درج الدّرر في تفسير القرآن ّالعظيم - ج ٢

عبد القاهر بن عبد الرحمن الجرجاني

درج الدّرر في تفسير القرآن ّالعظيم - ج ٢

المؤلف:

عبد القاهر بن عبد الرحمن الجرجاني


المحقق: د. طلعت صلاح الفرحات / د. محمّد أديب شكور
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الفكر ناشرون وموزعون
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
9957-07-514-9

الصفحات: ٨٠٢
الجزء ١ الجزء ٢

ومن جهتهما.

والمتشابه من جهة اللفظ ضربان :

أحدهما يرجع إلى الألفاظ المفردة ، إما من جهة الغرابة نحو (الأبّ) و (يزفون) ، أو الاشتراك : كاليد والعين.

وثانيهما : يرجع إلى جملة الكلام المركب ، وذلك على ثلاثة أضرب : ضرب لاخصار الكلام ، نحو (وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتامى فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ) [النساء : ٣] ، وضرب لبسطه ، نحو (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ) [الشورى : ١١] كان أظهر للسامع ، وضرب لنظم الكلام ، نحو (أَنْزَلَ عَلى عَبْدِهِ الْكِتابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجاً (١) قَيِّماً) [الكهف : ١ ـ ٢] تقديره : أنزل على عبده الكتاب قيّما ولم يجعل له عوجا.

والمتشابه من جهة المعنى : أوصاف الله تعالى ، وأوصاف القيامة ، فإن تلك الصفات لا تتصور لنا إذ كان لا يحصل في نفوسنا صورة ما لم نحسّه ، أو لم يكن من جنس ما نحسّه.

والمتشابه من جهتهما خمسة أضرب :

الأول : من جهة الكمية كالعموم والخصوص ، نحو (فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ) [التوبة : ٥].

والثاني : من جهة الكيفية ، كالوجوب والندب ، نحو (فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ) [النساء : ٣].

والثالث : من جهة الزمان ، كالناسخ والمنسوخ ، نحو (اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقاتِهِ) [آل عمران : ١٠٢].

والرابع : من جهة المكان ، والأمور التي نزلت فيها ، نحو (وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِها) [البقرة : ١٨٩] ، (إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيادَةٌ فِي الْكُفْرِ) [التوبة : ٣٧] ، فإن من لا يعرف عادتهم في الجاهلية يتعذر عليه تفسير هذه الآية.

والخامس : من جهة الشروط التي يصح بها الفعل أو يفسد كشرط الصلاة والنكاح».

وقد قسم المؤلف رحمه‌الله تعالى آيات القرآن الكريم إلى نوعين هما : المحكم والمتشابه ، وذلك كما جاء في تفسيره قول الله تعالى : (يَكادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصارَهُمْ كُلَّما أَضاءَ لَهُمْ) [البقرة : ٢٠] إذ يقول : «وتقرير مثل المنافقين من أصحاب الصّيّب من حيث إنّ القرآن نازل عليهم من نحو السماء كالصيّب ، وفيه متشابهات ومحكمات» (١).

ويذكر المؤلف رحمه‌الله تعالى أن إحدى فوائد نزول المتشابه هو الابتلاء.

ويسأل سؤالا : هل يجب الإيمان بغير المعلوم؟ يقول مجيبا على هذا السؤال : نعم للإعجاز الحاصل بالنّظم المعلوم ووقوع بأن معناه موافق للمحكم المعلوم وفي معناه.

__________________

(١) الأصل (٤ و).

٦١

أما الأصل الذي يرجع إليه في المتشابه والمحكم ، فقد جعله قول الله تعالى : (هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ) الآية [آل عمران : ٧] ، (١) فكل من أوّل متشابها لابتغاء فتنة من البدعة والضلالة ، يكون ضمن هذه الآية ، فيكون زائغ القلب ، مبتعدا عن الحق.

ويستشهد بحديث عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم الذي يقول فيه : «إذا رأيتم الذين يتبعون ما تشابه منه ، فأولئك الذين سمّاهم الله فاحذروهم». وقول لمحمد بن إسحق بن خزيمة عند ما سئل عن الكلام الأسماء والصفات ، فقال : بدعة ابتدعوها ، ولم يكن أئمّة المسلمين من الصحابة والتابعين وأئمّة الدّين يتكلّمون في تلك ، وكانوا ينهون عن ذلك ، ويدلّون أصحابهم على الكتاب والسّنّة. (٢)

وفي موضع آخر وفي تفسيره لقول الله تعالى : (أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِ) [الأعراف : ١٨١] ، يتحدث عن تفسير السنة ، فيقول : «أن يسلكوا طريق السلف في كراهة الكلام ، والجدال في الدين ، والتعسف في تأويل متشابه كلام رب العالمين ...» (٣). مما يدل أنه يميل في تفسيره إلى عدم التفصيل في المسائل العقدية التي تتحدث عن كلام الله تعالى ، وكيفيته وصفته إلى غير ذلك. وهذا ملاحظ في تفسيره رحمه‌الله تعالى.

وعند تفسيره قول الله تعالى : (يا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ) [الحج : ٧٣] ، يصفها بأنها متشابهة ، يجب التماس حكمها من المحكمات (٤). ولم يحدد المحكمات ، ولم يفصل القول في معنى الآية.

وفي تفسير (أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُنَ) [النور : ٣١] ، يقول : «من المتشابه المختلف في تأويله». وكذلك (التابعون) في الآية نفسها. (٥)

وفي تفسيره قول الله تعالى : (وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ) [النحل : ٤٤] يقول : «يدلّ : أنّ فيه ما يعلم بالتفكير والتدبر ، فأما ما لا يعلم تأويله إلا الله ، فذلك جنس ثالث ، وقد بين ذلك في أثناء المحكمات على طريق الإجمال دون اليقين ، وما يعلم معناه عند ورود الخطاب من غير توقيف ولا تفكر جنس رابع ، وهو الحجة على جميع العقلاء» (٦).

فقسم آيات القرآن الكريم بهذا إلى ثلاثة أقسام :

الأول : ما يعلم بالتفكير.

الثاني : ما يعلم بالتدبر.

الثالث : الذي لا يعلم تأويله إلا الله تعالى ، فهذا الجنس الثالث هو المتشابه ، الذي ذكر في قوله تعالى : (فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ ما تَشابَهَ مِنْهُ ابْتِغاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغاءَ

__________________

(١) ينظر : الأصل (٦١ ظ).

(٢) ينظر : الأصل (٦١ ظ).

(٣) الأصل (١٢٨ و).

(٤) درج الدرر ٣١٤.

(٥) درج الدرر ٣٤٠.

(٦) درج الدرر ١٢٢.

٦٢

تَأْوِيلِهِ وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللهُ) [آل عمران : ٧] ، فمهما تدبر الإنسان أو تفكر في هذه الآيات فلا يستطيع معرفة تأويلها ، لكن الله قد وضح كثيرا منها على طريق الإجمال دون اليقين ، أو ما يبينه الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم كما جاء في تفسيره قول الله تعالى : (لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ) [النحل : ٤٤] ، إذ يقول : «ما نزّل إليهم ، يدل أن في القرآن ما لا يعلم إلا بالتوفيق النبوي» ، ويقول في مكان آخر : «هل كان النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يعلم تأويل هذا النوع من المتشابه؟ قلنا : يجوز أن يعلم بالتوقيف لا من جهة نفسه ، كما علم أشياء من الغيب» (١).

مما يجعل مرد معرفة المتشابه إلى شيء واحد ألا وهو الوحي من الله تعالى لرسوله سواء أكان القرآن الكريم أم السنة النبوية المطهرة.

المطلب الثامن

المكي والمدني

اختلف العلماء في تعريف المكي والمدني إلى ثلاثة أقوال كلّ على اعتبار خاصّ :

الأول : اعتبار زمن النزول ، فيكون معنى المكي : هو ما نزل قبل الهجرة ، والمدني : ما نزل بعدها سواء نزل بالمدينة أم بغيرها كمكة ، أو بالأسفار.

والمؤلف يميل إلى هذا التقسيم إذ ذكر في مطلع سورة المائدة أنها «مدنية إلا قوله تعالى : (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ) [المائدة : ٣] ، فإنها نزلت بعرفات ، وحكمها مدنية» (٢). مما يبين أن ما نزل بعد الهجرة هو مدني وإن نزل بغير المدينة.

