الفوائد الأصوليّة

الشيخ مرتضى الأنصاري

الفوائد الأصوليّة

المؤلف:

الشيخ مرتضى الأنصاري


المحقق: حسن المراغي « غفارپور »
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: شمس تبريزي
المطبعة: ايران يكتا
الطبعة: ١
ISBN: 969-94215-0-5
الصفحات: ٧٧٠

يخرجه عن الوحدة ، فالاكرام مع تعلّقه بزيد او عمرو ماهية واحدة لا تتكثّر بكثرة المتعلّق بما ذا امر به ببعض الاعتبارات لكونه اكرام عالم ونهى عنه باعتبار آخر لكونه اكرام فاسق ، فقيل : اكرم العالم ولا تكرم الفاسق كان اكرام العالم الفاسق الذى هو مادة الاجتماع مما لا يخرجه عن الوحدة بحسب الماهية اتصاف المتعلق بجهتين مختلفتين ، اعنى : «العلم والفسق» بل هو فعل واحد مفهوما ووجودا تعلّق بذات واحدة جزئية ان كانت مجمع صفتى العلم والفسق ، بخلاف نحو «الصلاة فى المكان المغصوب» فانه فعل واحد وجودا وفعلان مفهوما ، اعنى «الصلاة والغصب» احدهما محلّ للوجوب والآخر محل للغصب ، فلا يلزم فى الصلاة فى الدار المغصوبة اجتماع الضدّين فى شيء واحد ويلزم ذلك فى اكرام العالم الفاسق لكونه فعلا واحدا مفهوما ومصداقا لعدم اختلاف تأثير الجهة فى متعلقيه وهو العالم الفاسق فى اختلاف متعلق الوجوب والحرمة وهو «الاكرام».

فلا بدّ من الحكم بالتعارض والرجوع الى المرجّحات لانّ وزان اكرام العالم الفاسق وزان سواد الجسم الّذى اجتمع فيه عناوين متعددة فكما لا يتعدّد السواد وجودا وماهية بتعدد تلك العناوين كذلك لا يتعدد الاكرام بتعدد العناوين الموجودة فى متعلقه.

وقد سبق هنا الاشارة الى نظير هذا الكلام فيما تقدّم عند تزييف فعل المحقق الخوانسارى فى تداخل الاغسال بانّه من شعب مسئلة اجتماع الامر والنهى.

وقد يناقش فى هذا التوجيه بانّا لا نجد فرقا بين اختلاف الغصب و

٣٤١

الصلاة فى الماهية ، واختلاف اكرام العالم واكرام الفاسق فيها فكما انّ الاختلاف مجد فى اجتماع الامر والنهى اذا كان من قبيل الاوّل ، كذلك يجدى فيه اذا كان من قبيل الثانى غاية ما بينهما من الفرق هو اشتراك الماهيّتين فى عنوان جامع بينهما وهو «الاكرام فى الثانى» واختلافهما فى الجامع فى الاوّل.

كيف ولو كان الاضافة الى المتعلّق مكثرة للمضاف لكان النسبة بين قوله : «اكرم العلماء» و «لا تكرم الفساق» التباين ، فانّ وحدة الاضافة وتعدّدها مما يعتبر فى ثبوت التناقض وعدمه ، وعلى تقدير عدم تأثير اختلافها فى اختلاف المحمول لم يكن فائدة فى اشتراط وحدتها للتناقض.

فدعوى كون الصلاة فى المكان المغصوب فعلين بوجود واحد بخلاف «اكرام العالم الفاسق» لا وجه لها كما لا وجه للنقض بالسواد العارض للجسم الواحد المتّصف بالعناوين المتعدّدة ، فان المقصود بالنقض ان كان اثبات اتحاد «اكرام العالم» و «اكرام الفاسق» من حيث الذات كاتحاد ذات السواد المضاف الى شيء واحد ذى العناوين فمسلّم ، ولكنه لا يفيد اتّحاد المامور به والمنهى عنه لانّ متعلق الامر والنهى ليس هو ذات الاكرام مع قطع النظر عن الاضافة ، لانّها بملاحظة الاضافة الى العالم تعلق الامر وبملاحظة الاضافة الى الفاسق تعلّق به النهى ، فمتعلق الامر والنهى حقيقة يحصل الاضافتين ولا شبهة فى اختلافهما ذاتا ، وان كان المقصود اثبات اتحاد الاضافتين بحسب المفهوم.

فالنقض ليس فى محله لانّ اضافة السواد الى الجسم بملاحظة بعض ما

٣٤٢

فيه من العناوين ، ككونه مربعا يغير اضافته اليه بملاحظة البعض الآخر ككونه خشبا.

