الفوائد الأصوليّة

الشيخ مرتضى الأنصاري

الفوائد الأصوليّة

المؤلف:

الشيخ مرتضى الأنصاري


المحقق: حسن المراغي « غفارپور »
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: شمس تبريزي
المطبعة: ايران يكتا
الطبعة: ١
ISBN: 969-94215-0-5
الصفحات: ٧٧٠

غير الاعلم بل عن الرجوع الى غير المجتهد اعتذروا بان الشرع واحد وحكم الله لا يختلف.

وبالجملة فاستمرار السيرة على تقليد المفضول مع مخالفته للافضل ممنوع كما عن النهاية والعميدى بل ذكر فى المسالك : ان استفتاء الصحابة مع تفاوتهم فى الفضيلة لا يجرى على اصول اصحابنا انتهى.».

واما الحرج المدعى فان كان من جهة تشخيص مفهوم الاعلم فهو فاسد بالبديهة لوضوح معناه العرفى وليس له معنى شرعى ، ولو فرض كونه نظريا مختلفا فيه بين العلماء تعين الرجوع فيه الى فتوى من يحتمل اعلميته فان تساويا فى احتمال الاعلمية كان حكم المقلد التخيير فى الرجوع لانه فى هذه المسألة غير قادر على تحصيل فتوى الاعلم.

واما مصداقه فان حصل العلم فهو وان حصل الظن وجب اتباعه ولو من جهة عدم العلم بجواز تقليد غيره من ظن اعلميته واصالة عدم الاعلمية على تقدير جريانه غير مجد فى اثبات التخيير العقلى وكذا لو حصل احتمال الاعلمية فى احدهما ولو حصل فى كل منهما تعين التخيير فلا حرج فى تشخيص الاعلم لا مصداقا ولا مفهوما.

واما تحصيل فتاويه فان لم يتعسّر تعين وان تعسّر على وجه ينفيه ادلة نفى العسر لم يجب بل هو خارج عن محل النزاع.

فقد تحصل مما ذكرنا انه لا دليل على جواز العمل بقول غير الاعلم بحيث تسكن اليه النفس فى مقابل اصالة وجوب الاقتصار على المتيقن من الرجوع الى قول الغير من دون حجة على صدقه وصوابه.

٧٢١

هذا كله مع العلم بالاختلاف وان لم يعلم مخالفة الاعلم لغيره فالاصح جواز تقليد غيره وان كان ظاهر كلام جماعة تعيّن الاعلم فى هذه الصورة ايضا ، لكن استدلال كثير منهم على ذلك بقوة الظن فى جانب الاعلم يدل على اختصاصه بصورة المخالفة والظاهر اختصاص الاجماع المدعى بهذه الصورة واوضح من ذلك كله اختصاص المقبولة واخواتها بذلك بل ظاهر صدرها جواز الرجوع الى مطلق العالم بالاحكام كمشهورة ابى خديجة.

وبالجملة فالظاهران فتوى الفقيه حجة بالنسبة الى المقلد فان عارضتها حجة اخرى لزم اعمال المرجح ، وان لم يعلم له مرجح جاز العمل به لقيام المقتضى وعدم ثبوت المانع والفحص عن المعارض غير لازم كما يلزم على المجتهد فى العمل بالروايات للعلم الاجمالى فيها بغلبة المعارض (بل قلما يوجد خبر سليم عن معارض من خبر او غيره عام او خاص او مساو فيلزم من عدم الفحص عن المخصص الهرج والمرج).

ولا يلزم مثله فى فتاوى المجتهدين لتوافق المجتهدين الموجودين فى عصر فى اغلب المسائل وان كان الخلاف ايضا كثيرا لكن لا اعتبار به ما لم يصر من قبيل الشبهة المحصورة بالنسبة الى المقلد الواحد فيما يريد تقليد المجتهد فيها من المسائل ، وإلّا فمجرد العلم الاجمالى بتخالف المجتهدين فى بعض المسائل لا يقدح فى الرجوع الى اصالة عدم المعارض ولا يوجب الفحص عن المعارض على المقلد.

نعم ربما يدعى انه لا دليل على ان قول المجتهد فى نفسه حجة مطلقا ليكون اللازم التعارض فى فتوى الاعلم وغيره لم لا يكون الحجة هى فتوى

٧٢٢

الاعلم من الناس فى كل زمان من دون ان يكون فتوى غيره حجة وحينئذ فيجب الفحص عن فتوى الاعلم التى هى الحجة لا غير ، لكن الظاهر انه خلاف الظاهر المستفاد من الادلة.