الثاني : اعتبار مكان النزول ، فيكون معنى المكي : ما نزل بمكة ولو بعد الهجرة ، والمدني : ما نزل بالمدينة.

الثالث : اعتبار الذين توجه إليهم الخطاب ، وعلى هذا يكون معنى المكي : ما وقع خطابا لأهل مكة ، والمدني : ما وقع خطابا لأهل المدينة.

وأشهر الأقوال وأصحها وأشملها هو القول الأول. (٣)

وفائدة معرفة المكي والمدني هي :

أولا ـ العلم بالمتأخر ، فيكون ناسخا أو مخصصا على رأي من يرى تأخير المخصص. (٤)

ثانيا ـ التعرف على مراحل الدعوة الإسلامية ، وخطواتها الحكيمة المتدرجة الأحداث.

ثالثا ـ الوقوف على أساليب الدعوة المختلفة في مخاطبة المؤمنين والمشركين وأهل الكتاب. (٥)

__________________

(١) الأصل (٦٢ و).

(٢) الأصل (٩١ و).

(٣) ينظر : الإتقان ١ / ٣٥ والبرهان ٢ / ٦٥.

(٤) ينظر : الإتقان ١ / ٣٥.

(٥) ينظر : مباحث في علوم القرآن ١٦٧.

٦٣

وفي درج الدرر نجد المؤلف رحمه‌الله تعالى يهتم بهذا الموضوع اهتماما كبيرا ، فكل سورة يريد تفسيرها يكون أول شيء يتحدث عنه هو مكية السورة ومدنيتها ، وله في ذلك أكثر من أسلوب ، ومن ذلك :

١ ـ أن تكون السورة مكية ، فيذكر ذلك ، مثل سورة الحجر وفي أولها يقول : «مكية» (١). وكذلك مريم (٢) وطه (٣).

ففي سورة الحجر جزم بمكية السورة ، ولم يستثن شيئا منها بأنه مدني ، لكن هذا يتعارض مع الحديث الذي أخرجه الترمذي والحاكم وغيرهما ، والذي يتبين منه أن في السورة آية مدنية ، وهي قوله تعالى : (وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنْكُمْ وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَأْخِرِينَ (٢٤)) [الحجر : ٢٤]. وهذا ما ذكره المؤلف عند تفسير هذه الآية ، ولم يذكره في مقدمة السورة ، عند بيانه مكية السورة.

٢ ـ أن تكون السورة مدنية عنده ، مثل : سورة النور (٤) وآل عمران (٥) ، وفي أول حديثه عنهما يقول : «مدنية» ، وفي هذين الأسلوبين يتبنى هذا القول ، فلا يذكر رأيا آخر مغايرا لهذا الرأي.

٣ ـ تكون السورة مكية ، لكنه لا يتبنى هذا الرأي ، فيقول في أول سورة المؤمنون : «مكية في قولهم» (٦) ، ولم يعط رأيا مغايرا أو موافقا لهذا الرأي.

٤ ـ لكن أكثر السور القرآنية قد ذكر فيها اختلافا وأقوالا ، لكنه يتبنى رأيا معينا في أول السورة ، ثم يذكر الآراء المخالفة ، ففي بداية سورة الأعراف يصدر القول بمكية السورة ، ثم يروي عن ابن عباس وقتادة إلا خمس آيات نزلن بالمدينة ، قوله : (وَسْئَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ). (٧) هكذا من غير أن يوضح الآيات الخمس. وكذلك في مطلع سورة يونس عليه‌السلام بعد أن يؤكد أن السورة كلها مدنية ، يذكر رواية عن ابن عباس يستثني من مكية السورة ثلاث آيات وهي : (فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍ) الآيات [يونس : ٩٤] ، ويأتي برواية أخرى من غير أن ينسب القول لصاحبه فيقول : الآية نزلت في يهود المدينة ، وهي قوله : (وَمِنْهُمْ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ) [يونس : ٤٠]. (٨)

٥ ـ وقد يذكر مكان نزول الآية : مثل نزول قوله تعالى : (قُلْ تَعالَوْا أَتْلُ ما حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ) [الأنعام : ١٥١] ، فينقل عن عطاء أن السورة مكية إلا ثلاث آيات ، هذه الآية وما

__________________

(١) درج الدرر ٩٨.

(٢) درج الدرر ٢١٨.

(٣) درج الدرر ٢٤٤.

(٤) درج الدرر ٣٢٩.

(٥) الأصل (٦١ ظ).

(٦) درج الدرر ٣١٧.

(٧) الأصل (١١٠ و).

(٨) الأصل (١٥٢ ظ).

٦٤

بعدها ، نزلن بالمدينة أو بين مكة والمدينة. (١) وكذلك قوله تعالى : (وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطاناً نَصِيراً (٨٠)) [الإسراء : ٨٠] نزلت بين مكة والمدينة ، فيما يرويه عن ابن عباس رضي الله عنهما. ويذكر أكثر من قول في أنها نزلت بين مكة والمدينة ، أو أنها مدنية إلا بعضها نزل في السفر ، من غير تحديد للمكان. (٢)

٦ ـ وفي سورة التوبة وبعد أن يذكر أن السورة مدنية كلها ، يروي عن مجاهد أنها آخر ما نزلت (٣) ، أي : آخر ما نزل من السور.

٧ ـ ويحدد وقت نزول آية : فعند الحديث عن مكية سورة النحل ، يقول : «وعن ابن عباس وعطاء وابن المبارك وجماعة إلا قوله : (وَإِنْ عاقَبْتُمْ فَعاقِبُوا بِمِثْلِ ما عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ (١٢٦)) [النحل : ١٢٦] ، فإنها نزلت في منصرف النبي عليه‌السلام من أحد. (٤)

ويمكن تقسيم السور القرآنية إلى المجموعات الآتية حسب ما ذكر المؤلف فيها :

أولا ـ السور المكية : هي السور المتفق على مكيتها ، حسب رأيه ، ولم يذكر فيها أي خلاف ، وهي :

الحجر ، مريم ، طه ، الأنبياء ، النمل ، الأحزاب ، سبأ ، فاطر ، الصافات ، ص ، فصلت ، الزخرف ، الدخان ، الذاريات ، الطور ، الملك ، الحاقة ، المعارج ، نوح ، الجنّ ، المدثر ، القيامة ، النبأ ، النازعات ، عبس ، التكوير ، الانفطار ، الانشقاق ، البروج ، الطارق ، الأعلى ، الغاشية ، الفجر ، البلد ، الشمس ، الليل ، الضحى ، الشرح ، العلق ، القارعة ، التكاثر ، الهمزة ، الفيل ، قريش ، النصر ، المسد.

ثانيا ـ السور المدنية : هي السور المتفق على مدنيتها ، حسب رأيه ، ولم يذكر فيها خلاف ، وهي :

آل عمران ، النساء ، المائدة ، التوبة ، النور ، الفتح ، الحجرات ، الحديد ، المجادلة ، الحشر ، الممتحنة ، الجمعة ، المنافقون ، الطلاق ، التحريم ، الإنسان.

ثالثا ـ المختلف فيها : وهي السور التي ذكر فيها خلافا بمكيتها ومدنيتها سواء من قوله أو قول غيره ، وهي :

الرعد ، العنكبوت ، القمر ، الرحمن ، الصف ، التين ، القدر ، البينة ، الزلزلة ، العاديات ، العصر ، الماعون ، الكوثر ، الكافرون ، الإخلاص ، الفلق ، الناس.

رابعا ـ السور التي فيها استثناء : وهي السور التي ذكر فيها استثناء سواء من قوله أو قول

__________________

(١) ينظر : الأصل (١٠٢ و).

(٢) ينظر : ٢٩٧ ، ٤٠٧.

(٣) الأصل (١٣٥ و).

(٤) درج الدرر ١١٦.

٦٥

غيره ، وهي :

الأنعام ، الأعراف ، الأنفال ، يونس ، هود ، يوسف ، إبراهيم ، النحل ، الإسراء ، الكهف ، الحج ، المؤمنون ، الفرقان ، الشعراء ، القصص ، الروم ، لقمان ، السجدة ، يس ، الزمر ، غافر ، الشورى ، الجاثية ، الأحقاف ، محمد ، ق ، النجم ، الواقعة ، التغابن ، القلم ، المزمل ، المرسلات ، المطففين.