والحاصل انّه لا فرق بين «الصلاة والغصب» وبين «اكرام العالم واكرام الفاسق» من حيث الاختلاف بحسب المفهوم والاتحاد فى الوجود الخارجى فى مادة الاجتماع ، فلا وجه لاخراج الباقى عن محل النزاع.

وامّا اجراء الاصحاب حتى المجوزين حكم المتعارضين على مثل «اكرم العلماء ولا تكرم الفساق» فيمكن ان يكون وجهه شيئا آخر وهو ظهورهما فى تعلق الوجوب والحرمة بالاشخاص الخارجية من العلماء والفسّاق ، فاذا اتّفق اتصاف بعض الافراد بالعلم والفسق وقع التعارض بين «اكرم العلماء ولا تكرم الفساق» فى ذلك الفرد جدا لا ينفع فى رفع التعارض ارجاع الامر الى طبيعة «اكرام العالم» وارجاع النهى الى طبيعة «اكرام الفاسق» بعد ان كان المراد ب «العالم» و «الفاسق» هو كل فرد فرد من الاشخاص الخارجية لانّ العالم الفاسق باعتبار كونه فردا من العالم يجب طبيعة اكرامه ، وباعتبار كونه فردا من الفاسق يحرم طبيعة اكرامه.

ومن الواضح استحالة تعلق الوجوب والحرمة بطبيعة اكرام جزئى حقيقى وهو الذات المتصف بالعلم والفسق ، فلا بدّ من الحكم بالتعارض بين الدليلين واخراج مادة الاجتماع عن تحت احدهما ، بخلاف ما اذا كان الامر والنهى من قبيل «صلّ ولا تغصب» فانّ ارجاع الخطاب الى الطبيعة يجدى فى رفع التناقض عند المجوّزين ، اذ لا استحالة عندهم فى ان يقول الآمر بحسب طبيعة ما فى هذا التصرف من طبيعة الصلاة ، ويحرم ما فيه من طبيعة

٣٤٣

الغصب.

وقد يناقش فى هذا التوجيه بانّ متعلق الامر والنهى فى مثال «اكرم العلماء» و «لا تكرم الفساق» اذا كان هى الطبيعة كان حاصل اجتماعهما فى العالم الفاسق : ان الآمر يقول يجب طبيعة ما في هذا الفعل الّذى به يحصل الاكرام كالضيافة من اكرام العالم ، ويحرّم ما فيه ايضا من طبيعة اكرام الفاسق ، فيكون الفعل الواحد باعتبار اشتماله على طبيعتين مختلفتين موردا لحكمين متضادّين نحو : اشتمال التصرف الواحد على طبيعتى الغصب والصلاة من غير فرق ، فالاولى عدم الفرق بين نحو : «صلّ ولا تغصب وبين نحو : «اكرم العلماء ولا تكرم الفساق» فى الاندراج تحت النزاع وجعل ما عليه ظاهر الاصحاب من عمل المتعارضين فى الثانى دليلا على فساد القول بجواز اجتماع الامر والنهى هنا والله العالم.

٣٤٤

تتمّة

[التعارض بين الامر والنهى]

قد عرفت مرارا انّ مقتضى القول بعدم جواز اجتماع الامر والنهى وقوع التعارض بين الامر والنهى فى مادّة الاجتماع ، كما انّ قضية القول بالجواز عدم التعارض لامكان العمل بكلا الدليلين ، فان ثبت تقديم احدهما على الآخر بدليل خارجى من اجماع ونحوه اخذنا به ، والّا فلا بد من الرجوع الى المرجّحات ما سوى المرجّحات السندية ، فان الاقوى عدم الرجوع اليها لاستلزامه التفكيك بين الموارد فى اعتبار السند من حيث اقتضائه الحكم بعدم اعتباره فى غير مادة الاجتماع وباعتباره فيها كما قررناه فى التعادل والتراجيح. (١)

وقد ذكروا وجوها لترجيح النهى على الامر فى المقام :

منها : انّ النهى يدلّ على ثبوت الحكم فى الفرد بالاستغراق والامر يدلّ عليه بالاطلاق ، والاستغراق اقوى من حيث الدلالة والظهور من الاطلاق ، فيكون النهى حينئذ قرينة على تقييد اطلاق الامر بغير الفرد المنهى عنه.

__________________

(١) ـ انظر : خاتمة فرائد الاصول للمصنّف.

