الفوائد الأصوليّة

الشيخ مرتضى الأنصاري

الفوائد الأصوليّة

المؤلف:

الشيخ مرتضى الأنصاري


المحقق: حسن المراغي « غفارپور »
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: شمس تبريزي
المطبعة: ايران يكتا
الطبعة: ١
ISBN: 969-94215-0-5
الصفحات: ٧٧٠

لاحراز عدم العداوة للزوم الدور ولو ينهض لنهض اصالة عدم التخصيص بغير المتقين فيما نحن فيه ، اى فيما اذا علم خروج بعض الافراد لاحراز اتّصاف الفرد المشكوك بالوصف العنوانى للمخصص.

قلت : عند الشك فى ثبوت اصل العدوّ فى الجيران لا نسلم كون وصف عدم العداوة ماخوذا فى الحكم ، غاية الامران العداوة مأخوذة فى موضوع الحكم المضادّ لحكم العام.

فان قلت : ندعى مثله فيما نحن فيه.

قلت : الموضوع للحكم الخاص فيما نحن [فيه هو] «العالم الفاسق» ويلزمه ان مطلق العام ليس موضوعا لحكم العام لتكاذب القضيتين ، فلا بد ان يكون الموضوع «العالم الغير الفاسق.»

٥٢١

[فائدة ١٥]

بسم الله الرحمن الرحيم

فى عدم جواز التمسّك بالعامّ قبل الفحص عن المخصّص

الاكثر على عدم جواز التمسّك بالعامّ قبل الفحص عن المخصّص ، بل حكى عليه الاجماع عن الحاجبى وظاهر موضع من التهذيب (١) ، وقيل بالجواز.

واستدل (٢) للاولين : «بانّ علمنا اجمالا بوجود المخصّص لاكثر العمومات الّتى بلغت الينا ، ـ كما يشهد به ادنى تتّبع مع شيوع حكايته واستفاضة نقله من المتتبّعين ـ يوجب عدم الوثوق بعموم عامّ نصادفه بمجرد عدم مصادفة المخصّص معه ، اذ يتساوى [حينئذ] عندنا احتمال كونه من العمومات المخصّصة ، واحتمال كونه من غيرها ان لم يترجح الاوّل بالنظر الى الغلبة المذكورة.

ولا دليل على حجيّة تلك العمومات مطلقا حتى عند عدم البحث و

__________________

(١) ـ قارن : بما ورد فى مطارح الانظار : ص ١٩٧ وبعدها ـ نهاية الوصول ... : الجزء الاول ـ البحث السادس المخطوط : للعلامة الحلى.

(٢) ـ هو صاحب الفصول : ص ٢٠١

٥٢٢

عدم الوثوق بعمومها ، لعدم مساعدة الاجماع والعقل على ذلك وهذا ظاهر ، وكذلك الكتاب والسنّة اذ ليس فيهما ما يقتضى حجيّتها [حينئذ] كما سنشير الى البعض ، وامّا بعد التّتبع المورث للظنّ بالعدم فيتّجه التعويل عليه ، اذ لو اعتبرنا العلم بذلك لزم العسر والحرج المنفيان فى الشريعة [السمحة] ، وتفويت الوقت فى قليل من المسائل ، وطرح اكثر العمومات لعدم التمكن من تحصيل العلم لعدم التخصيص فيها.

وهذا الدليل يجرى بعينه فى سائر الادلّة الظّنية ، سواء كان ظنّيتها من حيث [السند] كخبر الواحد او من حيث المتن كالامر والنهى والمطلق وغيرها من الظواهر اللفظية.» (١)

اقول : [اوّلا] مقتضى العلم الاجمالى بوجود المخصّص لاكثر العمومات سقوط الاحتجاج بها ، اذ تصير حينئذ بمنزلة العامّ المخصّص بالمجمل.

وقضية ذلك وجوب الرجوع فى مواردها الى الاصول ، غير ان العمل بالاصول لما كان مستلزما للمحذور وجب الرجوع الى العمل بالظن ، فهذا يوجب العمل بالظن لا بمداليل الكتاب والسنة من باب الظن الخاص ، فالاستدلال بهذا ممن يرى وجوب العمل بظاهر الكتاب والسنة من باب الظن الخاص مشكل.

والقول بان العلم بعدم وجود المخصص فيما بايدينا من الادلة الخاصة لما كان متعذرا وجب الاكتفاء بظن عدمه للحرج المنفى ، انما يستقيم اذا ثبت وجوب العمل بهذه العمومات مع طروّ الاجمال.

