الفوائد الأصوليّة

الشيخ مرتضى الأنصاري

الفوائد الأصوليّة

المؤلف:

الشيخ مرتضى الأنصاري


المحقق: حسن المراغي « غفارپور »
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: شمس تبريزي
المطبعة: ايران يكتا
الطبعة: ١
ISBN: 969-94215-0-5
الصفحات: ٧٧٠

والحاصل ان التضاد بين الوجوب والاستحباب باعتبار كون الطلب فى احدهما على وجه يمنع من الخلاف وفى الآخر على وجه لا يمنع منه ، فاذا فرض ان الخلاف الممنوع منه فى الواجب هو تركه فمع ترك بدله فان طلب الفعل على وجه لا يمنع من هذا الخلاف فهو مستحيل الاجتماع مع الطلب الاول.

وامّا اذا طلب الفعل على وجه لا يمنع من تركه الى بدله فهذا لا ينافى الوجوب ، فالوجوب عارض له بالاضافة الى تركه لا الى بدل والاستحباب عارض له بالاضافة الى تركه الى بدل ولا تضاد بينهما ، لان الوجوب التخييرى ماخوذ فيه جواز الفعل والترك الى البدل وهذا الجواز قد يكون فى ضمن الطلب وقد يكون فى ضمن الرخصة على وجه تساوى الطرفين ، فالوجوب باعتبار الترك المتّصف بعدم الجواز وهو الترك لا الى بدل والاستحباب باعتبار الترك المتصف بالجواز وهو الترك الى بدل ومن هذا يعلم عدم جواز اجتماع الوجوب التخييرى مع الحرمة ، لانها متضادة لجواز الفعل المأخوذ فى الواجب التخييرى.

والحاصل ان مضادّة الاستحباب مع الوجوب لما كان من حيث ان الطلب على وجه المنع من الترك يضادّ الطلب على وجه عدم المنع منه ، وكان الواجب التخييرى غير ممنوع الترك فى الجملة ، صح اجتماعه مع الاستحباب.

واما مضادّة الحرمة للوجوب فهى باعتبار ان الطلب طلب الفعل باىّ وجه كان يضاد طلب الترك فلا يجتمع الحرمة مع الوجوب التخييرى.

٢٢١

ومن هنا علم ان الكراهة المصطلحة لا يجتمع مع الوجوب التخييرى ايضا ، الّا ان يكون النهى ارشاديا لاراءة طريق التجنّب عن منقصة عنوان متحد مع الواجب التخييرى فى الوجود كما تقدّم فى الفرد المكروه من العبادة.

وامّا الجواب عن الوجه الاول فإبداء المانع وهو ان الامر بايجاد الطبيعة وان لم يكن امر بالفرد المحرّم ولا اذنا فيه ، حتى يضاد المنع الثابت من النهى ، إلّا انه يستلزمه عقلا لانّ ايجاد الفرد الّذى هو عين ايجاد الطبيعة لا بد ان يكون مأخوذا فيه من قبل الآمر ، اذ لا يعقل الامر مع عدم الاذن فيما يسمى امتثالا ، فالعقل يحكم بعد الامر بالطبيعة مع فرض اطلاقها وعدم تقييد فى نظر الآمر بفرد خاص بتخيير المكلف فى امتثال الطبيعة بين الايجادات ، فكل منها ماذون فيه بحكم العقل من طرف الآمر وهو مستقلّ برضا الآمر بكل منها ولو من حيث كونه مصداقا والمامور به والرضا به ولد من الحيثيّة المذكورة يضادّ بل يناقض المنع عنه وعدم الرضا به ولو من حيث كونه مصداقا للمنهى عنه ، اذ لا يعتبر فى استحالة اجتماع الضدين كونه من حيثية واحدة فان هذا محال آخر غير اصل الاجتماع.

والحاصل : انّ الوجوب المتعلّق بالطبيعة وان لم يعرض للفرد الخاص إلّا انه قد عرض له بواسطة رضاء من الآمر يضادّ عدم الرضا به بل مناقضه.

وقد يقرر المانع بوجوه أخر :

احدها ـ انّ متعلّق الوجوب والتحريم هو ايجاد الفعل وترك ايجاده و

٢٢٢

الطبيعتان المفروضتان متّحدتان بحسب الوجود فى المقام فيتحد متعلق الوجوب والتحريم فيلزم اجتماع الضدين.

وفيه : انه لا يلزم من تعلق الوجوب والتحريم بالطبيعتين اجتماعهما فى مجمع تلك الطبيعتين ، كيف ولو كان كذلك للزم اجتماع وجوب التعيين والتحريم فى مادة الاجتماع فالحكم المتعلّق بالطبيعة وهو الوجوب التعيينى لا يسرى الى الفرد الخاص قطعا.

