكال فيها.

ثمّ انّ الشيخ ـ رحمه‌الله ـ قد احسن فى الالتفات الى الاشكال فى مسئلة الجهل بالقصر والاتمام ، ونحوه الجهل بالجهر والاخفات ولكنّه ما احسن فى دفعه.

ووجه الاشكال على ما تفطّن له الاستاد دام ظلّه العالى ـ ثمّ وجد تفطّن

٤٠٧

الشيخ به ايضا : انّ ظاهر الأدلّة من الكتاب والسنّة بل الاجماع ظاهرا ان الجاهل بوجوب القصر فى السفر وبوجوب الجهر فيما وظيفته ذلك من الصلوات مكلّف نحو ساير مقامات الجهل بالتقصير الّذى هو حكم الله الواقعى كما لعلّه يرشد اليه حكمهم بالمعذورية ، ومع ذلك كيف يحكم بمعذوريته مع تقصير وبقاء الوقت مع اتيانه بالمامور به.

وهذا الاشكال لم يتّضح الى الآن حقيقة رفعه على مذهب العدلية من التخطئة دون التصويب فان قيل ان المراد بالمعذورية سقوط التكليف بما ليس بمأمور به عنه ، فهذا خلاف صريح الاخبار القاضية بانّه قد تمّت صلاة من لا يدرى بالجهر مثلا وانّه اتى بالمامور به.

وامّا الجواب الّذى اشار اليه الشيخ بالنظر ، وحاصله : انّ الجاهل حالة جهله مامور بالتعلّم ، وعلى تقدير العصيان به مامور بالعلم به من الجهر والاخفات نظير مامورية الشخص بالصلاة على تقدير عصيانه بالازالة كما ذكره وذكر اتباعه ففيه ما عرفت فى غير موضع

ومنها : انّ من الثمرات حصول العصيان فى الضدّ فيجرى فيه الاحكام الثابتة للمعصية ، كما اذا كان الضدّ سفرا ، فانّه اذا كان معصية يجب فيه اتمام الصلاة والصوم ، وقد اشرنا اليه آنفا.

والحق انّ ترتّب احكام المعصية على مثل هذا العصيان الناشئ عن النهى المقدمى مشكل كما ان صيرورتها سببا للفسق اشكل والله العالم بحقائق الامور.

هذا اوان الشروع فى ذكر ادلة الاقوال.

٤٠٨

حجة القول بنفى الاقتضاء رأسا فى الضد العام

ما مرّت اليه الاشارة فى تحرير الاقوال استطرادا ، وحاصله انّ الاقتضاء باىّ وجه كان فرع ثبوت الملازمة بين طلب الشيء وطلب ترك تركه فى نفس الطالب الآمر.

والملازمة ممنوعة بل منتفية جدّا ضرورة غفلة الطالب للشيء كثيرا ما عن تركه ، فضلا عن ان يكون طالبا لترك ذلك الترك ، واذا كان الآمر كذلك ، فلا وجه لدعوى الاقتضاء الّذى يتوقّف على كون الآمر شاعرا للترك وناهيا عنه.

قال الحاجبى : لنا لو كان الامر نهيا عن الضد او يتضمّنه لم يحصل بدون تعقّل الضدّ والكفّ عنه ، لانّه مطلوب النهى ونحن نقطع بالطلب مع الذهول عنهما ، واعترض بانّ المراد بالضدّ العامّ وتعقّله حاصل ، لانّه لو كان ذاهلا عنه لم يطلبه.

واجيب بانّ طلبه فى المستقبل ولو سلم فالكفّ واضح.

وقال العضدى فى توضيحه ما لفظه هذا : واعترض عليه بانّ المراد بالضدّ هو الضدّ العامّ لا الاضداد الجزئية والّذى يذهل عنه هو الاضداد الجزئية لا الضدّ العامّ فتعقّله حاصل لانّ المامور لو كان عازما على الفعل ومتلبسا به ، لم يطلبه الآمر منه لانه طلب الحاصل فإذن انّما يطلبه اذا علم انّه متلبّس بضدّه لا به وانّه يستلزم تعقّل ضدّه.