__________________

(١) ـ الفصول : ص ٢٠٢

٥٢٣

لكنّ وجوب العمل بها مع هذا الفرض ليس الّا للعلم ببقاء التكليف بمضامينها ، وحيث تعذّر تشخيصها على وجه العلم اقتصر على الظن ، وهذا يوجب العمل بمطلق الظن ، فانّا اذا ظننا من جهة الشهرة او غيرها من الظنون ان قوله : «اكرم العلماء» اريد به ما عدا زيد العالم ، كان هذا تشخيصا لمضمون العام بالظن ، فلا يجوز حينئذ «اكرام زيد» وان بجد فيما بايدينا من الادلّة المعتبرة ما يدل على التخصيص.

فان قلت : المعلوم وجود المخصّص لاكثر العمومات فيما بايدينا من الادلّة المعتبرة لا وجود المخصّص مطلقا ، والقدر المعلوم ايضا وجوب العمل بمجموع المضامين الّتى تضمنها لعمومات منضمّة الى ما ورد فى تلك الواقعة من الادلّة المعتبرة التى بايدينا.

فلا بدّ من الفحص فيما بايدينا من الادلّة وجمع بعضها مع بعض ، ولا اعتبار بظنّ وجود المخصّص من امارة لم يعلم اعتبارها ، فاذا ظننا عدم المخصّص فيما بايدينا كفى لتعسّر العلم.

قلت : العمل بمضمون ما بايدينا من الادلة انّما هو من حيث تضمنها الاحكام الواقعية فهى المكلف بها حقيقة ، فاذا دلّ شيء مما بايدينا على حكم واقعى دلالة علمية او ظنية معتبرة اخذ به واذا فرض الاجمال فى دليل منها سقط عن الاعتبار ، وكان وجوده كعدمه ، فلا بد من التماس الحكم من دليل آخر وان لم يوجد فمن الاصول وان لزم من العمل بها محذور تعين الرجوع فيه الى الظن.

فان قلت : انّ العلم الاجمالى بوجود المخصص لاكثر العمومات لا

٥٢٤

يسقطها عن الحجية من حيث كونها بمنزلة العام المخصص بالمجمل ، وانما يسقطها من حيث ان العمل باصالة العموم من جهة الظن بعدم المخصّص ، ومع العلم الاجمالى يرتفع الظن ، فلا بد من تحصيله بالفحص.

وبالجملة فرق بين سقوط الظاهر عن الحجيّة من جهة طروّ الاجمال عليه ، وبين سقوطه من حيث وهنه وعدم حصول الظن منه ، ويكفى فى الثانى حصول المظنّة ، ولا يكفى فى الاوّل الّا العلم او الظنّ المعتبر بتشخيص احد الاحتمالين ، او القول بحجية مطلق الظن فافهم.

قلت : انّ اصالة الحقيقة لا يجرى فيما نحن فيه من العمومات الّتي يعلم بتخصّص بعضها اجمالا اذ لو جرى فى الكلام لزم طرح العلم الاجمالى بالمخصّص ، ولو جرى فى بعض دون بعض لزم الترجيح بلا مرجّح ، فحكمه حكم المخصّص بالمجمل ، وان لم يكن فتعيين عدم طرد التخصيص فى بعضها يتوقف على حجيّة الظنّ.

وثانيا ـ سلّمنا انّ العلم الاجمالى ليس مانعا عن التمسّك باصالة العموم بل عدم العمل لاجل عدم شرطه وهو حصول الظنّ بعدم المخصّص ، لكن نقول : انّ الشرط فى العمل باصالة العموم هو الظن بعدم ورود المخصّص له من المتكلم او من فى حكمه رأسا لا الظنّ بعدم وجود المخصّص فيما بايدينا من الكلمات الصادرة عن المولى الّتى لا انضباط لها فى الازمنة من جهة تفاوت دواعى الظهور والاختفاء فى الكثرة والقلّة ، الّا ان يدعى انّ الظن بعدم وجوده فيما بايدينا اليوم ملازم للظن بعدم وروده من المتكلّم رأسا.

لكن يدفعه مضافا الى انّه قد لا يحصل الظنّ بعدم وجوده رأسا ، لوجود

٥٢٥

امارة غير معلومة الاعتبار كاشفة عن مخصّص مختف علينا.

انّ الثابت من الادلّة اعتبار الاصول لا بشرط الظنّ لاستقراء السيرة على ذلك فى باب الاستفادة.

والتحقيق : بناء على عدم اعتبار الظن المطلق والاقتصار على الظن الخاصّ ، انّ المعلوم علينا التكليف الفعلى فى كلّ مسئلة ورد فيها كلام من الشارع ، وفى جملة ما وصل الينا من كلماته وصولا علميا او ظنيا بالظن المعلوم اعتباره.

