الفوائد الأصوليّة

الشيخ مرتضى الأنصاري

الفوائد الأصوليّة

المؤلف:

الشيخ مرتضى الأنصاري


المحقق: حسن المراغي « غفارپور »
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: شمس تبريزي
المطبعة: ايران يكتا
الطبعة: ١
ISBN: 969-94215-0-5
الصفحات: ٧٧٠

هو قابلية المحل.

فان افاده السبب التاثير المستقل لا ينافى توقفه على شرط وتخلف التاثير لفقد الشرط فقوله : «من زنى يجب قتله» بدل على «انّ الزنا سبب مؤثر فى وجوب القتل» اذا امكن عقلا وفى صورة تأخر الزنا عن سبب آخر لا يمكن ان يجب بسببه القتل ، اذ لا وجوب بعد الوجوب ففى الصورة الاولى قد وجد المانع من تاثير كل واحد مستقلا وهى عدم قابلية المحل.

فلا فرق بين قولنا «من زنى وجب قتله» وقوله «من شرب الخمر وجب جلده» فى افادة التأثير المستقل مع اجتماع شرائط التأثير ، فاذا وقع الشرب عقيب القذف او اتفقا معا مثلا فلا مانع من تأثير كل واحد والمحل قابل.

وامّا اذا وقع الزنا عقيب الارتداد فالمانع من تأثيره استقلالا هى عدم قابلية المحل لتأثير آخر غير التأثير الاوّل.

فان قلت : اذا كان تأثير السبب مقيّدا بصورة امكان تأثيره ففى صورة تعدّد السبب على الفعل الشخصى ، لا بدّ ان لا يكون للسبب المتأخر تأثير اصلا لخروج هذه الصورة عن عموم التأثير.

مع انا نرى السبب المتأخر يوجب تاكد وجوب القتل ، بل يفيد جهة اخرى له.

ولذا يقال : انّ القتل واجب لجهتين ولسببين.

قلت : عدم امكان التأثير اذا كان من جهة وجود الاثر وحصوله فى المحل بمؤثر سابق هو معنى تأكد التأثير ، اذ لا معنى لوجوب الشيء من جهتين الّا انّه له جهتين كل منهما مؤثر لو لا الآخر.

٤٦١

والحاصل انّ المانع عن تأثير المقتضى اذا كان يوجب عدم المقتضى ـ بالفتح ـ فهو موجب لالغاء المقتضى.

واذا كان من جهة كفاية مئونة التأثير فالمقتضى مؤكد له ، اذا كان مما يقبل التأكيد كالوجوب ، لا كالحدث والخبث والطهارة عنهما ، وما نحن فيه من هذا القبيل.

فان قلت : ما ذكرته فى السبب المتأخر من التزام خروجه عن عموم السببيّة لعدم امكان تأثيره الفعلى غير جار فيما اذا اجتمع السببان معا ووجدا دفعة.

فانّ الحكم بخروج احدهما عن عموم الدليل الدالّ على التأثير الفعلى تحكم ، وخروجهما معا يلزم منه عدم وجود المسبب ودخولهما على وجه الاشتراك لم يكن مفاد الدليل ، وعلى وجه الاستقلال محال ، لاتحاد الاثر فلا يتعدّد التاثير.

قلت : صورة الاجتماع خارجة عن الاستقلال فى التاثير كما انّ صورة التعاقب خارجة عن اصل التأثير ، فيكون مؤكدا مع قابلية المحل ولغوا لا معها.

فالحاصل انّ الكلام يدلّ على التأثير الفعلى والاستقلال فيه ، الّا اذا امتنع احدهما عقلا.

لكن الانصاف انّ جميع ما ذكرنا مشكل ، نظرا الى ان مدلول الجملة الشرطية المفيدة للسببية نحو : ان قدم زيد من السفر فاضفه ، وجوب الاضافة عند القدوم على وجه التسبب والتفرع ، لا محض المقارنة الاتفاقية ،

٤٦٢

فالمخصص الوارد على هذه الجملة عقليا كان او غيره ، لا بد ان يرد على اصل الوجود المترتب على الوجود.

فيكون معنى قولنا «ان قدم زيد فاضفه الّا اذا كان كذا» هو نفى وجوب الاضافة عند القدوم اذا كان كذا لا ثبوت الاضافة عنده ونفى كونه مسببا عن القدوم او نفى استقلال القدوم فى التأثير فيه.

والمفروض انّ المقصود فى حمل الكلام اعنى وجود السبب عقيب السبب او معه ووجود المسبّب عند السبب المتأخر او المقارن ، لكن لا مسببا عنه وناشيا عنه بالخصوص ، بل امّا من غيره او منه ومن غيره.

