درج الدّرر في تفسير القرآن ّالعظيم - ج ٢

عبد القاهر بن عبد الرحمن الجرجاني

درج الدّرر في تفسير القرآن ّالعظيم - ج ٢

المؤلف:

عبد القاهر بن عبد الرحمن الجرجاني


المحقق: د. طلعت صلاح الفرحات / د. محمّد أديب شكور
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الفكر ناشرون وموزعون
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
9957-07-514-9

الصفحات: ٨٠٢
الجزء ١ الجزء ٢

مسعود قال : إنّ قاصّا يقصّ يقول : يخرج من الأرض الدّخان ، فيأخذ بمسامع الكفّار ، ويأخذ المؤمن كهيئة الزّكام ، قال : فغضب ، وكان متّكئا فجلس ، ثمّ قال : إذا سئل أحدكم عمّا يعلم فليقل به ، وإذا سئل عمّا لا يعلم فليقل : الله أعلم ، فإنّ من علم الرّجل إذا سئل عما لا يعلم أن يقول : الله أعلم (١) ، وإنّ الله قال لنبيه : (قُلْ ما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَما أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ) [ص : ٨٦] ، إنّ رسولّ الله لّما رأى قريشا استعصوا عليه قال : «اللهم أعنّي بسبع كسبع يوسف» ، فأخذهم سنة ، فأحصت كلّ شيء حتى أكلوا الجلود والميتة ، ورويّ : العظام ، قال : وجعل يخرج من الأرض كهيئة الدّخان ، قال : وأتاه أبو سفيان فقال : إنّ قومك قد هلكوا ، فادع الله لهم ، قال : فهذا لقوله : (يَوْمَ تَأْتِي السَّماءُ بِدُخانٍ مُبِينٍ يَغْشَى النَّاسَ) الآية. وقيل : هذا لقوله : (رَبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذابَ) [الدخان : ١٢] ، قال : فهل يكشف عذاب الآخرة ، وقد مضى البطشة ، واللّزام يوم بدر ، والدّخان؟ (٢) هذا مخالف لما تقدم ، والله أعلم بالصحيح.

١٨ ـ (أَدُّوا إِلَيَّ عِبادَ اللهِ) : في معنى قوله : (فَأَرْسِلْ مَعِيَ بَنِي) [الأعراف : ١٠٥]. (٣)

٢٠ ـ (تَرْجُمُونِ فَاعْتَزِلُونِ) : فاتركوني واهجروني. (٤)

٢٤ ـ (رَهْواً) : سكونا (٥) ، أو متتابعا (٦) ، تقديره : اترك البحر ساكنا على حالته وعلى حالة الانفلاق غير مضطرب ولا ملتطم ، أو اترك البحر متتابعة أمواجه في الهواء كلّ فرق كالطود العظيم.

٢٩ ـ (فَما بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّماءُ) : أي : أهل السماء ، (وَالْأَرْضُ)، أراد مبالغة وصفهم في الهوان. وسئل ابن عباس (٧) : أتبكي السّماء والأرض على أحد؟ قال : نعم ، إنّه ليس من الخلائق أحد إلا وله باب من السّماء أو في السّماء يصعد فيه عمله ، وينزل رزقه ، فإذا مات المؤمن بكت عليه معادنه من الأرض التي يذكر الله فيها ، ويصلّي ، وبكى بابه الذي يصعد منه ، وأما قوم فرعون فلم يكن لهم في الأرض آثار صالحة ، ولم يكن يصعد إلى الله منهم خير ، فلم

__________________

(١) (فإن علم الرجل ... أن يقول : الله أعلم) ، ساقط من ك.

(٢) أخرجه البخاري في الصحيح (٤٧٧٤) ، ومسلم في الصحيح (٢٧٩٨) ، والشاشي في المسند ١ / ٣٩٩.

(٣) ينظر : تفسير مجاهد ٥٨٨ ، معاني القرآن للفراء ٣ / ٤٠ ، ومعاني القرآن وإعرابه ٤ / ٤٢٥.

(٤) ينظر : معاني القرآن للفراء ٣ / ٤٠ ، وعمدة الحفاظ ٣ / ٨٥.