فالكلام فى انه هل يلزم من اجتماع وجوب الطبيعة تعيينا اذن فى حصول كل فرد يضاد المنع عنه ام لا ، فالمهم اثبات دلالة ايجاب الطبيعة المطلقة على الرضا بكل ما يعدّ امتثالا لها.

الثانى ـ انّ الاحكام الشرعية انّما يتعلّق بالطبائع من حيث وجودها فى ضمن افرادها فالحكم على الماهية انما يرجع الى الحكم الى افرادها كما نصّوا عليه فى تقرير دليل الحكمة لارجاع الفرد المحلّى باللام الى العموم ، فصرّحوا بانّ الطبيعة من حيث هى لا يصح ان يراد من المفرد المعرف اذا تعلق به احد الاحكام فى الشرع ، كيف ومن المقرر ان القضية الطبيعية غير معتبرة فى شيء من العلوم ، اذ المقصود من المعرفة ما وجد او يوجد فى الخارج ولا يستفاد من القضية الطبيعية حال الطبيعة فى الخارج اصلا ولو على سبيل الجزئية ، ولذا لم يتوهّم احد ارجاع القضية الطبيعية الى الجزئية كما ارجعوا المهملة اليها. وليس المقصود من ذلك تعلق الحكم بالافراد ابتداء ، بل المدعى تعلق الحكم بالطبيعة من حيث حصولها فى ضمن الافراد كما فى تعريف البيع فى نحو قولك : البيع حلال ، فان المراد به تعريف الطبيعة على ما

٢٢٣

هو ظاهر اللفظ ، لكن لا من حيث هى بل من حيث حصولها فى ضمن الافراد ، وانما يتعلق الحكم المذكور بها من تلك الجهة فهو فى الحقيقة قضية مهملة الّا انّه فى الحقيقة يرجع الى العموم بدليل الحكمة وليس المراء بتعريف الجنس فى الغالب الّا ذلك ، دون ما يكون المراد به تعريف نفس الطبيعة من حيث [هى] كما فى القضية الطبيعية فى نحو قولك : «الرجل خير من المرأة» فانّ ذلك لا يفيد الّا حكم تلك الجهة من غير ان يفيد حكم الافراد الّا ان ذلك غير متداول فى مخاطبات العرفية ايضا بل الملحوظ عندهم فى الغالب بيان حكم الافراد.

اذا تمهّد ذلك فنقول : انّ كلا من الماهيتين المفروضتين ان تعلق به الامر والنهى من حيث هى ، من دون ملاحظة الافراد كلا او بعضا امكن القول فى مادة الاجتماع ، بحصول الانقياد من جهة والعصيان من جهة اخرى ، الّا ان تعلق الامر بالطبيعة من حيث حصولها فى ضمن الافراد على العموم البدلى ، وتعلّق النهى من حيث حصولها فى ضمن الافراد على سبيل العموم الاستغراقى ، ويلزم ان يكون ذلك الفرد الواحد مطلوبا فعله وتركه معا.

وفيه : انه ان اريد انّ الحكم متعلق ابتداء بالافراد على سبيل البدلية او الشمول فهو ممنوع ، وقد اعترف به المستدلّ فى صريح قوله وليس المقصود من ذلك تعلق الحكم بالفرد ابتداء ، وان اريد تعلّقه بها بحسب المآل والمرجع ، حيث ان الحكم متعلّق بالطبيعة باعتبار حصولها فى ضمن الافراد كما يدلّ عليه ظاهر قوله : «الحكم على الطبيعة انما ترجع على الحكم الى افرادها» فهو ايضا ممنوع ، اذ لا يلزم عقلا من تعلق الوجوب بالطبيعة تعلقه

٢٢٤

بالفرد اصلا بل لو كان كذلك لكان كل فرد واجبا عينيّا ، وتوهّم ان الواجب العينى حينئذ هو فرد ما لا كل فرد مدفوع بان الحكم على فرد ما باعتبار تحققه فى الخارج فيرجع الامر بالاخرة الى تعلق الوجوب بالافراد الخارجية ، وامّا ما ذكروا فى تقرير دليل الحكمة فمع انه لم يظهر كونه من كلام القائلين بتعلق الاحكام بالطبائع ، انما ذكروا فى الاحكام الشرعية المتعلقة بالطبيعة القابلة ثبوتها لافرادها كلا او بعضا ابتداء او على وجه السراية مثل قوله : (أَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ)(١) وقوله : اذا كان الماء قدر كرّ لم ينجّسه شيء» (٢) ونحو ذلك ليرجع ثبوت الحكم للطبيعة الى ثبوته لجميع افرادها على وجه الاستغراق.