٣٤٥

وبهذا التقرير يندفع ما ذكره فى القوانين من : «انّ قول الشارع : صلّ مطلق والامر يقتضى الاجزاء فى ضمن كل ما يصدق عليه المامور به ...» وقوله «لا تغصب ايضا مطلق يقتضى حرمة كل ما يصدق عليه انّه غصب والقول بعدم جواز اجتماع الامر والنهى لا يقتضى الّا لزوم ارجاع احد العامين الى الآخر فلا وجه لتخصيص الامر بالنهى ، بل يمكن العكس ، كما اختاره بعض المتأخرين حيث حكم بصحة الصلاة مع عدم القول بجواز الاجتماع بل يؤيّده بعض الاخبار الدالّة على انّ للناس من الارض حقا للصلاة». (١)

وقد ارتضاه صاحب الاشارات حيث اجاب عنه : «بانّ فساد الصلاة ليس لاجل تقديم النهى بل للاصل بعد تعارضهما وتساقطهما».

ثم اجاب القمى ـ طاب ثراه ـ عن كون دلالة النهى اقوى لاستلزامه انتفاء جميع الافراد بقوله «وقد مرّ فى بحث تكرار النهى ما يضعفه» والظاهران مراده ان دلالة النهى على الاستغراق فى الافراد والأزمان ليست إلّا من جهة

__________________

(١) ـ هذا ما نقل الشيخ الاعظم من «القوانين» وهو مخالف فى شيء يسير لما فى الاصل ولفظ القوانين هكذا : «... فان قول الشارع : صلّ مطلق والامر يقتضى الاجزاء فى ضمن كل ما صدق عليه المامور به كما مر وقوله : لا تغصب ايضا مطلق يقتضى حرمة كل ما صدق عليه انه غصب والقاعدة المبحوث عنها بعد استقرارها على عدم الجواز لا يقتضى الّا لزوم ارجاع احد العامّين الى الآخر فما وجه تخصيص الامر والقول بالبطلان كما اختاروه بل لنا ان نقول : الغصب حرام الّا اذا كان كونا من اكوان الصلاة كما تقول الصلاة واجبة الّا اذا كانت محصّلة للغصب ولذلك ذهب بعض المتاخرين الى الصحة مع القول بعدم جواز الاجتماع فى اصل المسألة ويؤيده بعض الاخبار الدالة على ان للناس من الارض حقا فى الصلاة فلا بد من الرجوع الى المرجّحات الخارجية ...» القوانين المحكمة : ص ١٥١ ـ الطبعة الحجرية.

٣٤٦

العموم الحكمى ، ولزوم الاغراء بالجهل لو كان المراد عدم الاستغراق وهذا بعينه يجرى فى الاوامر المطلقة ، يدفعه انّ العموم اذا كان من جهة الحكمة ولزوم الاغراء بالجهل لم يكن التخصيص مجازا.

ولهذا ذهب ثلاثة من المحقّقين الى انّ استعمال المطلق وارادة المقيد ليس من المجاز فى شيء ، بناء على ان الاطلاق ليس من مداليل اللفظ المعرّى عن أداة التخصيص والتعيين والاستغراق بل هو فرد من افراد معناه الحقيقى ، ومرتبة من مراتبه ، اعنى الطبيعة المهملة الّتى تارة يلاحظ مطلقة واخرى مقيّدة وثالثة فى نفسها من دون اعتبار احد الخصوصيّتين.

فلو كان العموم المستفاد من النهى ايضا كذلك وغير مستند الى دلالة النهى بالالتزام لكان استعمال نحو «لا تغصب» فى بعض افراد الغصب ايضا حقيقة.

وهذا واضح الفساد وليس الّا من جهة اقتضاء وقوع الطبيعة فى حيّز النفى او النهى سريان الحكم الى جميع الافراد على جهة الاستغراق عقلا ، بحيث تتوقّف الامتثال الى الاجتناب عن جميع الافراد وحينئذ فاذا دار الامر بين تقييد الامر وتخصيص النهى ، فان قلنا بعدم كون التقييد مجازا كما هو الاقوى فقد دار الامر بين الحقيقة والمجاز فالاخذ بالاوّل متعيّن.

فنقول : انّه اذا دار الامر بين تقييد اطلاق «صلّ» وتخصيص «لا تغصب» تعيّن الاوّل لانّ الثانى مجاز لا يصار اليه الّا بدليل ولا دليل سوى اطلاق ، «صلّ» وهو لا يصلح لذلك ، لعدم كونه مدلول اللفظ على هذا القول بل مستفاد من مقام بيان الحكم الذى ينافيه عدم ذكر القيد لو كان مرادا فى

٣٤٧

الواقع ، بخلاف الاوّل فانّه ليس من المجاز فى شيء.

نعم هو ايضا يحتاج الى ورود البيان ولو عموما ، لئلا يلزم الاغراء بالجهل ، وبعد فرض عموم النهى وضعا مستندا الى اللفظ يكون بيانا للتقييد المزبور وان قلنا بكونه مجازا ايضا نحو التخصيص ، فلا بدّ حينئذ من تقديم النهى ايضا على الامر لانّ التقييد اغلب واتبع فى التخصيص كما ذكر فى باب تعارض الاحوال.