فاذا اردنا حكم مسئلة فيجب علينا مراجعة ما وصل الينا ، فان لم نجده بعد الفحص التام سقط التكليف الفعلى به عنا ، ورجعنا الى ما يقتضيه القواعد العقلية والنقلية الممهدة لحكم ما لم يوجد دليل على حكمه ، واذا وجدنا دليلا على ذلك الحكم ، فان افاد العلم فهو ، ولا معنى للفحص حينئذ وان فقد العلم بالحكم امّا من جهة ظنية صدوره واحتمال عدم صدوره ولو مرجوحا ، او من جهة احتمال عدم ارادة ظاهره ، واحتمال ارادة خلافه.

وامّا من جهة احتمال صدوره تقية ولم يحصل اليأس بفقد ما يعين هذه الاحتمالات فى سائر كلمات الشارع التى وصلت الينا جملة ، فلا يجوز الاقتصار على ذلك الدليل الظنى مع هذا الاحتمال.

اذ كما انّه واجب العمل فكذلك الكلام الآخر الوارد فى حكم هذه المسألة التى يفرض وجوده فى جملة ما بايدينا من كلمات الشارع واجب العمل فلا بدّ من جمع الكلامين والاخذ بما يظن به بعد ملاحظة كليهما ، ونفى احتمال ورود كلام آخر فى هذه المسألة باصالة عدم نظير نفى احتمال اصل

٥٢٦

وجود كلام للشارع فى هذه المسألة فى جملة ما بايدينا من كلماته.

فالمانع عن التمسك بالاصل فى اوّل الامر هو الداعى الى الفحص عن مجموع ما وصل الينا لاستنباط حكم هذه المسألة.

وبعبارة اخرى لا فرق بين ما اردنا حكم مسئلة واجرينا الاصول فيها اوّلا من دون فحص اصلا ، وبينما اذا تفحّصنا كتاب من لا يحضره الفقيه فلم نجد فيه كلاما للشارع فى هذه المسألة واحتملنا وجوده فى التهذيب ، وبينما اذا وجدنا فى الفقيه دليلا واحتملنا وجود خلافه فى التهذيب ، فكما لا يجوز التمسك بالاصل فى الاولين ، فكذلك فى الثالث.

والفرق بينهما بمجرد انّ المرجع فى الاولين هو الاصل العملى الذى يكون الرجوع اليه وظيفة العاجز عن ادراك الحكم الواقعى ، وفى الثالث هو الاصل اللفظى الذى لا يختص بالعاجز عن استكشاف المراد الواقعى من الكلام ، فيجوز العمل به قبل الفحص كما يشهد به اتفاق الناس على عدم وجوب الفحص على المخاطب القادر على استكشاف مراد المتكلم اذا كان للكلام ظاهر.

مدفوع : بان ذلك انّما هو فيما اذا فرض كون وظيفة المخاطب العمل بهذا الكلام بالخصوص ، وامّا اذا كان وظيفته والواجب عليه استنباط المطلب من مجموع ما وصل اليه فى هذه المسألة فالمجموع بمنزلة كلام طويل لا يجوز الاقتصار فى استنباط المراد على اوّله.

كما انّ العقلاء يجوزون عدم الاقتصار على ملاحظة كلام واحد صدر من المتكلم فى بيان حكم ، كذلك يوجبون عليه فيما نحن فيه مراجعة كلما

٥٢٧

ورد من الشارع فى هذا الباب.

والحاصل : انّ كل كلام يلزم من ارادة المتكلم منه خلاف ظاهره قبح او غفلة ، بمعنى ان ترك القرينة ان كان عمدا كان قبيحا ، والّا كان غفلة منه.

فهذا الكلام لا يجب فيه الفحص وهو معتبر بالنسبة الى كل احد سواء كان ممن خوطب به ام لا ، وكل كلام لا يلزم من ارادة المتكلم خلاف ظاهره قبح او غفلة ، بل يحتمل قريبا ان يكون المتكلم قد اعتمد على المخاطب بالمخصّص ، او ذكر المخصّص فى آخر الكلام او اوّله ، وقد يقطع الكلام واقتصر الحاكى على حكاية بعضه ، فهذا الكلام مما لا كلام فى عدم جواز العمل به قبل الفحص عند العقلاء.

وانّما الكلام فى جواز العمل به بعد الفحص ولا يبعد عدم التزام الناس بالعمل به فى غير مقام التعبّد ، كما فى القصص والحكايات ، وبيان المطالب الغير المتعلّقة بعمل المكلّف خصوصا اذا لم يحصل من الفحص الظنّ بعدم ورود المخصّص بل كان غاية ما حصل منه الظن بعدم وجوده فيما بايدينا من كلمات المتكلّم.