ملحوظة : سورة الفاتحة والبقرة لم يذكر فيهما شيء.

٦٦

المبحث الرابع

متفرقات

المطلب الأول

الناسخ والمنسوخ

إن معرفة الناسخ والمنسوخ في القرآن العظيم له أهمية كبيرة ، تنبع من أهمية التشريع الآتية من هذا الكتاب الكريم المعجز ، واهتم العلماء بهذا النوع من أنواع علوم القرآن ، وتوسعوا فيه ، وأهميته يمكن إيجازها بما يأتي :

١ ـ أنه يكشف النقاب عن سير التشريع الإسلامي ، ويطلع الإنسان على حكمة الله تعالى في تربيته للخلق ، وسياسته للبشر ، وابتلائه لهم.

٢ ـ أنه ركن عظيم في فهم الإسلام ، وفي الاهتداء إلى صحيح الأحكام ، خصوصا إذا ما وجدت أدلة متعارضة لا يندفع التناقض بينها إلا بمعرفة سابقها من لاحقها ، وناسخها من منسوخها.

٣ ـ أنه تناول مسائل دقيقة ، كانت مثارا لخلاف الباحثين الأصوليين. (١)

والمؤلف رحمة الله عليه منطلقا من أهمية هذا العلم ، تكلم عن النسخ بشكل موسع نوعا ما ، وذلك عند حديثه عن قول الله تعالى : (ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِها نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْها أَوْ مِثْلِها أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (١٠٦)) [البقرة : ١٠٦]. (٢)

تعريف النسخ عنده :

«في اللغة : هو الإزالة والإزاحة ، آخذا ذلك من قول القائل : نسخت الشمس الظل ، والريح الأثر» (٣) ، لكنه لم يبين كما بين غيره ممن تحدث عن النسخ بأن كلا من هاتين الجملتين تدل على معنى خاص :

فالجملة الأولى : نسخت الشمس الظل ، إذا أزالته وحلت محله ، أي : أن النسخ هنا يكون ببدل ، بمعنى أن الشمس أزالت الظل فأذهبته ، وحلّت محله.

أما الجملة الثانية : نسخت الريح الأثر : فهي بمعنى أن الريح أزالت الأثر ، بيد أنها لم تحل محله ، بل زالا جميعا ، فهو نسخ إلى غير بدل. (٤)

__________________

(١) ينظر : مناهل العرفان ٢ / ١٢٥.

(٢) ينظر : الأصل (٢٦ ظ).

(٣) الأصل (٢٦ ظ).

(٤) ينظر : الناسخ والنسوخ للنحاس ٥٧ ، والناسخ والمنسوخ لابن حزم ٦ ـ ٧.

٦٧

ويتم قوله في المعنى اللغوي : «وتسمى كتابة ما هو في كتاب سابق نسخا مجازا ، وكذلك تسمى نقلا ، وحقيقة النقل ما يكون به فراع محلّ لشغل محلّ» (١).

وعرّف النسخ أنه : «إزالة ما سبق في كونه صلاحا في وقت دون وقت بما سبق في كونه صلاح في الوقت الأول صلاحا في الوقت الثاني» (٢).

فهذا التعريف جاء به المؤلف في معرض رده على اليهود والإمامية ، ليفرق بين النسخ والبداء ، فركز في تعريفه على أن علم الله تعالى عام في الحكم الأول الذي جاء النسخ عليه يعلم أنه ينتهي في هذا الوقت ، وأنه صالح لهذا الوقت الذي حدده الله تعالى ، وليس صالحا لأن يستمر ، وإنما يستمر مدة من الزمن ، ينتهي عند موعد نزول الحكم الآخر الذي يبدأ من هذا الوقت الذي انتهى عنده الحكم الأول ، وأن الحكم الثاني صالح لهذا الوقت ، وكذلك صالح للاستمرارية ، فهو في علمنا ، نحن البشر ، أنه استجد حكم بعد حكم وبدا لنا فيه أمر ، أما في علم الله تعالى فهو معلوم في الأزل.

وعرف البداء بأنه فيعرفه ليبين أنه غير النسخ ، فالبداء : «هو الاستدراك عند اتّضاح الملتبس. تعالى الله عن ذلك علوّا كبيرا». (٣)

فالبداء هو عند ما يتضح عند صاحبه أمر شيء جديد ليس في معلومه ، فإنه يبدل ويحول فيما كان يريد أن يقوم به ، بسبب ما اتضح واستجد لديه من أمور كانت خافية عليه من قبل. وهذا لا ينطلق على علم الله تعالى ، فالله تعالى عالم علما كاملا بكل شيء ما كان وما يكون وما لم يكن لو كان كيف يكون.

وقد أثبت النسخ من الناحية العقلية والنقلية :

أولا ـ الناحية النقلية : أثبت النسخ بأدلة من القرآن الكريم ، هي (٤) :

١ ـ قول الله تعالى : (أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ) [الأعراف : ٥٤] ، ووجه الاستدلال «نسخ الخلق بالخلق لا يؤدّي إلى البداء فكذلك نسخ الأمر بالأمر».

٢ ـ قول الله تعالى : (وَإِذا بَدَّلْنا آيَةً مَكانَ آيَةٍ) [النحل : ١٠١].

٣ ـ قول الله تعالى : (يَمْحُوا اللهُ ما يَشاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتابِ (٣٩)) [الرعد : ٣٩].

وكلتا الآيتين استشهد بهما في معرض رده على اليهود والإمامية.

لكنه لم يذكر أدلّة في جواز النسخ من السنة النبوية المطهرة.

إلا أنه ذكر أمثلة من الأمم السابقة على جواز النسخ ، ومن هذه الأمثلة :

١ ـ تزويج آدم أولاد صلبه بعضهم من بعض.

__________________

(١) ينظر : الفصول في الأصول ٢ / ١٩٦ ، وأصول السرخسي ٢ / ٥٣.

(٢) الأصل (٢٦ ظ).

(٣) الأصل (٢٦ و).

(٤) ينظر : الأصل (٢٦ و).

٦٨

٢ ـ جمع يعقوب عليه‌السلام بين أختين ، لايان وراحيل ابنتا خاله ، ثمّ حرّمت ذلك التوراة.

٣ ـ حكم الختان لإبراهيم.

كما أنه أثبت النسخ من الناحية العقلية بقوله : «أن قطع العضو محظور ، ثم إذا أصابته آفة يرجو صاحبه السلامة بالقطع ، كان له أن يقطع».

ويذكر مذهبه في النسخ ، فيما يجوز فيه النسخ وما لا يجوز فيه :

أولا ـ ما لا يجوز النسخ فيه :

أحدها : نسخ ما يستحيل نسخه بغير جحد أو اعتراف بالكذب ، كنسخ قصّة عاد وثمود وغيرهم ، وكالإخبار عن نفسه بقوله : (إِنَّ اللهَ جامِعُ الْمُنافِقِينَ وَالْكافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعاً) [النساء : ١٤٠] ، وعن قول الشيطان : (لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللهَ وَعَدَكُمْ [وَعْدَ الْحَقِ]) [إبراهيم : ٢٢] ، وعن قول الضعفاء والمستكبرين في النار وقول الملائكة لهم.

والثاني : نسخ ما لا يجيز العقل نسخه ، كنسخ الإحسان والإذعان والإيمان.

والثالث : نسخ ما يؤدّي إلى اللوم والغرور ، كنسخ ما أوجب الله تعالى من جزاء الإحسان.

والرابع : نسخ يؤدّي إلى الحنث ، كنسخ قوله : (لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ)، الآية [الأعراف : ١٨] ، وقوله : (فَوَ رَبِّكَ لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ) [الحجر : ٩٢] ، (وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وارِدُها)، الآية [مريم : ٧١]. ولو لم يكن للقسم مزيّة على الوعد والوعيد لما ذكر القسم.

والخامس : نسخ حكم لم يفد شيئا ، كنسخ ما لم ينزله جبريل عليه‌السلام بعد ، إذ هو يؤدّي إلى البداء.