٤٠٩

والجواب : انّه يطلب منه الفعل فى المستقبل فلا يمنع الالتباس به فى الحال ، فيطلب منه ان يوجده فى ثانى الحال كما يوجده فى الحال ولو سلّم فالكفّ واضح يعلم بالمشاهدة ، ولا حاجة فى العلم به الى العلم بفعل الضدّ وانّما يلزم النهى عن الكفّ وذلك واضح ولا نزاع لنا فيه فلا يصح موردا للنزاع والاحتجاج انتهى.

والظاهر انّ مرادهما ما ذكرنا ، الّا انّ ظاهرهما تسليم الملازمة بين الامر بالشيء والنهى عن الضدّ العامّ فى الامر المعجل.

ونحن انّما نمنع عنها فى ذلك ايضا ، ثمّ انّه يظهر من قولهما «ولو سلم» ان الامر انما يقتضى النهى عن الكف وهو ليس من الضد العام ولا من الخاص ، وانّه خارج عن محل النزاع.

ومن هنا احتمل ان يكون مرادهما من الضد العام احد الاضداد الوجودية لا بعينه كما يشعر به قول العضدى فى تقرير الاعتراض «انّما يطلبه اذا علم انه متلبّس بضدّه» وقوله فى الجواب «ولا حاجة فى العلم به ـ اى الكفّ ـ الى العلم بفعل الضد» وكيف كان ، فغاية ما يمكن الاستدلال على نفى الاقتضاء فى الضدّ العامّ ما ذكرنا.

وجوابه انّ النهى التفصيلى عن الضدّ العامّ ـ وهو الترك ـ وان لم يكن ملازما لطلب الشيء والامر به فى التصوّر والخطور فى بال المتكلم ، الّا انّ النهى الشأنى ـ المراد به انّ الآمر لو التفت الى الترك لكان كارها له وساخطا عليه وناهيا عنه ـ موجود بالضرورة والوجدان ، وهذا القدر من النهى الشأنى يساوق النهى التفصيلى الفعلى فى افادة التحريم وساير الاحكام نظير ما قدّمنا

٤١٠

فى وجوب المقدّمة من كونها مطلوبة للآمر بالطلب الاجمالى الشأنى وكفاية هذا القدر من الطلب فى اثبات الوجوب ، ولا ريب فى ثبوت الملازمة بين هذا النهى الشأنى وبين طلب المأمور به فى نفس المتكلم ولحاظ الذهن امّا بالعينية او بالاستلزام او بالتضمّن على الاختلاف المزبور.

٤١١

[حجّة القول بالعينية فى الضدّ العام]

حجّة القول بالعينية فى الضدّ العامّ ـ كصاحب الفصول ـ انّ معنى النهى عن الترك الّذى هو الضدّ العامّ طلب ترك الترك لانّ معنى النهى طلب الترك ، وطلب ترك الترك عين طلب الفعل فى المعنى وذلك ظاهر.

وفيه : انّه انّ اريد بالعينية اتّحاد مفهوميهما فهذا كذب واضح ، بل القائل المزبور قد صرّح ايضا بخلافه ، كيف لا وليسا من الالفاظ المترادفة جدّا.

وان اريد بها الاتّحاد فى الصدق الخارجى ، بمعنى انّ ما يصدق عليه القول فى الخارج بعينه يصدق عليه ترك الترك ، فطلب احدهما حينئذ يكون عين طلب الآخر.

ففيه : ان ذلك بعد التسليم مع ان طريق المنع فيه مقبول حينئذ نظرا الى دعوى عدم كون الفعل مصداقا لترك الترك الّذى ليس الّا مفهوما عدميا انتزاعيا من الفعل غير مجد ايضا ، لانّ اتّحاد مصداقهما فى الخارج لا يصير سببا لعينه طلب احدهما مع طلب الآخر ، ضرورة انّ طلب شيء ذى عنوانين باحدهما يغاير طلبه بالآخر مفهوما ومصداقا لانّ طلبه بكل من العنوانين يستدعى تصوّره وتعقّله بذلك العنوان مستقلا ، فكيف يكون طلب ذلك الشيء باحدهما عين مفهوم طلب الآخر او مصداقه مع الغفلة عن ذلك.