ثم انه يمكن ان يتفرع على ما ذكرنا من حجية قول كل مجتهد إلّا ان يعلم له معارض كون جواز الترافع فى زمان الغيبة الى المفضول فى المسائل المتفق عليها بين العلماء مثل ان «البينة على المدعى واليمين على من انكر».

نعم فيما اذا كان منشأ الحكم مسئلة خلافية بين الاعلم وغيره تعين الرفع الى الاعلم بلا خلاف ممن عين تقليد الاعلم فى الفتوى وكذا القول فى ساير مناصب الحاكم كالتصرف فى مال الامام ـ عليه‌السلام ـ وتولى امور الايتام والغيّب ونحو ذلك فان الاعلمية لا يكون مرجحا فى مقام المنصبية وانما هو مع الاختلاف فى الفتوى فافهم واغتنم.

ثم ان ما ذكر كله لو علم بالاعلمية وشك فى الاختلاف ، ولو انعكس الامر : بان علم الاختلاف وشك فى اعلمية احدهما فالظاهر وجوب الفحص عن الاعلمية لان الفحص عن المرجح مع العلم بوجود المعارض لازم ويدل عليه جميع ما ذكرنا من الادلة الاربعة لتعيين الاعلم فى صورة الاعلم ، واوضح من ذلك فى لزوم الفحص ما علم باعلمية احدهما.

وعلى ما ذكرنا فلو تفحص ولم يحصل له تميز الاعلم او اعتقد باعلمية احدهما بعد الفحص او بدونه فقلد على طبق معتقده ثم تبين خطاؤه فهل يبطل تقليده السابق ووجب الرجوع عنه الى الاعلم ، وان قلنا بانه لو قلد غير الاعلم لعدم التمكن من الاعلم لم يجز الرجوع عنه الى الاعلم ام يصح ويبنى

٧٢٣

الرجوع على مسئلة الرجوع عن غير الاعلم اليه؟ وجهان.

ثم انه اذا قلد الاعلم جاز للاعلم افتائه بالرجوع الى غير الاعلم وجاز للمقلد العمل به ايضا.

وقد سمعنا بعض المعاصرين يمنع من ذلك ولا اذكر إلّا انه لم يذكر لذلك وجها يعتنى به ، فان الكلام ان كان فى جواز افتاء الاعلم بهذه الفتوى بعد اجتهاده فيها فلا وجه لمنعه ، وان كان فى صحة عمل المقلد بها فلا اشكال فى الصحة بعد جواز التقليد فيها واقعا وبعد علم المقلد بان هذه المسألة يجوز فيها التقليد وهذا الشرط لا يختص بهذه المسألة بل يجرى فى كل مسئلة يريد المقلد الرجوع فيها الى المجتهد.

اما جواز التقليد فيها واقعا فالظاهر أنه لا اشكال فيه وعدم وجوب الرجوع لا ينفى جوازه لعموم ادلة التقليد.

واما علم المقلدين بذلك فيكفى فيه ما هو مركوز فى اذهانهم من رجوع الجاهل الى العالم وجوبا او جوازا فى كل مسئلة إلّا ان يردعهم رادع عن ذلك فى بعض المسائل والمفروض ان جزمهم مطابق للواقع بالنسبة الى هذه المسألة.

٧٢٤

فى مناط الاعلميّة

ثم الظاهر ان المراد بالاعلم الاقوى ملكة لا الازيد معلوما كما يستعمل فيه هذا اللفظ احيانا لان الاول هو الاظهر عرفا مع انه المناسب لذكر الافقه فى بعض (اخبار) المسألة وقد ورد «انتم افقه الناس اذا عرفتم معانى كلامنا» (١) وهو مقتضى بناء العقلاء.

وما ذكروه من الاستدلال بقوة الظن ولو فرض قوة ملكة احدهما فى بعض المسائل كالعبادات وقوة ملكة الآخر فى الآخر فالاقرب التبعيض والتخيير ولو بعد (٢) دار الامر بين الظن بقول الاعلم والقطع بقول غيره فان كان الظن مما قام على حجيته دليل من اجماع او سيرة او غيرهما تعين الاخذ بفتوى الاعلم وان لم يكن له مستند خاص تعين تقليد غيره.