وعلى هذا فالايراد السابق وتقريره على وجه اوضح هو انّه اذا كان ظاهر الجملة الشرطية المفيدة لسببية الاوّل ومسببية الثانى هو الاستقلال فى التأثير الفعلى.

فنقول : «اذا زنى زيد فاقتله» حقيقة او مجاز بالنسبة الى صورة وقوع الزنا عقيب موجب آخر للقتل.

واىّ فرق بين هذا الاستعمال وبين قولنا : «اذا شرب زيد فاجلده واذا قذف فاجلده» فان كانت الجملة الشرطية فى كلا الاستعمالين مستعملة فى الوجود عنده الوجود ، من غير تعرض لكونه ناشيا عن الشرط او عن شيء آخر يكون الشرط معرفا له ، حتى لا ينافى كون شرط آخر ايضا معرفا له ، فلا يجب تعدّد السبب بتعدّده.

فهذا هو مقصود القائل بالتداخل ، لانّه لا يدعى كون الشرط والجزاء من المقارنات الاتفاقية لكنه يدعى انّ الشرط لا يجب ان يكون بخصوصه مستقلا

٤٦٣

فى التأثير.

فليس فيما اذا حكم بوحدة المسبّب مع تعدد السبب ، منافيا لظاهر السببية ، فهذا المعنى غير ممكن فى مثال القتل اذا وقع الزنا عقيب موجب آخر للقتل.

وان كانت الجملة فى الاستعمال الثانى مستعملة فى الاستقلال وهو معناها الحقيقى فى المثال الاوّل مستعملة فى غير معناها الحقيقى بل فى الوجود عند الوجود لا على وجه السببيّة المستقلة ، فنقول هذا المجاز ان كان غير التخصيص فيرده وحدة المعنى المنساق منه ومن الاستعمال الثانى.

وان كان على وجه التخصيص كما فرض فى الجواب المتقدم وهو غير مستقيم ، لانّ التأثير على وجه الاستقلال من لوازم المعنى المطابقى للجملة الشرطية ولا معنى للتخصيص فى الملازمات ، بل لا بد من نفى الملزوم.

فقولنا : «اذا زنى زيد فاقتله» اذا اريد تخصيصه فمعنى ذلك انه : «لا يجب قتله عند الزنا فى بعض الموارد» لا ان فى بعض الموارد يجب القتل عند الزنا لكن لا لاجل الزنا.

نعم هذا المعنى يقصد فيما اذا اريد تخصيص ما يدلّ على السببيّة بالمطابقة ، بان يقال الزنا سبب مستقل للقتل الا فى موضع كذا.

فالاولى رفع اليد عن حديث التخصيص مثل الجمل الشرطية من أدلّة سببية الاسباب.

بل يقال انّها حقيقة فى التأثير الفعلى المستقل كما ينادى بذلك انّ ادوات الشرط لسببية الاوّل ومسببيّة الثانى الّا انّها تستعمل مع القرينة فى مجرّد الوجود عند الوجود من غير دلالة على تأثير السبب بالخصوص ، كما فى

٤٦٤

قولك : «اذا زنى فاقتله».

نعم يدل اصل الحكم بوجوب القتل عند الزنا على وجه العموم على وجود سبب واقعى مجامع للزنا.

واذا قلت : «واذا ارتد فاقتله» فهو كذلك وحينئذ فلا يعلم كون السبب الواقعى المجامع للزنا شيئا آخر غير الشيء المجامع للارتداد مثلا.

فيجوز ان يكونا شيئا واحدا ويجوز ان يكونا شيئين قابلين للاجتماع فى الوجود ، فيرجعان الى حيثيتين تقييديتين يقيد بهما زيد ، فيجب قتله لوجهين.

نعم اثبات صحة التخصيص من وجه آخر ، وهو ان يقال الجملة الشرطية يدل على ثبوت الجزاء عند الشرط على وجه التسبّب والتفرّع ، فمعنى التخصيص فى ذلك المعنى هو :

ان لا يتحقّق فى بعض الافراد خصوص هذا الوجوب المسبّب عن هذا الشرط ، لا ان يتحقّق اصل الوجوب.

فمعنى قولنا : «اذا زنى فاقتله الّا اذا كان كذا» هو ان فى صورة كذا ينتفى هذا الوجوب المسبّب عن الزنا فلا ينافى وجوب القتل لسبب آخر.