نعم اذا ثبت التعبد بوجوب العمل بالكلام المذكور وامثاله والرجوع اليها فى استنباط التكاليف المعلومة اجمالا ـ كما فيما نحن فيه ـ حيث دلّ الدليل على وجوب الرجوع الى قول الله ـ تعالى ـ وقول حججه ـ صلوات الله عليهم اجمعين ـ كان طريق العمل به هو عدم المبادرة الى الاخذ بظاهر كل ما يوجد اولا فان ذلك موجب لنقض غرض الشارع من الامر بالعمل.

واذا فرضت نظير ذلك فى التكاليف العرفية بان فرضت ورود كلمات

٥٢٨

من المولى العرفى نظير ما ورد الينا من كلمات الشارع ، وجدت العقلاء مطبقين على الزام عبيد ذلك المولى على ما ذكرنا من الفحص بقدر الوسع ، فاذا حصل الظن بعدم الصارف عن الظاهر الذى رآه اولا مطلقا او عدم وجوده فيما يقدر على الوصول اليه ، وان احتمل وجوده فيما لا يقدر عليه كان هذا الظنّ منه حجّة فى باب الاطاعة والعمل بمراد الشارع لاجماع العلماء والعقلاء ، وهذا هو المراد بظنّ المجتهد الّذى قام على اعتبار [ه] الاجماع ويقول المجتهد كلما ادى اليه ظنّى فهو حكم الله فى حقّى وحقّ مقلدى.

فهذا ظن خاص ثبت التعبد به بعد ورود التعبد بالعمل بما فى ايدينا من الكتاب والسنّة ، وليس من قبيل الظنون اللفظية الثابت اعتبارها بالخصوص لحكم بناء اهل اللسان فى كل مورد وان لم يثبت التعبّد بوجوب العمل بالكلام الصادر هذا.

ولكن يرد على ما ذكر انّ الدليل حجيّة ظواهر الكتاب والسنّة ووجوب الرجوع اليها ليس إلّا ظهور تلك الظواهر فى مراد الشارع المقتضى لوجوب العمل بها ، حيث انّ كل كلام صدر من المولى وفهم منه شيء ولو بالظهور المعتبر عند العقلاء فى باب الاستفادة يجب العمل به بمقتضى وجوب اطاعة المولى ، لانّ تركه حينئذ يدخل فى عنوان المعصية.

والمفروض انّ ظواهر الكتاب والسنة على ما ذكرت لا يجوز العمل بها مع قطع النظر عن ورود التعبد بهما من الخارج ، فحجيّة ظهوراتهما متوقفة على ورود التعبد بوجوب العمل بهما فلا يكون وجوب العمل بهما من اجل

٥٢٩

ظهوراتها المقتضية للعمل وان كان هو الاجماع.

فالاجماع انّما دلّ على وجوب اطاعة الشارع والاطاعة انّما يتحقّق بعد تشخيص المراد ، والمفروض عدم معرفة المراد من هذه الظواهر بانفسها.

ولذلك اعترف سابقا بانّه لو وردت هذه الكلمات فى غير مقام التكليف ولم يحتج الى العمل بها لم يعمل بها بعد الفحص بقدر الوسع ، خصوصا اذا لم يحصل من الفحص ظنّ بالعدم.

وان كان الدليل هو بقاء التكليف بمؤدّيات الكتاب والسنّة فلا بدّ من تشخيصها ولا يخفى انّ التكليف بها ليس من حيث انها مؤدّيات الكتاب والسنّة من حيث انّها احكام واقعية فيجب العمل بكل ظنّ حصل بحكم الله الواقعى او بكل ما ظنّ انه مؤدّاهما ، فاذا ظنّ من الشهرة انّ معنى الآية او الرواية ذلك وجب العمل بها ولا يقول بهذا غير القائلين بمطلق الظن.

فتوجيه الاستدلال المذكور باحد وجهين :

احدهما ـ التزام انّ العمل بالاصول اللفظية فيما نحن فيه بعد الفحص من الظنون الخاصّة الّتى بناء العقلاء على العمل بها مع قطع النظر عن ورود التعبّد بوجوب العمل بالكتاب والسنة.

الثانى ـ انّ العلم الاجمالى المذكور وان اوجب الفحص الّا انّه لا يوجب سقوط الاصول عن الاعتبار.