وهذا كله مما لا اشكال فيه وانّما الاشكال فى المقام فى شيء آخر وهو انّ هذا الترجيح ترجيح من حيث الدلالة وقضية ذلك خروج مادة الاجتماع عن تحت اطلاق الامر بقرينة النهى رأسا ، ومقتضاه استناد فسادها الى عدم الامر لا الى الحرمة ، فلا وجه لتخصيص الفساد بما اذا كانت متّصفة بالحرمة الفعلية.

والقول بالصحة اذا ارتفع النهى والحرمة بمثل الجهل والاضطرار والنسيان ، لانّ هذا التخصيص تارة يكون لفظيا ومقتضاه خروج الخاص عن تحت المراد بالعام رأسا ، واخرى يكون عقليا ناشيا من جهة المزاحمة ، كما اذا دار الامر بين انقاذ الغريقين ، فان خروج انقاذ كل منهما عينا من تحت ما دلّ على وجوب انقاذ الانفس حينئذ ليس من جهة خروجه تحت الدليل رأسا ، بل من جهة مزاحمة وجوب الآخر له وعدم امكان الجمع بينهما.

وحيثما كان التخصيص كذلك فلا بدّ من بقاء كل واحد تحت الدليل ثم التخيير ان كانا متساويين فى المرتبة ، او تقديم الاهم ان كان احدهما اهمّ من الآخر ، وحينئذ فبطلان الصلاة فى الدار المغصوبة ان كان لاجل خروجها عن

٣٤٨

تحت اطلاق الامر بقرينة النهى كما هو قضية الترجيح المزبور الراجح الى التقييد اللفظى ، فلا يتفاوت الحال بين بقاء النهى فعلا وعدمه ، وان كان لاجل مزاحمة وجوبها لحرمتها من حيث الغصبية وتقديم جهة التحريم كما فى ساير موارد التزاحم.

فلا وجه للرجوع الى الترجيح فيها من حيث الدلالة وتقديم اطلاق النهى على اطلاق الامر بل لا بد حينئذ من ابقاء الاطلاقين بحالهما ثم الحكم بتقديم مقتضى احدهما كالتحريم على الآخر ان كان هو الاهم.

ومنها انّ دفع المفسدة اهم من جلب المنفعة ، واجيب عنه بانّه مطلقا ممنوع ، لانّ ترك الواجب ايضا مفسدة اذا تعين.

وفيه نظر والحقّ انّ هذه القاعدة بعد ثبوتها اجنبية عن المقام من جهتين :

الاولى ـ انّ موضع جريانها ما اذا انحصر المناص فى ارتكاب المحرم او ترك الواجب ، بحيث لا يكون للمكلف فى مقام العمل عن احدهما بدّ وليس المقام كذلك لا مكان الاجتناب عن منقصة الحرام فى حقّه من دون فوات المصلحة باتيان المامور به فى ضمن غير المحرم اذ المفروض ما اذا تعارض الامر التخييرى والنهى العينى كما مر غير مرّة.

والثانية ـ انّ هذه القاعدة انما تتبع اذا لم يكن فى المقام اصل يرجع اليه ، كما اذا دار الامر بين الوجوب والحرمة العينيين ، بحيث اذا عمل باصل البراءة فيهما لزم المخالفة القطعية فى العمل.

وفيما نحن فيه تدفع الحرمة بالاصل ويرجع فى الحكم بصحة الصلاة وفسادها الى ما هو المرجع فى مثل المقام من اصل البراءة كما هو الحق او

٣٤٩

الاشتغال ولا يلزم مخالفة الدليلين فى مقام العمل اصلا لا مكان الامتثال بالعبادة فى غير مادّة الاجتماع.

ومنها انّ الاستقراء يقتضى ترجيح محتمل الحرمة على محتمل الوجوب كحرمة الصلاة فى ايام الاستظهار والتّجنب عن الإناءين المشتبهين ونحو ذلك.

وفيه ان الاستقراء على فرض اعتباره غير ثابت وما ذكر من المثالين غير مربوطين بالمقام.

امّا الاوّل : لان المراد بايام الاستظهار ان كان ما بعد العادة فحرمة الصلاة فيه ـ على فرض ثبوتها مع ان المشهور عدمها بل استحباب تركها ـ مستندة الى قاعدة الامكان والاستصحاب لا الى جانب ترجيح الحرمة على الوجوب ، ولا نقول انّ استناد ترجيح الحرمة على الوجوب الى دليل آخر غير القاعدة المزبورة مطلقا ينافى تمامية الاستقراء ، كيف ومبنى الاستقراء على ثبوت الحكم فى الموارد المستقرأة فيها بدليل من الادلة الشرعية ثم الحاق ما ليس فيه دليل بالخصوص بها الحاقا للمشكوك بالاعم الاغلب.