فحينئذ ما ذكرنا فى الجواب الاوّل عن اصل السؤال عن كيفية استعمال الجملة الشرطية فى الاسباب الّتى لا يتعدّد المسبّب بتعدّدها من انّ ذلك ـ اى افادة الاستقلال فى التأثير الفعلى ـ مفيد بحال الامكان ، فمعنى قولنا «اذا زنى زيد فاقتله» هو ان الوجوب مستقلا فى صورة الزنا اذا امكن عقلا فاذا لم يمكن عقلا ـ كما فى صورة تعقيب الزنا لموجب آخر للقتل ـ فينتفى هذا الوجوب الخاص المتفرع على الزنا وان لم ينتف اصل الوجوب حيث ثبت

٤٦٥

بالسبب المتقدم.

لكنك خبير بان هذا الوجه يوجب سدّ باب استفادة المفهوم الاصطلاحى من الجملة الشرطية ، لانّ غاية ما يدلّ عليه الجملة حينئذ هو انتفاء هذا الوجوب الخاص ، والمقصود من المفهوم اصطلاحا ، نفى اصل الوجوب الّا ان يلتزم بذلك فيما ورد فى مقام بيان الاسباب.

ثم انّه قد يكون الصورة الثانية فى حكم الاولى اذا علم من الخارج ملاحظة طبيعة المسبب من حيث وحدته النوعية ، بان يكون كل منهما سببا لاصل الطبيعة الواحدة فيشارك مع الواحد الشخصى فى امتناع اجتماع التأثيرين المستقلين فيه ، لكن ذلك يحتاج الى قرينة.

ودعوى انّ ظاهر اللفظ سببية كل من السببين لاصل الطبيعة الواحدة حتى يوجد القرينة على سببية كل منهما لفرد من الطبيعة ، مدفوعة بان اللفظ فى كلتا الصورتين مستعمل فى الطبيعة ، الّا انّ ملاحظة اجتماع السببين فى طبيعة واحدة بعد فرض اقتضاء السبب للتأثير المستقل الّا لمانع هو وجوب تعدّد الطبيعة من حيث الوجود لعدم المانع العقلى من اعمال كل سبب عمله كما وجد المانع فى الواحد الشخصى.

ومما ذكرنا من انّ عدم استقلال كل من السببين بالتاثير فى بعض الموارد ليس لاستعمال الدال على السببية فى غير معناها ، ولاجل تفاوت فى كيفية السببية بل لاجل عدم قابلية المحل لوحدته الشخصية او الوحدة النوعية الملحوظة ، يظهر انّ تداخل الاسباب فى مثل قوله : «اذا اصابك بول فاغسله مرتين واذا اصابك دم فاغسله مرتين» مثلا ليس لمخالفة ظاهر فى الكلام

٤٦٦

المقيد للسببية ، بل لانّ الدليل لما دلّ على ان ايجاب كل منهما الغسل مرتين ، انّما هو لاجل تأثير النجاسة المتوقّف رفعها على الغسل.

ولا ريب انّ النجاسة حيث لا يقبل التعدّد ، فالمتأخّر من السببين لا يجد محلّا قابلا للتأثير ، بل لا تاكيد هنا لما عرفت من انّ شرط تحقّق التاكيد قابلية المحل له لاختلاف مراتبه.

وامّا فى اسباب الوضوء فيمكن القول بذلك فيها ويمكن القول ايضا بانّ كلا منهما وان اثر حدثا مستقلا ، الّا انّه لما دلّ الدليل على انّ الوضوء الواحد يكفى لرفع اصل الحدث وانّ تعدّد افراده وعلمنا من الخارج انّ وجوب الوضوء عقيب الحدث لاجل رفعه ، فكان جعل البول سببا لوجوب رفع الحدث الحاصل منه.

ولمّا فرض كفاية وضوء واحد لرفع جميع الاحداث كان وجوب رفع الحدث المسبّب من تلك الاسباب بمنزلة وجوب قتل زيد المسبب من اسبابه فى عدم قابلية التعدد.

هذا خلاصة الكلام فى ظهور الاسباب فى تأثير [ها] المستقل وعدم تداخل الاسباب فى التأثير.

وامّا عدم تداخل مسبّباتها فى الوجود فهو الظاهر ايضا بل ما ذكرنا يفيد هذا.

فانه لو كفى الوجود الواحد محلا لتأثير كلا السببين ، لم يكن وجه لاقتضائهما التأثير المستقل ، بل كان كل من السببين واردا على الطبيعة الواحدة من حيث وحدتها النوعية ، فيرجع ذلك الى منع اطلاق التأثير الفعلى

٤٦٧

المستقل.

وبتقرير آخر ، لو اقتضى الاسباب تعدد المسبّبات لم يكن معنى لتداخلهما.

