الفوائد الأصوليّة

الشيخ مرتضى الأنصاري

الفوائد الأصوليّة

المؤلف:

الشيخ مرتضى الأنصاري


المحقق: حسن المراغي « غفارپور »
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: شمس تبريزي
المطبعة: ايران يكتا
الطبعة: ١
ISBN: 969-94215-0-5
الصفحات: ٧٧٠

التوصّلى والاصلى والتبعى ، بمعنى ان المضيّق من هذه الواجبات يقتضى النهى عن الموسّع منها ، سواء كانا متجانسين بان دار الامر بين المضيّق والموسّع من العينى والكفائى ، وهكذا مثلا او مختلفين بان كان المضيق من العينى مثلا والموسّع من الكفائى او (التخييرى) (١) بالعكس.

فانّه على القول بالاقتضاء وعدمه فهذه الواجبات متساوية الاقدام.

ولعلّ اطلاق كلام الفاضل القمى (ره) يشملها ايضا.

وثانيا ـ بان حصر النزاع فيما اذا كان الضدّ من الواجبات الموسّعة غير جيّد ، لانّهم يفرّعون على هذه المسألة حرمة السفر وفساد المعاملات ، مع عدم كونها من الواجبات فضلا عن كونها موسّعين.

فالتحقيق ارخاء عنان البحث الى اودية المباحات والمكروهات والمستحبات ايضا ، لانّ اقتضاء الامر المضيّق النهى عن الضدّ لا اختصاص له ، بما اذا كان الضدّ واجبا كما لا يخفى.

ولعلّ نظره (ره) الى قلة جدوى البحث فيما عدى الواجب الموسع لان الثمرة المعتدّ بها فى فساد الضدّ ، ولعلّ الفساد عند الكلّ والجلّ لا يثبت الّا الضدّ الّذى كان من العبادات ، لانّهم لا يقولون بفساد المعاملة بمثل هذا النهى المتولّد من الامر ولا بحرمة السفر على وجه يترتّب عليه آثار التحريم من الاتمام والامساك.

ولكنّ مع ذلك يرد عليه : انّ الواجب الموسّع يشمل التعبّدى والتوصّلي مع انّ الثمرة المزبورة وهى الفساد غير ظاهرة فى التوصّلى ، فكان عليه بعد

__________________

(١) ـ مزيد من المطبوعة

٣٨١

الاغماض عن خروج المباحات والمكروهات والمستحبات ، تقيّد الموسع بالعبادى.

وايضا من مواضع جريان هذا النزاع ما اذا كان المامور به مضيقا عينيا كالصوم مثلا والضدّ مضيقا تخييريا ، كما سنبيّنه ومن المعلوم خروج هذا عن محل النزاع ، ولو خصص الضدّ بالواجب الموسّع.

ويدفع جميع هذه المناقشات جعل الموسّع فى كلامه عبارة عما لا حرج ولا ضيق فيه مثل الضيق الّذى فى المامور به ، لا المصطلح عليه عند الاصولى لانّ الموسّع بهذا المعنى يشمل المباح فى مقابل المضيّق ، بل الموسّع ايضا لكن يلزم حينئذ ان يقال بفساد جميع المستحبّات فى حقّ من عليه واجب موسّع كصلاة الرخصة ، لانّ المستحب سواء كان موسّعا او مضيّقا فى مقابل الواجب ولو كان موسّعا يصدق عليه انه موسّع زاحم المضيّق ، فيلزم ان يتوّجه النهى الى المستحب فيفسد.

ولكنه سهل بعد ما عرفت آنفا من انّ النهى المتولّد من الامر الموسّع ليس منشأ لشيء من آثار التحريم ، لانّه نهى تخييرى مرجعه الى انّه ان شاء لفعل وان شاء ترك الى ان ينتهى الامر الى الضيق المقتضى للنهى العينى المقتضى للفساد.

ثمّ انّ جهات الضيق والتوسعة على المعنى الّذي فسرناهما به ـ وهو الحقّ ـ من كون الاوّل عبارة عن مطلق الحرج ، والثانى (عبارة) عن خلافه ، يختلفان باختلاف الجهات والاعتبارات فمن وجوه الضيق والتوسعة ان يكون زمان المامور به مضيّقا وزمان الضدّ موسّعا وهذا اظهر الوجوهات و

٣٨٢

اشهرها ومثاله واضح.