(٥) ينظر : مجاز القرآن ٢ / ٢٠٨ ، ومعاني القرآن وإعرابه ٤ / ٤٢٦ ، وإيجاز البيان عن معاني القرآن ٢ / ٧٤٢.

(٦) ينظر : غريب الحديث للحربي ٢ / ٦٨٠ ، المحكم والمحيط الأعظم ٤ / ٤١٧ ، والنهاية في غريب الحديث ٢ / ٢٨٦ ، وعمدة الحفاظ ٢ / ١٣٥.

(٧) الأصول المخطوطة : عياش ، والتصويب من كتب التخريج.

٥٦١

تبك عليهم السّماء والأرض. (١) وإنّما كان فرعون بدلا من العذاب المهين ، لكون المراد ذا العذاب المهين ، أو يكون فرعون نفسه عذابا من الله على بني إسرائيل.

٣٧ ـ (قَوْمُ تُبَّعٍ) : التّبابعة ثلاثة من حمير : أوّلهم : تبّع بن الأقرن بن شمر ، وهو الذي سار على جبلي (٢) طيء ، ثمّ الأنبار ، فأتى أذربيجان ، وقاتل التّرك ، فهزمهم ، وسبا منهم ، ثمّ إنّه غزا الصين بعد ذلك ، فترك (٣) طائفة من قومه بأرض تبت. (٤) والثاني : تبّع بن كليلرب كان يغزو (٥) بالنّجوم ، (٢٩٣ ظ) ويسير بها ، ويمضي أموره بدلالتها (٦) ، فطالت مدّته ، واشتدّت وطأته ، فملّته حمير ، فقتلته ، وملّكوا (٧) ابنه حسّانا على أنفسهم. وقيل : إنّ هذا التّبّع الثّاني كان مؤمنا بنبيّنا عليه‌السلام ، ثمّ إنّ حسان بن تبّع سار إلى اليمامة لينصر طمسا على حديس وهو ظالم ، فأهلكهم أجمعين ، ووثب عليه قومه بعد ذلك ، فقتلوه برضا أخيه. (٨) والثّالث : تبّع بن حسّان وهو الذي سلّط جدّ امرئ القيس على بني معد بن عدنان ، وقتل من اليهود جماعة بيثرب ، ثمّ تهوّد ، وكسا الكعبة الأنطاع ، وبقي الملك في أهل بيته (٩) إلى أن ملك ذا نوّاس ، وهو صاحب الأخدود فيما زعموا. (١٠)

٤٧ ـ (فَاعْتِلُوهُ) : فادفعوه بشدّة. (١١)

__________________

(١) أخرجه أبو عبد الله المروزي في تعظيم قدر الصلاة ١ / ٣٣٥ ، وينظر : تفسير السمرقندي ٣ / ٢٥٨.

(٢) ع : جبل.

(٣) أ : فتر.

(٤) ينظر : المعارف ٦٣٠.

(٥) ك : يعرف.

(٦) أ : بدلالته.

(٧) أ : وملطوا.

(٨) ينظر : المعارف ٦٣١ ـ ٦٣٣.

(٩) أ : أهليته.

(١٠) ينظر : المعارف ٦٣٤ و ٦٣٧.

(١١) تفسير الطبري ١١ / ٢٤٥ ، ووضح البرهان في مشكلات القرآن ٢ / ٢٨٩.

٥٦٢

سورة حم الجاثية

مكيّة. (١) وعن ابن عبّاس وقتادة : إلا آية نزلت بالمدينة ، وهي قوله تعالى : (قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا) الآية [الجاثية : ١٤]. (٢)

وهي ستّ وثلاثون آية في غير عدد أهل الكوفة. (٣)

بسم الله الرّحمن الرّحيم

٤ ـ (وَفِي خَلْقِكُمْ) : معطوف على الضّمير المحذوف ، التّقدير : وفي خلقكم وخلق ما يبث من دابّة. (٤)

٦ ـ (بَعْدَ اللهِ)(٥) : بعد تسميته وذكره.

٧ ـ (وَيْلٌ لِكُلِّ أَفَّاكٍ) : نزلت الآية في النّضر بن الحارث (٦) وأمثاله ، والمبتدعون الذين يلازمون مجالس العلماء ليتحمّلوا بهم متّصفون بالآية الأولى ، والذين يتعاظمون محاكاة العلماء والفقراء في أنفسهم متّصفون ، أقلّ الله أعدادهم ، وقطع أمدادهم منتقما لدينه وذويه.