والحاصل انّ الضاحك والكاتب مثلا وان كانا متصادقين على شيء واحد ، الّا انّ طلب ذلك الشيء هو انّ الكتابة يغاير طلبه بعنوان الضحك

٤١٢

مفهوما ومصداقا ، لانّ تعدّد العنوان يقتضى تعدّد الطلب باعتبار اقتضائه تعدّد الالتفات.

نعم اذا التفت الطالب حين طلبه باحد العنوانين الى العنوان الآخر وعلم تصادقهما فى الخارج استغنى بطلبه على احد العنوانين عن طلبه بالعنوان الآخر ، ولكنه ليس من الاتحاد فى شيء ، نعم ان كان مراد القائل بالعينية انّ طلب الفعل طلب شيء هو عين مصداق ترك الترك ، فلا بأس به الّا انّه لا يفيد ما هو بصدده من العينية بالنسبة الى الطلبين.

حجة القول بالتضمّن فى الضدّ العام

كصاحب المعالم ان الامر يدل على الوجوب و «ماهية الوجوب مركبة من امرين :

احدهما : المنع من الترك [والآخر طلب الفعل](١) فصيغة الامر الدالّة على الوجوب دالة على النهى من الترك بالتضمن ، وذلك واضح» (٢).

واعترض عليه بعض المحشّين على المعالم : بان المنع من الترك ليس جزء لماهية الوجوب ، بل هو حكم من احكام المأمورية وخاصّة من خواصّه ، اذ لا نتعقّل من الامر بالشيء الّا الطلب الحتمى الّذى هو عبارة عن نوع كون الطلب جدّا ، لازمه عدم الرضا بالترك ، واستحقاق التارك العقاب من دون

__________________

(١) ـ ما بين المعقوفتين ليس من كلام صاحب المعالم بل مزيد من المصنف.

(٢) ـ المعالم ـ ص ٦٤ ـ انظر الى هداية المسترشدين.

٤١٣

ان يكون هناك طلب آخر متعلّق بترك الترك ، حتى يكون المنع من الترك داخلا فى ماهية الوجوب بل يكون خارجا عنها ولازما.

فيكون دلالة ما يدل على الوجوب على المنع من الترك دلالة التزامية دون التضمنية.

وقد يوجه ذلك بما مرّ فى توجيه القول بنفى الاقتضاء عند تحرير الاقوال من ان الوجوب والاستحباب مرتبتان من الطلب ممتازان بحسب مرتبتهما وانفسهما.

وضم «المنع من الترك» الى الوجوب فى الافواه معناه انّ مرتبة الوجوب لازمها انّه لو التفت الآمر الى الترك لم يكن راضيا به لا انّه داخل فى ماهية.

كيف ومن الواضحات انّ الدالّ على الوجوب لا يدلّ على طلبين :

احدهما : ما يتعلّق بالفعل ، والآخر ما يتعلق بترك الترك ، والّا لكان كل واحد من الاحكام الخمسة مركّبة من حكمين كما سبق بيانه.

وهذا الاعتراض وان كان بظاهره واردا ، الّا انّه قد يذبّ عنه بانّا نجد بالمشاهدة والعيان انّ الوجوب والاستحباب مشتركان فى شيء هو الجنس ، وممتازان بشيء هو الفصل ، وان ذلك الفصل من مقومات ماهية كل منهما كما هو شأن الفصول ، ولا شيء يوجب امتياز الوجوب عن الاستحباب الّا ان الطلب فى الاوّل متقدّم لمرتبة بعدم الرضا بالترك ، وفى الثانى لمرتبة لم تبلغ هذا الحد فيكون ذلك المقوّم الّذى به صار الوجوب ممتازا عن الاستحباب داخلا فى حقيقة الوجوب دخول الفصل فى النوع.

وحينئذ فالدالّ على الوجوب كصيغة الامر مثلا دالّ على عدم الرضا

٤١٤

بالترك بالتضمّن نحو دلالة اللفظ الموضوع للنوع على الفصل.