واما الحكم الطلبى مثل الوجوب والندب فهو انّما يتعلق بالطبيعة ابتداء بمقتضى ظاهر اللفظ واعتراف الخصم ، ولا داعى الى ارجاعه الى ثبوت الحكم للافراد ولا يعقل سرايته منها اليها.

نعم يلزم من ثبوت ذلك الحكم اعنى الوجوب العينى للطبيعة حكم آخر بحكم العقل وهو تخيير المكلف فى الامتثال باتيان اى فرد شاء لصدق الطبيعة.

واما ما ذكر من ان القضايا الطبيعية غير معتبر فى العلوم فلا ربط له بما نحن فيه.

اما اولا ـ فلان المراد من تلك القضايا هى ما تضمن اثبات المحمول للموضوع لا انشاء حكم لموضوع فان مثل الامر والنهى ليس من القضايا فى

__________________

(١) ـ البقرة : ٢٧٥

(٢) ـ الوسائل : ١١٧ / ١ مستدرك الوسائل : ١٩٨ / ١

٢٢٥

اصطلاحهم قطعا.

واما ثانيا ـ فلان معنى عدم اعتبارها فى العلوم انها لا تنفع فى الاقيسة الموصلة الى النتائج لا انّها لا تنفع فى مقام اصلا.

واما ثالثا ـ فلان عدم نفعها فى الاقيسة على ما ذكره بعضهم انّما هو لسكوتها عن حال الموجودات الخارجية ، وحينئذ فاذا كان انشاء حكم للطبيعة ينفع فى معرفة احكام جميع افرادها الخارجية فكيف لا يعتبر مثل هذه القضية الطبيعية.

والحاصل ان جميع الاحكام الشرعية وضعت وثبتت لافادة احوال الموجودات الخارجية وما من حكم على طبيعة الا ونعرف منه احوال افرادها الموجودة فى الخارج ، لكن الحكم قد يسرى من الطبيعة الى كل فرد كما يسرى الحلاوة الثابتة للتمر فى قولنا : التمر حلو الى كل من افراده ؛ وقد لا يكون كذلك كما فى طلب الطبيعة وجوبا او ندبا فانه لا يسرى الى كل مرتبة ، نعم يفهم منه احوال الافراد من حيث كونها مرضية للطالب ومحصلة لمطلوبه.

ثم ان الاحكام السارية الى الافراد قد يكون سارية بالفعل كما فى النجاسة والطهارة الثابتتين لطبيعتى الكلب والغنم ، وقد يكون قابلة للسراية بمعنى : ان الطبيعة ـ لو خليت ونفسها ـ كانت متّصفة بهذه الصفة اينما وجدت كما فى الحكم على المباحات بالاباحة فان الاباحة سارية الى الافراد من حيث الذات فلا ينافى عروض الحرمة لها لاجل عارض بحيث لا يبقى الاباحة الفعلية ، وهذا القسم اشبه شيء بقولنا : الرجل خير من المرأة ونحو

٢٢٦

هذه القضية غير داخلة فى القضايا الطبيعية عندهم لان المراد بها اما مثل قولنا : الانسان نوع والحيوان جنس ، حكم على الطبيعة مع قطع النظر عن الوجود الذهنى او الخارجى.

وقد يحتج لامتناع اجتماع الامر والنهى بان الاوامر والنواهى مبتنية على المصالح والمفاسد فلا يجتمعان فى شيء الا مع اجتماع المصلحة والمفسدة فيه ، واذا اجتمعا فامّا ان يغلب احدهما فاللازم تحقّق مقتضاها ، واما يتساويان فيكون الفعل مباحا.

وفيه مع ابتنائه على مذهب العدلية ـ فلا تنفع على الاشاعرة ـ وعلى ان الامر والنهى يتوقّفان على المصلحة والمفسدة الملزمتين فى المامور به والمنهى عنه ، ولا يكفى وجود المصلحة فى نفس الامر والنهى كما يراه بعض العدلية.

وليس ببعيد كل البعيد انه لا بأس بالتزام اجتماع المصلحة والمفسدة فى مادة الاجتماع ، اما مع غلبة جهة المفسدة فلا يلزم من ذلك الّا قبح الامر بخصوص مادة الاجتماع ، وامّا الامر بالكلى الواجد لتلك المصلحة فلا قبح فيه.

ودعوى انه يجب على الآمر ان يخصص الامر بالطبيعة المقيدة بكونها فى ضمن غير الفرد المحرم ، ممنوعة.

وامّا لا مع غلبة جهة المفسدة فيكون الفرد المحرم مشتملا على مفسدة ، لكن لو دار الامر بينها وبين فوات مصلحة الوقت قدم ارتكاب تلك المفسدة ، لاحراز تلك المصلحة فمرجوحية الفرد المحرم بالنسبة الى الآخر و

٢٢٧

النهى عنه للتحرز عن تلك المفسدة مع احراز تلك المصلحة بالفرد الآخر.