بل نقول : انّ تقديم الحرمة على الوجوب اذا ثبت بدليل شرعى خاص من كتاب او سنّة او اجماع ، فهذا ممكن امكن الحاق المشكوك فيه به ، لانّ احتمال كون ذلك بغلبة جانب التحريم على الوجوب حينئذ قائم ، وامّا اذا ثبت بغير دليل خاص من القواعد العامة كالاستصحاب ونحوه ، فلا يجدى فى مقام الشكّ.

لانّا نعلم حينئذ انّ الحكم مستند الى شيء آخر غير غلبة جانب الحرمة

٣٥٠

على جانب الوجوب ، وان اريد بايام الاستظهار ما قبل الثلاثة للمضطربة والمبتدئة ، فحرمة العبادة حينئذ ايضا من قاعدة الامكان المدلول عليها فلا يكون مربوطا بالمقام ايضا لان هذه الاخبار دليل على ثبوت الموضوع وهو الحيض ودليل الصلاة حينئذ هو نحو قوله : دعى الصلاة ايام اقرائك.

وكيف كان فحرمة الصلاة فى ايام الاستظهار مما لا ينظر الى حيث جانب الحرمة على جانب الوجوب فى محتمليهما.

وامّا الثانى ـ فلانّ الكلام فيما دار الامر بين الوجوب والحرمة الذاتيين والامر فى الإناءين المشتبهين ليس كذلك لانّ الوضوء بالماء المتنجس حرمته لاجل التشريع لا بالذات ، وقضية القاعدة ان يحكم فيها بوجوب الوضوء لانّ هذا الوجوب ليس له معارض فى حال الاشتباه الذى يرتفع معه الحرمة التشريعية مع انّ النص ورد باراقتهما والعدول الى التيمم ، فليس هذا الّا محض التعبّد الصرف الّذى لا تتخطّى منه الى غيره من ساير صور اشتباه الواجب بغير الحرام الذاتى ولو اغمضنا عن ذلك وبنينا على حرمة الوضوء بالماء المتنجّس ذاتا فلا ريب فى اختصاص الحكم مورد النص ايضا عند الكل لانّ غاية ما يقوله القائل بتغليب جانب الحرمة على جانب الوجوب انّه اذا دار الامر بين وجوب شيء وحرمته رجّح جانب الحرمة.

وهذا غير ترك المعلوم لاجل الاجتناب عن الحرام لانّه مما يلتزمه احد فى غير الإناءين الذين هما مورد النص ، بل لا بد فيه من البناء على التخيير.

والحاصل ان الحكم فى مسئلة الإناءين وارد على خلاف القاعدة ومختص بها ، ولا يتعدّى منها الى ما هو نظيرها اعنى صور اشتباه الواجب

٣٥١

بالحرام ، ولا الى صور دوران الامر بين وجوب شيء او حرمته الّتى كلامنا فيها.

اللهم الّا ان يقال انّ ترك الواجب القطعى لاجل الاجتناب عن الحرام على سبيل اليقين كما هو كذلك فى الإناءين المشتبهين بمقتضى ترك محتمل الوجوب لاجل التخلّص عن الوقوع فى الحرام ، كما فيما نحن فيه بطريق اولى.

فمسألة الإناءين وان لم يكن من جنس ما نحن فيه الّا انّها تدلّ على المطلوب بالاولوية القطعية ، وفيه ان القطع بالاولوية ممنوع لانّ الواجب المتروك فى مسئلة الإناءين ـ وهو الوضوء ـ متدارك بالبدل ـ وهو التيمم ـ جعله الشارع احد الطهورين ، فلا يلزم من جواز ترك نحو هذا الواجب لاجل الاجتناب عن الحرام جواز ترك ما لا بدل له من محتمل الوجوب لاجل ذلك.

نعم يمكن تقديم جانب الحرمة فى محل الكلام الّذى هو دوران الامر بين الوجوب التخييرى والحرمة العينية بانّ السلامة اليقينية فى اختيار الفرد الآخر ، لانّه لا ينافى وجوب محتمل الحرمة لو كان فى الواقع واجبا بخلاف ما لو اختير ذلك الفرد المحرم فانّه معرضة للوقوع فى الحرام الواقعى.

وهذا ما يقال من انّ قاعدة الاشتغال تقتضى اليقين اذا دار الامر بينه وبين التخيير ولكنه انما يناسب مذهب من يبنى على الاشتغال فى الاجزاء والشرائط والله العالم.

الحمد لله اولا وآخرا وصلى الله على محمد وآله الطيبين الطاهرين.

