الفوائد الأصوليّة

الشيخ مرتضى الأنصاري

الفوائد الأصوليّة

المؤلف:

الشيخ مرتضى الأنصاري


المحقق: حسن المراغي « غفارپور »
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: شمس تبريزي
المطبعة: ايران يكتا
الطبعة: ١
ISBN: 969-94215-0-5
الصفحات: ٧٧٠

بسم الله الرحمن الرحيم

فى مفهوم العلّة

قد تعرّض بعضهم لمفهوم العلّة وعدّة من المفاهيم. وملخص ما هو التحقيق فيه :

انّه لا اشكال فى انّ قول القائل : «لا تأكل الرمّان لانّه حامض» يدلّ على ثبوت التحريم لكل حامض بناء على ما هو الاظهر من التعدى فى العلة المنصوصة.

لكن الكلام فى انّه هل يفيد انتفاء الحرمة عن اكل غير الحامض مطلقا او لا يفيده او يفصّل بين مورد التعليل وهو الرمان ، فيحكم بعدم حرمة غير حامضه وبين غيره.

وجوه : اقواها الاخير ، امّا دلالته على عدم تحريم غير الحامض من الرمان فلفهم العرف ، ولهذا يبنى على كون العلّة مخصّصة ، مع انّه لو اريد مطلق الرمان كان تعليل تحريمه بالحموضة تعليلا للشيء بغير علّة ، الّا ان يرتكب تجوّز فى التعليل فيراد انّ حموضة بعض الافراد علّة لحرمة جميعها ، كما قامت القرينة على انّ قول الشارع «حرّمت الخمر لانّه مسكر» على انّ اسكار نوعها ولو فى ضمن الكثير اوجب حرمة مطلقها ولو لم يكن شخصها مسكرا.

٥٠١

وامّا عدم دلالته على انتفاء الحرمة عن مطلق غير الحامض فلان غاية المنطوق عموم الحكم لجميع ما وجد فيه الاسكار لاجل الاسكار.

فلعلّ الاسكار علّة تامّة للتحريم فى موارده لا لاصل التحريم ، حتى يقال انّ العلّة التامّة يستحيل تعدّدها ، فلو كان غير الحامض محرّما لزم ان يكون لعلّة غير الحموضة ، فيلزم تعدّد العلّة التامّة.

نعم لو قيل : انّ غير الحامض غير محرّم ، لاصالة عدم علّة اخرى للتحريم ، نظير ما ذكرناه فى اثبات اتحاد السبب فى الجملة الشرطية ، فافهم (١).

هذا كلّه مضافا الى ما علم من الاستقراء من انّ علل الاحكام غالبا متعددة يقوم بعضها مقام بعض ، ولهذا لا تجد تناقضا بين قول القائل : لا تأكل الرمان لانّه حامض ، ولا تأكل البطيخ لانّه رطب ، ولا تأكل كذا لانه كذا.

ثمّ انّ محل الكلام فيما اذا كانت العلّة امرا ثبوتيا وامّا ان كانت نفيا : فان كان المعلول حكما ثبوتيا ، فيدلّ على انّ ثبوت المنفى علّة لانتفاء المعلول ، كما فى قولك : «ابيح عصير الزبيب لانّه لا يسكر» وان كان حكمها سلبيا لم يدلّ كما فى قولك : «لم يحرّم عصير الزبيب لعدم الاسكار» فانّ مدلوله مدخلية الاسكار فى التحريم لا عليّة له فافهم.

__________________

(١) ـ كذا سياق كلام المصنف ـ ره ـ فى الاصل المخطوط

٥٠٢

بسم الله الرحمن الرحيم

فائدة فى مفهوم الغاية

قبل النزاع فى مفهوم الغاية ، [انّه](١) يتصوّر على وجهين :

الاوّل ـ انّ التقييد بالغاية هل يفيد مخالفة ما بعدها لما قبلها مطلقا ، بحيث يكون المفهوم من قولنا : «صم الى الليل» انّه لا امر بالصيام بعدها مطلقا ولو بامر آخر او لا يقتضى ذلك.

الثانى ـ انّ التقييد بالغاية هل يقتضى المخالفة بالنسبة الى الحكم المذكور ، بحيث يكون المفهوم فى المثال المذكور انقطاع الصوم المأمور به بذلك الامر عند مجيء الليل او لا يقتضى ذلك ، حتى يجوز ان يكون الصوم المطلوب بهذا الخطاب مستمرا بعد الليل ايضا من غير شهادة فى اللفظ على ذلك. (٢)

فنقول : ان كان النزاع فى المقام الاوّل كما هو ظاهر كلمات بعضهم بل صريح بعضها ، فالحقّ مع منكر الدلالة وان كان فى المقام الثانى فالحق مع من اثبتها.