نعم اطلاق النهى على الضدّ العامّ على هذا الفصل الّذى لا بدّ فى ثبوته للوجوب ، لا يخلو عن خرازة وركاكة ، لانّ الظاهر من النهى كونه مقتضيا للتحريم الّذى هو احد الاحكام الخمسة قبال الوجوب المتعلّق بالفعل.

وليس الامر كذلك لانّ فصل الوجوب ليس تحريم ترك الفعل على وجه يكون من المحرّمات الثابتة بالنواهى فى فساد الواجبات ، اذ كل احد يعلم ان الوجوب ليس إلّا حكما وحدانيا ، تارة يعبر عنه بايجاب الفعل واخرى يعبّر عنه بتحريم الترك نحو التعبير عن الانسان تارة بالحيوان الناطق ، واخرى بالناطق خاصّة لا انّه يتضمّن حكمين من الاحكام الخمسة : احدهما الوجوب والآخر التحريم ، نعم تحريم الترك على وجه يعدّ من الاحكام الخمسة على وجه الاجمال.

والثانى ـ الذى عرفت ذكره آنفا لا بأس بثبوته للوجوب ثبوت اللازم للملزوم ، لانّا نعلم قطعا انّ الآمر لو التفت الى الترك واراد ان يثبت له حكما من الاحكام الخمسة ، لكان حاكما بحرمة ترك هذا الترك على سبيل النهى التحريمى.

فالمنع من الترك اذا فسّر بحد الوجوب ووجهه وجهة امتيازه عن الاستحباب ، كان الحقّ مع القول بالتضمّن لما عرفت ، ولو فسّر بحرمة الترك على وجه الاجمال.

والثانية حرمة تعدّ من الاحكام الخمسة فى قبال وجوب الفعل ، كان الحقّ مع القول بالاستلزام ، فظهر من كلامنا هذا حجّة القول بالاستلزام فى

٤١٥

الضدّ العام ايضا ، كما انّه قد ظهر أنّ المختار فى الضدّ العامّ هو عدم الاقتضاء رأسا ان اريد بالنهى الفعلى التفصيلى ، والقول بالتضمّن ان اريد به وجه الوجوب وحده وفصله الذى ليس هو حكما آخر فى عرض وجوب الفعل ، والقول بالاستلزام لو فسر النهى بالنهى الاجمالى الثانى الموقوف فعله على التفات الآمر وارادته ، والقول بالعينية ان اريد بها اتحاد مصداق المطلوبين فى الخارج يعنى مصداق الفعل ومصداق ترك الترك لا اتحاد نفس الطلبين مصداقا او مفهوما والله العالم.

٤١٦

حجّة القول بالعينية فى الضدّ الخاصّ (١)

انّ الامر بالشيء ـ كالحركة ـ لو لم يكن عين النهى عن الضدّ الآخر كالسكون ، فامّا ان يكون مثله او ضدّه او خلافه واللوازم كلها باطل والملزوم مثلها.

بيان الملازمة ووجه بطلان اللوازم وساير ما يرد على هذا الدليل من الايرادات والمناقشات مذكورة فى الكتب المعروفة من العامّة والخاصّة فلا حاجة الى الاطناب مع اتحاد المقال.

واما حجّة القول بالتضمّن

فهو ايضا مذكورة فى تلك الكتب من انّ الوجوب طلب شيء يذمّ تاركه ولا ذمّ الّا على فعل ، وهو امّا الكفّ او احد الاضداد الخاصة فكانّهم ذكروا الترك وارادوا به سبب الّذى هو احد الامرين المزبورين ، فيكون دلالة ما يدلّ على الوجوب على ذم الترك ، المراد به سببه من الكفّ او احد الاضداد دلالة تضمنية ، لكونه جزء معنى الوجوب.

واجيب عنه : تارة بمنع كون الترك مسبّبا عن الكفّ او احد الاضداد دائما لانّ الشيء ربما يترك باعتبار عدم الداعى اليه بل هو كذلك فى

__________________

(١) ـ انظر تحقيق المباحث الثلاثة : هداية المسترشدين

٤١٧

الاغلب ، فلا يصير الكف سببا لتركه نظرا الى اعتبار الزجر فى مفهومه بعد وجود الداعى ولا احد الاضداد ، وان كان لازما للترك فى الوجود الخارجى من باب المقارنة الاتفاقية.