٣٥٢

[فائدة ١٢]

فى انّ الامر بشيء [هل] يقتضى النهى عن ضدّه ام لا (١)

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين وصلّى الله على محمد وآله الطاهرين ولعنة الله على اعدائهم اجمعين الى يوم الدين.

امّا بعد ، فهذه مسئلة معروفة ، معركة الآراء يبحث فيها عن اقتضاء الامر بالشيء النهى عن ضدّه وتنقيح الكلام فيه يستدعى رسم مقدّمات :

الاولى ـ النسبة بين هذه المسألة وسابقتها الّتى هى مسئلة مقدمة الواجب على الظاهر عموم من وجه ، يعنى انّ المثبت فى كل من المسألتين يمكن ان يكون مثبتا فى الاخرى ونافيا.

امّا المثبت فى المسألة السابقة فان اعترف بكون ترك الضدّ مقدّمة لفعل ضدّه ، ثمّ اعترف بوجوب المقدّمات العدمية نحو المقدمات الوجودية فهو

__________________

(١) ـ انظر : مطارح الانظار : ص ١٠٣ وبعدها وقارن حيث قدم مقرر بحثه هذه المسألة على مسئلة اجتماع الامر والنهى وهذا خلاف منهج عامة الاصوليين امّا مقالة المطارح بقيت ناقصا ولتمام التقرير الحق الناسخ هذه الفائدة عينا ونسبها فى الحاشية الى بعض اساطين تلاميذ المصنف وهى مما اعتمدنا عليها فى تحقيق هذه الفائدة.

٣٥٣

مثبت فى المسألتين ، وان لم يعترف بشيء من الامرين ، او باحدهما كان مثبتا هناك ونافيا هنا.

وامّا المثبت فى هذه المسألة وان كان وجه الاثبات عنده كون ترك احد الضدّين مقدمة لفعل الآخر كان مثبتا فى المقامين.

وان كان وجه دعوى عينية ترك احدهما لفعل الآخر وبالعكس ، يمكن ان يكون نافيا فى تلك المسألة ومثبتا فى هذه ، وهكذا الكلام فى الثانى فان نفى الوجوب او الاقتضاء يمكن ان يجتمع مع النفى فى الآخر ومع الاثبات بعين ما ذكر.

وحينئذ فعلى تقدير كون ترك الضد مقدّمة لفعل الآخر يكون هذه المسألة فردا من افراد المسألة السابقة وشعبة من شعبها ، لكن لما كان ظاهر عناوينهم فى المسألة السابقة اختصاص البحث بالمقدّمات الوجودية ، انفردت هذه المسألة عنها فى الذكر والعنوان ، مضافا الى ما فى مقدّمية ترك الضد من البحث والنظر المقتضى لعقد باب مستقل لها ، فاذا لا بأس فى تحقيق هذا المقام يعنى كون ترك الضد مقدّمة لفعل الآخر وعدمه ثمّ الخوض فى اصل المرام.

٣٥٤

[المقدمة الاولى فى تحقيق فى كون ترك الضدّ مقدمة لفعل الآخر وعدمه]

فنقول وبالله الاستعانة وعليه الاعتماد ، قد اختلف العلماء فى توقف فعل الضد على ترك الآخر وبالعكس على اقوال.

فعن البهائى والكاظمى وسلطان العلماء : نفى التوقف مطلقا ، وبه قال السبزوارى فى الرسالة ـ على ما حكى عنه ـ سيجيء نقل عبارتها بعينها.

وذهب الحاجبى والعضدى الى التوقّف من الطرفين ، حيث انّهما ذكرا شبهة الكعبى الآتية ـ إن شاء الله ـ واجابا عنها : «بمنع وجوب المقدّمة» وهذا اعتراف صريح «بكون فعل الاضداد مقدمة لترك الآخر المحرم» ثم لمّا جاءا فى البحث عن اقتضاء الامر بالشيء النهى عن ضدّه وعدمه اجابا عن الدليل المعروف ـ الآتى ذكره إن شاء الله ـ «بمنع وجوب المقدّمة» وهذا ايضا اعتراف ثان بان ترك احد الضدّين مقدّمة للآخر والمشهور بين المتاخرين من اصحابنا على ما قيل : والمتاخرين عنهم كصاحبى القوانين والفصول وبعض المحققين فى حاشيته على المعالم : اثبات التوقف من طرف الوجود دون العدم ، فقالوا بكون الترك مقدّمة للفعل دون العكس ، حذرا من شبهة الكعبى المبتنية على توقف الترك على الفعل.

فالمذاهب ـ مع مذهب الكعبى القائل : «بكون الفعل مقدمة للترك»

٣٥٥

اربعة.