والسادس : نسخ لم يبيّن ؛ لأنّه محال إذ ترك تبيين النسخ إبقاء للحكم الأوّل ، فلا يجتمعان.

أما ما يجوز النسخ فيه :

الأوّل : الأثقل بالأخفّ ، كنسخ تحريم الرّفث ليالي الصوم بالإباحة.

والثاني : نسخ المثل بالمثل ، كنسخ التّوجّه إلى قبلة بإيجاب التّوجّه إلى قبلة.

والثالث : نسخ ما هو أقلّ ثوابا بما هو أكثر ثوابا ، كنسخ صوم يوم عاشوراء بصوم شهر رمضان.

والرابع : نسخ ما أفاد معنى قبل نسخه ، كنسخ خمسين صلاة ليلة المعراج بخمس صلوات. وفائدة الحكم الأوّل اعتقاد نبيّنا صلى‌الله‌عليه‌وسلم وجوبها ، وإكرام الله إيّاه بالتّشفيع وإمضاء ثواب خمسين صلاة بخمس صلوات. وهذا النوع يأباه بعض المتكلّمين من المعتزلة وغيرهم.

والخامس : نسخ ما يحمد ، كنسخ ما أوجب الله تعالى أهل الارتكاب من العذاب بالعفو ، وإنّما جاز لوقوعه محمودا حسنا ، لأنّه تعالى شرط لنفسه المشيئة فيه. وهذا النوع يأباه فريق من المعتزلة أيضا ، ويجعلونه من حيّز الإخبار.

٦٩

والسادس : نسخ التلاوة مع بقاء المعنى ؛ لأنّ التلاوة وحدها تتفرّد بحكم غير حكم المعنى ، وهو ترك مسّه محدثّا ، وإقامة التحريم بها ، فلم يقف نسخها على نسخه. وهذا النوع يأباه الزجّاج في ما روي عنه.

ثم يقول : «وخلق النسيان جائز في الأنواع الاثني عشر كلبها ، وهو مثل النسخ وليس بنسخ». وهذا القول هو ما يذكره غيره بالنوع الآخر من أنواع النسخ وهو النسخ إلى غير بدل ، من مثل ما جاء في الحديث : بأن سورة الأحزاب كانت تعدل سورة البقرة طولا ، فنسخ الله منها ما شاء بغير عوض ، وذهب حفظه من القلوب. (١)

وأنواع النسخ عنده هي :

١ ـ نسخ القرآن بالقرآن : والمثال عليه ، ما جاء في تفسير قول الله تعالى : (وَمَنْ يَبْتَغِ) [آل عمران : ٨٥] ، يقول : «وهي ناسخة لقوله : (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا) [البقرة : ٦٢] ، في رواية علي بن طلحة عن ابن عباس ، ويصح الجمع بينهما على ما سبق». (٢)

٢ ـ نسخ السنة بالسنة.

٣ ـ نسخ القرآن بالسنة. ويقول في موضع آخر مؤكدا على هذا المعنى بقوله : «وليس يطيع الرسول من ينكر نسخ القرآن بالسنة ، وإنما كانت طاعته طاعة الله تعالى ؛ لأنه عليه‌السلام لم ينطق عن الهوى». ويؤكد على هذا القول في معرض قوله تعالى : (فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ) [النور : ٦٣] ، فيقول : «دليل على وجوب الأمر ، على جواز نسخ الكتاب بالسنة» (٣). لكنه لم يحدد هل هذا النسخ يكون بالسنة المتواترة أو المشهورة أو الآحاد؟

٤ ـ نسخ السنة بالقرآن.

وأن هذا كله جائز ، ولا يختلف الحكم فيه ، والسبب في هذا القول هو : أن الكلّ من عند الله ، والرسول أمين (وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى (٣)) [النجم : ٣].

ويذكر بعض المذاهب في النسخ أو أنواعا من النسخ على الشكل الآتي :

أولا ـ اليهود والإمامية : فهم لا يقولون بنسخ الشريعة ، وأنهم لا يفرقون بين النسخ والبداء.

وحجة اليهود في ذلك وهي قول موسى عليه‌السلام : من جاءكم بخلاف ما أتيتكم به ، فلا تقبلوه. فأجاب عن قولهم هذا بما يأتي : «أما قول موسى عليه‌السلام ، فمعناه من جاءكم مكذبا بي مخطّئا إياي فلا تصدقوه ، ولم يرد به من يبتني على المعلوم الأوّل إذ هذا لا يكون مخالفا ، ألا ترى أنّك إذا تيقّنت الخبر ثمّ جاء إنسان وقال : إنّ ما علمت لم يكن ، فإنّك تكذّبه لا محالة ، ولو أخبرك بزواله بعد كونه لم تكذّبه ، ولكنّك طالبته بالبيّنة والبرهان».

__________________

(١) ينظر : الناسخ والمنسوخ للنحاس ١ / ٥٨ ـ ٦٠ ، والناسخ والمنسوخ لابن حزم ١ ـ ٨.

(٢) الأصل (٦٩ و).

(٣) درج الدرر ٣٥٨.

٧٠

أما حجة الإمامية فهي :

١ ـ قول الله تعالى : (شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ ما وَصَّى بِهِ نُوحاً) [الشورى : ١٣] ، ورده بقوله : «بأن المراد بالآية ما بقي من شرائعهم غير منسوخ».

٢ ـ قول الله تعالى : (ما يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَ) [ق : ٢٩] ، وردّه بقوله : «والآية الأخرى على ما قال الله تعالى ، لكنه في تبديل على وجه البداء دون النسخ ، بدلالة قول الله تعالى : (وَإِذا بَدَّلْنا آيَةً مَكانَ آيَةٍ) [النحل : ١٠١]».

٣ ـ ويجعلون ما تجده منسوخا من الأحكام مؤقّتا بوقت معين مقدّر يعلمه النبيّ أو الوصيّ من بعده ، فينتهي بانتهاء وقته من غير نسخ. والجواب عليه هو «ولو كان توقيت القبلة يعلمه النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لما كان لتقلب وجهه في السماء معنى».

٤ ـ يفسرون الآية بانتساخ القرآن من اللوح المحفوظ. وجوابه عليه : «وتأويل النسخ بالانتساخ خطأ ، بدليل ما تلونا من قوله : (وَإِذا بَدَّلْنا آيَةً مَكانَ آيَةٍ) [النحل : ١٠١] ، وقول الله تعالى : (يَمْحُوا اللهُ ما يَشاءُ وَيُثْبِتُ) [الرعد : ٣٩]».

ثانيا ـ أن الزجاج يأبى نسخ التلاوة مع بقاء المعنى.

وردّ عليه في معرض تعليله هذا النوع من النسخ ، وهو أن التلاوة وحدها تنفرد بحكم غير حكم المعنى ، وهو ترك مسه محدثّا ، وإقامة التحريم بها ، فلم يقف نسخها على نسخه.

ثالثا ـ أن بعض الزيدية زعم أنه لا ينسخ الحكم مع بقاء التلاوة.

ورد هذا بقوله : «وهو غير صحيح ، لأن أحدهما لا يقف على نسخ الآخر» وجاء بمثال على ذلك ألا وهو : «وقد أجمع أهل الإسلام على أن قوله : (لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ (٦)) [الكافرون : ٦] ، منسوخ بآية السيف».

أما منهجه في الآيات الناسخة والمنسوخة ، فهو كالآتي :

١ ـ يذكر أن هذه الآية ناسخة لآية أخرى : فعندما يتحدث عن قوله تعالى : (وَمَنْ يَبْتَغِ) [آل عمران : ٨٥] ، يقول : وهي ناسخة لقوله : (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا) [البقرة : ٦٢] ، في رواية علي بن طلحة عن ابن عباس ، ويصح الجمع بينهما. (١).

٢ ـ يورد قولا بنسخ آية ويرده : ومثال ذلك عند ما نقل عن الكلبي في قوله تعالى : (لَنْ تَنالُوا الْبِرَّ) [آل عمران : ٩٢] ، فيرد هذا القول بقوله : «وليس كذلك ، لأنه لا تنافي بينهما إذ الزكاة إنفاق من بعض المحبوب» (٢). وكذلك في سورة النحل نجده يورد قولا ولا يذكر القائل أو أنه قول لأحد ، فعند قوله تعالى : (ادْعُ إِلى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ) [النحل : ١٢٥] ، يقول : «الآية

__________________

(١) الأصل (٦٩ و).