ومنها ان يكون المامور به واجبا عينيا مضيّقا بحسب الزمان كالصوم مثلا ، وكان الضدّ ايضا واجبا مضيقا ولكن كان تخييريا لا عينيا مثل ما اذا كان على المكلف كفارة الخصال فورا ، وكان بعض اقسامها منافيا للصوم الّذى فرض وجوبه عينا مضيقا ، فانّ الامر بالصوم المزبور يقتضى النهى عن الضدّ المفروض وجوبه تخييرا او يجب على المكلف حينئذ اختيار الفرد الآخر الغير المنافى للصوم من افراد الكفّارة.

ومثل ما اذا وجب عليه السفر للزيارة بنذر مضيّق وكان عليه احدى الكفّارات على سبيل الضيق ايضا ، فانّه يجب عليه اختيار غير الصوم من الكفارة بناء على مضادته شرعا مع السفر ، فالامر المضيّق يقتضى النهى عن المضيّق ايضا اذا اختلفا من حيث التعيين والتخيير.

ومنها ان يكون الضدّ مستحبا فان الامر الوجوبى المضيّق يقتضى النهى عن ضدّه المستحب ، ولو كان مضيقا ايضا وغير ذلك من الوجوه الّتى لا يخفى على المتأمل.

ثمّ انّ التفصيل الّذى ذكره بقوله «وقد يفصل» (١) مما لا غبار عليه لانّا نقول : ايضا اذا تزاحم المضيّق والموسّع فالترجيح للاوّل مطلقا واذا تزاحم المضيّقان فالحكم هو التخيير ان لم يكن احدهما اهمّ فى نظر الشارع.

ومن وجوه الاهمية غالبا كون احدهما من حقوق الناس ولكنه ربما يكون الاهتمام فى حقّ الله كحفظ نفس الامام ـ عليه‌السلام ـ وبيضة الاسلام

__________________

(١) ـ كما مر فى كلام صاحب القوانين

٣٨٣

اذا تزاحمه اداء الدين ، فانّ الاوّل اهمّ فى نظر الشارع قطعا ، والدليل على التخيير عند التساوى هو انّ الحكم باخذ احدهما معينا لا بد له من ترجيح ، والّا لكان تحكما وترجيحا بلا مرجح.

والمفروض مساواتهما فى الرجحان وليس هذا التزام تخصيص فى دليل احدهما ، لانّا نعلم قطعا ببقاء اطلاق الامر فيهما معا ، ولكن الّذى يدعونا الى ترك احدهما تخييرا هو تعذّر الامتثال لهما معا ، فكان العقل لما يرى تساويهما فى نظر الشارع والمصلحة الكامنة الموجبة للطلب وراى عدم امكان الجمع بين الامتثالين حكم بمعذورية المكلّف وترك الامتثال باحدهما لا على التعيين ، فخروج احدهما عن تحت الطلب الفعلى انّما هو من جهة وجود المانع الّذى هو تعذّر الامتثال لا فقدان المقتضى ، لانّ المفروض ان كل واحد منهما واجد للمصلحة المقتضية للامر حال المزاحمة ، نحو وجدانهما ايّاها فى غير حال المزاحمة ، وإلّا لخرج المقام عن مقام تعارض الواجبين المفروض وجوبهما معا فى آن واحد.

ففرق اذا بين انّ كون الخروج عن المطلوبية بسبب فقدان المقتضى مثل قوله : «انقذ (١) الغريق الّا زيد الكافر» وبين ان يكون الخروج باعتبار وجود المانع الّذى هو تعذّر الامتثال.

__________________

(١) ـ جاء فى المطبوع فى هذا الموضع هكذا : انقذ الغريق الشامل لزيد وعمر واذا فرض توقف انقاذ احدهما على عدم انقاذ الآخر فان خروج احدهما الكلى من تحت الطلب الفعلى ليس باعتبار فقدان مقتضى الوجوب فى احد الانقاذين بل باعتبار وجود المانع الذى هو ...

مطارح الانظار : ص ١١٥

٣٨٤

ولقد اغرب بعض الافاضل فى المقام على ما نقل عنه حيث جعل المرجع فى المقام ملاحظة أدلّة الواجبين ، حتّى خصّص عنوان البحث فى هذه المسألة فقال : انّ الامر بالشيء انما يقتضى النهى عن الضدّ اذا كان دليل ذلك الامر قطعيا كالاجماع والضرورة ودليل وجوب الضدّ ظنيّا.

فانّه لو كان الدليلان كلاهما قطعيين فذاك فرض محال ، لانّ الامر بالضدّين فى آن واحد ممتنع نحو امتناع اجتماعهما.

وان كان عكس الامر بان كان دليل الواجب ظنيا ودليل الضدّ قطعيا فلا يقتضى الامر الظنى النهى عن الواجب القطعى الّذى هو الضدّ.