اذا المفروض كون الكل افرادا لطبيعة واحدة ويستحيل التداخل فى افراد طبيعة واحدة من حيث تلك الطبيعة.

وامّا اذا كان كل من الامرين معنى لغاية كما فى قوله «صل للتحية وصلّ للحاجة»

فان كانت الغاية من قيود المطلوب ، فلا يعقل التداخل لانّ المقيّد يوجب تباين المطلوبين.

وان كانت من قيود الطلب كما فى الواجب الغيرى ، فالظاهر التداخل ، بل لا يبعد الحكم بوحدة التكليف عند اجتماع الغايتين بحيث لا يشرع التعدد ، فيحكم بوجوب الفعل لغايتين.

فان قلت مقتضى الغاية كونها مقصودا مستقلا فى انشاء الحكم ، كالسبب ، فتعددها لا يكون الّا بتعدّد المغيّى.

لانّ الامور المجتمعة فى نظر الفاعل التى تفعل الفعل لاجل المجموع لا يطلق على كل منها الغاية الّا باعتبار حال انفراده من كونها مستقلّة فى الغاية.

والحاصل : انه لا فرق بين الغاية والسبب فى ذلك ، فلم لا يكون الغاية الشرعية مثل العقلية فى كونها مستقلّة فى العليّة ، لانّه الظاهر من العلّة الغائية.

قلت : المتبادر من الغاية اذا لم يكن منوّعا للمطلوب ومكثّرا له هو : مجرد حصول الطبيعة لحصول ذى الغاية ، فلاحظ وتأمّل.

٤٦٨

ولو شكّ فى كون الغاية قيدا للموضوع او الحكم ، بنى على عدم التداخل لعدم العلم بتحقّق المطلوبين فى ضمن الموجود الواحد ، الّا ان يرجع الى الشك فى تعدد المطلوب ووحدته مع تعدد الغاية.

فالاصل الاتّحاد الّا ان يرد عليه عموم ما دلّ على وجوب امتثال الامر ما لم يعلم رجوعه الى امر واحد فتأمّل.

اللهم الّا ان نتمسّك باصالة اطلاق المطلوب وعدم اخذ الغاية فيه ، ويمكن ان يعارض باصالة اطلاق الطلب.

لكنّ التحقيق انّ هذا غير مستقيم لانّ اطلاق الطلب وتقييده لا يؤثران اختلافا فى الحكم المستفاد من الكلام.

غاية الامر انّ تقييد الطلب بالغاية قد يقيد كون الواجب غيريا ، اذا كانت الغاية من الواجبات كما فى قوله «توضّأ للصلاة».

وهذا المعنى ايضا يستفاد مع ارجاع القيد الى المطلوب فى مثل هذا المقام.

وقد تقرّر انّ الاصل اذا كان معارضا باصل آخر ، لا يبتنى عليه اثر فى المقام فهو فى حكم العدم ، نظير اصالة طهارة ثوب المكلف اذا كانت النجاسة متردّدة بينه وبين جدار الغير او ثوبه وهنا من هذا القبيل.

فان اصالة اطلاق المطلوب وعدم اعتبار الغاية فيه لا يعارض اصالة اطلاق الطلب وعدم بيان التعرض لغايته ، اذ لا يترتب على اطلاقه وتقييده اثر فى المقام ، فانّ اطلاقه لا يثبت تقييد المطلوب كما انّا لا نثبت باصالة اطلاق المطلوب تقييد الطلب مضافا الى انّ الطلب مغيّا بغاية فى الواقع قطعا ،

٤٦٩

فاصالة اطلاقه مع القطع بتقييده امّا بالقيد المذكور فى الكلام او بغيره كما ترى.

لكنّ الانصاف انّ التمسك بالاطلاق مع تعقبه لهذا القيد المتردد بين الرجوع الى اصل الطلب غير قبيح ، فالمرجع الى الاصول العملية لا اللفظية.

ثمّ انّ جميع ما ذكرنا انّما هو فيما اذا تعلّق الامر ان بمفهوم واحد ، وامّا ان تعلّقا بمفهومين ، فان كان بينهما [التداخل] فحكمه حكم المفهوم المتعدد ، الّا انّه اولى بعدم التداخل [فى] صورة التجرّد عن السبب وصورة كونهما مسبّبين.

وان كانا بينهما التباين ، فقد عرفت خروج ذلك عن محل الكلام لعدم تعقل التداخل فيه ، الّا ان يتّحدا صورة كاعطاء الزكاة والخمس والغسل وسيأتى الكلام فيه.