١٢ ـ (اللهُ الَّذِي سَخَّرَ) : نزلت فيمن نزلت : (كُفُّوا (٧) أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ) [النساء : ٧٧]. وقيل : نزلت في عمر بن الخطّاب خاصّة حيث شتمه رجل من بني غفار. (٨)

١٤ ـ (يَغْفِرُوا) : يتركوا المجازاة إلى الله تعالى.

٢١ ـ (سَواءً مَحْياهُمْ) : وسواء محياهم (٩) ؛ لأنّ المؤمن يعيش راضيا شاكرا ، والكافر ساخطا كافرا ، ومماتهم ؛ لأنّ المؤمن يعرج به إلى العليين ، والكفار يتسفّل إلى سجين. (١٠)

٢٣ ـ (أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ) : قال ابن عبّاس : كان أحدهم يعبد الحجر ،

__________________

(١) تفسير غريب القرآن ٤٠٥ ، وزاد المسير ٧ / ١٦٠ عن ابن عباس والحسن وغيرهما ، وتفسير القرطبي ١٦ / ١٥٦ عن الحسن وغيره.

(٢) زاد المسير ٧ / ١٦٠ ، وتفسير القرطبي ١٦ / ١٥٦.

(٣) وعدد آيها عند الكوفيين سبع وثلاثون. البيان في عد آي القرآن ٢٢٦ ، والتلخيص في القراءات الثمان ٤٠٧ ، وفنون الأفنان ٣٠٧.

(٤) ينظر : البيان في غريب إعراب القرآن ٢ / ٣٠٣.

(٥) بياض في أ.

(٦) ينظر : تفسير البغوي ٧ / ٢٤١ ، وتفسير مبهمات القرآن ٢ / ٤٨٣.

(٧) أ : كفرا.

(٨) ينظر : تفسير الثعلبي ٨ / ٣٥٩ ، وتفسير البغوي ٧ / ٢٤٣ عن ابن عباس ومقاتل ، وتفسير السمعاني ٥ / ١٣٨.

(٩) الأصول المخطوطة : مماتهم. وما أثبت مناسب للسياق ، والله أعلم.

(١٠) ينظر : زاد المسير ٧ / ١٦٤.

٥٦٣

فإذا رأى ما هو أحسن منه رمى به ، وعبد الآخر من بعد الله (١) ، من بعد ما فعل الله به هذا الفعل. (٢)

٢٤ ـ (وَما يُهْلِكُنا إِلَّا الدَّهْرُ) : أي : كّل الزّمان. (٣) وفي حديث : «فإنّ ذا الدّهر أطوار دهارير» (٤). وقوله عليه‌السلام : «لا تسبّوا الدّهر فإنّ الدّهر هو الله» (٥). قيل : معناه لا تسبّوا فاعل الكون والفساد ، وخالق الخير والشّر ، فإنّ الله هو ذلك. (٦) وقيل : لا تسبّوا الدّهر ، فإنّ الله هو منشئ (٧) الدهر وخالقه ، فكان سبّهم في الحقيقة يرجع إلى الله ، (٨) فنهاهم النّبيّ عليه‌السلام عن ذلك.

٢٩ ـ (إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ) : قال ابن عبّاس : كتاب في السّماء عليه ملائكة ، والملائكة (٩) الذين مع بني آدم يستنسخون من ذلك الكتاب ما كان يعمل بنو آدم. (١٠) وروي : ينسخون في ذلك الكتاب ما يعمل بنو آدم. (١١) عن ابن عمر رضي الله عنه ، عنه عليه‌السلام : «أنّ أوّل خلق الله القلم ، فكتب ما يكون في الدّنيا من عمل معمول برّا وفجورا ، ورطب أو يابس (٢٩٤ و) أو حصاه (١٢) في الذّكر ، واقرؤوا إن شئتم : (هذا كِتابُنا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) فهل تكون النّسخة إلا من شيء قد فرغ منه؟» (١٣).

٣٦ ـ (فَلِلَّهِ الْحَمْدُ) : دائما كان هذا الموضع موضع حمد لفرق الله بين المؤمنين والكافرين ، وانتصافه (١٤) للمظلومين من الظّالمين. والله أعلم.