ويثبت الاعلمية بما يثبت به الاجتهاد والاحوط بل الاقوى هنا العمل بكل ظن لعدم استقلال (العقل) بالتخيير مع الظن ولو كان قول غير الاعلم مفيدا للظن بالواقع وقول الاعلم غير مفيد له ، ففى التعيين او التخيير وجوه :

ولو تساوى المجتهدان فى العلم واختلفا فى الورع فالظاهر ان المشهور تقديم الاورع بل حكى عليه المحقق الثانى الاجماع فى مسئلة تقليد الميت وقرنه بالاعلم فى دعوى الاجماع وهو الظاهر من المقبولة ويؤيده ما ورد فى انه لا يحل الفتيا الا لمن كان اتبع اهل زمانه برسول الله ـ صلى الله عليه و

__________________

(١) ـ وسائل الشيعة : ٨٤ / ١٨.

(٢) ـ الظاهر ان لفظ «بعد» زائد.

٧٢٥

آله ـ هذا كله مضافا الى الاصل السليم عن مصادمة الاطلاقات كما عرفت فى تقليد الاعلم فالقول به لا يخلو عن قوة.

ولو دار الامر بين الاعلم والاورع ففى ترجيح ايهما او التخيير اقوال وتقديم الاعلم لا يخلو عن قوة ، وكانه المشهور بل لم نجد القول بالاورع لعلمائنا ، نعم عن المنية انه حكاه عن قوم ولا ينافى ما ذكرنا من تقديم الاورع فى تعارض الروايات لان المعيار هناك رجحان الصدق وهنا رجحان الاستنباط.

الكلام فى المقلد فيه

واما الكلام فى المقلد فيه فالكلام تارة من حيث نوعه واخرى من حيث صنفه وثالثة من حيث شخصه.

واما الكلام من جهة نوعه فملخصه : انه لا اشكال فى صحة التقليد فى المسائل الفرعية حتى المسائل الكلية كمسائل التقليد ، كما لا اشكال فى عدم صحته فى الموضوعات الخارجية بناء على ان العمل بقول الغير فيها من البينة ونحوها ليس تقليدا مصطلحا ، وكذا مسائل اصول الفقه.

واما الموضوعات الاستنباطية فالتقليد فيها جائز من حيث ترتب الاحكام الفرعية عليها دون الاصولية ، فيجوز التقليد فى معنى الفاسق الواقع فى آية النبأ من حيث يترتب عليه حكم المخبر الفاسق والعادل فى الوقت والقبلة ولا يجوز من حيث يترتب عليه حكم خبر الواحد فى الاحكام لان

٧٢٦

العمل بالخبر فى القبلة والوقت مسئلة فرعية والعمل بخبر الواحد فى الاحكام مسئلة اصولية.

وكيف كان فلا اشكال فى شيء من ذلك وانما الخلاف والاشكال فى جواز التقليد فى اصول الدين فقيل بصحته والاكتفاء به وقيل بالمنع عنه ووجوب النظر واما القول بحرمة النظر فليس قولا بوجوب التقليد ، كما انه لا يراد منه حرمة النظر حتى بالنسبة الى من اعتقد خلاف الحق او تردد فيه بل الظاهر ان المراد منه ان كل من حصل الاعتقادات الحقة بطريق من الطرق تقليدا كان او بالنظر او بالفطرة او بما فرض كونه طريقا يحرم عليه الخوض فى ملاحظة صحتها وسقمها بالاستدلالات والبراهين.

احتج الموجبون للنظر بالآيات الدالة على ذم الكفار على التقليد وقولهم : (إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلى آثارِهِمْ مُقْتَدُونَ) (١) وبما دل على ايجاب العلم المتوقف على النظر مثل قوله ـ تعالى ـ (أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا اللهُ) وليس من خواصه ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ لو لم يكن من قبيل اياك بل هو منه وبالاخبار الدالة على ان الايمان هو ما استقر فى القلوب وما دل على ان المؤمن والكافر كليهما يجيبان فى القبر عن مسئلة الرب ـ جل ذكره ـ والنبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ والدين والامام.

ثم يقال للمؤمن من اين علمت ذلك؟ فيقول امر هدانى الله اليه وثبتنى عليه ، فيقال له نم نومة العروس فيفتح له (باب) من الجنّة فيدخل اليه روحها وريحانها ويقال للكافر من اين علمت ذلك فيقول : سمعت الناس يقولون

__________________

(١) ـ الزخرف : ٢٣

٧٢٧

فيضر بانه بمرزبة لو اجتمع عليه الثقلان لا يطيقونها فيذوب كما يذوب الرصاص (١) ، وبالاجماع على وجوب المعرفة بالعقائد ولا تحصل بالتقليد لانه لا يفيد العلم ، وباستقلال العقل بدفع الضرر المحتمل وازالة الخوف من حيث احتمال زوال الاعتقاد برجوع الغير عن ذلك الاعتقاد او رجوع المقلد عن الوثوق به او نهى الشارع عن الوثوق به وفى جميع هذه الوجوه انظار لا يخفى.