(٢) الأصل (٦٩ و).

٧١

منسوخة بآية السيف ، وليس فيها ما يوجب كونها منسوخة» (١).

٣ ـ ويرد على اليهود مستنبطا من قوله تعالى : (كُلُّ الطَّعامِ كانَ حِلًّا) [آل عمران : ٩٣] ، فيقول : «نزلت ردّا على اليهود حيث أنكروا النسخ ...» (٢).

٤ ـ وقد يبين أن آية يتحدث عنها هي ناسخة لآية أخرى نقلا عن غيره ولا يبين رأيه في ذلك : ومن ذلك عند الحديث عن قوله : (حَقَّ تُقاتِهِ) [آل عمران : ١٠٢] ، نجده ينقل عن السدي وقتادة وابن زيد : أنّ هذه الآية منسوخة بقوله : (فَاتَّقُوا اللهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ) [التغابن : ١٦] ، (٣) ولم يعلق على هذا القول بشيء.

٥ ـ يذكر معنى كلمة ، وبناء على هذا المعنى يبين أن الحكم منسوخ : والمثال عليه هو عند تفسيره (الفاحشة المبينة) : هو النّشوز ، عن ابن عبّاس وأبي مجلز يجوز للرّجل قبول الفداء حينئذ. وقال قتادة والسدّيّ : هو الزّنا ، والحكم على هذا منسوخ. (٤) وفي سورة الحجر وعند قوله تعالى : (الصَّفْحَ الْجَمِيلَ) [الحجر : ٨٥] ، يقول : «إن كان متاركة فهو منسوخ بآية السيف ، وإن كان ما يضاد الإكراه ، فهو باق في حق العرب ؛ لأنهم إذا قبلوا الجزية صفحنا عنهم ، وإن كان المراد به ترك الفحش والشتم ، فهو باق في حق الكافّة» (٥).

٦ ـ يبين أن الحكم منسوخ ، ويذكر قولا يردّ هذا القول : والمثال عليه : ما جاء في تفسير قول الله تعالى : قال تعالى : (يا أَيُّهَا الرَّسُولُ لا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسارِعُونَ فِي الْكُفْرِ) [المائدة : ٤١] ، يقول : ««والتخيير بين الحكم والإعراض منسوخ بقوله : (وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ) [المائدة : ٤٩]. وقيل : ليس بمنسوخ». (٦)

٧ ـ يبني المعنى للكلمة على النسخ : فعند قوله : (وَذَرِ) [الأنعام : ٧٠] يقول : «أي : كفّ عنهم ، إن كانت الآية منسوخة ، ونابذ ، إن لم تكن منسوخة». (٧)

٨ ـ ونجده يقول بنسخ القرآن بالسنة ، هكذا مطلقا دون تحديد بمتواتر أو آحاد أو غيره ، فيقول : «وليس يطيع الرسول من ينكر نسخ القرآن بالسنة ، وإنما كانت طاعته طاعة الله تعالى ؛ لأنه عليه‌السلام لم ينطق عن الهوى». ويؤكد على هذا القول في معرض قوله تعالى : (فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ) [النور : ٦٣] ، فيقول : دليل على وجوب الأمر ، على جواز نسخ الكتاب بالسنة (٨).

__________________

(١) الأصل (٦٩ و).

(٢) الأصل (٦٩ و).

(٣) الأصل (٧٠ ظ).

(٤) الأصل (٧٣ ظ).

(٥) درج الدرر ١١١.

(٦) الأصل (٩٦ و).

(٧) الأصل (١٠٥ و).

(٨) درج الدرر ٣٥٨.

٧٢

٩ ـ يقول بنسخ الوعيد ، فيقول عند تفسيره قوله تعالى : (نُوَلِّهِ ما تَوَلَّى) [النساء : ١١٥] : «ثم لله المشيئة فيه بعد ذلك على قول من لا يرى نسخ الوعيد ، وعلى قولنا فله أن لا يفعل الوعيد بمن شاء من خلقه». (١)

١٠ ـ يبين سبب تقدم الناسخ على المنسوخ في المكان في القرآن الكريم : فيقول عند قوله تعالى : (وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ) [البقرة : ٢٣٤] : «ناسخة لقوله : (وَصِيَّةً لِأَزْواجِهِمْ مَتاعاً إِلَى الْحَوْلِ) [البقرة : ٢٤٠] ، وتقديم الناسخ على المنسوخ في التلاوة والكتابة لأحد سببين : إما التعبد ، وإما الاتفاق الذي كان بعد فطم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، كما اتفق تقديم سورة الجهاد على سورة المتاركة وهي (قُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ (١))». (٢)

المطلب الثاني

الإسرائيليات

تعريف الإسرائيليات لغة : جمع مفرده إسرائيلية ، نسبة إلى بني إسرائيل ، وإسرائيل كلمة عبرانية تعني عبد الله ، وإسرائيل هو نبي الله يعقوب بن إسحاق عليهما‌السلام ، وإليه ينتسب بنو إسرائيل. (٣)

اصطلاحا : هي قصة أو حادثة تروى عن مصدر إسرائيلي. (٤) إلا أن علماء التفسير والحديث يطلقونه على ما هو أوسع من ذلك واشمل ، فهو في اصطلاحهم : يدل على ما تطرق إلى التفسير والحديث من أساطير قديمة منسوبة في أصل روايتها إلى مصدر يهودي أو نصراني أو غيرهما ، وما دسّه أعداء الإسلام من أخبار لا أصل لها ؛ ليفسدوا بها عقائد المسلمين. (٥)

ويقول شيخ الإسلام ابن تيمية : «ولكن هذه الأحاديث الإسرائيلية تذكر للاستشهاد لا للاعتقاد ، فإنها على ثلاثة أقسام :

أحدها : ما علمنا صحته مما بأيدينا مما يشهد له بالصدق ، فذاك صحيح.

والثاني : ما علمنا كذبه بما عندنا مما يخالفه.

والثالث : ما هو مسكوت عنه لا من هذا القبيل ، ولا من هذا القبيل ، فلا نؤمن به ولا نكذبه ، وتجوز حكايته لما تقدم ، وغالب ذلك مما لا فائدة فيه». (٦)

والإسرائيليات تدخل في موضوعها في العقائد والأحكام الشرعية ، ومعظمها في المواعظ والقصص وبدء الخلق ، وقد اعتمد أهل التفسير في رواية هذه الأقاويل عن أهل الكتاب على ما

__________________

(١) الأصل (٨٧ ظ).

(٢) الأصل (٥١ ظ).

(٣) ينظر : نشأة التفسير في الكتب المقدسة والقرآن الكريم ٣٧ ، ودراسات في التفسير وأصوله ٢٥.

(٤) الإسرائيليات في التفسير والحديث ١٣.

(٥) الإسرائيليات في التفسير والحديث ١٣ ـ ١٤.

(٦) مقدمة في أصول التفسير ٤٨.

٧٣

جاء عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «بلغوا عنّي ولو آية ، وحدّثوا عن بني إسرائيل ولا حرج ، ومن كذب عليّ متعمدا فيتبوأ مقعده من النار». (١)

لكن هذه الأحاديث الإسرائيلية تذكر للاستشهاد لا للاعتقاد ، كالذي يرد في أسماء أصحاب الكهف ولون كلبهم وعدّتهم ، وعصا موسى من أي الشجر هي ، وأسماء الطيور التي أحياها الله تعالى لإبراهيم ، ... إلى غير ذلك مما أبهمه الله تعالى في القرآن مما لا فائدة من تعيينه تعود على المكلفين في دنياهم ولا دينهم.

وقد شحنت كتب التفسير بالمأثور وغيرها بالأحاديث الإسرائيلية.