__________________

(١) أ : أنه.

(٢) السنن الكبرى للنسائي (١١٤٨٥) ، وتفسير السمرقندي ٣ / ٢٦٦ ، والدر المنثور ٧ / ٣٦٩.

(٣) ينظر : تفسير مجاهد ٥٩٢ ، ومعاني القرآن للفراء ٣ / ٤٨ ، والطبري ١١ / ٢٦٣.

(٤) ينظر : غريب الحديث لابن الجوزي ٢ / ٤٣ ، والنهاية في غريب الحديث ٢ / ١٤٤ عن سطيح ، ودهر دهارير : شديد ، تصاريف الدهر ونوائبه.

(٥) أخرجه أحمد في المسند ٢ / ٣٩٥ ، ومسلم في الصحيح (٢٢٤٦) ، والبيهقي في السنن ٣ / ٣٦٥ عن أبي هريرة رضي الله عنه.

(٦) ينظر : عون المعبود ١٤ / ١٢٨.

(٧) أ : ينشئ.

(٨) ينظر : عون المعبود ١٤ / ١٢٨.

(٩) أ : وبالملائكة.

(١٠) ينظر : تفسير السمرقندي ٣ / ٢٦٨.

(١١) ينظر : معاني القرآن الكريم ٦ / ٤٣٣ ، وتفسير السمعاني ٥ / ١٤٥.

(١٢) ع : أحصاه بدلا من أو حصاه.

(١٣) أخرجه السمرقندي في تفسيره ٣ / ٢٦٨.

(١٤) أ : وإنصافه.

٥٦٤

سورة الأحقاف

مكيّة. (١) وعن ابن عبّاس وقتادة : إلا آية نزلت في عبد الله بن سلام ، وهي قوله : (قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كانَ مِنْ عِنْدِ اللهِ) [الأحقاف : ١٠]. (٢)

وهي أربع وثلاثون آية في غير عدد أهل الكوفة. (٣)

بسم الله الرّحمن الرّحيم

٤ ـ التقدير في قوله : (قُلْ أَرَأَيْتُمْ ما تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ أَرُونِي ما ذا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ) : أرونيه.

(أَوْ أَثارَةٍ مِنْ عِلْمٍ) : مصدر كالسّماحة والشّجاعة. (٤) سئل رسول الله عليه‌السلام عن الخطّ؟ قال : «علمه نبي ، فمن وافق علمه علم» ، قال صفوان : فحدّثت به أبا سلمة بن عبد الرحمن ، قال : فحدثت به ابن عبّاس ، فقال : هو أثرة من علم. (٥)

٩ ـ (ما كُنْتُ بِدْعاً مِنَ الرُّسُلِ) : أي : ما أنا أوّل رسول على سنّة الأولين. (٦)

وقوله : (وَما أَدْرِي ما يُفْعَلُ بِي وَلا بِكُمْ) : في الذين شكوا إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أذى المشركين. (٧) والقصّة في ذلك : أنّ النّبيّ عليه‌السلام كان قد رأى في منامه أنّه سيهاجر إلى أرض ذات نخل ، فقصّ رؤياه على أصحابه ، ثمّ مضى زمان ولم يهاجر ، فاستعجلوه ، فقال : «إنّما قصصت عليكم رؤيا رأيتها ، ولم أقصّ عليكم وحيا لست أدري هل يؤذن لي في الهجرة أم لا؟» هكذا ذكر الكلبيّ وغيره. (٨) وفحوى الخطاب : أنّه متوجّه إلى المشركين في معنى قوله : (هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنا إِلَّا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ) الآية [التوبة : ٥٢].

١٠ ـ (وَشَهِدَ شاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ عَلى مِثْلِهِ) : وهو عبد الله بن سلام ، (٩) شهد

__________________

(١) تفسير غريب القرآن ٤٠٧ ، وزاد المسير ٧ / ١٦٨ عن ابن عباس والجمهور.

(٢) زاد المسير ٧ / ١٦٨.

(٣) وعدد آيها عند أهل الكوفة خمس وثلاثون آية. تفسير السمرقندي ٣ / ٢٧٠ ، والبيان في عد آي القرآن ٢٢٧ ، وفنون الأفنان ٣٠٨.