ثم اخذ فى الاستدلال على مطلبه فى المقام الاوّل بما حاصله :

__________________

(١) ـ هذا كلام صاحب الفصول نقله مع تغيير يسير فى بعض الفاظه : الفصول ص ١٥٤

(٢) ـ فى الفصول : على خلافه

٥٠٣

انّ مدلول : «صم الى الليل» تعلّق الطلب بالصوم المغيّى بالليل ، وهذا لا ينافي طلب صوم الليل الى الفجر ، لطلب آخر مستقل اذ مرجعهما الى طلب كل من الصومين المحدودين.

وعلى مطلبه الثانى بانّ المفهوم من المثال المذكور : انقطاع الصوم المامور به بذلك الخطاب ببلوغ الغاية.

ثمّ قال فى توضيح الاستدلال والتحقيق : انّ توابع الفعل من متعلقاته قيود لمدلول مادّته ، فمعنى : «صم الى الليل» طلب امساك مقيّد بكون نهايته الى الليل.

فلو فرض انّ المطلوب امساك ما زاد عليه لم يكن الامساك الى الليل مطلوبا لنفسه ، بل لا بدّ من حمل الطلب على الغيرى ، وهو وان كان حقيقة الّا انه خلاف الظاهر من الاطلاق انتهى.

اقول : هذا الّذى جعله مقتضى التحقيق محل للتامل ومورد للنظر ، وعليه يترتب ما ذكره سابقا من جعل تحرير النزاع على وجهين.

مع انّ الناظر فى كلام القوم بعد تامل قليل لا يفهم الّا وجها واحدا.

فنقول : ان ما ذكره : من «انّ توابع الفعل ... لمدلول مادته» ان اراد توابع الفعل النحوى فما ذكره من رجوعها الى مدلول المادة ممنوع.

فانّ الشرط من متعلّقات الجزاء وليس قيدا الّا للمادة كما فى «اذا جاء زيد اليوم فاكرمه غدا» فان «اذا» معمول للفعل وقيد للحكم لا للمادة كما لا يخفى.

وان اراد توابع الفعل اللغوى فهو ليس امر آخر وراء المادة ، حتى يكون

٥٠٤

مقتضى التحقيق كون توابع الفعل من قيود المادّة ، لكنّ الغاية ليس من توابع الفعل بهذا المعنى بل المتبادر منه كونه من قيود الحكم كما لا يخفى.

نعم غالبا يكون الامتداد المنتهى الى الغاية محلا للمادّة ايضا كما فى هذا المثال واكثر الامثلة ، لكن المقصود من ذكر الغاية ليس تقييد المادة يكون منتهاها الى كذا من قبيل محض التوصيف ، بل المقصود الاصلى تقييد الحكم لكن تقييد الموضوع يفهم من الخارج.

ولو تكلّف بارجاعها الى خصوص المادّة بان يقال : معنى «صم او صلّ الى الليل» هو وجوب الصوم او الصلاة المتّصف بكونه مستمرا الى الليل ، لخرج من باب الغايات ودخل فى عنوان الصفات ، ودلالته على نفى وجوب الفعل الغير المستمرّ الى تلك الغاية سواء كان مغايرا او زائدا عليه او ناقصا عنه ، انّما هو مفهوم الوصف لو قلنا به.

وامّا دلالته على نفى وجوب الفعل فيما بعد بلوغ الغاية على وجه كونه جزءا للمامور به ، فيما اذا امر بالفعل المستمر الى الغاية على ان يكون المجموع تكليفا واحدا كمثال الصوم دون الصلاة ، فانما هى بواسطة اطلاق اللفظ الدالّ على كون المطلوب هو الفعل المستمر فارادة جزء آخر موجب امّا لصرف الامر الى الواجب الغيرى وامّا لتقييد المامور به وهو الفعل المستمر الى الغاية بما اذا كان مشتملا على الزائد وكلاهما مخالف للاطلاق لا لمقتضى اعتبار المفهوم.

ألا ترى انّ المولى اذا قال : ائتنى بالدواء الفلانى! فاطلاق الامر ـ الظاهر فى الوجوب النفسى ـ واطلاق المامور به يقتضيان نفى ارادة دواء آخر مع

٥٠٥

ذلك الدواء على وجه التركيب ، وليس هذا من المفهوم فى شيء كما لا يخفى على من فرق بين المفهوم والمنطوق.