والمؤلف رحمه‌الله تعالى من الذين أولعوا بهذه الإسرائيليات إلى حد كبير ، فنجدها كثيرة في ثنايا الكتاب ، وتكون على أشكال متعددة ، منها ما هو على شكل أقوال للنبي عليه‌السلام ، ومنها ما هو على شكل أقوال للصحابة ، ومنها ما هو على شكل قصة مختلقة لا يقبلها العقل ، ومن هذه الأشكال التي يوردها :

١ ـ أن يوردها على شكل حديث للنبي عليه‌السلام : مثال ذلك ما يذكره عند تفسير قول الله تعالى : (وَيَسْئَلُونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ قُلْ سَأَتْلُوا عَلَيْكُمْ مِنْهُ ذِكْراً (٨٣)) [الكهف : ٨٣] ، يقول : «عن عقبة بن عامر قال : كنت أخدم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فخرجت من عنده ، فوجدت ناسا من أهل الكتاب معهم كتب ومصاحف ، قالوا : استأذن لنا على محمد رسول الله ، قال : فدخلت ، فأخبرته بمكانهم ، قال : «ما لي ولهم يسألونني عما لا أعلم ، وإنما أنا عبد لا أعلم شيئا إلا ما علمني ربي ، أبغني وضوءا» ، فتوضأ ، ثم دخل في مصلى بيته ، فصلى ركعتين ، فلم ينصرف حتى رأيت البشر في وجهه ، فقال : «اخرج إليهم ، فأذن لهم ، وانظر من كان بالباب من أصحابي ، فأدخله» ، فلما دخلوا قال : «إن شئتم أنبأتكم بالذي جئتم له ، وإن شئتم سألتموني فأخبركم» ، قالوا : بل أخبرنا لأي شيء جئنا؟ وعن أي شيء نسألك؟ قال : «جئتموني تسألونني عن ذي القرنين ، وكيف كان أوّل شأنه؟ فقال : وسأخبركم ما تجدونه في كتابكم إن شاء الله ، إنه غلام من الروم ، فأتى ساحلا من سواحل مصر ، فبنى له مدينة ، يقال لها : الاسكندرية ، فلما فرغ من بنائه بعث الله إليه ملكا ، فرفعه إلى السماء ، فقال له : انظر ما ترى؟ فقال : أرى مدينتي قد اختلطت في المدائن ، قال : ثم رفعه ، فقال : انظر ما ترى؟ قال : أرى مدينتي وحدها ، ولا أرى غيرها ، قال : هذه التي ترى الدنيا ، والمدير بها البحر الأخضر ، قيل له : فاذهب فحدث العالم ، وعلم الجاهل ، قد جعل الله لك سلطانا ، فانطلق حتى أتى مغرب الشمس ، أتى مطلعها ، وأتى الدين ، وهو جبلان زلقان يزل عنهما كل شيء ، فبناهما ، ثم أتى يأجوج ومأجوج ، ثم جاوزهما ، فأتى على قوم قصار يقاتلون يأجوج ومأجوج ، ثم جاوزهم ، فوجد أمة من الغرانيق يقاتلون القوم الذي وجوههم على وجوه الكلاب ، ثم جاوزهم ، فوجد أمة من الحيّات ، الحية الواحدة تلتقم الصخرة العظيمة ، ثم جاوزها حتى انتهى إلى البحر المستدير بالدنيا. فقالوا :

__________________

(١) أخرجه البخاري في الصحيح (٣٤٦١) ، والترمذي في السنن (٢٦٦٩) ، وابن حبان في الإحسان (٦٢٥٦).

٧٤

نشهد أنا نجده هكذا.» (١). متن هذا الحديث ظاهر النكارة ، فلا يمكن أن يخرج من النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم مثل هذا القول. والله تعالى أعلم.

٢ ـ أن يورد القصة على شكل قول لأحد الصحابة : والمثال عليها ما جاء في تفسيره لقول الله تعالى : (فَفَهَّمْناها سُلَيْمانَ) [الأنبياء : ٧٩] ، قوله : «وعن ابن عباس قال : إن غنم قوم وقعت في كرم قوم ليلا حين خرج عناقيده فأفسدتها ، فاختصموا إلى داود بن أنشا النبيّ عليه‌السلام ، فقوّم داود الغنم والكرم ، ... نعم ما قضيت ، فقضى داود بينهم بذلك ، فقوّموا بعد ذلك الكرم ، وقوّموا ما أصاب أهل الكرم من الغنم ، فوجدوه مثل ثمن الكرم ، فقضى به داود عليه‌السلام ، وحكم سليمان عليه‌السلام وهو ابن أحدى عشرة سنة» (٢).

٣ ـ يورد الإسرائيلية نقلا عن مؤرخ : والمثال على ذلك ما رواه عند تفسيره قول الله تعالى : (وَتَاللهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنامَكُمْ بَعْدَ أَنْ تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ) [الأنبياء : ٥٧] يقول : «عن الواقدي عن أشياخه قال : كان آلهتهم العظمى عشرة من نحاس على سرر من ذهب ، مكللة بالياقوت والزبرجد ، ... وإذا خرجوا لم يخرجوا حتى يسجدوا لها ، وإذا نزل بأحدهم أمر ذهب إليها» (٣).

٤ ـ يأتي بالإسرائيلية على شكل قول غير منسوب لأحد لكنه يبين أنه من قول أحدهم ولم يعرّفه ، والمثال على ذلك ما جاء في تفسيره لقول الله تعالى : (إِذْ رَأى ناراً فَقالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ ناراً) [طه : ١٠] فيقول : «وكانت القصة في زمن كيقباذ ... وأما الباكون من خشيتي فهم في الرفيق الأعلى من الجنة لا يشاركون فيها ، ولا يلحقهم أحد» (٤).

٥ ـ أن يوردها في سياق تفسير الآية : وذلك بأن يورد الآية ، ثم يذكر القصة أو الإسرائيلية بشكل مباشر أو استطرادا منه ، إذ يعتبر ذلك توضيحا لمعنى الآية ، والمثال على ذلك :

«فلما دخل عليه يوسف كلمه بلسان أهل مصر ، فجعل الملك يكلمه بألسنة أخرى ، وجعل يوسف يجيبه بتلك الألسنة حتى تكلما سبعين لغة ، ثم إن يوسف دعا له بالعبرية ، وأثنى عليه بالعربية ، فلم يعرفها الملك ، وانقطع عن الجواب ، واستحسن جميع ذلك من يوسف ، فقال : (فَلَمَّا كَلَّمَهُ قالَ إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنا مَكِينٌ أَمِينٌ) [يوسف : ٥٤]» (٥).

أما ما كان على الشكل الثاني وهو الاستطراد ، فالمثال عليه : عند تفسيره لقول الله تعالى : (إِذْ رَأى ناراً فَقالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ ناراً لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْها بِقَبَسٍ أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدىً (١٠)) [طه : ١٠] ، يقول : «وقيل : كانت القصة في زمن ... في الرفيق الأعلى من الجنة لا

__________________

(١) درج الدرر ٢٠٩ ـ ٢١٠.

(٢) درج الدرر ٢٨٥ ـ ٢٨٦.

(٣) درج الدرر ٢٧٩.

(٤) درج الدرر ٢٤٧ ـ ٢٤٨.

(٥) درج الدرر ٥٧.

٧٥

يشاركون فيها ، ولا يلحقهم أحد» (١). فيذكر فيها تفاصيل كثيرة.

٦ ـ أن يورد الإسرائيلية في معرض مناقشة الأقوال : فعند شروعه بتفسير الآية يأتي بأقوال متعددة ، تكون على شكل إسرائيليات ، لكنها من أقوال بعض التابعين ، ولم يرجح بينها سواء بترجيح أحد الأقوال أو قولا آخر يذكره ، وأمثل عليه بما يأتي :

فعند تفسيره قول الله تعالى : (لَوْ لا أَنْ رَأى بُرْهانَ رَبِّهِ) [يوسف : ٢٤] ، يذكر عددا من الأقوال ، قيقول : «قيل : صورة يعقوب عاضّا على أصبعه يقول : مثلك قبل المواقعة كذا ، وبعد المواقعة كذا. مقاتل : سمع صوتا : إياك ومواقعتها ، فإنك إن واقعتها صرت كالطير الواجد. وقيل : سمع صوتا : أتهمّ بعمل السفهاء ، وأنت مكتوب في الأنبياء. وقيل : رأى مكتوبا في السقف : (وَلا تَقْرَبُوا الزِّنى إِنَّهُ كانَ فاحِشَةً وَساءَ سَبِيلاً (٣٢)) [الإسراء : ٣٢]» (٢).