وان كان دليل الواجب والضدّ كلاهما ظنّيين ، فيرجع الى الترجيح ويؤخذ بالراجح فلا وجه لجعل احدهما حينئذ ولو كان مقتضيا للنهى عن الآخر ، ولو كان موسّعا لاحتمال ان يكون الرجحان فى طرف الموسّع.

ووجه غرابة هذا الكلام :

اوّلا ـ انّ باب تزاحم الواجبين والحقين باب آخر غير باب تعارض الادلة ، المطلوب فيه ملاحظة حيثية القوة والضعف ، لانّ الواجبين ربما يكونان فردين من كلى واحد كانقاذ الغريقين ، الموقوف انقاذ كل منهما على ترك انقاذ الآخر.

وهذا وان كان ليس من موارد بحثنا فى هذه المسألة ضرورة كونهما متساويين فى الضيق والتوسعة حينئذ وكون الغرض الاصلى للاصولى متعلقا بمزاحمة المضيّق والموسّع المقتضية للمغايرة بين الواجبين نوعا ودليلا ، الّا انّه لا يبحث فى هذه المسألة الا عن حال الواجبين الّذين يبحث عنهما فى

٣٨٥

تزاحم الحقوق من حيث كون العمل بكل من الدليلين مقطوعا به ، ولو كان اصل الدليل ظنيا وحينئذ فلو كان دليل الواجب فى كمال الضعف بالنسبة الى دليل الضدّ كان كما لو تساويا فى القوة والاعتبار وهذا واضح.

وثانيا ـ انّ الغرض من عنوان هذه المسألة معرفة التنافى والمضادّة بين الامر بالمضيّق والامر بالموسّع.

فلا بد اوّلا من معرفة منافاتهما ومعاندتهما ثمّ الرجوع الى الادلة فى مقام العلاج وبطرح ما كان دليلا ظنيا مثلا ، لا لان يجعل الفرق بين القطعى والظنى رفعا للمنافاة فى صورة التساوى مثلا بان يقال انّهما ان كانا ظنين فلا يقتضى الامر بالمضيّق منهما للنهى عن الموسّع ، يعنى انّه لا منافاة بينهما ، لانّ المنافاة وعدمها لا يختلفان باتّفاق الدليلين فى الاعتبار والقوة واختلافهما.

فان كان الامر المضيّق والموسّع مضادّة فهى ثابتة بينهما سواء كان دليلاهما قطعيين او ظنّيين او مختلفين ، والّا فلا وجه لملاحظة حال الدليل فى مسئلة اقتضاء الامر بالشىء النهى عن الضدّ.

بل هو كلام فى البعد عن الصدور عن الافاضل ، ولذا نجد الكتب خالية عن هذا وكيف فالدليل على تقديم الاهمّ من المضيّقين على الآخر تتبع احوال الشارع وحكم العقل بذلك.

وقاعدة الاشتغال السارية فى جميع المقامات الّتى يدور الامر فيها بين التخيير والتعيين ، ودعوى «صاحب الوافية» انّ الحقّ هو التخيير ايضا ـ فاسدة جدّا للعلم الضرورى بانّه اذا دار الامر بين حفظ نفس الامام ـ عليه‌السلام ـ وحفظ غيره ، فالاوّل اهمّ عند الشارع المقدّس واوجب.

٣٨٦

اللهم الّا ان يكون مراده بالاهمّ ما هو راجح فى نظر المكلّف لا فى نظر الشارع ، فانّ الرجحان الّذى يراه المكلّف من دون استناده الى ما يرجع الى الشرع غير معتنى به جدّا.

فلا يحكم بالترجيح بل بالتخيير وطريق معرفة الاهمية تتبع كلمات الشارع والآثار المترتبة به من قبله على ترك الواجب او فعل المحرّم.

فانّا اذا رأيناه قد حكم بفسق الكاذب وكفر قاتل النبى ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ علمنا انّ حفظ نفسه الشريف اهمّ فى نظره من الاجتناب عن الكذب.

والظاهر انّ الظن بالاهمية كان فى منع الحكم بالتخيير لانّ العقل وقاعدة الاشتغال ايضا ناهضان على الحكم بذلك : بل لا يبعد الحكم بالترجيح بمجرّد احتمال الرجحان والاهمية ، ولو بقاعدة الاشتغال المزبورة السليمة عن المعارض.

ثم المرجّح قد لا يقتضى وجوب الترجيح بل استحبابه ، ومنه ما لو دار الامر بين الاجتناب عن سبّ الامام ـ عليه‌السلام ـ وحفظ نفس آدمى ، فانّه مقام التخيير بين الامرين على ما عزى الى اصحابنا ـ رضوان الله عليهم ـ مع استحباب مراعاة حفظ النفس ، سيّما فى حقّ قدوة الناس ورأسهم.