والذى ينبغى ان يقال : ان التقليد اما ان لا يفيد اعتقادا اصلا واما ان يفيد الظن واما ان يفيد الجزم فان لم يفد اعتقادا فلا اشكال بل لا خلاف فى عدم الاكتفاء لا من حيث تحقق الاسلام الموجب للحكم بالطهارة ولا فى اداء التكليف بتحصيل العقائد اذ الشاك كافر ووجوب تحصيل المعارف معناه الاعتقاد بها.

وربما يتوهم فى معنى صحة التقليد حينئذ وجوب العمل بالمسائل الفرعية المترتبة على هذا الاعتقاد.

وفيه : ان هذا ليس تقليدا فى اصول الدين وان افاد الظن ، فالظاهر ان لا فرق بين هذا الظن والظن الحاصل من النظر والاستدلال ، فان اقتصرنا فى العقائد على الظن فلا فرق بينهما وإلّا فكذلك ، وحيث ان الاقوى عدم اعتبار الظن فى اصول الدين لعدم الدليل على الاقتصار فيما يمكن فيه تحصيل العلم وعدم الدليل على ثبوت التكليف بتحصيل الاعتقاد فيما انسد فيه طريق العلم ،

__________________

(١) ـ جميع ما اورده المصنف مستند الى الاحاديث والاخبار التى وردت فى الصحاح يطول ذكرها.

٧٢٨

فاللازم عدم كفاية التقليد المفيد للظن.

وان افاد الجزم فان وصل الى الحق فالظاهر عدم وجوب النظر فى حقه لعدم الدليل على ذلك لان خوف زوال الجزم بزواله منشائه مشترك بين الحاصل من التقليد والحاصل من كثير من الانظار هذا من حيث نوع المسألة المقلد فيها.

واما من حيث صنفها فيعتبر فيها ان يكون غير معلومة للمكلف باى طريق من الطرق فلو علم بحقه قول المجتهد فلا تقليد وان علم ببطلانه فكذلك ، وان علم بخطائه فى دليله ففى صحة تقليده اشكال اقربه المنع.

ومما ذكرنا يعلم ان كثيرا من المسائل ليست تقليدية كاصل مسئلة جواز التقليد ووجوب تقليد الحى الاعلم ، وتعيين المقلد ـ بالفتح ـ من بين الاصولى والاختبارى ومسئلة جواز العمل المتجزّى بظنه الحاصل له من حيث العلم بحجيته واشباه ذلك.

واما من حيث شخص المسألة فملخصه انهم اتفقوا على ان المسألة التى عمل فيها عملا على طبق تقليد صحيح لا يجوز ان يقلده فيها مجتهدا آخر بالنسبة الى نفس العمل المتحقق سابقا ، وقد ادعى عليها الاجماع ، ومثل له بان يقلد مجتهدا فى جواز الوضوء بالمضاف فتوضأ وصلى به ثم رجع فى حكم تلك الصلاة الى مجتهد آخر وكذلك لو اوقع معاملة وعقدا او ايقاعا.

واما الاعمال المستقبلة ففى جواز العدول عن ذلك التقليد بالنسبة اليها قولان صريح المحقق والشهيد الثانيين فى «الجعفرية» و «المقاصد العلية»

٧٢٩

تبعا للمحكى عن «النهاية» الجواز ، وظاهر المحكى عن «التهذيب» وشروحه و «الذكرى» العدم ، وهو الاظهر لعدم دليل على حجية قول المجتهد الثانى فى المسألة التى قلد فيها عدا ما يتوهم من اطلاقات ادلة التقليد او استصحاب جواز تقليد المجتهد الثانى وكل ذلك لا يصلح مستندا للجواز لعدم اطلاق فى ادلة التقليد يشمل من قلد واستغنى عن الرجوع الى المجتهد.

اما الادلة اللفظية منها : كالآيات والروايات فهى على فرض دلالتها على اصل التقليد مسوقة لبيان حكم الجاهل المتحير المحتاج الذى لم يرجع الى احد كالامر بالرجوع الى الطبيب بل ربما يدعى ان فى بعضها دلالة على عدم جواز الرجوع الى غير من اخذ اولا بقوله لانه ردّ بقوله ولذا استدل به على عدم جواز نقض الحكم بفتوى غير الحاكم او حكمه فتأمل.