ثم ان مقتضى الاستدلال بهذا الوجه دوران الامتناع مدار اجتماع المصلحة والمفسدة ولو لم يكن هنا نهى فعلى ، فلو ارتفع النهى الفعلى لجهل او نسيان لم يرتفع الامتناع بناء على عدم تغيّر المصلحة والمفسدة بمجرد الجهل بالحكم بسيطا او مركبا او بمجرد نسيانه او نسيان الموضوع وان لم يتوجه الخطاب اليه حينئذ ، لكونه معذورا مع ان الظاهر من كلمات المانعين اختصاص المنع بصورة وجود النهى فعلا.

توضيح المطلب ان امتناع الاجتماع لا يخلو من ان يناط بامور ثلاثة :

احدها ـ اجتماع المصلحة والمفسدة والحسن والقبح فى شيء واحد فيكون الوجه فى عدم اجتماع وجوب الصلاة مع حرمة الغصب حسن الصلاة وقبح الغصب واللازم من هذا امتناع الاجتماع ولو كم يكن هنا تحريم فعلى كما فى حق الصبى القريب من البلوغ بشهر او انقص بناء على استقلال العقاب لقبح الظلم منه وان لم يحرم عليه شرعا ، بناء على ما ذهب اليه بعض من ان قبح الفعل وحسنه لا يوجب الامر والنهى.

الثانى ـ اجتماع طلب الفعل الصادر من الامر بالنسبة الى الطبيعة المطلقة مع طلب الترك الصادر منه لطبيعة اخرى متصادقة مع الاولى فى الجملة ، واللازم امتناع الاجتماع اينما وجد الحكم الواقعى وهو : الطلب الصادر من الآمر وان جهله المكلف بسيطا او مركبا لعذر اولى له او نسيه كذلك ، لان ارتفاع تنجز لحكم لا يوجب ارتفاع الحكم الواقعى ، ولهذا اتفقت الامامية على عدم تبدّل الحكم الواقعى الاولى بالاجتهاد ـ بل اتفقت الكل على عدم

٢٢٨

تبدل الحكم بالجهل المركب او النسيان ، واين كان صاحب العذر معذورا غير مؤاخذ فى ترك العمل على مقتضاه. فاذا فرضنا ان الارتماس حرام على الصائم وادى اجتهاد المجتهد الى عدم حرمته او نسيه ناس او جهل به جاهل لتقصير فارتمس فى غسل الجنابة لم يكن هذا الغسل صحيحا فى نفس الامر ووجب اعادته عند انكشاف الحرمة والعلم بخطاء السابق.

الثالث ـ اجتماع الاطاعة والمعصية بان يكون المحال هو تحقق الاطاعة والمعصية فى موجود واحد ، فاذا انتفت المعصية ولو لعذر فلا مانع عن تحقق الاطاعة بالمامور به وان بقى التحريم والقبح الواقعيان وكان هذا اوفق بفتاوى المانعين ، وحينئذ يمكن ان يقال عليهم : انه اذا لم يكن عندكم مانع من اجتماع طلبى الفعل والترك فى الواقع فيجوز ان يتحقق اطاعة الامر بغسل الجنابة بالارتماس نهى عنه الشارع واقعا ولم يتبدل حكمه بالنسيان وان كان الناسى غير مؤاخذ فاىّ مانع من تحققها بالارتماس عمدا مع وصف كونه معصية فتأمل.

٢٢٩

[فائدة ٩]

بسم الله الرّحمن الرّحيم

فى بيان معنى الكراهة والاستحباب والاباحة فى العبادات

لا ريب فى ثبوت العبادات المكروهة بين العبادات ، ولا ريب ايضا ولا خلاف فى صحتها ، فيحصل الاشكال المشهور فى اجتماع طلب الفعل الذى هو لازم صحة العبادة مع طلب تركه الذى هو مفاد الكراهة التى هى احد احكام الخمسة المتضادّة.

وقد وقع الاشكال بوجوه :

الاوّل ـ ما اشتهر بينهم من انّ المراد بالكراهة : «قلة الثواب» فمعنى كراهة الصلاة فى الحمّام كونها اقلّ ثوابا من الصلاة فى مكان آخر.

واورد عليه بانّ اللازم جواز اتّصاف اغلب افراد الصلاة بالكراهة نظرا الى كونها اقل ثوابا من الفرد الاعلى ، وقد اشتهر دفع هذا الايراد : بان المراد ليس كونها اقلّ ثوابا بالنسبة الى غيرها ، بل المقصود كونها اقلّ ثوابا بالنظر الى ما اعد لتلك العبادة فى حدّ ذاتها.