ولا يتوّهم المنافاة بين قولنا : بالترجيح الاستحبابى ، وقولنا المتقدّم : الحكم بالترجيح عند احتمال الرجحان ، لانّ الفرق بين احتمال وجود الرجحان الملزم وبين القطع بعدمه وبوجود الرجحان الغير الملزم ما بين الارض والسماء ، وامّا انكار حسن الترجيح واستحبابه رأسا فمما لا يصغى اليه لمكاذبته للوجدان والتّتبع.

٣٨٧

المقدّمة الثالثة

فى معرفة المراد من الشيء والنهى المشتمل عليهما

عنوان البحث

امّا الاوّل فلعلّ الظاهر منه الشيء الوجودى ، ويمكن ان يراد به ما يعمّ التروك ايضا ، فيدخل فيه مثل : «اترك الزنا» وعليه يتّجه القول بانّ الامر بالشيء عين النهى عن ضدّه العامّ ، لانّ النهى عن ترك ترك عبارة اخرى عن النهى عن فعله كما يتّجه القول حينئذ بانّ المراد بالنهى الّذي يقتضيه الامر بالشيء ما يعمّ الاصلى والتبعى.

لانّ هذا النهى المستفاد من الامر بالترك ليس الّا اصليا كما انّ النهى المتعلّق بالاضداد الخاصّة على القول بانّ الامر بها عين النهى عن اضدادها ، حتّى انّ الامر بالسكون عبارة اخرى عن النهى عن الحركة تكون ايضا اصليا.

فاتّضح المراد من النهى بانّه يعم الاصلى والتبعى معا فمن خصّصه بالتبعى او بالاصلى فقد سها.

ولعلّ ما اوقع المحقّق بالاصلى ـ كالقمى طاب ثراه ـ فى خياله هذا ما راه من كلمات الاصحاب فى ذكر الثمرات من بطلان الضدّ المصادم لوقت المامور به كالصلاة الواقعة فى وقت الازالة ، فانّه لا يتمّ الّا على تقدير كون النهى المتعلّق بالضدّ اصليا ، اذ النواهى التبعية لا يقتضى الفساد خصوصا فى

٣٨٨

المعاملات.

فحيث حكموا ببطلان الضدّ على القول بالاقتضاء علم انّ النهى المتنازع فيه هو النهى الاصلى عندهم.

ومن هنا ينقدح وجه كون الوجوب المنازع فيه فى بحث مقدمة الواجب هو الوجوب الاصلى النفسى عنده ـ ره ـ كما تقدّم ، لانّ حرمة الضدّ بزعمه ـ ره ـ انما ثبت من جهة المقدّمية ، واذ قد ثبت كون الحرمة هذه حرمة نفسية حاصلة من النهى النفسى الاصلى ، ظهر انّ الوجوب المتنازع فيه فى مبحث وجوب المقدمة اصل شرعى.

والتحقيق عندنا كما مرّ فى ذلك المبحث انّ وجوب المقدّمة وجوب تبعى لا اصلى ، وعلى هذا يلزم التعميم فى النهى المتنازع فيه هنا ، لانّ الحقّ الموافق للمشهور انّ النهى المتعلّق بالاضداد الخاصّة على القول به ليس من جهة العينية ، بل من جهة الاستلزام او المقدّمية ، فلو خصّصناه بالنهى الاصلى فكيف ينطبق على هذا القول.

وامّا ما ذكر من انّ حكمهم بفساد الضدّ يدلّ على كون النهى المتنازع فيه نفسيا ، ففيه انّ منشأ الفساد انّما هى المبغوضية ، والنهى انّما يقتضى الفساد من جهة كشفه والمبغوضية ليست من خصائص النهى الاصلى (١) اذ قد يكون النهى الاصلى غيريا.

وقد تقدّم فى مقدمة الواجب ان الاوامر الغيرية غير واجدة للمصالح اصلا الّا الوصلة الى الغير فكذا النواهى الغيرية فتدبّر جدّا فى المقام.

__________________

(١) ـ وزيد فى المطبوعة فى الموضع المذكور : «وقد يجتمع مع النهى التبعى ايضا ولو كانت المبغوضية ايضا تبعية وقد لا يجتمع مع النهى الاصلى» مطارح الانظار : ص ١١٦

٣٨٩

المقدمة الرابعة

فى ذكر المراد بالضدّ

ومعناه لغة المنافى والمعاند مطلقا ، وفى اصطلاح اهل المعقول امر وجودى لا يجتمع مع وجودى آخر فى محل واحد وفى زمان واحد ، فالمتناقضان يندرجان تحت الضدّ اللغوى دون الاصطلاحى لانهما ليسا امرين وجوديين ، بل احدهما وجودى والآخر عدمى.