وان كان بينهما عموم من وجه ، فالظاهر صحة التداخل سواء كانا مجرّدين ، ام كانا مسبّبين.

فان تعدد التكليف انما يقتضى تعدد المكلف به ، وهو هنا حاصل لان المفروض التعدد ذهنا ، ودعوى لزوم التعدد خارجا ممنوع ، وسند المنع ملاحظة العرف وعدم إباء العقل واطلاق اللفظ.

فانّه اذا قال المولى : «زر زيدا واكرم اباه» وكان بعض افراد زيارته موجبا لاكرام ابيه ، فزاره عدّ ممتثلا للامرين اذا قصد اطاعتهما واستحق ثوابين ، كما انّه لو ترك لا يستحق عقابين.

ومن هنا ترى انّه قد يجتمع الواجبات المتعدّدة والمستحبّات المتعدّدة

٤٧٠

فى عنوان واحد ، بل يجتمع الواجب والمستحبّ ، وهذا كله فى المجرّدين واضح وامّا فى المسبّبين ، فلانّ تأثير كل سبب فعلا وبالاستقلال انّما هو بايجاب العنوان الخاص ، وكذلك السبب الآخر مؤثر فى ايجاب عنوان آخر مصادق مع الاوّل.

فاذا اجتمعا لم يلزم من ذلك سقوطهما عن التأثير الفعلى الثابت لهما حال الانفراد ، فيكون المورد بعد تحقّق الشرط كانّه ورد فيه تكليفان مجرّدان ، لانّ المشروط مطلق عند حصول شرطه.

وقد سمعت جواز التداخل فى المجرّدين بلا اشكال فالموجود الواحد الخارجى يصير مطلوبا من حيثيتين تقييديتين ، بحيث يكون فى فعله ثوابان ويحصل به اطاعتان ، لا من حيثيتين تعليليتين حتّى يكون مخالفا لقاعدة اقتضاء تعدّد السبب تعدد المسبّب لا وجود المسبب من وجهين ، كما كان يلزم ذلك فى صورة وحدة المفهوم فى كل من الامرين المسبّبين.

فانّ مرجع تعدّد الجهة هناك الى تعدّد السبب وهنا الى تعدد المسبّب من حيث العنوان ، وامّا فى الامرين ، المغيى كل منهما بغاية ـ فمع توجه الغاية الى الطلب فلا اشكال فى الاكتفاء بالواحد بل هنا اولى من السابق.

وامّا مع كونهما قيدا للمطلوب فالحكم ايضا جواز التداخل كما : اذا اغتسل للجنابة وارتمس فى الماء لكذا ، على ان يكون الغايتان قيدين للمطلوبين.

ومما ذكرنا يظهر الكلام فيما اذا كان بين المفهومين عموما وخصوصا مطلقا ، فانه يجوز الاتيان بالخاص امتثالا للتكليفين كما اذا وجب اكرام مؤمن

٤٧١

ووجب ايضا اضافته مع فرض تعدد التكليف.

ثمّ انّ المعيار فى العموم والخصوص فى المسبّب والمغيّى هو العموم والخصوص ، بل نفس الفعلين كما فى المثالين ، لا بين متعلّقيهما كما فى مثل «ان قدم زيد فاضف عالما وان قدم عمر وفاضف هاشميا او عالما هاشميا»

فانّ الظاهر وجوب التعدّد هنا لاتّحاد عنوان المامور به فى كل من الامرين.

ثم حيث قلنا بالتداخل فى المسبّبات المتّحدة فى العنوان ، فهل يعتبر فيه نيّة جميع الاسباب ام يكفى صورة اتيان الفعل بنيّة التقرّب ان كان من التعبديات ، ولا بشرطها ان كانت من التوصليّات ، ام يكفى الاتيان ولو بقصد بعض الاسباب وجوه : انسبها بقاعدة تداخل الاسباب هو الاخير ، لانّ المفروض حينئذ هو عدم اقتضاء السبب المتأخر تأثيرا مستقلا ولو قلنا بالتداخل من جهة تداخل المسبّبات بمعنى تسليم اقتضاء كل سبب مسبّبا ، فيحصل من تعدّد الاسباب تعدّد المسبّبات الّا ان المسبّبات المتعدّدة لا باس بايجادها بوجود واحد.

فمقتضى القاعدة هو الوسط لعدم الدليل على اعتبار الاوّل وعدم كفاية الثالث فى صدق تحصيل مقتضيات جميع الاسباب ، لانّه اذا فرض اتحاد الكل فى المفهوم والمصداق فلا مائز الّا القصد.