واما الادلة الغير اللفظية كالاجماع القولى والعملى وحكم العقل من جهة حاجة المكلف لانسداد باب العلم وكون فتوى المجتهد اقرب الامارات فاختصاصها بغير محل الكلام فى غاية الوضوح.

واما استصحاب التخيير فقد تقدم الكلام فى مثله مرارا وان الموضوع لحكم التخيير غير معلوم البقاء لاحتمال كون التخيير ثابتا فى حق من لم يؤخذ بعد بشيء منها وقد يستدل على المنع بوجوه :

احدها : استصحاب الحكم الماخوذ من المجتهد الاول للشك فى تاثير العدول والاخذ بالثانى فى زواله.

وفيه : انه ان بنينا على استصحاب الحكم الشرعى الكلى اذا شك فى مدخلية وصف فى الحكم كما هو المشهور بين القائلين باعتبار الاستصحاب

٧٣٠

فى الحكم الشرعى الكلى كان اللازم فى المقام التمسك باستصحاب التخيير السابق لانه حاكم على هذا الاستصحاب ودعوى رجحانه عليه من جهة اعتضاده بالشهرة او موافقته لقاعدة الاخذ بالمتيقن ، مدفوعة بمنع تحقق الشهرة ومنع نهوضها لترجيح احد الاستصحابين خصوصا المحكوم على الآخر الحاكم عليه.

واضعف منه ترجيحه عليه بقاعدة «الاخذ بالمتيقن» كما تقرر ذلك فى باب تعارض الاستصحابين.

الثانى : قاعدة الاشتغال فان تكليف المقلد فى الواقعة الثانية مردد بين تعلقه بالتقليد السابق وبين تعلقه باحد الامرين منه ومن تقليد المجتهد الثانى ومن المقرر وجوب الاحتياط عند دوران الامر بين التخيير واليقين.

وفيه : ان اصالة الاشتغال على تقدير تسليمها فى هذا المقام لا ينهض فى مقام استصحاب التخيير ، نعم لو كان هذا المستدلّ ممن وافقنا فى عدم جريان استصحاب التخيير كان الاستدلال باصالة الاشتغال حسنا فى خصوص هذا المقام وان لم نقل به فى مطلق دوران المكلف به بين التعيين والتخيير.

الثالث ـ الاجماع المنقول فقد حكى ادعائه عن المخالف والمؤالف ، وفيه ان هذه الدعوى لا اصل لها بعد ما عرفت من مخالفة المحقق والشهيد الثانيين والعلامة فى احد قوليه بل حكى عن المحقق قدس‌سره ـ ايضا.

الرابع ـ لزوم المخالفة القطعية فانا لو فرضنا انه قلد فى صلاة الظهر ـ من يقول بتعيين القصر فى اربعة فراسخ وفى صلاة العصر من قال بتعيين التمام فيقطع بعد الصلاتين بانه مطلوب فى الواقع باحدى الصلاتين فيجب عليه اما

٧٣١

فعلها احتياطا واما فعل واحدة مرددة.

وفيه انه ان اريد بذلك لزوم المخالفة القطعية فيما اذا بنى المقلد من اول الامر على تقليد احد المجتهدين فى الظهر وتقليد الآخر فى العصر فتسليم عدم جواز التبعيض بين الوقائع فى المسألة للزوم الاقدام على المخالفة القطعية لا يوجب عدم جواز العدول عن التقليد فى المسألة الكلية التى هى محل النزاع.

وان اريد لزومها فى مسئلة العدول حيث بنى من اول الامر على تقليد المجتهد الاول فى كلى المسألة وجميع وقائعها ، ثم بدا له وعدل عنه فى كلى المسألة ايضا فاوقع الواقعة الثانية على طبقه فلا دليل على تحريمها حيث انه لم يبن عليها من اول الامر بل قد يجب فيما اذا تعين عليه رفع اليد عن تقليده السابق لموت مجتهده او رجوعه او التمكن من الاعلم منه او نحو ذلك مما يوجب عدم جواز بقاء المقلد على تقليده.