وتحقيق هذا المقام : ان المادّة قد يكون متعلقا للحكم بوصف كونه واقعا فى اى جزء يسع الفعل من اجزاء الامتداد المذكور كما فى قولك : «صلّ الى الليل» بحيث يكون الصلاة فى كل جزء يسع ركعتين من اجزاء النهار مطلوبا مستقلا.

ومن هذا القبيل جميع المحرمات والمباحات والمكروهات والمستحبات المفيدة بالغاية الّا ما شذّ وندر.

وقد يكون متعلقا للحكم بملاحظة كونه امرا واحدا ممتدا الى الغاية ، بحيث يكون الفعل الممتدّ واجبا واحدا.

امّا ما كان من قبيل القسم الاوّل ـ وهو الاكثر فى الاحكام الشرعية المغيّاة بغاية ـ فلا اشكال ولا ريب انّ المتبادر منها نفى الحكم عن الفعل فيما بعد الغاية ـ كنفى وجوب الصلاة بعد الليل وكذا قوله تعالى : (وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ) [البقرة / ٢٢٢] وقوله : «ويكره وطء من خرج من الحيض الّا ان تغتسل» (١) وغير ذلك.

والمراد من الحكم المنفى بعد الغاية على القول المختار من ثبوت مفهوم وهو الحكم الثابت بغير هذا الخطاب والّا فلا يرتاب احد فى انتهاء الحكم المستفاد من هذا الخطاب ببلوغ الغاية ، وان قلنا بعدم المفهوم.

__________________

(١) ـ وروى : «لا يقع عليها حتى تغتسل» وحمل على الكراهة وعلى التقية. الوسائل ٢ : ٥٧٤ / ٧

٥٠٦

وما ذكره القائل فى اثبات دعواه الاولى لا يجرى فى هذا القسم مثل قوله تعالى :

(وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ) اذ لا خفاء فى دلالته على انتفاء سنخ الحرمة بعد تحقق الطهر لا انّه يحرم الوطى المغيّى ببلوغ الطهر كما ادعاه فى اثبات مطلبه.

وامّا ما كان من قبيل الثانى فهو ايضا كذلك ، لانّ الصوم المغيّى بالليل ما لم يوجد الليل لا ينقطع التكليف ، فالتكليف مستمرّ الى انقضاء النهار.

ولو سلم انّ فى مثله مرجع الغاية الى الوصف ، فان قلنا بثبوت المفهوم فمقتضاه نفى الوجوب النفسى عن الصوم الغير المستمر الى الليل ، سواء غايره من حيث الزمان او زاد عنه او نقص عنه.

وامّا دلالته على وجوب امساك الزائد على وجه الجزئية لهذا التكليف ، فنفيه على حدّ نفى ساير الاجزاء المحتملة للمركبات المامور بها باطلاق اللفظ من جهة الامر الظاهر فى النفسى او اطلاق المامور به الظاهر فى عدم انضمام شيء آخر اليه.

ثمّ هذا النفى المستفاد من الاطلاق ايضا كالمستفاد من مفهوم الوجوب الزائد بواسطة خطاب آخر ، والّا ففى وجوبه بواسطة الامر الموجود فى الكلام فمما لا يعقل.

وبهذا يظهر انّ نفى الحكم عما بعد الغاية ، سواء كان من جهة المفهوم او الاطلاق نفى لثبوت الحكم بواسطة خطاب آخر بخلافه معارضا للمفهوم او مقيّدا للاطلاق.

٥٠٧

فما ذكره هذا القائل من انّ مفهوم الغاية يدلّ على انقطاع الفعل المامور به بهذا الامر فيما بعد الغاية فاسد من وجوه :

احدها ـ انّ المراد من المفهوم فى مثل الشرط والصفة والغاية على القول بها هو دلالة اللفظ على انتفاء نوع الحكم المثبت فى المنطوق لا الحكم الشخص الثابت فيه فانه منتف.

الثانى ـ انّ هذا الانتفاء يعنى انتفاء الحكم الشخصى ليس بالدلالة اللفظية ، فانّ لفظ «اكرم رجلا عالما» لا يدلّ على انّ هذا الخطاب لا يدلّ على «وجوب اكرام الجاهل» بل هو راجع الى نفى الاستفادة.

الثالث ـ لا ينتفى فيه الّا ما ثبت فى المنطوق ، والمفروض انّ الثابت فى المنطوق وجوب الامساك المغيى بالليل نفسا ، فكيف يكون نفى الوجوب الغيرى عن الامساك الزائد.