(٤) ينظر : معاني القرآن للفراء ٣ / ٥٠.

(٥) أخرجه الصنعاني في تفسير ٣ / ٢١٥ ، والطبراني في الأوسط (٢٦٩).

(٦) ينظر : تفسير غريب القرآن ٤٠٧.

(٧) ينظر : معاني القرآن للفراء ٣ / ٥٠ ـ ٥١.

(٨) ينظر : تفسير السمرقندي ٣ / ٢٧١.

(٩) معاني القرآن للفراء ٣ / ٥١ ، وإيجاز البيان عن معاني القرآن ٢ / ٧٤٤ ، وتفسير مبهمات القرآن ٢ / ٤٨٨ ، وأنكره الشعبي ؛ لأن السورة مكية ، ينظر : وضح البرهان في مشكلات القرآن ٢ / ٢٩٥.

٥٦٥

على مثل القرآن ، وهو التّوراة : أنّها ناطقة برسالة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وشهد أنّ القرآن من عند الله على مثل ما شهد به رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وإنّما دخلت شهادته في حيّز التّواتر ، وهو رجل واحد لأسباب مجتمعة ، أحدها : ما نطقت به أحبار اليهود وعلماء النّصارى والكهّان برسالة رسول الله قبل مبعثه ، والثاني : اعتراف عامّة أحبار اليهود بأنّ عبد الله بن سلام أفضلهم علما ، وأصدقهم حديثا ، فكانوا صدّقوه في شهادته هذه ، والثّالثة : فحامة (١) غيره عند قراءته بعث نبيّنا عليه‌السلام ، وآية الرّجم من التّوراة في المصحف ، والرّابع : كونه غير دافع ضررا عاجلا عن (٢) نفسه ، وغير جارّ منفعة إلى نفسه بشهادته (٣) هذه إلا ابتغاء وجه الله ، والخامس : استقامته على شهادته في تقلّب أحواله. وقيل : إنّ شهادته لم تكن حجة ، ولم توجب علما إلا بعد تزكية الله إيّاه بالقرآن المعجز.

١١ ـ (وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا)(٤) : قال الكلبيّ : نزلت في اليهود حيث قال لهم عبد الله بن سلام : لم لا تؤمنون بهذا النّبيّ؟ فقالوا : لو كان خيرا ما سبقونا إليه رعاة الشّاة. وقال الفرّاء : (٢٩٤ ظ) نزل في بني عامر وغطفان وأشجع حيث قالوا : هذا في مدينة وغفار وجهينة (٥).

١٥ ـ (وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ) : قال الكلبيّ : نزلت في أبي بكر الصّدّيق رضي الله عنه. (٦)

١٧ ـ (وَالَّذِي قالَ لِوالِدَيْهِ أُفٍ)(٧) : قال الكلبيّ : نزلت الآيتان في عبد الرحمن بن أبي بكر حالة كفره ، وهو بمكة يومئذ. (٨)

(أَنْ أُخْرَجَ) : أن أبعث من قبري. (٩)

__________________

(١) هكذا في الأصول المخطوطة ، ولعل الصواب : إفحام ، أو فحام.

(٢) ع : إلى.

(٣) أ : بشهادة.

(٤) غير موجودة في ع.

(٥) ينظر : معاني القرآن للفراء ٣ / ٥١.

(٦) ينظر : تاريخ دمشق ٣٠ / ٣٣٨ ، الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس.

(٧) غير موجودة في أ.

(٨) ينظر : معاني القرآن للفراء ٣ / ٥٣ ، وتفسير مبهمات القرآن ٢ / ٤٩٢ ، وقد أنكرت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها ذلك. ينظر : صحيح البخاري (٤٨٢٧) ، والمستدرك ٤ / ٥٢٨ ، والنسائي في الكبرى (١١٤٩١) ، وقال الزجاج في معاني القرآن وإعرابه ٤ / ٤٤٣ ـ ٤٤٤ : «فقال بعضهم : إنها نزلت في عبد الرحمن قبل إسلامه ، وهذا كله يبطله قول : «أولئك الذي حق عليهم القول في أمم ... الخاسرين» ، فأعلم الله أن هؤلاء لا يؤمنون ، وعبد الرحمن مؤمن ، من أفاضل المؤمنين وسرواتهم ، والتفسير الصحيح : أنها نزلت في الكافر العاق».