٧ ـ يذكر الإسرائيلية على شكل قصة ينسبها إلى راويها : والمثال على ذلك عند تفسيره لقول الله تعالى : (قالُوا حَرِّقُوهُ وَانْصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ فاعِلِينَ (٦٨)) [الأنبياء : ٦٨] ، يقول : «عن الواقدي ، عن شيوخه قالوا : أمر نمرود بإبراهيم ...» (٣) فيذكر في ذلك كلاما كثيرا ، لا داعي لإعادته.

وذكر هذه الإسرائيليات في التفاسير أمر ليس منه فائدة ترتجى ، فإنّ أكثرها من نسج خيال اليهود وغيرهم ، وفيها من الدسائس على دين الإسلام الكثير ، مما يشوّه التفاسير ويخرجها من غرضها الأساس ، وهو فهم كتاب الله تعالى وتوضيحه للعامّة ، إلى أن يكون كتاب تاريخ فيه الغث والسمين ، والصالح والطالح ، والأولى بالمفسر الاكتفاء بما جاء في القرآن أو السنة النبوية المطهرة واللغة العربية وغيرها من أصول التفسير التي تعطي ثمارها في شرح وتوضيح كتاب الله تعالى ، ولا تشتت فكر القارئ في موضوعات لا تنفع ، وفي الغالب تضرّ ، والله تعالى أعلم.

المطلب الثالث

عنايته بالأحكام الفقهية

إن تعرض المؤلف رحمه‌الله تعالى للأحكام الفقهية لم يكن بشكل واسع كما نجده عند غيره من المفسرين الذين اهتموا في تفاسيرهم بالأحكام الفقهية ، ولكون تفسير «درج الدرر» مختصرا فإنّ تعرضه للأحكام الفقهية مقتضب ، وهو إن تعرض لحكم في آية فإنه يكون بكثير من الاختصار والإيجاز ، أو على شكل استنباط لهذا الحكم أو ذاك من هذه الآية أو تلك ، لأنه لم يضع تفسيره من أجل المسائل الفقهية أو الأصولية.

ويمكن تبيّن ملامح طريقته في عرض الأحكام الفقهية من خلال ما يأتي :

__________________

(١) درج الدرر ٢٤٧ ـ ٢٤٨.

(٢) درج الدرر ٤٦.

(٣) درج الدرر ٢٨١ ـ ٢٨٢.

٧٦

١ ـ يستدل بالآية على مذهبه الذي ذهب إليه في حكم من الأحكام من غير أن يبين أن هذا الحكم هو على مذهب معين :

فمثلا : عند تفسيره قول الله تعالى : (لا يَسْتَوِي الْقاعِدُونَ) [النساء : ٩٥] يقول : «وفيها دليل بأن الجهاد فرض على الكفاية ؛ لأنه وعد القاعد بالحسنى». (١)

وكذلك في تفسيره (سَواءً الْعاكِفُ فِيهِ وَالْبادِ) [الحج : ٢٥] ، يستدل على حكم ويدعم قوله بحديث عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فيقول : «يدل على أن المقيم برباع مكة ليس بأولى من الحاج. عن عبد الله بن عمرو بن العاص ، عن النبي عليه‌السلام قال : «حرم مكة ، فحرام بيع رباعها ، وأكل ثمنها». وفي رواية : «وحرام أجر بيوتها».» (٢).

وقد يبين أنّ هذا الحكم لواحد من الصحابة أو التابعين أو غيرهم ، فيستدل على ذلك متبنيا هذا الحكم ، ومشعرا أنه مذهبه الذي يسير عليه.

فمثلا : عند بيان معنى (اليتيمة) في قول الله تعالى (وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتامى) [النساء : ٣] ، يقول : «الصّغيرة ، وفيه دليل على أنّ للوليّ أن يتزوّجها ، وهو مذهب عليّ». (٣) فانتصر بالآية لمذهب علي بن أبي طالب في هذه المسألة.

٢ ـ ولما كان تفسير درج الدرر ، كما أشرت ، ليس الغرض منه استنباط الأحكام الفقيهة ، كما هو شأن بعض كتب التفسير وأحكام القرآن ، فإن مؤلفه لم يسرف في ذكر الأحكام ، ولم يشغل نفسه كثيرا بتقرير المسائل الخلافية على مذهبه الذي يتبناه ، فنجد أنه لم يذكر المذهب المالكي أو الحنبلي في كل تفسيره ، فهو يتطرق إلى مذهب الإمام أبي حنيفة ، ومذهب الإمام الشافعي ، رحمهما‌الله تعالى ، ولم يفصّل القول في هذين المذهبين ، بل يشير إليهما إشارة بذكر قول المذهب الذي هو عليه ، والمخالف له.

ومن أمثلة ذلك ما جاء في تفسيره قول الله تعالى : (ذلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمانِكُمْ) [المائدة : ٨٩] ، إذ يقول : «ولا يجوز التكفير قبل الحنث ، خلافا للشافعي رحمه‌الله». (٤)

وكذلك يقول في الآية نفسها عند ما يتحدث عن الإطعام يكون لكل مسكين نصف صاع من برّ ، أو صاع من تمر ، أو صاع من شعير : «وإن غدّاهم وعشّاهم جاز خلافا للشافعي ، وإن أطعم واحدا عشرة أيام جاز ، خلافا للشافعي ، ويجوز دفع القيمة خلافا له». (٥)

ففي هذا المثال بيّن المؤلف رحمه‌الله أن هناك رأيين : أحدهما المذهب الذي يتبناه ، وهو رأي مذهب أبي حنيفة ، الذي يخالف رأي الإمام الشافعي رحمه‌الله تعالى ، وجاء به مختصرا من غير تفصيلات دقيقة ، وأيضا لم يأت برأي المذاهب الأخرى ، كما ذكر.

__________________

(١) الأصل (٨٦ و).

(٢) درج الدرر ٣٠٥.

(٣) نسخة الأسكوريال (٧١).

(٤) الأصل (٩٨ ظ).

(٥) الأصل (٩٨ ظ).

٧٧

وقد يذكر الرأي الذي يذهب إليه ، والرأي المناقض له ، وينتصر للرأي الذي يتبناه ، فمثلا عند تفسيره قول الله تعالى : (وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ (٤٣)) [البقرة : ٤٣] ، يقول : «وفي الآية دليل أنّ الكفّار مخاطبون بالشرائع بشرط تقديم الإيمان ، وإليه ذهب كثير من أصحابنا ، فإن قيل : لو كانوا مخاطبين لما سقط القضاء عنهم كالمسلمين ، قلنا : القضاء فرض مبتدأ لا يتبع المقضيّ كفوت الجمعة وفوت صلاة الحائض لا إلى قضاء» (١).

٣ ـ يذكر رأي مذهبه فقط من غير أن يذكر رأيا مخالفا لهذا الرأي :

فمثلا عند حديثه عن صيد البر في قوله تعالى : (وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ) [المائدة : ٩٦] ، يقول : «كلّ ما كان جنسه متوحّشا مأكول اللّحم أو غيره ، قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «خمس يقتلن في الحلّ والحرم : الغراب والحدأة والفأرة والحيّة والكلب العقور» ، حصره بعدد ، ويلحق غيرها بها حالة وجود العدوان ، ثمّ جزاء السبع قيمة لحمه عندنا لا قيمة إمساكه للتّفاخر كما في الجارية المغنية». (٢) وفي هذا المثال ذكر فقط المذهب الذي تبناه فقال : عندنا ، ولم يذكر رأي مذهب آخر مخالف.

٤ ـ ونجده أحيانا قليلة يتحدث عن بعض الأمور المتعلقة بأصول الفقه ، ويشير إليه إشارة ، فيعرّف فرض الكفاية في معرض حديثه عن الأمر بأنه فرض كفاية ، فيقول : «إذا قام به البعض ، وحصل المعروف ، وزال المنكر سقط الفرض عن الباقين» (٣) وذلك في معرض تفسيره لقول الله تعالى : (وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (١٠٤)) [آل عمران : ١٠٤].