بيان ذلك انّ القدر المعلوم من المخصّصات هو ما يحصل الاطلاع عليه والعلم به تفصيلا بعد الفحص والزائد على ذلك غير معلوم اصلا ، فالعمومات باسرها على قسمين :

٥٣٠

احدهما ـ ما يعلم كونه مخصصا بعد الفحص.

والثانى ـ ما لا يعلم فيه ذلك بعد الفحص ، فقبل الفحص لا يجوز العمل بالعام حيث لا يعلم كونه من القسم الثانى ، وبعد الفحص يجوز او يعلم كونه من قبيل الثانى فكما انّه اذا علمنا من اوّل الامر بعمومات معلوم التخصيص تفصيلا لم يقدح احتمال التخصيص فى غيرها.

فكذلك اذا علمنا من اوّل الامر بعمومات يعلم تخصصها بمجرد الفحص ، فلا يقدح احتمال التخصيص فى غيرها ، وحيث ان تلك العمومات التى يعلم تخصيصها بالفحص مشتبهة بغيرها قبل الفحص ، لم يجز العمل بعموم عامّ ، وحيث يتميز تلك العمومات عن غيرها بعد الفحص ، جاز العمل بما لم يعلم بالفحص تخصيصه.

ونظير الاصول اللفظية فى جريانها بعد الفحص ـ لا قبله ـ الاصول العملية كاصل البراءة ، فانّه لا يجوز التمسّك به ابتداء للعلم الاجمالى بثبوت التكاليف. (١)

وقد اجمعوا على انّه لا يقدح هذا العلم بعد الفحص مع ان بالفحص لا يتميّز مورد التكليف عن غيره تميزا علميا ولا ظنيا ، فليس الوجه فيه الّا انّ القدر المعلوم من موارد التكليف هو ما يمكن العلم به تفصيلا او الظنّ المعتبر به بعد الفحص ، وحيث لا يتميّز هذه الموارد عن غيرها قبل الفحص وجب الفحص للتميز. ولو فرضنا فى المقامين : عدم حصول العلم التفصيلى بعد الفحص ، بحيث لا يبقى لنا علم اجمالى بمخالفة الاصل بين الباقى ، لم يجز

__________________

(١) ـ يراجع : فرائد الاصول : ص ١٦٣ وبعدها ـ الطبعة الحجرية ـ سنة ١٣٢٠ ه

٥٣١

اجراء الاصل اللفظى ولا العملى بعد الفحص كما لا يجوز قبله.

فان قلت : الفرق بين الاصل اللفظى والعملى بانّ الفرق فى الثانى عين ما قبل الفحص وما بعده من جهة علمنا اجمالا بثبوت التكليف الفعلى المنجّز المقدور على العلم التفصيلى به فى جملة من الموارد ، فالشارع اراد منا بالفعل فعل كل واجب وترك كل محرم يمكن لنا الاطلاع عليه بالفحص ، مثل طومار مطوى امرنا بالعمل به فيجب الفحص عنه.

فاذا عجزنا فى مورد عن العلم بالتكليف فيه ، تبيّن لنا خروجه عن موارد التكليف الفعلى المنجّز لعدم القدرة على العلم به فتقبيح التكليف [المجهول].

وهذا بخلاف الاصول اللفظية فانّا نعلم اجمالا انّ كثيرا من مواردها غير باقية على ظاهرها ، وبالفحص وعدم وجدان المخصّص لا يتبيّن ولا يتميّز مورد البقاء على الظاهر عن غيره ، لان [العلم] الاجمالى الموجود قبله باق بعده.

قلت : اولا ـ انّ الوجه فى عدم جواز العمل بالاصل العملى قبل الفحص ليس العلم بالتكليف المنجّز الفعلى ، بل هو العلم بثبوت الاحكام الواقعية.

ولذا ذكرنا انّه لو فرضنا عدم العلم بعد التكليف المقدور على العلم به تفصيلا لم يجز التمسّك ايضا بالاصل.

وثانيا ـ انّ نظير هذا العلم الاجمالى موجود فى الاصول اللفظية ، فانّا نعلم انّ هناك مخصّصات يجب علينا تنجّز العمل بها ورفع اليد عن العمومات من اجلها ، ونقدر ايضا على معرفتها تفصيلا والزائد على هذه المخصّصات غير معلوم لنا اجمالا ولا تفصيلا ، فالغرض من الفحص معرفة عدم وجود المخصّص المكلّف بالعمل به تنجيزا.