ويعتبر فى التضادّ مضافا الى ما ذكر جواز تواردهما على محلّ (واحد) فيخرج نحو السواد والعلم ، فانهما وان لم يجتمعا فى محل واحد لكن ليسا مما يتواردان على محل واحد لانّ محل كل واحد منهما مغاير لمحل الآخر ، فان محل العلم القلب ومحل السواد الجسم.

وبعبارة اخرى يشترط ان يكون المنافاة راجعة الى المضادّتين بحيث لا يجتمعان على محل واحد قابل لورود كل واحد منهما ذاتا ، فما ليس كذلك لا يكون من التضادّ فى شيء مثل العلم والسواد.

اذا عرفت ذلك فقد اطلق لفظ الضدّ فى هذا الفنّ على امور :

منها : كل واحد من الامور الوجودية المنافية للمامور به مثل الاكل والشرب والمشى بالنسبة الى الصلاة وهى بالنسبة الى الازالة.

ولا شكّ فى اطلاق الضدّ عليها حقيقة بكلا المعنيين ، نعم ربما يكون

٣٩٠

بعض الافعال الوجودية من الموانع والنواقض بالنسبة الى الآخر كمبطلات الصلاة ونواقض الطهارة وروافع الاحداث وموانع العقود ونحو ذلك ، واطلاق الضدّ على هذه الامور لا يخلو عن اشكال ومسامحة ، لانّ نسبة كل واحد من الضدّين مثل نسبة الآخر اليه والامر فيها ليس كذلك اذ المانع علّة لعدم الممنوع دون العكس ، مضافا الى اشكال تصور تواردهما على محل فليتدبّر جيّدا.

ومنها : احد الافعال الوجودية المنافية للمامور به ويسمّونه بالضدّ العام ، واطلاق الضدّ عليه ايضا غير خال عن خرازة بل هذا فى الحقيقة يرجع الى الاوّل.

ومنها : الترك ويسمّونه بالضدّ العامّ ايضا وهذا اشهر وأصحّ واطلاق الضدّ عليه لا يخلو عن مناقشة ، لانّ الترك امر عدمى والماخوذ فى الضدّ المصطلح ان يكون امرا وجوديا كما مرّ وهو نقيض الفعل لا ضدّ له ، ولو جعل الترك عبارة عن اختيار العدم لكان وجها ، لانّ هذا الاختيار امر وجودى مضادّ للفعل الّذى هو عبارة عن اختيار الوجود ، وعلى هذا يتصوّر الواسطة بين الفعل والترك وهى ما اذا ترك الفعل الحسن اختيارا. (١)

فانّه ليس من الترك المفسّر باختيار العدم ولا يرد انّ هذا النحو من الترك ايضا نقيض للفعل ، لان نقيض الوجود العدم ، والعدم قد يكون مسبوقا بالاختيار وقد لا يكون كذلك.

فالاوّل ايضا فرد من افراد مطلق العدم الّذى هو نقيض للوجود وفرد

__________________

(١) ـ فى النسخة المطبوعة : ... اذا ترك الفعل لا عن اختيار. مطارح الانظار : ص ١١٦

٣٩١

النقيض نقيض ، لانّ الاختيار امر وجودى لا يجوز جعله فردا من العدم المطلق الّذى هو نقيض الوجود وكون المختار هو العدم لا يجعل نفس الاختيار عدميا.

وعلى اىّ حال ، فان فسرنا الترك بنفس لا يوجد كان نقيضا للفعل جدّا ، وان فسرناه باختيار عدم الايجاد امكن حمله على الضد المصطلح.

قيل : ولقد استراح من جعل الترك بمعنى الكفّ لكونه من الامور الوجودية الذى لا يجتمع مع الفعل ابدا فى محل واحد.

واعترض عليه : بانّهما وان لم يجتمعا فى محل واحد لكنّهما ليسا من المتضادّين المتواردين على محل واحد ، بل هما من قبيل العلم والسواد الّذين قد عرفت خروجهما عن الحدّ بقيد التوارد ، لان محل الكف هو النفس ومحل الفعل هى الجوارح.

وفى كلّ من الكلامين نظر :

اما فى كلام المستريح : فلانّ الترك الّذى كلامنا فيه هو الّذى منعه فضلا للوجوب فى قولهم :

«الوجوب طلب الشيء مع المنع من الترك» اذا المراد بالضدّ العامّ هو ترك المامور به الّذى منع منه بمجرد ايجاب المامور به ، ولم يظهر من القائلين بكون المطلوب من النهى هو الكفّ.