الرابع ـ انّ الموضوع لا بدّ ان يبقى فى المفهوم ، فمفهوم قولنا : «يجب الامساك المغيّى» انّ الامساك الغير المغيّى لا يجب ، سواء غاير الامساك كصوم نصف الليل الى الفجر او زاد عليه بالزمان او نقص عنه ، فلا يدلّ المفهوم على نفى وجوب امساك القدر الزائد من الامساك المغيّى وهو امساك جزء من الليل.

وهنا وجه ثالث لكنّه بعيد وهو : حمل الامر المتعلق بالفعل الممتد الى الغاية على مطلق المطلوبيّة العارضة لكلّ جزء من الفعل ، وحينئذ فيبقى الاستمرار الى الغاية ، ويصح كون الغاية قيدا للحكم ، وحينئذ فاذا دلّ المنطوق على استمرار الطلب الى الغاية ، فيصير من قبيل القسم الأوّل الّذى

٥٠٨

عرفت دلالته بالمفهوم على انّه ببلوغ الغاية ينتفى الحكم الّذى يكون من جنس الحكم الثابت لما قبل الغاية.

غاية الامر انّ المطلوبية الثابتة فى المنطوق المنفيّة فى المفهوم فيما كان من القسم الاوّل كانت نفسية ، وفى القسم الثانى تبعية.

فمفهوم قولنا : «صم الى الليل» اذا جعلناه من القسم الثانى هو انقطاع المطلوبية الكائنة ، من جنس ما كانت مستمرة الى الليل فيما بعده ، بحيث لو دلّ دليل على وجوب امساك الزائد وو مد خليته فى الامساك الى الليل لكان معارضا للمفهوم.

نعم لو دلّ دليل على كون الامساك بعد الليل واجبا مستقلا او على كون ممتد من اوّل النهار الى ما بعد تحقق الليل واجبا لم يكن معارضا للمفهوم المذكور.

والقائل المذكور لما جعل الغاية من قبيل الوصف قيدا للموضوع ، جعل الدليل الدالّ على وجوب الامساك الى بعد الليل معارضا لقوله : «صم الى الليل» بعد ثبوت اتحاد التكليف.

وظنّى انّ كل هذا تكلّف ولا يسعنى التأمل ازيد من ذلك والظاهر ما ذكرنا فتدبر والله العالم.

٥٠٩

[فائدة ١٤]

بسم الله الرحمن الرحيم

فى اقسام الخاص المردّد بين الأقلّ والاكثر الارتباطيين وحكم كل منها

اذا كان المخرج عن العام مردّدا بين الأقلّ والاكثر مع اندراج الاقل تحت الاكثر ، فان كان الاشتباه فى المصداق ـ والمخصّص غير مستقل ـ كما فى : «اكرم العلماء الّا الفسّاق منهم» مع القطع بفسق بعضهم وعدالة بعضهم والشكّ فى ثالث ، فالظاهر انه لا خلاف ايضا فى عدم الحجيّة ، لانّ الظاهر من هذا الكلام ثبوت الحكم الايجابى للعالم غير الفاسق ، والسلبى للعالم الفاسق ، والمشكوك مردّد بين موضوعى الحكمين فهما بالنسبة اليه متساويان.

نعم لو ادّعى انصراف المستثنى الى معلوم الفسق ، فهو خارج عن محل الكلام اذ لا اشتباه حينئذ فى مصاديق المخرج.

وان كان الاشتباه فى المصداق والمخصّص مستقلا كما فى : «اكرم العلماء» اذا ورد بدليل مستقل «لا تكرم فساق العلماء» فالاقوى عدم حجية العام فى مجهول الحال ، بناء على عدم انصراف المخصّص الى معلوم الفسق ليخرج عن محل الكلام كما عرفت.

ووجه عدم الحجّية : انّ التمسك بالعموم لاثبات الحكم له ليس اولى

٥١٠

من التمسك بالمخصّص لسلب الحكم عنه ، لانّ الفاسق النفس الامرى متيقن الخروج ، فلا يبقى للعام ظهور فيما عدى العدل الواقعى ، فليس فى احتمال خروج هذا الفرد المجهول مخالفة اصل حتى يدفع بالاصل ، ولا مخالفة دليل بلا معارض حتّى يندفع بادلة حجيّة العام.

ومجرّد العلم بدخوله فى عنوان العامّ والشكّ فى دخوله فى عنوان المخصص لا يجدى فيه شيئا ، لانّ دخوله فى عنوان العام ليس علّة تامّة لثبوت حكم العام له ، والّا لم يتخلّف فى معلوم الفسق ، بل ولا مقتضيا له لاحتمال كون الصفة المضادّة لعنوان المخصّص كالعدالة فيما نحن فيه جزء من المقتضى ، بل هو متعيّن فى بعض الموارد كعمومات الدم بعد خروج دم ما لا نفس له.