ويلوح من المحقق الخوانسارى تفصيل آخر وهو توقف وجود الضدّ المعدوم على رفع الضدّ الموجود وعدم توقّف رفعه على وجود الآخر.

حجّة الاولين يظهر من جواب حجّة المشهور ، وحجتهم على كون ترك الضد مقدمة للفعل :

انّ اجتماع كل منهما مع الآخر محال للمضادّة ، فيكون وجود كل منهما مانعا عن حصول الآخر وعدم المانع من جملة المقدمات.

واورد عليه بوجوه :

منها : دعوى المقارنة الاتّفاقية بين وجود احد الضدّين وعدم الآخر من [دون] توقف الوجود على العدم لمنع وجود كل منهما مانعا عن وجود الآخر ، لانّ مجرّد استحالة اجتماع الضد مع الضد الآخر لا يقتضى بكونه مانعا منه ليكون عدمه مقدمة لفعله اذ الامور اللازمة للموانع مما يستحيل اجتماعها مع الممنوع ، مع انّ وجودها ليس مانعا ولا عدمها من المقدمات.

ومنها : انّ من المعلوم بالوجدان انّه اذا حصل ارادة المامور به وانتفى الصارف عنه حصل هناك امران فعل المامور به وترك ضدّه ، فيكونان اذا معلولى علّة واحدة ، فلا وجه لجعل ترك الضدّ من مقدّمات فعل الآخر ، وذلك مثل السبب الباعث على حصول احد النقيضين فانّه هو الباعث على رفع الآخر من غير ترتّب وتوقف بينهما جدّا.

٣٥٦

ومنها : انّه لو كان ترك الضد مقدّمة لفعل ضدّه لزم الدور فانّ مقدميّة الترك للفعل مبتنية على كون وجود احدهما مانعا عن وجود الآخر كما تقرّر فى تقرير الحجّة والتزام المانعية من طرف يقتضى المانعية من الطرفين لاستواء النسبة فى المضادّة.

فكما انّ ترك المانع من مقدّمات حصول الفعل فكذا وجود المانع سبب لارتفاع الفعل ، فيكون فعل الضدّ مثلا موقوفا على ترك الضدّ توقف الشيء على عدم مانعة ، وترك الفعل موقوفا على فعل ضدّه لكونه سببا لذلك الترك ، وتوقّف المسبّب على سببه اولى من توقف الشيء على عدم مانعة الذى هو الشرط.

ومنها : انّه لو كان كذلك ، لزم صحة قول الكعبى بانتفاء المباح على القول بوجوب جميع المقدمات ـ كما هو المشهور المنصور ـ والملازمة قد اتّضحت من بيان الملازمة المتقدمة ، اذ على تقدير كون فعل الضدّ من مقدمات ترك الآخر يكون فعل المباحات لترك الاضداد المحرّمة واجبا.

وهذه الايرادات الاربعة ذكرها الشيخ فى حاشيته على المعالم وتصدّى لجواب بعضها بما يرجع الى كلام المحقّق الخوانسارى فى جواب كلام السبزوارى وستعرفها ، والوجهان الاخيران جوابان عن الدليل المزبور على سبيل النقض وهما دليلان على القول بعدم التوقّف ، كما انّ الوجهين الاولين : اولهما منع لدعوى التمانع وثانيهما دعاء قضاء الوجدان بعدم التوقف ، فهو حينئذ دليل بعضها (١) على عدم التوقّف.

__________________

(١) ـ فى مطارح الانظار : دليل ايضا على عدم. ص ١٠٨.

٣٥٧

ومنها : ما ذكره السبزوارى ـ فى الرسالة المعمولة فى البحث عن وجوب المقدمة حيث استدل للنافى على عدم وجوبها بانها : «لو وجبت لزم صحة قول الكعبى يعنى ما ذكر آنفا» واجاب «ره» عنها بما اجاب وقال فى جملة كلامه ما لفظه : «ثم فى جعل الاضداد مانعا عن حصول الحرام نظر ، اذ لو كان كذلك كانت المانعية من الطرفين لاستواء النسبة ، فاذا كانت الصلاة مثلا مانعة من الزنا كان الزنا ايضا مانعا منها وحينئذ كان الزناء موقوفا على عدم الصلاة فيكون وجود الصلاة علة لعدم الزناء ، والحال انّ عدم الزناء علّة لوجود الصلاة. لانّ رفع الموانع (١) علة لوجوده فيلزم ان يكون العلية من الطرفين وهذا خلف انتهى».

وهذا الايراد على مانعية الضدّ قريب من الدور المزبور ، الّا ان المأخوذ فى هذا الايراد كون عدم المانع ايضا علّة وانّ جهة التوقف من الطرفين هى العلية والماخوذ فى تقرير الدوران عدم المانع شرط ، وانّ جهة التوقف فى احد الطرفين على نحو الاشتراط كما فى توقف فعل الضدّ على ترك الآخر وفى الطرف الآخر على جهة العليّة ، كما فى توقف تركه على فعل الآخر توقف الشيء على علّته وسببه.