لكنّ التحقيق كما عرفت سابقا انّه لا وجه للقول بتداخل المسبّبات بعد تسليم عدم تداخل الاسباب وفرض استقلالها فى التأثير ، لانّ تداخل المتحدين فى العنوان.

٤٧٢

وبعبارة اخرى تداخل فردين من طبيعة واحدة غير معقول.

وتوجيه ذلك بارادة وجوب فرد واحد لجهتين خروج عن محل الكلام ، لان الجهتين ان كانتا تقييديتين لزم المحال المذكور لانّ المفروض كون الجهة فى الكل هى : كونه فردا لتلك الطبيعة الواحدة ، ويستحيل تعدّد مثل الجهة فى الفرد الواحد.

وان كانت كل واحدة منهما ناظرة الى عنوان مستقل مغاير للآخر مباين معه تباينا جزئيا ، رجع الامر الى العموم من وجه بين المسبّبات فيخرج عن الاتحاد هذا فى المسبّبين المتّحدين فى العنوان.

وامّا فى العامّ والخاص مطلقا او من وجه ، فهل يعتبر قصد كل من العنوانين ام لا؟

التحقيق : انّه ان قلنا انّ قصد عنوان المامور به شرط فى الامتثال حتّى فى غير صورة التداخل ، فلا اشكال هنا فى الاعتبار بطريق اولى.

وان قلنا بعدم اعتباره فى غير صورة التداخل فلا اشكال فى الاعتبار هنا بطريق اولى.

وان قلنا بعدم اعتباره فى غير صورة التداخل ، فالقدر المعتبر فى مقام التداخل ما تقدّم فى فرض تداخل المسبّبات من غير تداخل الاسباب من كفاية قصد مطلق التقرب فى العبادات وكفاية صورة اتيان الفعل ان كان من التوصّليات ، هذا فى المسبّبات.

وامّا فى المغيى فحيث نقول فيها بالتداخل ، فيكفى اتيان الفعل ولو لغاية واحدة ، لانّا قد اخترنا فيها تداخل نفس الغايات فيكون نظير القول بتداخل

٤٧٣

الاسباب بانفسها.

وقد عرفت كفاية الاتيان هناك ولو بقصد بعض الاسباب ، هذا كله فيما اذا اتّحد الاسباب فى اقتضاء الوجوب او الاستحباب.

وامّا اذا اختلفا فى الاقتضاء وقلنا بتداخلها ، فالفعل واجب لا محالة.

لانّ المتأخّر إن كان مقتضيا للاستحباب فالمفروض انّه لا يؤثّر فى طلب جديد.

وان كان مقتضيا فيؤثر فى الالزام والمنع من الترك لعدم سبق غيره فى ذلك الاقتضاء ، ولو قلنا بتداخل المسبّبات على المغيّى الّذى افسدناه فى السببين المتّحدين بالعنوان.

فان قلنا بعدم اعتبار قصد الوجه ، فلا اشكال فى كفاية القربة.

وان قلنا بوجوب قصده فى الواجب والمستحب ، ففى وجوب قصدهما تعليلا او توصيفا حينئذ لكون الفعل الواحد امتثالا لهما او وجوب قصد الوجوب تعليلا او توصيفا لان الفعل الواحد الخارجى لا يمكن ان يتصف بوجهين ، فلا بدّ من ان يتّصف بما هو الغالب منهما على الآخر ، وهو هنا الوجوب او وجوب جعل الوجه التعليلى كلا منهما.

والوجه التوصيفى هو الوجوب بان ينوى : انّى افعل هذا الفرد الخاص المتصف بصفة الوجوب ، حيث انّه لا يجوز تركه لا الى بدل امتثالا للامر الواجب والامر المستحب او العكس ، بان ينوى الفعل المتّصف بالوجوب والاستحباب من جهة كونه مصداقا لهما لاجل كونه امتثالا للواجب وجوه اقواها الاوّل.

٤٧٤

لكن عرفت فساد التداخل فى متّحد العنوان ، نعم يتّجه هذا فيما اذا كان بين عنوانى نسبتين عموما من وجه او مطلقا.

فاذا وجد سبب وجوب ضيافة زيد ، وسبب استحباب الاحسان الى هاشمى فضيف زيد الهاشمى المتصف بالوجوب من حيث الضيافة وبالاستحباب من حيث الاحسان لاجل امتثال الامرين ولو كان بينهما تباينا كليا ، بحيث لا يجتمعان فى موجود واحد مع قطع النظر عن التعبد الشرعى ، الّا انهما متحدان صورة ، فعلى فرض التداخل فيها كما فى غسل الجمعة والعيد بناء على عدم كون ذلك من متحد العنوان مع تعدد الغاية.