الخامس ـ ان التقليد انما يتعلق بالمسألة الواحدة الكلية لان لها حكم واحد شرعى ولا دليل على صحة التبعيض فى التقليد بين افراد المسألة الواحدة كما اذا قلده فى اول الامر فى هذه الواقعة الخاصة من المسألة الكلية كان يقلده فى الوضوء بهذا الماء المضاف الخاص لان الثابت مشروعية التقليد فى حكم الله الكلى فى المسألة الكلية ، وحينئذ فاذا عدل المقلد عن تقليده بعد العمل فى واقعة واحدة من المسألة الكلية فاما ان يقلد المجتهد الثانى فى كلى المسألة او فى الوقائع الباقية ، لا دليل على الثانى لما عرفت ولا على الاول لان تقليده فى كلى المسألة او فى الوقائع الباقية ، لا دليل على الثانى لما عرفت ولا على الاول لان تقليده فى كلى المسألة يوجب نقض

٧٣٢

آثار الواقعة السابقة.

وفيه : اولا ـ انه لا دليل على عدم تبعض التقليد فان الجاهل كلما شك فى واقعة لم يجب عليه الا الرجوع الى المجتهد فى خصوص تلك الواقعة من دون اعتبار انه يقلده فى الواقعة الاخرى او لا يقلده بل الواقعة قبل ابتلاء المكلف بها وتعين العمل فيها على وجه خاص لا دليل على تاثير التقليد فيها ولا على شرعيته لان المشروعية فرع الامر والمفروض ان الامر بالتقليد من باب المقدمة للعمل فلا امر به قبل الامر بالعمل فتأمل.

وثانيا ـ انا سلمنا انه لا يصح التبعيض فى التقليد لكن رفع اليد عن التقليد الاول والتزام تقليد المجتهد الثانى فى المسألة الكلية لا يوجب نقض آثار الواقعة السابقة لعدم الملازمة ، اما لان اصل التقليد فى كلى المسألة لا يوجب نقض آثار الواقعة السابقة ، وان كان لاجل التعبد شرعا لتخطئة الحكم السابق كما فى صورة رجوع المجتهد عن اجتهاده على القول بان رجوعه لا يوجب نقض آثار الحكم السابق ، واما لانعقاد الاجماع على عدم تأثير التقليد الثانى فى المسألة الكلية بالنسبة الى بعض افرادها وهى الوقائع الماضية وهذا هو الاظهر فى دفع الملازمة المتوهمة.

وحاصله : ان المجوز هو الرجوع الى المجتهد الثانى فى المسألة الكلية لكن الشارع لم يعتبر هذا التقليد إلّا بالنسبة الى الوقائع المتجدّدة واعتبار التقليد فى المسألة الكلية فى بعض الوقائع دون بعض غير ممتنع.

ومنه يعلم ان الرجوع فى موارد وجوبه كصورة موت المجتهد ووجود الاعلم من اول الامر لا يوجب نقض آثار الوقائع السابقة ، بل منه يظهر ان المجتهد اذا رجع عن فتواه ووجب على المقلد لاجل ذلك رفع اليد عن

٧٣٣

تلك الفتوى والرجوع الى المجتهد الاول فى فتواه اللاحقة او الى مجتهد آخر لم ينتقض بذلك آثار الوقائع السابقة لان حجية قول المجتهد الثانى انما هو بالنسبة الى الوقائع المتجدّدة دون السابقة فتأمل ، فان التبعيض فى اعتبار قول المفتى اذا كان امرا ممكنا غير ممتنع وكان التبعيض هو المتيقن من اعتبار التقليد عند الشك فى كون اعتباره كلية او بالنسبة الى الوقائع المتجدّدة جرى مثل ذلك فى المجتهد اذا رجع عن فتواه ، فيقال ان ظنية اللاحق انما هو حجة بالنسبة الى الوقائع المتجدّدة فلا ينتقض آثار الوقائع الماضية.

وبالجملة : فامكان التفكيك فى حجية فتوى المجتهد بين الوقائع بالنسبة الى المقلد يوجب ذلك بالنسبة الى ظن المجتهد بخطإ حكمه الاول ، فلا بد اما من التزام عدم جواز التبعيض فى المسألة الكلية مطلقا واما من جوازه كذلك ، فالقول بان رجوع المجتهد عن الفتوى يوجب نقض آثار اعماله السابقة بخلاف عدول المقلد عن تقليده مما لا يوجد له وجه ظاهر فتأمل.

والتحقيق : ان حكم الرجوع فى جميع موارده واحد إلّا ان يقوم اجماع فى بعض المقامات على النقض او عدمه.