واخرى بمنع المقدّمة الاخيرة من انّه لا ذم الّا على فعل لانّ الترك مقدور نحو مقدوريته فهما فى جواز الذم وعدمه سواء.

٤١٨

حجة القول بالاستلزام المعنوى

وجهان : (١)

احدهما ـ انّ ترك الضدّ مقدّمة لفعل الواجب ومقدمة الواجب واجبة ، فيكون فعله حراما ، وهذا معنى النهى عنه وانّما يكون بالاستلزام لانّ وجوب المقدّمة ليس مدلولا تضمنيا ولا مطابقيا لما دلّ على وجوب ذيها ، بل انّما هو مدلول التزامى باللزوم البين بالمعنى الاعم او الغير البين كما مر تفصيله فى محله.

ولا محيص عنه الّا بمنع وجوب المقدّمة ـ كما صنعه صاحب المعالم ـ او بمنع وجوبها عند عدم ارادة المامور به ـ كما ذكره بعد التسليم والمماشاة ـ او بمنع كون الترك مقدمة ـ كما هو الحق المختار عند السلطان والسبزوارى وغيرهما ـ وتفصيل كل ذلك قد مرّ فى تضاعيف الكلمات السابقة خصوصا الاخير الّذى قد ابسطنا الكلام بذكر كلمات العلماء وجوابها وتوضيحها فى اوّل المسألة.

والثانى ـ انّ فعل الضدّ مستلزم لترك المامور به ، وهو قبيح حرام فكذا ما يستلزمه.

واجاب عنه فى المعالم بانّه ان اريد بالاستلزام : الاقتضاء والعليّة او

__________________

(١) ـ ورد هذان الوجهان فى المعالم ـ ص ٦٧ راجع الى حواشى شيخ المحققين محمد تقى الايوانكى الاصفهانى

٤١٩

الاشتراك فى علّة واحدة فدعوى الاستلزام ممنوعة.

لانّ فعل الضدّ ليس سببا لترك المامور به لانّ سببه انّما هو الصارف. نعم هذا مستمرّ مع فعل احد الاضداد فى الخارج ومقارن معه ، ولكنّه غير الاقتضاء والعليّة ولا مسببا لما هو سبب للترك ، حتى تشتركا فى علّة واحدة ، لانّ علّة الترك الصارف وعلّة الفعل الارادة.

وان اريد (١) به مجرّد عدم الانفكاك فى الخارج من غير ان يكون بينهما عليّة او الاشتراك فى العلّة ، فدعوى الاستلزام مقبولة ولكنّ القول بانّ المستلزم للحرام محرم حينئذ ممنوع ، لانّ مجرّد الاستلزام من دون احد الوصفين لا يقتضى الاشتراك ، وانّما يقتضيه اذا كان ذاك التلازم ناشيا عن احد الوصفين.

هذه خلاصة ما ذكره (فى المعالم) فى الجواب عن هذا الاستدلال والظاهر انّ مراده بمجرّد عدم الانفكاك محض مقارنة الاتفاقية من دون استحالة الانفكاك ، بل لعل فى كلامه تصريحا بذلك.

اذ لو كان المراد به استحالة الانفكاك لم يتصوّر قسم ثالث للتلازم لان استحالة الانفكاك لا بد لها من سبب وليس ذلك الّا العليّة او الاشتراك فى العلّة ، ولا تنافى ما ذكرنا من كون المراد بالتلازم المقارنة الاتفاقية اعترافه بكون ترك الضدّ مقدمة لفعل المامور به فى الجواب عن الدليل الاوّل ، حيث اجاب عنه بمنع وجوب المقدّمة لا بمنع المقدّمية.

__________________

(١) ـ هذا شطر آخر من كلام صاحب المعالم مع تغيير يسير فى لفظه معالم الاصول ص ٦٨

٤٢٠