فقد يجيء منها ما يوجب مزيد ثوابها على ذلك كما فى الصلاة فى المسجد والجماعة ونحوهما ، وقد يجيء ما ينقص عنه كالصلاة فى

٢٣٠

الحمام.

والمباح ما لا يكون فيه زيادة ولا نقيصة كالصلاة فى البيت ، فرجحان الفعل مع عدم المنع من النقيض كمرجوحية كذلك ومساواته لا ينافى بوجه من الوجوه وجوب الفعل ، ورجحان فعله على تركه رجحانا مانعا من النقيض.

اقول : هذا الجواب وان اشتهر الّا انه لا يخلو عن نظر :

امّا اوّلا ـ فلانّ المراد بالعبادة فى حد ذاتها التى اعدّ لها ثواب ان كان هو القدر المشترك بين جميع الافراد التى منها الفرد المكروه ، فلا ريب ان المعدّ له من الثواب هو المقدار الاقلّ الموجود فى ضمن الجميع ، اذ المعدّ لا عدّ الفرد المكروه نحو الصلاة فى البيت لم يعدّ القدر المشترك ، بل بصنف خاص منه ، ودعوى انه بعينه معدّ لهذا الفرد المكروه من حيث تحقّق الطبيعة فى ضمنه الّا انّ الخصوصية اوجب نقصا فيه ـ مدفوعة : بان مرجع ذلك الى تخصيص الثواب بالخالى عن تلك الخصوصية فيكون المعدّ للقدر المشترك هو الاقل الموجود فى الكل لان الصفة اللاحقة للقدر المشترك لا بدّ ان توجد فى كل فرد منه. واضعف من ذلك دعوى استناد النقص الى مزاحمة ثواب القدر المشترك بمرجوحية حاصلة فى الخصوصية اوجبت نقص الثواب ، وذلك لان الخصوصية بنفسها كالزمان والمكان والحال ونحوها لا يكون محلا للمرجوحية ، لانها من مشخصات الطبيعة وليست من الامور المستقلة.

اللهم الّا ان تلزم بان المرجوحية خصوصية ناشية عن اتحاد طبيعة اخرى مرجوحة مع طبيعة العبادة فى الوجود ، فيكون النقص الحاصل فى هذا الفرد

٢٣١

حاصلا من مزاحمة العبادة لها.

ويرد عليه حينئذ ان ذلك لا يوجب نقص الثواب على امتثال الامر بتلك العبادة الّا اذا قلنا بما يشبه الاحتياط ، وانه اذا امتثل المكلف امرا وخالف نهيا فلا يثبت له من الثواب الّا المقدار الباقى بعد معارضته مع جزاء مخالفة ذلك بالنهى.

ومما ذكرنا يظهر ان ما يقال فى دفع اصل الايراد ـ من ان لقلة الثواب مقدارا خاصا اذا بلغه العبادة نهى عنها الشارع فنهيه كاشف عن انه بلغ مقدارا معينا من قلة الثواب فليس كل قليل الثواب نهيا عنه ـ فاسد. ضرورة انّا نتكلم فى منشأ قلة الثواب فنقول منشأ قلّته ان كان نفس الخصوصية كالزمان والمكان والحال فهذه بانفسها لا يصير منشأ للنقص عن اصل الطبيعة ، بل لا بد ان يلتزم ان ثواب الطبيعة فى حد ذاتها هذا المقدور ، فما عداه من الافراد فيها ثواب زائد وهذا لا يقتضى النهى عن هذا الفرد وانّما يقتضى طلب سائر الافراد.

ودعوى كون ترك هذا مقدّمة لها ـ فيطلب من باب المقدمة ـ يوجب رجوع اصل الايراد ، فان ترك كل مفضول مقدمة لوجود الفاضل وان كان منشأ قلة الثواب طبيعة اخرى مرجوحة انضمت الى طبيعة العبادة.

ففيه ما عرفت من ان ذلك لا يوجب نقص الثواب على امتثال الطبيعة فان الامتثال علة تامة للثواب ومجرد مخالفته لنهى آخر لا يوجب تقليل الثواب.

واما ثانيا ـ فان المراد بالنهى على تقدير عدم الكراهة المصطلحة لا

٢٣٢

ينبغى ان يكون الّا الارشاد وحينئذ فان كان هذا الارشاد مطابقا للامر الارشادى المتعلق بالمقدمات.

ففيه : انه متحقق فى كل مفضول بالنسبة الى الفرد الفاضل ، فكل مفضول مطلوب تركه عقلا من باب الارشاد للتوصل الى فعل الفاضل وان اريد الطلب الشرعى المقدمى ، فيرجع الى طلب الترك ويتكلم فى اجتماعه مع الوجوب مع ان اللازم من ذلك استحباب ما عدا هذا الفرد ، ولا يلتزم به احد وان كان يلتزم ان ترك هذا الفرد اتّباعا لنهى الشارع او ارشاده مستحب ، فمن العجب استحباب المقدّمة وعدم استحباب ذيها.