واجاب عنه المحقق الخوانسارى بقوله : «وامّا ثانيا فلان قوله (فيكون وجود الصلاة علّة لعدم الزنا) ان اراد انّه يتوقف عليه ولا يحصل بدونه فهو باطل ، لانّ عدم الشيء انّما يحصل بعدم علته التامّة ، فوجود الزنا اذا كان علته

__________________

(١) ـ فى الرسالة للسبزوارى : ... مانع الشيء من علل وجوده. النسخة المخطوطة رقم ٢٧٦١ فى مكتبة مجلس.

٣٥٨

التامّة مجموعة (١) يكون احد اجزائها (٢) عدم المانع الّذي هو الصلاة ، فعدمه انّما يحصل بعدم ذلك المجموع وعدم المركب انما يحصل بعدم احد اجزائه ولا يتوقف على خصوص عدم المانع اى وجود الصلاة ، وان اراد به انه اذا فرض ان جميع اجزاء العلّة للزنا ، حاصل سوى عدم الصلاة ، فحينئذ عدم الزنا موقوف على وجود الصلاة ، ووجود الصلاة موقوف على عدم الزنا ، فيلزم الدور.

ففيه انه يجوز ان يكون هذا الفرض محالا وامتناع صلاحية علية الشيء لعلّته على تقدير محال ممنوع» انتهى كلامه رفع مقامه.

وخلاصة معناه : ان المحال انما يلزم على تقدير علّية وجود احد الضدين لعدم الآخر ، وهذا امّا غير لازم او غير جائز.

بيانه : انّ عدم احد الضدين قد يكون باعتبار انتفاء شيء من اجزاء علّة الوجود او شروطه ، وحينئذ لا يكون العدم معلولا لوجود الضد الآخر المفروض كونه مانعا.

وقد يكون باعتبار وجود الضدّ ومن جهته ، وذلك انّما يكون اذا كان اجزاء علّة الوجود وشرائطه مجتمعة ، إلّا عدم المانع الّذي هو وجود الضدّ الآخر ، فحينئذ يستند عدم الضدّ الى وجود ضده ويكون معلولا منه ، ولكن هذا الفرض مما يمكن دعوى استحالته فالدور المحال غير وارد.

وقوله «وامتناع صلاحية علية الشيء لعلته على تقدير محال ممنوع» كانّه

__________________

(١) ـ فى الرسالة المطبوعة للخوانسارى : مجموع

(٢) ـ فى المصدر : اجزائه ، الطبعة الحجرية ١٣١٦ ه‍ صص ٢٠٤ ـ ٢٠٥

٣٥٩

دفع لإيراد متوهّم وهو : «انّ جعل الاضداد مانعا حينئذ يكون محالا لانّه موقوف على فرض محال ، وهو اجتماع وجود احد الضدين مع اجزاء علية وجود الآخر وشرائطه عدى عدم المانع.

ووجه الدفع انّه ليس ابطالا لمانعية الضد وكونه علّة عدم الآخر ، وانّما هو تعليق للمانعية على فرض وهذا لا يمنع اصل التمانع بعد ذلك العرض ، مثلا اذا قيل :

(لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللهُ لَفَسَدَتا)» [الانبياء : ٢١] فذلك ليس نفيا للفساد على تقدير وجود آلهة ، بل انّما [هو] بيان للملازمة بين امرين وان كان الملزوم محالا ، فانّ استحالة المقدّم لا يوجب كذب القضية الشرطية. وحينئذ فللقائل بالتمانع بين الاضداد اثبات المانعية على فرض ، وان كان هذا الفرض محالا.

وانت خبير بانّ هذا الكلام ، وان كان يندفع به الدور الّا انّه ينتفى التوقف رأسا ، فلا يكون ترك احدهما مقدّمة لفعل الآخر ايضا فضلا عن كون الفعل مقدمة للترك ، لانّ توقّف فعل الضد على ترك الآخر انّما جاء من جهة كون الضدّ مانعا وعلّة لعدم الآخر ، وكون عدم المانع من الشرائط كما قرر فى الاستدلال.

وبعد ان قلنا باستحالة كونه مانعا نظرا الى استحالة اجتماع وجود احدهما مع مقتضى الآخر ـ كما يقوله (ره) ـ فمن اين يجيء توقف فعل احدهما على ترك الآخر ، ومن اين ثبت المقدّمية على ان قوله و (يجوز ان يكون هذا الفرض محالا) غير واضح الدليل.

٣٦٠