فانّه لا معنى للحكم بالمقتضى والمانع هنا كما لا يخفى ، مع انّ مجرّد كونه مقتضيا لا يجدى فى ثبوت المقتضى ، بل لا بدّ من عدم المانع ودفع المانع بالاصل خروج عن محل الكلام لانّه تشخيص للموضوع بحكم الموضوع والكلام مع اشتباه الموضوع.

فلعلّنا لا ننكر ذلك فى مورد جريان الاصل فى نفى الوصف العنوانى للمخصص والّا فالوصف العنوانى للمخصص قد لا يقبل الارتفاع بالاصل كما اذا كان صفة مطابقة للاصل.

وامّا اذا كان الاجمال فى المراد والمخصّص غير مستقل كما فى «لا تكرم العلماء الا العدول» بناء على اجمال العدالة وتردّدها بين الاسلام وعدم ظهور الفسق ـ وهى الملكة ـ فالاقوى فيه ايضا الاجمال ، لانّ المتبادر من

٥١١

ذلك تعلق الحكم الثبوتى على ما عدا هذا المفهوم ، فلا يفرقون بين «اكرم العلماء الغير الفاسقين» و «اكرم العلماء الّا الفسّاق منهم».

وجزم بعض مشايخنا بابتناء حجيّة وعدمها على كون العام مستعملا فى الباقى بعد التخصيص او فى معناه الاصلى لانّ المجازات متعدّد بعد ورود قرينة المجاز ولا مرجح.

بخلاف ما اذا قلنا باستعمال العامّ فى معناه الحقيقى فانه يقتضى منه فى الاخراج على ما علم.

ويندفع ما شكّ فى خروجه باصالة عدم الخروج ولا يعارضها اصالة عدم تعلق الحكم الثبوتى بهذا المشكوك ، لانّ الاصل الاوّل مزيل للشكّ فى مجرى الاصل الثانى.

وفيه : انّه ان اراد بالاخراج ، الاخراج الحقيقى فهو غير حاصل فى المقام رأسا لا فى المتيقّن ولا فى المشكوك ، لانّ الخروج الحقيقى الواقعى فرع الدخول الحقيقى.

وان اراد الاخراج الصورى الحاصل من المتكلّم باداة الاستثناء المقابل للعموم الصورى الحاصل من تعلق الحكم فى ظاهر اللفظ على العام بعمومه ، فهو امر واحد وارد على معنى لفظ المستثنى ولا يقبل الانحلال الى اخراجات متعددة اذا كان المخرج متعددا حتى يقتصر على الشك على المتيقن.

اذا كان الاجمال فى المراد والمخصّص مستقلا فالاقوى فيه جواز التمسك بالعام فى المقدار الزائد على الأقلّ ، لانّ المخصّص المستقل انّما

٥١٢

يوجب التأويل فى العام بمقدار معارضته له وليس كالمستقل فى كون الحكم مستفادا من مجموع العام والخاص.

وحيث ان المفروض سكوت الدليل المخصص عن الدلالة على المقدار الزائد على القدر المتيقن ، ولهذا يرجع فيه الى الاصول العلمية لو لم يكن هناك عام تعين مع وجود العام الرجوع اليه.

وزعم المعاصر سقوط العام عن الحجية هنا ، بناء على ما اختاره من كون العام المخصص المستقل مجازا فى الباقى ، نظرا الى ان الحقيقة غير مقصوده والمجاز متعدد.

وفيه : ان التجوّز هنا متفرع على المنافاة الحاصل بين مدلول العامّ والخاصّ ، والمفروض عدم التنافى بين مدلولهما هنا بالنسبة الى المشكوك ، اذ لا دلالة للدليل الخاص على حكمه اصلا ، فدلالة الدليل العام عليه سليمة عن المعارض ، واحتمال معارضة الخاص له على تقدير ارادة الاكثر منه لا يعتنى به ، لاجماع العلماء والعقلاء على عدم رفع اليد عن الدليل المعتبر فى نفسه بمجرد احتمال المعارض له.

فان قلت : ارتكاب التجوّز فى المخصّص المتّصل ايضا من جهة التنافى بين مدلوله وبين مدلول القرينة الصارفة ، اذ لو لا معاندة القرينة فى المجاز للمعنى الحقيقى ، لم يحكم بارادة المجاز فاللازم هناك ايضا الاقتصار على المقدار المتيقن من صارفية المخصّص للعامّ.