٤٧٥

بسم الله الرحمن الرحيم

فى المفهوم والمنطوق (١)

اختلفت كلمات بعض الاصوليين فيما اصطلح عليه المنطوق والمفهوم.

فالظاهر من كلام بعضهم ـ ولعله الاكثر ـ انّ مدلولات الكلامات منحصرة فى قسمى المنطوق والمفهوم.

وصريح العلّامة فى النهاية (٢). «عدم الانحصار ، حيث قسم مدلول الكلام الى منطوق وغير المنطوق ، وجعل الثانى فى اربعة اقسام :

المفهوم والمدلول عليه بدلالة التنبيه ، والايماء والمدلول عليه بدلالة الاقتضاء ، والمدلول عليه بدلالة الاشارة.»

ثم اختلف الاوّلون :

فبين من فسر المفهوم «بما يلزم من اللفظ» وحصر المنطوق فى «المطابقى والتضمنى».

وبين من ادخل بعض الالتزاميات فى المنطوق ـ وهو الحاجبى (٣) واكثر من تأخّر عنه ـ ولعله المشهور.

وحيث انّ [فى] الاصطلاحات وجب متابعة ما هو المشهور بين اهل

__________________

(١) ـ كذا عنوان البحث فى الاصل راجع ايضا الى مطارح الانظار : ص ١٦٧ وبعدها وقارن.

(٢) ـ النهاية : الجزء الثانى. المخطوط

(٣) ـ منتهى الوصول : ص ١٤٧ للحاجبى ـ بيروت

٤٧٦

الاصطلاح وهو الّذى جرى الحاجبى عليه ومن تبعه.

وقد عرفوا المنطوق بما دل عليه اللفظ فى محل النطق ، والمفهوم بما دل عليه اللفظ لا فى محل النطق. وقد اورد عليه بما لا فائدة فى ذكره والجواب عنه ، غير انا نقول :

يمكن ان يعرف المنطوق والمفهوم بما لا يرد عليه كثير مما اورد عليه تعريف الحاجبى ، بان يقال : «المفهوم ما افيد لغير المذكور» والمراد بالموصول مطلق الحكم اللغوى المدلول عليه بكلام ، سواء كان حكما خبريا او انشائيا او غيره ايجابيا او سلبيا.

فيدخل فيه ما هو من قبيل الحال للموضوع ، دون الحكم مثل قوله تعالى : (فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ)(١) وقوله تعالى : (وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينارٍ لا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ)(٢) والمراد بكونه مفادا كون المتكلّم مفيدا له باللفظ ، فيخرج المدلول الّذى لم يقصد المتكلم افادته وتفهيمه باللفظ ، وهو السرّ فى العدول عن «الدلالة الى الافادة».

وقولنا : «لغير المذكور» بيان لمتعلّق ذلك الحكم و «اللام» للاختصاص ، والربط الحاصل بادنى ملابسة نظير اللام المقدر فى الاضافة اللامية ، فيشمل المتعلقات للحكم ومتعلقات المتعلقات.

والمراد «بغير المذكور» غير المتعلّق المذكور فى ذلك الكلام ، بان يكون غير المتعلق المذكور فى ذلك الكلام متعلّقا لذلك الحكم على نحو كون المذكور متعلقا ، وليس المراد بغير المذكور امرا غير مذكور وامرا يغاير

__________________

(١) ـ الزلزلة : ٨

(٢) ـ آل عمران : ٧٥

٤٧٧

المذكور ، بل المراد مفهوم غير المذكور على ان يكون لفظ الغير المضاف الى ذلك المتعلق المذكور فى الكلام عنوانا للحكم متعلقا له على حدّ كون نفس المذكور فى الكلام متعلقا للحكم ـ فمفهوم قولك «اكرم زيدا» نفى وجوب اكرام غير زيد يعنى هذا المفهوم ، ومفهوم قولك «اكرم رجلا عالما» نفى وجوب اكرام الرجل الغير العالم.

ومفهوم : «ان جاء زيد وجب اكرامه» نفى وجوب الاكرام متعلقا لغير حال المجيء كما كان وجوب الاكرام متعلقا بحال المجيء تعلّق المسبّب بحال وجود السبب وهكذا.

فتوضيح الحد المذكور انّ المفهوم : هو المدلول المقصود من الكلام المتعلق لغير المتعلق المذكور فى ذلك الكلام المفيد لهذا الحكم على نحو تعلّق ذلك المذكور.

وقد ظهر من هذا الحد امور :

منها : انّ دلالة قول القائل : «بع عبدى من زيد» عدم جواز بيعه من غير زيد.