وان معنى الترك المطلوب من النهى عبارة عن طلب الكف انّ مادّة الترك الّتى يدخلها النهى مثل قولك : لا تترك الصلاة الّتى قد اعتبر المنع منها قيدا وفصلا للوجوب ، ايضا عبارة عن الكف.

٣٩٢

كيف والّذى دعاهم الى ارجاع الترك المطلوب من صيغة النهى الى الكف انّ مجرد الترك امر عدمى ، لا يجوز تعلّق الطلب عليه وجودا وعدما ، وهذا غير موجود فى المقام.

اذ المطلوب من قولنا «لا تترك الصلاة» المتولّد من قوله «صلّ» هو بعينه «طلب فعل الصلاة» فلو فسّرنا قوله «لا تترك الصلاة» بقولنا «كفّ عن ترك الصلاة» فهذا يكفى فى جعل المطلوب من النهى امرا مقدورا ولا حاجة الى تفسيره بقولك «كفّ عن الكفّ عن الصلاة» بل لعلّ هذا من المستحبات الّتى لا اظنّ قائلا به.

ودعوى ان الترك سواء كانت مداليل الهيئة او المادّة امور غير مقدورة ، فانّ دليلهم المزبور على ارجاع مدلول النهى الى الكفّ لا يتفاوت فيه بين مدلول الهية او المادّة ، حتّى انّه يلزم على هذا التقدير ان يكون المراد من «اترك الزنا ـ كفّ عن الزنا» وهكذا الى ساير المقام ، واضحة الفساد بما عرفت من عدم تمامية دليلهم المزبور فى المقام ، وان كان تماما مثل «اترك الزنا» لانّ الترك المنهى عنه فى المقام امر انتزع من طلب الفعل فلا حاجة الى ارجاعه الى الكفّ بعد كون المراد من النهى عنه بعينه طلب الفعل المامور به.

واما ما يقال من انّه لا ذمّ الاعلى فعل ، فلا بدّ من كون المراد بقولنا «لا تترك الصلاة» الحاصل من قوله «صلّ» [او] كفّ عن الكفّ» وإلّا لكان الذّم على غير الفعل فهذا ايضا اجنبى عن المقام ، لانّه يكفى فى تصحيح الذمّ هنا جعله مترتبا على الكفّ عن الصلاة ، فلا حاجة الى ان يفسّر «لا تترك

٣٩٣

الصلاة» ب «الكفّ عن الكفّ». (١)

وكيف كان فلا وقع عند المتأمل الفطن لكلام المستريح بل ولا اظنّ احدا من القائلين «بانّ المطلوب من النهى هو الكفّ» ان يقول : «بان المراد من الترك المنهى عنه فى المقام هو الكف» فانّ كل واحد من القائلين بمراحل عن الآخر وهذا غلط فاحش وخبط بيّن ، فتفطّن!

وامّا فى كلام المعترض فلانّ منع مضادة الكفّ مع الفعل بدعوى تغاير المحل ممنوع ، لانّ الحق ان محل الكفّ والفعل كليهما هو النفس ، وان كان اثرهما ظاهرا فى الجوارح ، لانّ الفعل عبارة عن بعث النفس للجوارح والكفّ عن امساكها ، والامساك والبعث كلاهما حالان وفعلان للنفس واثرهما انّما يظهر فى الاعضاء والجوارح.

فانّ النفس اذا بعثت الجوارح للعمل حصل منها حركات مخصوصة فى الخارج من الاعضاء المخصوصة واذا امسكتها حصل منه القبض والسكون فيها.

فان جعلت الفعل عبارة عن نفس حاصل الاثر ، نقابله باثر الامساك الّذي هو الكفّ ، وهما متحد المحل جدّا.

وان جعلته عبارة عن بعث النفس نقابله بنفس الامساك ، وعلى (اىّ) تقدير فالكف والفعل محلهما واحد يمكن تواردهما على ذلك المحل.

كيف ولو كان محلهما مختلفين كالعلم والسواد لجاز اجتماعهما فى

__________________

(١) ـ ورد فى هامش الاصل المخطوط فقط : «وفيه انه التزام بمقالة المستريح لانّه لا يريد الّا جعل الضدّ العامّ الكفّ عن المامور به منه»

٣٩٤

محليهما نحو العلم والسواد ، والفعل والكف عنه ابدا لا يجتمعان فى عالم الوجود.