قلت : اوّلا ـ انّ المجاز فى المخصّص المتصل هو عدم التجوّز فى العام ، والحكم بتعلق الحكم على ما عدا المخرج ليس علاجا للتناقض بين مدلول

٥١٣

العام ومدلول ما دلّ على خروج البعض وجمعا بينهما بل القضية المركبة المشتملة على العام وأداة الاخراج والمخرج منه مفيدة بالوضع لتعلق الحكم ببعض افراد العام.

وثانيا ـ ان غاية الامر بعد القول بالتجوّز ان يتردّد الامر فى العام المخصص بالمتصل بين ارادة ما عدى الاقل وبين ارادة ما عدى الاكثر ، والمعنى الثانى وان لم يكن عليه قرينة بيّنة ، لكنّ مجرّد احتمال كون المخصّص اريد به الاكثر كاف فى عدم جواز التمسك بظهور العام بعد اخراج الأقلّ المتيقن منه ، لانّ العام المقطوع بخروج بعض الافراد منه المقرون بما يصلح ان يكون مخرجا لبعض آخر منه ، سيما اذا كان اخراج هذا المشكوك مع اخراج ذلك المتيقن بدلالة واحدة ليس باحق لجريان الاصل من اللفظ المقرون بكلام او مقام يصلح ان يكون قرينة له ، مع ان المجاز فى مثل هذا اللفظ عدم جواز التمسك باصالة الحقيقة فيه ، نظير الامر الوارد فى مقام الحظر ، والعام المتعقّب للضمير الراجع الى بعض مدلوله ، والاستثناء المتعقّب للجمل المتعاطفة والمجاز المشهور ونحو ذلك.

فان قلت : ان المخصّصات المنفصلة فى الادلة الاربعة غالبا ليست بانفسها مخصّصة ، اذ ربّما يتعدّد المخاطب وزمان الخطاب.

وان قلنا : بان تعدّد المتكلم لا يقدح لكون المتكلم بالادلة الشرعية فى حكم متكلم واحد فالمخصص المنفصل كاشف عن اقتران العام بمخصّص متّصل ، فلا بد من الحكم بالاجمال فيها كالعام المخصّص بالمتّصل.

قلت : اولا ـ ان كشف المخصص المنفصل عن مقارنة العام للمخصص

٥١٤

المتّصل ، انما هو بمقدار ما اتّضح دلالة ذلك المنفصل على خروجه عن العام ، فان قوله : «اكرم عدول العلماء» المتأخر بكثير عن قوله : «لا تكرم العلماء» انما يكشف عن مقارنة العام بما دل على خروج ارباب ملكة العدالة عن عموم النهى عن الاكرام وليس دالا على مقارنة بهذا العنوان المجمل اعنى عنوان العدول.

وثانيا ـ انّ مجرد مقارنة العام بدليل يحتمل ان يكون قرينة للتخصيص غير موجب لا جمال العام ، وسقوطه عن الظهور.

وانّما الموجب له هو كون ذلك المحتمل للقرينة من جملة اجزاء الكلام العام وإلّا فلو سمع المخاطب الخاص سابقا وكان حين سماع العام ملتفتا اليه ، فهذا لا يوجب سراية الاجمال الى العام بالنسبة الى الزائد المشكوك.

والحاصل ان المخصص المنفصل لا يكشف عن كون العام ملحوقا بنفس العنوان الذى تعلق به الحكم فيه.

فتبيّن مما ذكرنا الفرق بين المخصّص المتصل والمنفصل.

ثمّ انّه لو كان العنوان المجمل مخرجا عن عام واحد بمخصصين متصل ومنفصل كفى المتصل فى اجمال العام.

ولو كان الامر بالعكس بان كان هناك عامّان لاحدهما مخصص متصل مجمل ، كما لو حكم الشارع بنجاسة الدم عموما فى مقام ، ثمّ ورد فى مقام آخر الحكم بعدم جواز الصلاة فى الدم الّا ان يكون مقدار الدرهم.

فالظاهر ان العام الاوّل كاف فى البيان لو فرض اجمال المخصص ، وهو الدم البالغ سعة درهم فما زاد.

٥١٥

وينبغى التنبيه على امور :

الاوّل ـ انّه ربّما يتوهّم فى بعض العمومات كونها بالنسبة الى موارد الشك من قبيل المخصص بالعنوان المشتبه من حيث المصداق الّذى اخترنا عدم جواز التمسك بالعام بالنسبة اليه مثل قوله تعالى : (أَوْفُوا بِالْعُقُودِ). فربما يتوهم ان الاجماع على عدم جواز الوفاء بالعقد الفاسد فانحصر وجوب الوفاء فى العقد الصحيح.