٥٣٢

بسم الله الرحمن الرحيم

فائدة [١٦]

فى انّ التخيير بين الاقلّ والاكثر فى الامتثال لا يتصوّر اذا تعلّق الامر بالطبيعة

قد عرفت ان الامر بالطبيعة لا ينحل الى التخيير بين الاقل والاكثر فى الامتثال وان كان المطلوب منها هو احد الفردين على سبيل التخيير ، بمعنى : ان الاكثر مطلوب كما ان الاقل مطلوب ايضا ، لكن اذا حصل الاقل مع استجماع شرائط التكليف سقط التكليف ، ولا يبقى الطلب بعد ذلك.

فان العقل انما يحكم بالتخيير بين ما هو يمكن الامتثال فى ضمنه من الافراد والفرد الاكثر لا يمكن تحقق الامتثال فى ضمنه ، وفى حكم الامر بالطبيعة ما اذا امر بالاقل والاكثر على وجه التخيير.

فانه ان ثبت كون المراد فى كل منهما حقيقة مغايرة لحقيقة الآخر كان يامر تخييرا بصلاة ركعتين او اربع ركعات مع استحباب التسليم خرج عن مسئلة الاقل والاكثر لان الاقل حينئذ حقيقة مقابلة للاكثر ، وان كان مندرجا تحته صورة لكن فرض الكلام مع الاندراج الحقيقى ليصدق الاقل والاكثر.

وامّا ما يقال من ان التخيير بين الاقل والاكثر اذا ثبت فالظاهر منه بحكم العرف التخيير بين الاقل بشرط لا وبين الاكثر ، فان لم تقم قرينة توجب صرف

٥٣٣

هذا الظاهر فالتخيير صحيح وان كان المراد الاقل لا بشرط فيرتفع التخيير ـ فغير صحيح.

امّا اوّلا ـ فلان التخيير سواء كان عقليا ان شرعيا لا يتعقل الا بين الاقل بشرط لا والاكثر ، اذ الاقل لا بشرط مفهوم مساو للطبيعة ، فكيف يعقل التخيير بينه وبين الاكثر الذى هو قسيم منه فلا حاجة فى ذلك الى فهم العرف ، ولا يتصور قيام القرينة على خلافه.

فالكلام انما هو فى تصوير التخيير بين الاقل بشرط لا والاكثر.

وقد عرفت : ان العقلى منه غير ممكن بين الاقل والاكثر ، وامّا الشرعى فان ثبت مغايرة حقيقة الاقل للاكثر فلا كلام فيه ، لانه يخرج حينئذ عن الاقل والاكثر حقيقة ، ولا خلاف لاحد فى اتصاف جميع اجزاء الاكثر بالوجوب ، وله احكام أخر من وجوب التعيين بالنسبة وجواز العدول عن احدهما الى الآخر وعدمها.

ونحو ذلك وان لم يكن مغايرة حقيقة فاما ان يكون احدهما افضل ام لا ، والغالب ان الافضل هو الاكثر فان لم يكن احدهما افضل فالتخيير ايضا لغو غير متحقق فى الامتثال ، لان الاتيان بالاقل يوجب البراءة وسقوط طلب الامر.

ومجرد كون الاقل بشرط لا وبهذا الوصف لا يندرج فى الاكثر لا يرفع قبح التخيير من الامر ، لان مرجعه الى التخيير بين ايجاد الشيء وعدمه لا التخيير بين البدلين.

ومجرد التعبير بان الاقل بشرط مغاير فى الوجود للاكثر ومضادّ مع الاقل

٥٣٤

الموجود فى ضمنه ، لا يجدى ، فاذا اتى بالاقل فلا بد فى تحقق الامتثال ، اما من ضمّ قيد التجرد والانفراد اليه ، او ضم القدر الزائد اليه. وهذان الاعتباران لا يخرجان الاقل عن وصف الوجوب التعيينى ولا القدر الزائد عن اللغوية وعدم عروض حكم شرعى له.

وان كان الاكثر الذى ما وجب بالامر التخييرى الشرعى افضل فهو على وجهين :

احدهما ـ ان يكون افضليته لاتصاف القدر الزائد فى نفسه بالاستحباب فى ذلك الامر الوجوبى ، فيرجع الامر الى استحباب زيادة هذا الجزء.

وهذا الاشكال فى اتصاف الزائد بالاستحباب كالامر لسبع تكبيرات للافتتاح ، فان الستّ منها موصوف بالاستحباب اجماعا عن غير ما (١) يحكى عن والد المجلسى ، وكالامر بالصلاة مع التسليم بناء على استحباب التسليم.

والاوّل ـ اذ كان الواجب غير معين فى ضمن الاكثر بحيث يكون تعيينه الى المكلف.