كل ذلك فيما اذا اردنا جعل اطلاق الضدّ على الترك حقيقيا ، ولكنّ الظاهر انّ هذا الاطلاق مجازى لطلاقة المجاورة ، لانّ الافعال الخارجية المقارنة لترك المامور به لما كانت اضدادا حقيقية للمامور به سمى الترك بالضد مجازا ، ووجه تسميته بالضد العامّ هو اجتماعه مع جميع الاضداد وذلك واضح.

٣٩٥

المقدمة الخامسة

فى بيان المراد من الاقتضاء المتنازع فيه

والمراد به ما يعمّ العينية ، وان كان الظاهر منه التضمّن والالتزام ، يدل عليه كلام صاحب المعالم فى الضدّ العام ، حيث قال : (١) انّه لا نزاع من حيث اصل الاقتضاء وانّما النزاع فى كيفيته ، وانّه هل هو من باب العينية او التضمّن او الالتزام ، اذ الصريح منه انّ الاقتضاء المتنازع فيه ما يعمّ العينية ، ويدّل عليه ايضا امكان القول بالعينية فى الضدّ العام كما سنذكر ، وربما يتوهّم من بعض العناوين كقولهم : انّ الامر بالشيء نهى عن ضدّه ، اختصاص النزاع بالعينية ، ولكنّ المراد به ايضا الاعم.

ثم الفرق بين العينية والدلالة المطابقة واضح بالتأمّل فى الفرق بين الاثنين ونصف الاربعة وبين دلالة لفظ الاثنين على معناه ، فانّ الثانى على سبيل المطابقة والاوّل ـ يعنى اتحاد الاثنين ونصف الاربعة ـ من باب العينية وهذا لا اشكال فيه.

__________________

(١) ـ هذا ليس لفظ كلام صاحب المعالم بل نقله بمعناه ـ راجع : صص ٦٣ ـ ٦٤ الطبعة الحديثة

٣٩٦

[فى الضدّ العام]

اذا تمهّدت المقدمات فالاقوال فى الضدّ العام خمسة :

احدها ـ نفى الاقتضاء رأسا وهذا صريح العضدى والحاجبى والمنسوب الى العميدى وجمهور المعتزلة وكثير من الاشاعرة ، ودعوى بعض كصاحب المعالم : انّه لا خلاف فى الضدّ العامّ فى اصل الاقتضاء بل فى كيفيته (١) ، كما تقدم لا اصل لها.

وثانيها ـ الاقتضاء على جهة العينية على معنى ان الامر بالشيء والنهى عن تركه عنوانان متّحدان ممتازان بحسب المفهوم.

وثالثها ـ الاقتضاء على وجه التضمّن.

رابعها وخامسها ـ الالتزام اللفظى والعقلى.

ولا اشكال فى تصوّر العينيّة والتضمّن وامّا تصوّر الالتزام فيتمّ بدعوى عدم كون المنع من الترك جزء من ماهية الوجوب بجعله عبارة عن مجرد طلب الفعل على جهة الالزام الّذى هو فى المرتبة العليا من الطلب ، وتحته الطلب الندبى الّذى لا الزام فيه ، ولا بعد فيه. بل انّما البعد فى كون الوجوب مركّبا عن طلب الفعل والمنع من الترك لانّ ذلك يستلزم ترك كل واحد من الاحكام الخمسة من الحكمين ، لانّ الوجوب حينئذ يتضمّن النهى عن الترك ، الّذى يقتضى التحريم ، والتحريم نهى عن الفعل ويتضمّن ايجاب الترك ، و

__________________

(١) ـ ما ورد فى كلام المصنف ليس فى المعالم.

٣٩٧

الاباحة مركبّة من الاذن فى الفعل والاذن فى الترك ، فيكون الاباحة مركّبة من الاذنين والاباحتين وهكذا.

وما يقال من انّ الوجوب طلب فعل مع المنع من الترك ، فلا يراد به الترك بل انّما يراد به ان الوجوب مرتبة من الطلب لو التفت الآمر الى الترك لم يكن راضيا به ، بخلاف الاستحباب فان فيه من الطلب ما لو التفت الى الترك لكان راضيا به فعدم الرضا بالترك من اللوازم الغير المبنية للوجوب لا جزئه ولا عينه.

ومن هنا ظهر دليل القول بعدم الاقتضاء رأسا الّذى ذهب اليه الحاجبى والعضدى وغيرهما ، لانّ لهم دعوى عدم كون هذا النحو من المنع التعليقى نهيا نحو دعوى النافين لوجوب المقدّمة لعدم كون الارادة الاجمالية الّتى اثبتناها للمقدّمات بحكم العقل والوجدان وجوبا.