ثم ان هذا كله مع العمل بقول المجتهد واما لو اخذ بقوله ولم يعمل به فهل يجب البقاء او لا يجب ام يبنى المسألة على ان التقليد هو الاخذ او العمل وجوه : من الاصل الجارى بعد العمل اعنى عدم حجية قول المجتهد الثانى ومن الاعتماد على استصحاب التخيير خرج ما بعد العمل بناء على الاجماع المدعى فى كلام بعض ومن ان الاجماع المدعى على وجوب البقاء انما هو من حيث وجوب البقاء على التقليد فان اكتفينا فيه بالاخذ حرم الرجوع بعده وإلّا فلا والاقوى هو الاول.

٧٣٤

وينبغى التنبيه على امور

الاول

فى التبعيض فى التقليد

قد عرفت ان المختلف فيه هو ما اذا قلد مجتهدا فى مسئلة ثم رجع فيها الى غيره والمتفق عليه هو تقليد مجتهد فى مسئلة وتقليد غيره فى غيرها وهل يجوز التبعيض فى مسئلة واحدة فى زمان واحد بان يقلد مجتهدين فى واقعتين من مسئلة واحدة كأن يكون عنده ماءان ملاقيان لما اختلف فى طهارته ونجاسته واحتاج الى تطهير بدنه من الخبث والتطهر من الحدث فقلد القائل بالنجاسة فى احد الإناءين فيصير كالمعدوم ، ويقلد القائل بالطهارة فى الآخر فيصير كالمنحصر فيصرفه فى ازالة الخبث ثم تيمم ويصلى ، ام لا يجوز مطلقا فيجب (عليه) فى الفرض السابق اما التقليد بطهارتهما فيطهر ويتطهر بهما او يقلد القائل بالنجاسة فيجتنبها ، ام يفصل بين ما اذا لزم المخالفة القطعية مطلقا او فى خصوص واقعة كالمثال (المذكور) حيث انه يعلم بعد التقليدين بفساد صلاته لبقاء حدثه او خبثه وبين ما اذا لم يلزم وجوه : اقواها عدم الجواز مطلقا لعدم الدليل على مشروعية مثل هذا التقليد ، اذ الثابت من الادلة هو التقليد فى المسألة الكلية التى يتعلق بها فتوى المفتى واجتهاد

٧٣٥

المجتهد لا الجزئيات ، فلو قلد فى الواقعة الجزئية غير ملتفت الى الكلى ، كان ذلك تقليدا فى الكلى ، ولو قصد الجزئى بالخصوص دون غيره فالاقوى لغويته.

ثم الفرق واضح بين مسئلة التبعيض ومسئلة الرجوع لان موضوع الاولى تقليد احد المجتهدين فى خصوص جزئى من جزئيات المسألة وتقليد الآخر فى آخر منها دفعة او على التعاقب وليس هذا من الرجوع عن مجتهد الى آخره وموضوع الثانية تقليد احدهما فى كلى المسألة مع العمل به فى فرد منها او مع عدمه ، ثم الرجوع عنه الى الآخر فى المسألة الكلية ايضا ، فيمكن القول بعدم جواز الاول لاصالة عدم المشروعية وجواز الثانى لاستصحاب التخيير ، ويمكن العكس للاجماع على عدم جواز الرجوع واطلاق الادلة فى جواز التبعيض والمختار المنع فى المقامين.

٧٣٦

الثانى

[اخذ الفتوى العام للعمل فى فرد خاص]

لو اخذ الفتوى بعنوان عام للاخذ به فى فرد خاص منه ، كأن اخذ مسئلة نجاسة الكافر للعمل به فى خصوص اليهودى مثلا فهل يجوز تقليد المجتهد الآخر فى فرد آخر كالنصراني ام لا يجوز ام يفصل بين ما اذا وجد قول بالتفصيل بينهما او لم يوجد قول به لبعض العلماء ام يفصل بين ما اذا كان الحكم فى الادلة منوطا على عنوان ذلك الموضوع بحيث يكون المناط فيه القدر المشترك كالكفر فى المثال المذكور وبين ما اذا كان الحكم مطلقا على الخصوصيات فعبر المجتهد عن الموضوعات المتعددة لمسائل متعددة لموضوع جامع بينها من غير ان يكون الحكم منوطا كأن ورد فى دليل نجاسة اليهودى وفى آخر نجاسة النصرانى وفى ثالث نجاسة (المجوس) فيحتمل ان يكون المناط فى كل منها مخالفا للمناط فى الآخر إلّا ان المجتهد عبر عن الكل بعنوان جامع للاختصار الاقوى هو الاخير وعليه فلو شك فى ان تعبير المجتهد على طبق الدليل ام لا والاقوى عدم التبعيض للاصل وظهور عبارة المفتى فى ذلك وهو حجة فى حق المقلد كالدليل فى حق المجتهد.