والثانى ـ ان يكون افضليته راجعة الى مجموع الاكثر بحسب اقتضاء دلالة الدليل كما فى المسح بثلث اصابع وباصبع والتسبيحات الاربعة وذكر الركوع والسجود فالظاهر ايضا ، الحكم بالاستحباب الزائد لعدم ثبوت التخيير من حيث الوجوب فيحمل الامر بالاكثر على الاستحباب.

ويقال ان المراد من قوله : امسح بثلاث اصابع يعنى زد على مسمى المسح اصبعين.

هذا اذا ثبت اتحاد حقيقة الاقل مع ما فى ضمن الاكثر.

__________________

(١) ـ كذا فى الاصل.

٥٣٥

بسم الله الرحمن الرحيم

[فائدة ١٧]

فى معانى حرف النفى اذا دخل على فعل فى كلام الشارع

اذا دخل حرف النفى على فعل فى كلام الشارع فيراد منه احد امور :

الاوّل ـ نفى ذات الفعل كقولنا : «لا صلاة إلّا بطهور» بناء على كون الصلاة اسما للصحيحة.

الثانى ـ النهى عن ذلك الفعل كقوله تعالى : (فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدالَ) [البقرة ـ ١٩٧]

وقوله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ «لا ضرر ولا ضرار» على احد الاحتمالات وقوله : «لا طاعة لمخلوق فى معصية الخالق» وقوله «لا كلام والامام يخطب» و «لا غيبة للفاسق» على اضعف الاحتمالين.

الثالث : نفى الاثر كقوله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ «لا رضاع بعد فطام» و «لا تيمّم بعد احتلام» و «من القى جلباب الحياء فلا غيبة له»

الرابع ـ نفى الصحة : مثل قوله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلمه ـ «لا عتق إلّا ما اريد به وجه الله» و «لا بيع فيما لا يملك» و «لا صلاة الّا بفاتحة الكتاب» بناء على وضع الاسامى للاعم.

٥٣٦

وهذا المعنى اخص من السابق وليس كلما يترتب عليه الاثر يسمى صحيحا وغيره فاسدا.

فان الزنا يترتب عليه الحد والافطار يترتب عليه القضاء والكفارة والرضاع قبل الحولين يترتب عليه نشر الحرمة ووجوب الاجرة للوالدة المرضعة على الوالد ونحو ذلك ، ولا يسمى شيء من ذلك صحيحا.

الخامس ـ نفى الكمال بمعنى المزية نحو : لا صلاة لمن لم يرغم انفه فى الصلاة ، فان الصلاة الخالية عن الارغام غير كاملة بل باقية على حالها الاصلى من الثواب ونحو قوله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ «لا صدقة وذو رحم محتاج»

السادس ـ نفى التمام بمعنى النقص نحو قوله (ص) : «لا صلاة لحاقن».

السابع ـ نفى الوجوب كما فى قوله : «لا طاعة للمخلوق» الخبر على احد الاحتمالين وقوله : «لا هجرة بعد الفتح»

ثم ان مقتضى الحقيقة هو ارادة المعنى الاول ولو قام الدليل على عدمها دار الامر بين البواقى.

والاوّل منها وان كان اقرب فى اصل الجملة الخبرية المصروفة عن الاختيار ، لكن هنا لما لم يكن دليل على صرفه عن الاخبار دار الامر بين صرفه عن الاخبار وبين ان يراد من المحكوم عليه لعدم الوجود هى صفته ، اعنى صحته او تاثيره او كماله او تمامه على طريق التجوز فى المادة ، او يراد من نفيه نفى آثاره على طريق الاستعارة او يضمر الصفة اعنى التاثير او الصحة او الكمال او التمام.

والظاهر : ان ابقائه على خبريته والتصرف فيه باحد الوجوه الثلاثة : اولى واقرب عرفا فى المقام من وجوه لا تخفى ، وخير الامور الثلاثة : اوسطها لانه

٥٣٧

اقرب ايضا.

ثم اذا دار الامر بين نفى الامور المذكورة ـ اعنى نفى التأثير او الصحة او الكمال او التمام ، فالظاهر ان احد الاولين اولى من الاخيرين للاقربية العرفية لا الاعتبارية لعدم اعتبارها.

واذا دار الامر بينهما فان كان الفعل المنفى مما يتصف بالصحة فى لسان الشارع والمتشرعة ، كالعبادات والمعاملات بالمعنى الاخص ، فالاقرب عرفا نفى الصحة.

وان كان مما لا يتصف كان الاقرب نفى التأثير ، واذا دار الامر بين الاخيرين ، فالظاهر ان نفى التمام اقرب عرفا واعتبارا ، لانه اشبه بنفى الصحة.