واما ثالثا ـ فلانه لا يتاتى هذا الجواب فيما اذا لم يكن للعبادة فردا آخرا غير مكروه ، فان طلب ترك هذا الفرد ان كان للارشاد لكونه مقدمة لفعل سائر الامور المطلوبة المتوقّفة على ترك هذا الفرد ، ففيه لو لا انّه ربّما لم يكن له مطلوب يتوقف على تركه كالصوم اذا فرض انّه لم يتيسّر للصائم مستحب آخر يتوقّف على الافطار فاللازم تقييد الكراهة بغير هذه الصورة مع انّهم لا يلتزمون به بل ربما افرط بعضهم فاثبت الكراهة للفرد مع انحصار الواجب فيه ، كما اختاره الشهيد الثانى فى الوضوء بالماء المشمّس اذا انحصر الماء ووجب الوضوء به عينا.

نعم جعل زوال الكراهة احتمالا وكيف يجتمع هذا مع حمل مكروه العبادة مطلوب الترك ارشادا ، الّا ان يقال انا نلتزم ان ترك المكروه الذى لا بدل له متضمن لمفهوم كلى مطلوب عند الشارع ، وان كنا لا نعرفه كاصل الافطار مثلا فى الزمان الذى يكره فيه الصوم فاذا ترك المكلف ذلك

٢٣٣

المكروه امتثالا لنهى الشارع فكانه قصد الامتثال بذلك المفهوم الكلى المجهول فهو بدل افضل من هذا المكروه.

ويمكن الجواب عن الايراد الاوّل : بان الفرد المكروه كما انه مشارك لسائر الافراد فى ابراء الذمة كذلك مشارك لها فى مقدار خاص من المحبوبية التى يوجب ثوابا خاصا على القدر المشترك ، الّا ان الخصوصية الناشئة عن اتّحاد مفهوم مرجوح مع بعض الافراد اوجب نقصا فى مقدار ثواب الطبيعة لانّ مقدار الثواب يختلف باختلاف المحبوبية ، ولما كانت محبوبية الطبيعة فى الفرد المكروه مشوبة بمرجوحية المفهوم المتحد معه فى الوجود ، كان ثواب هذا الفرد من الطبيعة اقلّ من ثواب الفرد الذى خلّى عن مزاحمة مفهوم مرجوح ، ولا يلزم من ذلك القول بما يشبه مذهب اهل الاحتياط فان ذلك انما هو فى الاعمال المتعددة من حيث الوجوه المتعدّدة من حيث التكليف ومن حيث الجزاء.

واما العمل الواحد فلا اشكال عقلا وشرعا فى انه يلاحظ فى مقدار الاثابة عليه من جميع جهاته وجميع المفاهيم المتصادقة فيه ، وحينئذ فينحصر العبادة المكروهة فيما كان النهى عنه لوصف خارج متحد معه فى الوجود ، كما يعلم انه من هذا القبيل فيحكم بصحة العبادة وما كان ظاهر [ه] خلاف ذلك بان كان ظاهره تعلق المنهى بالذات او بالجزء ، فان دلّ الدليل على صحّته فينكشف بهذا عن رجوع النهى فيها الى وصف مفارق للحدّ معه فى الوجود وإلّا فيحكم بمقتضى الفهم بتقييد الامر المستلزم للبطلان ، هذا فى العبادات الواجبة.

٢٣٤

واما المستحبة فلا يمكن الجزم فيها بالصحة وان كان النهى متعلقا بمفهوم متحد معها ، لانّا لا نعلم رجحان محبوبية العبادة على مرجوحية المفهوم المتّحد معها ، فلعل الامر بالعكس ولعلّهما متساويان الّا اذا انعقد الاجماع على الصحة.

ومما ذكر يظهر انّ انحصار فرد العبادة فى المكروه وصيرورته واجبا عينيا لا يخرجه عن الكراهة بهذا المعنى وفاقا لما مر عن الشهيد الثانى ـ رضى الله عنه ـ فى «روض الجنان» ، غاية الامر انّ هذا الفرد المحبوب مع وهن محبوبيته بمزاحمة ذلك المفهوم المرجوح صار معيّنا ، حيث انّه لا يوجد غيره وليس فهم المرجوحية منحصرا فى النهى الفعلى ، حتى يقال بانه بعد انتفائه فى صورة الانحصار فلا دليل على المرجوحية ، لانّ مثله وارد مع عدم الانحصار ، فان المفروض انتفاء النهى ومع ذلك فنقول بثبوت المرجوحية المزاحمة لمحبوبية العبادة والوجه ان المرجوحية وان كانت مستفادة من النهى الّا انّ ذهاب النهى لما كان من جهة انّه لم يكف فيه هذا المقدار من المرجوحية المغلوبة بمحبوبية العبادة لا من جهة عدم المرجوحية اصلا ، فانتفائه لا يوجب انتفاء المرجوحية لكنّ هذا كلّه مبنى على كون الحسن والقبح ـ اللذين ينشأ عنهما الراجحية والمرجوحية ـ للطبائع بذاتها ، واما اذا لم يتّصف الفعل بهما الّا بعد ملاحظة جميع الوجوه والاعتبارات ، فليس للوجود الواحد بعد ملاحظة جميع خصوصياته الا حسنا لا قبح فيه او بالعكس ، فنقص الثواب لا يكون الّا بتفاوت الافراد فى الثواب لا بالتنزّل عن ثواب الطبيعة.