والحاصل انّ القول : بانّ الاحكام الخمسة بسيطة لا تركيب فيها ، فان الوجوب كالاستحباب عبارتان عن مرتبتين من الطلب ليس الّا والحرمة والكراهة عبارتان عن مرتبتين من النهى.

والمبغوضية ليس الّا والاباحة عبارة عن رخصة بسيطة فى الفعل ليس ببعيد (عن الصواب) (١).

وعلى هذا اتّجه تصوّر القول بالاقتضاء على وجه الالتزام كما يتّجه نفى الاقتضاء رأسا.

وفى الضدّ الخاصّ اربعة ، اذ لم نجد ولا حكى عن احد القول بالتضمن ،

__________________

(١) ـ هكذا سياق كلام المصنف اثبتنا أصله.

٣٩٨

وان كان القول به ليس بأبعد من القول بالعينية.

وانّ معنى «تحرك» عين قوله «لا تسكن» و «صلّ» عين قوله «لا تمش» الّذى يظهر من بعض العامّة.

وفى الضدّ الخاص قول آخر للبهائى وهو : انّ الامر بالشيء لو قيل انّه يقتضى عدم الامر بضدّه مكان النهى عنه لكان اولى ، والّذى دعاه الى هذا انّ الثمرة المترتّبة (على النهى) من فساد العبادة الموسّعة الواقعة فى وقت المضيّق على هذا القول اوضح.

اذ ربما امكن دعوى الصحة مع «مكان النهى» كما سيجيء فى الاستدلال ، ولكن لا يمكن دعواها مع «عدم الامر» مضافا الى ان اقتضاء الامر بالشيء عدم الامر بالضدّ اقرب فى الاعتبار والاستدلال من اقتضاء النهى عنه.

وهذا القول فى بادئ النظر يخالف القول باقتضائه النهى عن الضدّ.

ولكن التحقيق انّ هذا القول ان لم يرجع الى القول المشهور ففى غاية البعد من التحقيق بيان ذلك يحتاج الى تمهيد مقدّمة وهو : انّ المصحّح للامتثال فى العبادات على القول بتعلّق الاوامر بالطبائع دون الافراد انّما هو تعلّق الامر بعنوان ذى افراد متعدّدة مندرج تحته على نحو «صدق الكلى على الفرد» ولا حاجة الى تعلق الامر بخصوص ما ياتى به المكلف من تلك الافراد ، بل يكفى فى صحة اندراجه تحت ذلك الكلى المامور به.

فلو ورد الامر بعتق رقبة او اتيان رجل ، فذلك الامر المتعلق بكلى العتق يقتضى الاجزاء والصحة فى الفرد الذى ياتى به المكلّف فى مقام الامتثال من

٣٩٩

غير ان يكون بذلك الفرد بخصوصه امر بخصوصه.

بل معنى كونه مامورا به كون الكلى الّذى هو فرده مامورا به ، فيكون احتياج افراد العبادات الى الاوامر احتياج كلياتها اليها.

ثمّ عدم ورود تخصيص يوجب خروجه عن ذلك الكلى نحو الصفة بحال متعلق الموصوف وحينئذ فعدم صحة بعض الافراد يعنى عدم كونه مجزيا فى مقام الامتثال بذلك الكلى ، لا بدّ ان يكون ناشيا من منع المولى عن الاتيان به فى ضمن ذلك الفرد.

اذ لا حاجة لذلك الفرد من حيث كونه مجزيا مسقطا عن التكليف بذلك الكلى الّا الاذن من المولى والآمر والّا لكان افراد الماهية الواحدة الّتى تعلّق بها امر عينى ، واجبات عينية ضرورة عدم معقولية التفكيك بين الامر المتعلّق بالكلى والاوامر المتعلّقة بالافراد من حيث العينية والسنخيّة ، بعد فرض سريان امر ذلك الكلى الى الافراد الواجد كل واحد منها للكلى بتمامه ، فحيث ما نحكم ببطلان بعض الافراد فلا بد لنا فى ذلك من الاستناد الى المنع فى مقام الامتثال والّا فيكفى فى الحكم بالصحة امران ، تعلّق الامر الشرعى بكلى ذلك الفرد واندراجه تحت ذلك من غير الاحتياج الى امر المولى بخصوص ذلك الفرد.

اذا تحقّق ذلك (فظهر) فساد قول البهائى ، لانّ الكلام انّما هو فى الاضداد الموسّعة للمامور به.

ولا ريب فى انّ الواجبات الموسّعة كليات بحسب الازمان ذات افراد كثيرة ، فالحكم بفساد بعض افرادها المصادم لزمان المامور به المضيّق لا بدّ ان

٤٠٠