ان لوحظت من حيث افادة المتكلم لذلك بذكر زيد وتفهيمه من تعليق الحكم بزيد ، فهو مفهوم يصدق التعريف المذكور عليه.

وان لوحظت من حيث دلالة الامر بالشيء على النهى عن ضدّه او عدم الامر به ، لم يكن مفهوما لانّ الكلام غير مسبق لافادته ، وان استلزمه مدلول اللفظ عقلا على القول بالاقتضاء فى مسئلة الضدّ.

وكذلك قول الآمر : «اعتق رقبة مؤمنة» ان لوحظت دلالتها على نفى

٤٧٨

اجزاء غير المؤمنة من حيث افادة المتكلم لذلك بالتوصيف كان مفهوما.

وان لوحظت من حيث حكم العقل بعدم اجزاء غير المامور به عن المامور به لم يكن مفهوما ، وهكذا.

ومنها : انّ مفهوم الموافقة نحو قوله تعالى : (فَلا تَقُلْ لَهُما أُفٍّ)(١) داخل فى الحدّ ، لانه انّما نهى عن قول «افّ» باعتبار انّه ادنى مراتب الايذاء ، اذ لو لم يلاحظ ذلك لم يكن تنبيها بالادنى على الاعلى.

فالكلام فى قوّة ان يقال : يحرم قول «افّ» من بين الافعال والاقوال الموذية ، فيدلّ بالاولوية على تحريم غير قول «افّ» من المؤذيات لا مطلقا.

نعم لو لاحظ المتكلم قول «افّ» من حيث هو لم تكن تنبيها بالادنى على الاعلى ، وكان مفهومه اللقبى عدم تحريم غير قول «افّ» مطلقا.

ومنها : ان قولك ب «غير زيد جاءنى» وان كان انّ زيدا لم تجىء ، الّا انّ زيدا المذكور فى الكلام لم يقع متعلقا للمجيء على نحو الفاعلية ، بل انّما وقع متعلقا لفاعل المجيء بعلاقة التغير بين زيد وغيره ، فانّه المصحّح لاضافته اليه فمفهومه هو الحكم المتعلّق بغير الفاعل بعنوان انّه غير الفاعل ومصداقه شخص فى زيد ، فزيد فى الحقيقة مسكوت عنه من حيث الفاعلية لعدم المجيء ، وانّما هو مذكور من حيث انّ فاعل المجيء نسب الى غيره.

والمتعلّق فى الحكم المفهومى لا بدّ ان يكون مسكوتا عنه من حيث كونه متعلّقا لذلك الحكم وان كان مذكورا على نحو آخر من التعلّق وفهم هذا التقييد من تعريف المفهوم ، وان كان صعبا ، لكنّه لا اشكال فيه بعد التنبيه

__________________

(١) ـ الاسراء : ٢٣

٤٧٩

عليه.

ومنها : انّ قول القائل : «اكرم زيدا لا غيره» وان افاد نفى وجوب الاكرام عن غير زيد ، الّا ان زيدا غير مذكور فى الكلام المفيد لهذا الحكم بل فى الفقرة السابقة عليه.

نعم لو اريد من نفس «اكرم زيدا» افادة وجوب اكرام غير زيد كان مفهوما.

والحاصل : انّ المعتبر فى المفهوم كون غير المذكور فى الكلام متعلقا للحكم المفاد بذلك الكلام والمفاد بقولنا «لا غير» فى المثال حكم متعلق بغير المذكور فى جملة اخرى اعنى : «اكرم زيدا» بقى على الحد بعض الاشكالات.

منها : انّ المراد بغير المذكور ان كان مطلق القابل الغير الشامل للضدّ والنقيض دخل فى الحد افادة الامر لحرمة ضده العام وهو الترك ، وان اريد خصوص الامر الوجودى خرج مفهوم الشرط لانّ الحكم المفهومى انّما يتعلّق بحال عدم الشرط من حيث انه عدمه ، لا بحال وجودى يضاد الشرط ويمكن دفعه بالتزام الاوّل ، وانّ دلالة الامر بالشيء على المنع عن الترك ليست مقصودة بالافادة : فانه قد لا يخطر الترك ببال الآمر فضلا عن المنع عنه ، حتى يقصده باللفظ.

والحاصل : انّ المنع ليس إنشاء مستقلا من الامر متعلقا بمفهوم عدم الضرب ، بحيث يقصده المتكلم ، بل هو شيء ينحّل اليه الانشاء الطلبى المتعلق بنفس المامور به مضافا الى انّ فى تعلق المنع بنفس العدم مناقشة.

٤٨٠