ومما ذكرنا يعلم ان النهى محمول على الارشاد وبيان نقص الفعل عما

٢٣٥

هو عليه ـ لو خلى وطبعه ـ وليس طلب تركه مقدمة للفرد الآخر حتى يقال بتحقق هذا المعنى فى كل مفضول وانما هو نهى نفسى ارشادى.

ومنه يعلم عدم صحة النهى عن الفرد الفاقد لرجحان اصل العبادة الّا مقدّمة لفعل ضدّه الارجح منه ، والّا فلا نقص فى اصل الفعل وهذا النهى المقدمى لا يحتاج اليه بعد ورود الامر بنفس الافضل المستلزم لطلب ترك المفضول مقدّمة ، لكن المطلوب تركه مقدمة ليس مكروها فى العبادات ولا فى غيرها ، لان المكروه مطلقا ما كان فيه منقصة فى مقام التعبد كما فى العبادات ، او فى مقام اصل الفعل كما فى غيرها ، واماما ادى فعله الى تفويت منفعة فلا يسمّى مكروها وان كان نظيره فى مطلوب الترك حتى يسمّى محرما.

وامّا الجواب عن وجه طلب الترك فيها لا بدل له فقد علم مما ذكرناه اخيرا فى ذيل الوجه الثالث م م م م م م م م. (١)

__________________

(١) ـ كذا فى الاصل المخطوط

٢٣٦

فائدة [١٠]

فى اشتراط التكليف بالامكان

الامكان شرط فى التكليف عند العدلية بمعنى : ان الممتنع لغير الارادة لا يتعلق به طلب للادلة العقلية والنقلية وما ورد من : «ان من كذّب رؤيا كلفه الله يوم القيامة ان يعقد شعرة وما هو بعاقد. ومن صوّر صورة حيوان كلّفه الله ان ينفخ فيه وما هو بنافخ» (١) ما اوّل بارادة التعجيز.

واما الممتنع بالارادة فقد اختلف فيه والتحقيق ان الممتنع بالارادة انما يتعلّق به التكليف قبل الامتناع وبالامتناع يحصل المعصية او لا معنى للمعصية الّا صيرورة المأمور به ممتنعا اذ مع بقائه على صفة الامكان لا يسقط التكليف ولا يتحقّق المعصية ففى حال الامتناع يستحيل تعلّق التكليف به على ان يراد فعله حال الامتناع.

__________________

(١) ـ نقل الفريقان الحديث فى مجاميعهم وان كانت الفاظه ـ فى الطرق المختلفة ـ مختلفة وفى متن بعضها تشويش واضطراب لكن مفهومه فى جميع الطرق يفيد شيئا واحدا وما نقله الشيخ الاعظم لا ينطبق على شيء مما نقل فى كتب الحديث لعله رحمه‌الله اورده ما كان فى باله كما دأبه فى كثير من مباحثه راجع : وسائل الشيعة ١٢ / ٢٢٠ ـ بحار الانوار : ٥٨ / ١٨٢ ـ المحاسن : ٢ / ٦١٩ ـ الخصال : ١ / ٥٣ ـ صحيح البخارى ٢ / ٢٤ ـ مسند احمد : ١ / ٢٤٦ ـ سنن البيهقى : ٧ / ٢٦٨ ـ المكاسب : تصوير ذوى الارواح للمصنف.

٢٣٧

نعم يمكن تعلّق التكليف به على معنى ارادة ايجاد الفعل بعد زمان الامتناع فلو فرض استمرار الامتناع كمن القى نفسه من السطح فلا يجوز تكليفه بعدم الهوىّ حال الهوى لان ما دلّ على قبح التكليف فى الممتنع لغير الارادة جار هنا عدا ما ربما يتخيّل من ان قبح العقاب المتحقق هناك غير متحقق هنا.