ثم اذا حكمنا بنفى التأثير فالمنفى هى الآثار الشرعية لانها هى القابلة للنفى والاثبات شرعا.

وامّا الآثار العقلية او العادية فلا ينتفى بذلك إلّا ان يكون الآثار العقلية آثار الحكم جعلى من الشارع فى الفعل المنفى.

فمثل قوله : «لا صلاة» انما يحمل على نفى الصحة ، مع ان الصحة بمعنى موافقة الامر من اللوازم العقلية الغير القابلة للجعل ، كما مر فى موضعه من ان الصحة والفساد بمعنى موافقة الامر ومخالفته ، ليسا الا من الاحكام العقلية.

لكن لما كانت هاتان الصفتان من اللوازم العقلية لتعلق الامر وعدمه بذلك الفرد الصحيح او الفاسد ، فيرجع نفى صحة الفعل ـ اعنى الصلاة المجردة عن الفاتحة مثلا ـ الى نفى تعلق الامر به وكذا قوله : «لا عمل إلّا بنية» يدل على نفى الصحة لانه يرجع الى نفى تعلق الطلب الذى يتوقف عليه الاتّصاف بالصحة.

٥٣٨

[فائدة ١٨]

فى المجمل والمبيّن

اذا تعلق الحكم التكليفى بالاعيان : (١)

فان تبادر من الكلام نسبته الى فعل خاص يتعلق به كحليّة لحم الغنم المتبادر منها حليّة اكله ، وحرمة الشطرنج المتبادر [منها] حرمة اللعب به ، وكذا حرمة الغنى وحرمة المال يتبادر منها حرمة التصرف وامثال ذلك فلا كلام.

وان لم يتبادر منه شيء فهل يحكم باجماله بناء على قابلية الكلام لارادة بعض الامور وكلها ، فيتردد الامر بين ارادة البعض المردد بين الابعاض وبين الكل ، او يحكم بعمومه بناء على انه اذا تعلق التحريم بفعل متعلق به دون فعل آخر ويكون الفعل الآخر محللا فيصدق عليه ايضا انه ليس بحرام ، يعنى باعتبار هذا الفعل.

والمفهوم من قوله : «حرم الشيء الفلانى» كذب قولنا : «انه ليس بحرام» فيفيد العموم وجهان اقواهما الاخير وقد يستدل على العموم بالحكمة لان ارادة البعض دون البعض يوجب الاهمال المنافى لمقام البيان.

وفيه : انه صحيح لو علم وروده فى مقام البيان ومجرد غلبة البيان فى

__________________

(١) ـ انظر : مطارح الانظار : ص ٢٢٦ وبعدها وقارن.

٥٣٩

المقامات لا يوجب حمل ما ظاهره الاجمال على البيان.

ان ما ذكرنا من انه لو علم وروده فى مقام البيان يحمل على العموم كلام ظاهرى ايضا مبنى على المماشاة مع بعض القائلين بالبيان من جهة الحكمة والّا فاذا اثبتنا الامر على ان الكلام فى ذاته ـ اى بحسب دلالته الاصلية ـ مجمل قابل للتبعيض والكل ، فمجرد علمنا لوروده فى مقام البيان لا يوجب حمله على العموم ، اذ لو علمنا انه ورد فى مقام بيان العموم كان منشأ ذلك العلم هو الدليل على ارادة العموم.

وان علمنا انه ورد فى مقام البيان للمخاطب لكن لا ندرى انه وقع فى مقام بيان العموم او فى مقام بيان بعض الجهات ، فهذا عين الاجمال ولا ينفع فيه العلم لوروده مورد البيان.

فان قلت : انه اذا ورد هذا الكلام الى المخاطبين وعلم انه فى مقام البيان والمفروض انه لم يبين البعض ، كان ذلك دليلا على ارادة الكل فحمله على العموم من جهة مقام البيان انما هو للمخاطبين لان البيان لهم بالقرينة وبعد اختفائها عن غيرهم يحكم ذلك الغير بالبيان.

قلت : لا ريب فى ان تعويل المتكلم فى بيان كلامه المجمل لا ينبغى ان يكون على مجرد ايراده كلامه فى مقام البيان ، فان ايراده الكلام فى مقام البيان فرع نصب القرينة المبينة ، لان المفروض اجمال الكلام فى ذاته فكيف يكون هذا الذى لا يتحقق إلّا بعد نصب القرينة بنفسه قرينة ومبينا للكلام.

والحاصل : ان كون المقام مقام البيان لا ينفع فى حمل اللفظ المجمل المردد بين ارادة الكل والبعض الصالح لكل منها على العموم ، اذ لا يعلم انه

٥٤٠