٧٣٧

الثالث

[فى حكم المسألتين المرتبطتين]

حكم المسألتين المرتبطتين حكم المسألة الواحدة ام لا؟ والارتباط على اقسام :

منها : ان يكون إحداهما مقومة للاخرى كمسألة استحباب صلاة الوتيرة ومسئلة عدم جواز غير الرواتب فى وقت الفريضة فلا يجوز تقليد مجتهد فى اصل مشروعيته وتقليد من لا يجوز فعل النافلة وقت الفريضة فى وقته فصليها بعد العشاء لان المفتى باستحبابها مفت باستحبابها قبل العشاء فالوقت مقوم لها عنده فلا يجوز التفكيك.

ومنها : ان لا تكون إحداها مقومة للاخرى كما اذا قلد فى المسألة من يقول بجواز التنفل مضطجعا اختيارا مع عدم جواز ذلك عند من قلده فى اصل مشروعية الوتيرة ونحوها ما لو قلد فى مشروعية صلاة الجمعة وقلد القائل بعدم وجوب السورة مع فرض وجوبها عند القائل بمشروعية الجمعة.

والحق عدم جواز التبعيض فى القسم الاول وجوازه فى الثانى والفرق ان المفتى بمشروعية صلاة الوتيرة انما يفتى بمشروعيتها على هذا النحو بحيث لو قدر عدم مشروعية الخصوصية اعنى فعلها بين العشاءين التزم عدم مشروعية الوتيرة بخلاف المفتى بوجوب صلاة الجمعة فانه لو قدر عدم

٧٣٨

وجوب السورة لم يلتزم بعدم وجوب صلاة الجمعة بل التزم بوجوب الصلاة الخالية عن السورة ، وكذا المفتى بمشروعية الوتيرة مع عدم تجويز الاضطجاع فى النافلة اختيارا فانه لو قدر جوازه لم يلتزم بعدم مشروعيتها.

نعم لو فرضنا انه قال بمشروعية صلاة خاصة على وجه الجلوس او خصوص القيام فلا يجوز ان ياتى بها بتقليد من يجوز النافلة مضطجعا مع عدم فتواه بمشروعية اصل هذه النافلة.

ومن القسم الاول ما لو قلد المفتى فى تحريم الغناء وقلد فى موضوع الغناء مجتهدا آخر لا يقول بتحريم الغناء فانه غير جائز ، لان القائل بتحريم الغناء انما قال بهذا الموضوع بحيث لو فرضنا ان الغناء عنده كان شيئا آخر امكن ان لا يقول بتحريمه ، فاذا اجتنب عما هو الموضوع باعتقاد غير التحريم اجتنب عما لم يفت احد بتحريمه.

والحاصل : ان المفتى انما افتى بتحريم ذلك المعنى الخارجى لا كلما قدر انه مفهوم اللفظ فى متن الواقع مع انه لو فرض تعلق فتواه بمفهوم اللفظ لكن تعين المفهوم ليس بنفسه مما يجوز فيه التقليد حتى يقلد فيه مجتهدا آخر غير من افتى بحكمه ، بل التقليد فى مفهوم اللفظ راجع الى التقليد فى الحكم المتعلق به ، فلو قلد الغير فى الموضوع لكان قلده فى حكمه والمفروض انه قلد فى الحكم مجتهدا آخر فيلزم تقليد مجتهدين فى حكم.

فان قلت : فى مسئلة صلاة الجمعة كان يفتى القائل بوجوبها بوجوب موضوع خارجى وهو المركب من السورة والطمأنينة وغيرهما فالفاقد لهما غير واجب عنده ولا عند غيره القائل بتحريم صلاة الجمعة وايضا فالتقليد

٧٣٩

فى مفهوم الصلاة وجزئية السورة والطمأنينة ماهيّة الصلاة راجع الى التقليد فى الحكم وهو وجوب الماهية المشتملة على السورة ، فلو قلد فى عدم جزئية السورة غير من افتى بوجوب صلاة الجمعة لكان قد قلده فى استحباب صلاة الجمعة الخالية عن السورة لان المفروض انه قائل بعدم الوجوب فيما بينه وبين مسئلة الغناء (فتأمل) (١)

__________________

(١) ـ كتب كاتب النسخة المخطوطة فى الهامش : هنا بياض فى الاصل نحو اسطر.

٧٤٠