ويدفعه ان غير القبح هو عقاب الشخص على الامر الممتنع لكونه مخالفة للتكليف المتعلق به قبل الامتناع لما المتعلق به حاله لا عرفت من قبح طلب الممتنع منه ، وربما يؤيد ذلك ايضا بانّه لو صحّ تعلّق التكليف باتيانه مع فرض كونه ممتنعا لم يتحقق معصيته اذ المفروض على ان امتناع الفعل لا يوجب انقطاع التكليف فيجوز بقائه مع الامتناع ، فمن لم يصل الى الغروب فامتنع عليه الصلاة قبل الغروب لم يمتنع ان يبقى عليه التكليف بها.

وفيه انّها مغالطة لان القائل بجواز التكليف انما يقول ما دام الامتناع لاجل الارادة امّا اذا تحقق الامتناع الذاتى لفعل الصلاة الواقعة قبل الغروب فيما بعد الغروب فالتكليف مرتفع اتفاقا ، فالمعيار ان الامتناع اذا كان بحيث لو تحقق الارادة فيما قبل الامتناع لوقع الفعل فى هذا الزمان كما فى خطاب الهاوى من السطح بقوله : لا تنزل ، فانه لو لم يلق نفسه من اول التمكن من ترك النزول فى هذا الزمان. (١)

__________________

(١) ـ ورد فى النسخة المخطوطة كلام فى : «اذا جاء امران من آمر واحد الى مامور واحد» قدر صفحة وهو ناقص وشطبه الكاتب وضرب عليه خطوطا لابطاله واذ يحتمل كونه من كلام الشيخ الاعظم (ره) اورده الكاتب كما هو فى النسخة الاصلية واصل الشطب

٢٣٨

__________________

كان من عمل الشيخ ونحن تحفظا للاصل وفائدته ايضا رجحنا ان نورده عينا فى الهامش كما يلى :

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على محمد وآله الطاهرين ولعنة الله على اعدائهم اجمعين الى يوم الدين.

اذا توّجه امران من آمر واحد الى مامور واحد فان تعلّقا بمفهومين متباينين كليا ، فلا اشكال فى تعدد التكليف وتعدد المكلف به وان تعلقا بمفهوم واحد او مفهومين متصادقين فى الجملة ، فلها صور : لانّ الامرين امّا ان يكونا متعاقبين او متراخيين ، وايضا فامّا ان يكونا الزاميين او ندبيين او مختلفين ، وايضا فاما ان يكون احدهما معطوفا على الآخر أم لا وايضا فاما ان يكون الثانى معرّفا مع تنكير الاوّل واما ان لا يكون كذلك ، وايضا فاما ان يكون الامران مصدّرين بالسبب كما فى : ان تكلمت فاسجد سجدتى السهو. وان زدت او نقصت فاسجد سجدتى السهو ، وامّا ان يكونا مذيّلين بغاية مثل : [صلّ] ركعتين للتحية وصل ركعتين للزيارة.

وامّا ان يكونا مجرّدين عن السبب والغاية او غيره ، ولا يقدح فى هذا الظن اشتمال سند الخبر على الضعيف والكاذب والمجهول ، لانّا نعلم علما قطعيا انّهم لم يرووا عن الكاذب والمجهول الّا بعد اقترانه عندهم بما يوجب قطعهم او ظنّهم الاطمينانى بالصدور ، أترى ان طعن فى الراوى ورواياته بمجرد بانه يعتمد على الضعفاء والمراسيل بل من ترك روايات الشخص وكتبه بمجرد كونه عالما بالقياس على ما حكى من انه ترك العمل بروايات الاسكافى لمجرد عمله بالقياس مع انه حكى رجوعه عن ذلك اذا روى رواية عن شخص ضعيف او كاذب ان نقول انه لم يقترن عنده بقرينة قطعية او ظنيّة. والحاصل : انّ قول بعض الاخباريين لقطعية اخبار الكتب صدورا وان كان جزافا الّا انّ حصول الظن من القرائن بصدورها مما لا ينبغى انكاره للمنصف. والظاهر ان هذا الظن حاصل لمن تقدّم علينا من العلماء المتاخرين ومن تقدمهم الى زمان الشيخ ومع ذلك فالمعروف بينهم من غير خلاف يظهر ـ الّا عن شاذّ من متاخرى المتأخرين ـ عدم العمل

٢٣٩

__________________

بالخبر بمجرّد وجوده فى هذه الكتب المعتبرة ، فكيف هذا عن مجرد الظن بصدور الخبر متروك فى انظار الفقهاء ، بل لا بد من انتهاء الى مرتبة الوثوق من جهة ملاحظة رواية عدالة ووثاقة او من الخارج او ثبوت الدليل على الحجيّة بالخصوص بمجرد حصول ظنّ قابل ومع عدم حصوله شخصا بناء على كفاية الظن النوعى ...

٢٤٠