وعند تفسيره قول الله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْئَلُوا عَنْ أَشْياءَ) [المائدة : ١٠١] ، بين أن الأمر المطلق لا يقتضي التكرار إلا بقرينة ، معللا ذلك بإنكار رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم سؤال الأعرابي له : أفي كل عام يا رسول الله؟ بقوله : «لو قلت : نعم لوجبت ، ولو وجبت لكفرتم». (٤)

وعند حديثه عن قول الله تعالى : (وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ) [النساء : ١١٥] ، يبيّن أن إجماع هذه الأمة حجة ، ويستدل على ذلك بقول الله تعالى : (لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ) [البقرة : ١٤٣] ، وقول الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم «لا تجتمع أمتي على الضلالة» (٥) ، وكذلك يستدل على حجية الإجماع في تفسيره قول الله تعالى : (وَمِمَّنْ خَلَقْنا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ (١٨١))

__________________

(١) الأصل (١١ و).

(٢) الأصل (٩٩ و).

(٣) الأصل (٧١ و).

(٤) الأصل (٩٩ ظ).

(٥) الأصل (٨٧ ظ).

٧٨

[الأعراف : ١٨١] ، إذ يقول : «وهذه الآية حجة في صحة الإجماع ؛ لأن الله تعالى زكّاهم وعدّلهم في أحكامهم». (١)

وفي فعل الأمر وصيغة الأمر ، نجده يخرجه عن الأمر الحقيقي إلى أمور متعددة منها : الندب والاستحباب والإباحة ، وغيرها. والأمثلة كثيرة منها :

ما جاء في تفسيره لقول الله تعالى : (وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ) [آل عمران : ١٠٤] ، إذ يقول عن اللام في (ولتكن) : لام أمر ، ... ، والأمر فرض على الكفاية.

كما نجده في سورة الحج وعند الحديث عن قوله تعالى : (فَكُلُوا) [الحج : ٣٦] ، يقول : «أمر إباحة». وفي المثالين كليهما لم يبين وجه إخراج الأمر من حقيقته إلى ما خرج إليه.

مذهبه الفقهي في هذا الكتاب

وردت أحكام فقهية خلال هذا التفسير تشير إلى المذهب الفقهي لمؤلف الكتاب ، ومن هذه الأحكام ما يأتي :

١ ـ في تفسير قول الله تعالى : (وَمَنْ دَخَلَهُ كانَ آمِناً) [آل عمران : ٩٧] يقول : «وفرض الحج على الفور خلافا لمحمد» ، (٢) أي : محمد بن الحسن ، وهذا يعني أنه يتبنى القول بأن الحج متى ملك الإنسان الاستطاعة فإن عليه أن يحج على الفور لا على التراخي. يقول النووي في المجموع : «فقد ذكرنا أن مذهبنا أنه على التراخي ، وبه قال الأوزاعي والثوري ومحمد بن الحسن ، ونقله الماوردي عن ابن عباس وأنس وجابر وعطاء وطاوس رضي الله عنهم ، وقال مالك وأبو يوسف : هو على الفور ، وهو قول المزني ، كما سبق ، وهو قول جمهور أصحاب أبي حنيفة في ذلك» (٣).

٢ ـ وفي سورة النساء وعند قوله تعالى : (أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً) [النساء : ٤٣] يقول : «والمراد بالماء الماء الشرعي دون اللغوي لجواز التيمم مع وجود الماء النجس ، ولهذا جوّزنا الوضوء بنبيذ التمر ؛ لأنه ماء شرعي». (٤) وهذا الرأي الذي قال به المؤلف هو ذاته رأي أبي حنيفة رحمه‌الله تعالى. (٥) قال النووي في المجموع : «وهو أن رفع الحدث وإزالة النجس لا يصح إلا بالماء المطلق ، فهو مذهبنا ولا خلاف فيه عندنا» (٦).

٣ ـ عند تفسيره قول الله تعالى : (أَنْ تَقْصُرُوا) [النساء : ١٠١] قال : «والقصر : النّقص.

__________________

(١) الأصل (٨٧ ظ).

(٢) الأصل (٧٠ و).

(٣) المجموع ٧ / ١٠٣.

(٤) نسخة الأسكوريال ٧٦.

(٥) ينظر : الهداية شرح البداية ١ / ٢٤ ، والمبسوط للسرخسي ١ / ١٢٥ ، وبدائع الصنائع ١ / ١٥.

(٦) المجموع ١ / ٩٣.

٧٩

والإقامة التي توجب الإكمال خمسة عشر يوما». (١) وهذا ما قال به الحنفية ففي المبسوط قال : «وأقل مدة الإقامة خمسة عشر يوما» وهو قول ابن عمر ، وقال الشافعي رضي الله عنه : أربعة أيام ، وهو قول عثمان رضي الله عنه» (٢).

٤ ـ ويستشهد بقول الله تعالى : (فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ) [المزمل : ٢٠] فيقول : «وفي الآية دليل على جواز الصلاة بقراءة ما تيسر من القرآن من غير تخصيص فاتحة أو غيرها. وعن ابن مسعود قال : من اقترى منكم بالثلاث الآيات التي في سورة البقرة فقد أكثر وأطاب» (٣). وهذا قول الحنفية ، إذ يقول صاحب الهداية : «وأدنى ما يجزئ من القراءة في الصلاة آية عند أبي حنيفة رحمه‌الله ، وقالا (٤) : ثلاث آيات قصار أو آية طويلة ؛ لأنه لا يسمى قارئا بدونه فأشبه قراءة ما دون الآية ...» (٥).

٥ ـ ويتحدث عن كفارة اليمين في تفسيره قول الله تعالى : (لا يُؤاخِذُكُمُ اللهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمانِكُمْ وَلكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِما عَقَّدْتُمُ الْأَيْمانَ) [المائدة : ٨٩] ، فيقول : «ولا يجوز صوم الكفّارة إلا متتابعا خلافا للشافعي ، لما روي في قراءة ابن مسعود وأبي : (فصيام ثلاثة أيام متتابعات)» (٦). وهذا ما قاله في المبسوط وهذا نصه : «فأما صوم كفارة اليمين فثلاثة أيام متتابعة عندنا خلافا للشافعي رحمه‌الله تعالى ، قال : إنه مطلق في القرآن ، ونحن أثبتنا التتابع بقراءة ابن مسعود فإنها كانت مشهورة إلى زمن أبي حنيفة رحمه‌الله تعالى ...» (٧). وقال الماوردي في الإقناع (٨) : «ولا يجب تتابع في الصوم لإطلاق الآية ...».

٦ ـ واستشهد على جواز الزيادة في المهر بقول الله تعالى : (فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْراً فَمِنْ عِنْدِكَ) [القصص : ٢٧] قال : «دليل على جواز الزيادة في المهر» (٩). يقول الجصاص في أحكام القرآن (١٠) : «وقد اختلف الفقهاء في الزيادة في المهر ، فقال أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد : الزيادة في الصداق بعد النكاح جائزة ، وهي ثابتة إن دخل بها أو مات عنها ، وإن طلقها قبل الدخول بطلت الزيادة ، وكان لها نصف المسمى في العقد ، وقال زفر بن الهذيل والشافعي : الزيادة بمنزلة هبة مستقبلية إذا قبضتها جازت في قولهما جميعا ، وإن لم تقبضها بطلت».

٧ ـ وعند تفسيره قول الله تعالى : (فَكَفَّارَتُهُ إِطْعامُ عَشَرَةِ مَساكِينَ مِنْ أَوْسَطِ ما

__________________

(١) الأصل (٨٦ ظ).

(٢) المبسوط ١ / ٢٣٦ ، وينظر قول الشافعي في كتاب الأم ١ / ٢١٥ ، والمجموع ٤ / ٣٣٢.

(٣) الأصل (٣١٥ ظ).

(٤) أي : أبو يوسف ومحمد بن الحسن.

(٥) الهداية شرح البداية ١ / ٥٤ ، وينظر : المبسوط ٢ / ٢٦ و ٣١ وغيرها ، وبدائع الصنائع ١ / ١٦٦.

(٦) الأصل (٩٨ ظ).

(٧) المبسوط ٣ / ٧٥ ، وينظر : المبسوط ٨ / ١٤٤ ، والهداية شرح البداية ٢ / ٧٤.

(٨) ٢ / ٦٠٦. وينظر : كفاية الأخيار ١ / ٥٤٣.

(٩) درج الدرر ٤١٠.

(١٠) ٢ / ١٩٦. وينظر : بدائع الصنائع ٥ / ٢٥٨.

٨٠