فاذا شككنا فى صحة عقد وفساده ، فلا يجوز التمسك بعموم الآية لعدم العلم بكونه صحيحا.

نعم لو علم بكونه صحيحا وشكّ فى لزومه ، فليتمسك بالآية لاثبات لزومه.

بل ربما يقوى الوهم ويضعف البصيرة فيمنع من ذلك ايضا نظرا الى ان العقود الجائزة لا يجب الوفاء بها اجماعا ، فيختص موضوع الآية بغير العقود الجائزة.

فاذا شكّ فى جواز عقد ولزومه فلا يجوز التمسّك بالآية ، لانّ وجوب الوفاء فرع عدم كون العقد من العقود الجائزة ، ومثل اطلاقات أدلّة العبادات بناء على القول بوضعها للاعم.

فانّه ربما يتوّهم انّه لا فرق بين الصحيحى والاعمى فى عدم جواز التمسّك بمثل قوله : «اقيموا الصلاة» ونحوه ، اذ كما ان الصحيحى يجعل وصف الصحة ماخوذا فى مفهوم الصلاة ، فلا يجوز التمسك بالآية على وجوب ما شكّ فى صحته وفساده ، كالصلاة بدون السورة او بدون الطمأنينة

٥١٦

ونحو ذلك.

فكذلك الاعمى ليس له ذلك ، لانّ الفاسدة غير مطلوبة اجماعا فيختص الآية بالصلاة الصحيحة ، فلا يجوز التمسك بها فى مشكوك الصحة.

والحاصل : انّ وصف الصحة عند الصحيحى داخل فى مفهوم اللفظ وعند الاعمى ماخوذ فيه على وجه التقييد ، وكلاهما مانعان عن التمسك بالآية فيما شك فى ثبوت الوصف له الى غير ذلك من موارد جريان هذا التوهم.

وتوضيح وجه اندفاعه انّ المراد بالعنوان المخرج هو الّذى وقع فى الادلة الشرعية المخصصة لهذا العام موضوعا للحكم المخالف للعام.

ولا ريب انّ العقود الفاسدة بهذا الوصف ، ليست موضوعة ـ بحكم الشارع ـ بعدم وجوب الوفاء وانّما الموضوع له هى مصاديق العقود الّتى حكم بفسادها ، وانّما يحمل عليها وصف الفساد ويتّصف بهذا العنوان بعد حكم الشارع بعدم وجوب الوفاء ، بل جواز الوفاء بها اذ لا نعنى بالفاسد الّا ما كان لغوا فى نظر الشارع غير مؤثر اثرا فحينئذ يتمسك بالآية على وجوب الوفاء بكل عقد حتى يثبت فساد ذلك العقد ، ومعنى ثبوت فساد حكم الشارع بعدم جواز الوفاء به لا بكل عقد غير فاسد.

وهكذا الكلام اذا شكّ فى الجواز واللزوم ، فيتمسك على اللزوم بوجوب الوفاء بكل عقد ، حتى يثبت جوازه لا بكل عقد غير جائز فوصف الجواز ليس ماخوذا فى العقد الذى دل الدليل على عدم وجوب الوفاء به.

ومن هذا يظهر وجه اندفاع توهم اخذ الصحة قيدا للصلاة فى (أَقِيمُوا الصَّلاةَ) على مذهب الاعمى ، فان المراد بالصحة ان كانت مطابقة الفعل

٥١٧

للمامور به فهو وصف لا يتحقق الّا بعد الوجوب ، فكيف يؤخذ فى موضوعه الّذى لا بدّ من تحققه قبله.

وان كان المراد بها كون تمام الاجزاء والشرائط فلا مأخذ لالحاق هذا القيد بالصلاة وتقييدها به ، الّا ما يتوهم من قيام الدليل على ان الناقص لا يجب.

وفيه ما مر ان الفاسد لا يجب الوفاء به من انه لم ير في الادلة الشرعية ، الّا بيان انّ الفعل الفلانى كالصلاة بدون السورة وبدون الطمأنينة ناقصة ، لا ان مفهوم الناقص لا يطلب كيف والنقص انّما يستفاد من عدم طلب الشارع ، فكيف يجعل موضوعا له.

فان الشارع اذا اوجب ماهية لزم من ذلك عقلا كون الناقص عنها غير مطلوب بهذا الطلب ، فيظهر من ذلك ان الموضوع فى (أَقِيمُوا الصَّلاةَ) ليس الّا نفس الصلاة.

فكلما ثبت انّها صلاة تتّصف بالمطلوبية ولازمه التمام ، الّا ان يدل دليل انّ الفرد الفلانى والفلانى والفلانى غير مطلوبة ، فيكشف بذلك عن كونها ناقصة امّا شطرا او شرطا ، وكل صلاة لم يثبت خروجها عن اطلاق مطلوبية الصلاة بدليل معتبر فيحكم عليها ببقائها تحت الاطلاق فيثبت لها المطلوبية.

ويكشف ذلك عن كونها تامّة غير ناقصة ، فالتمام وعدم النقص انما يستكشفان باطلاق الطلب لا انّهما مأخوذان فى موضوعه ، حتى يجب احرازهما ، او لا نظير الصحة وعدم الفساد فى العقود وكذا اللزوم وعدم الجواز.

٥١٨

ولنوضح ذلك فى مثال عرفى فانّ المولى اذا قال لبعض قوامه : «اعتق كل من فى هذا البيت» فان هذا الكلام بعمومه كاشف عن رقبة كل من فى الدار من الانسان ، فاذا دل دليل على حرية بعضهم خرج عن العموم واذا شك فى حرية بعضهم فلنا ان نستكشف بهذا العموم رقيته.

وليس لاحد ان يتوهّم انّ الاحرار خارجة يقينا ، فالتمسك بالعام موقوف على احراز الموضوع وهو عدم كونه حرّا والاصل فى ذلك الفرق بين الصفات المأخوذة فى الموضوع التى يجب احرازها اوّلا ، ثم اجراء الحكم فيه وبين الصفات الثابتة للموضوع من غير ان يؤخذ فيه عند وقوعه فى حيز الحكم فافهم.

فان قلت : ما نحن فيه ايضا من هذا القبيل ، فان المولى اذا قال : «اكرم العلماء» ثم ورد من الخارج انه : «لا يجب اكرام فساق العلماء» فالفسق وان كان موضوعا للحكم الثانى لا يجوز اجراء هذا الدليل فى مورد الا بعد تحقق الفسق والعلم الّا ان الموضوع فى العام ليس متصفا بعدم الفسق حتى يجب احرازه والعلم به فى اجراء حكم العام.

نعم علمنا من الخارج انّ الّذين يجب اكرامهم غير فاسقين ، وإلّا لزم اجتماع الوجوب والحرمة فى موضوع واحد ولا يلزم من ذلك كون وصف عدم الفسق موضوعا له لا بدّ من احرازه قبله ، كما لو قال : «اضف جيرانى» ونحن نعلم من الخارج انّ المولى لا يجب اضافة اعدائه ، فنعلم ان العداوة ووجوب الاضافة لا يجتمعان.

فاذا شككنا فى رجل منهم انّه عدو او صديق فلا يجوز التوقف عن

٥١٩

اضافته بمجرد ذلك ، بل يمكن الحكم بعدم كونه عدوّا لاصالة عدم خروجه عن العموم ، فاذا وجب اضافته لم يكن عدوّا ، لعكس نقيض قولنا «كل عدو لا يجب اضافته» وهو قولنا «كل من يجب اضافته فليس بعدو».

فاى فرق بين هذا المثال وبين المثال السابق؟

قلت : لو قال المولى : «ضف جيرانى» ثمّ ورد دليل من الخارج : «انّ الجار العدوّ لا يجب اضافته» فعلمنا بعداوة [بعض] وشككنا فى بعض ، كان حاله حال : «اكرم العلماء ولا تكرم العالم الفاسق» فى عدم جواز اجراء العامّ على المشكوك.

نعم لو لم يعلم بعداوة احد منهم ، وانّما شكّ فى بعضهم ليكون معنى عدم وجوب اضافة العدوان ، اذا فرض عدوّ فى الجيران لم يجب اضافته جاز التمسك بالعموم واستكشف منه عدم عداوة المشكوك لاصالة عدم التخصيص فى العام.

وكذا الحال فى «اكرم العلماء» اذا علم من الخارج انه لو فرض منهم فاسق لم يجب اكرامه لكن لم يعلم بوجود الفاسق ، وانّما شكّ فى فسق بعضهم ، والسرّ فى ذلك انّه لم يثبت هنا قيد زائد على الموضوع والعام حتى يجب احرازه ، لانّ الفاسق غير معلوم الوجود فيهم فتقييد العامّ بغير الفاسق ليس تقييدا اذ لعل كلّهم غير فساق.

فان قلت : اذا فرض انّ العداوة ـ مانعة عن الاكرام او عدمها ـ جزء المقتضى وجب احراز عدمها لاجل الحكم بوجوب الاكرام ، كما اذا فرضنا تقييد العام فى اللفظ بعدم العداوة ، ومن المعلوم انّ اصالة الحقيقة لا تنهض

٥٢٠