(٩) ينظر : تفسير الطبري ١١ / ٢٨٧.

٥٦٦

٢١ ـ (بِالْأَحْقافِ) : [الأحقاف : جمع حقف ، وهو رمل مستطيل مرتفع ، فيه انحناء ، من احقوقف الشيء إذا اعوج ، وكانت عادة أصحاب العمد يسكنون بين رمال ، مشرفين على البحر بأرض يقال لها : الشّحر ، من بلاد اليمن ، وقيل : بين عمان ومهرة. (١)](٢) قال الأزهريّ (٣) : الأحقاف رمال (٤) مستطيلة بناحية شجر. (٥) وقال ابن عرفة : يقال للرّمل العظيم المستدير : حقف. (٦) وعن عليّ رضي الله عنه قال : خير واديين في النّاس : وادي مكّة ، وواد نزل به آدم عليه‌السلام بالهند ، وشرّ واديين بين النّاس : وادي الأحقاف ، وواد بحضرموت يدعى برهوت يلقى فيه أرواح الكفّار ، وخير بئر في النّاس زمزم ، وشرّ بئر (٧) في النّاس ملهوت وهو في ذلك الوادي. (٨)

٢٤ ـ وعن عائشة قالت : كان النبيّ عليه‌السلام إذا رأى مخيلة أقبل وأدبر ، فإذا أمطرت سرى عنه ، فقلت له ، قال : وما أدري لعلّه كما قال عزوجل : (فَلَمَّا رَأَوْهُ عارِضاً مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قالُوا هذا عارِضٌ مُمْطِرُنا). (٩)

٢٩ ـ (وَإِذْ صَرَفْنا إِلَيْكَ نَفَراً مِنَ الْجِنِّ) : عن كعب الأحبار قال : لّما انصرف رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من الطّائف انصرف النّفر السبعة من أهل نصيبين من بطن نخلة ، وهم : حسا ومسا وشاصر وناصر والأردنيان والأحقب ، جاؤوا قومهم منذرين ، فخرجوا وافدين على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وهم ثلاث مئة ، فانتهوا إلى الحجون ، فجاء الأحقب وسلّم على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : إنّ قومنا قد حضروا الحجون ، يلقونك ، فواعده رسول الله لساعة من اللّيل الحجون (١٠). (١١) وعن ابن مسعود قال : كنت مع رسول الله عليه‌السلام ليلة صرف إليه النّفر من الجنّ إذ جاءه عفريت من الجنّ بشعلة من نار يريد بها رسول الله عليه‌السلام ، فقال له جبريل عليه‌السلام :

__________________

(١) ينظر : الكشاف ٤ / ٣١٠ ، وتفسير القرطبي ١٦ / ٢٠٤.

(٢) ما بين المعقوفتين من حاشية الأصل ، وغير موجود في باقي النسخ المخطوطة.

(٣) ساقطة من ع.

(٤) أ : رحال.

(٥) ينظر : تهذيب اللغة ١ / ٨٧٥.

(٦) الغريبين ٢ / ٤٧٠ ـ ٤٧١.

(٧) ع : عبد.

(٨) مصنف عبد الرزاق ٥ / ١١٦ ، وتفسير ابن أبي حاتم (١٨٥٧٤) ، وأخبار مكة ٢ / ٥٠.

(٩) أخرجه أحمد في المسند ٦ / ١٦٧ ، والبخاري في الصحيح (٤٨٢٩) ، والترمذي في السنن (٣٢٥٨).

(١٠) (يلقونك قواعده ... الحجون) ، ساقط من ك.

(١١) ينظر : الدر المنثور ٧ / ٣٩٧ ، والسيرة الحلبية ٢ / ٦٣.

٥٦٧

ألا أعلمك كلمات إذا أنت قلتهن طفئت شعلته وانكبّ لنحره (١)؟ قال : قل : أعوذ بوجه الله الكريم ، وكلمة الله التّامّة التي لا يجاوزها برّ ولا فاجر من شرّ ما نزل من السّماء ، ومن شرّ ما يعرج ، ومن شرّ ما ذرأ في الأرض ، ومن شرّ ما يخرج منها ، ومن شرّ فتن (٢) اللّيل والنّهار ، ومن شرّ طوارق اللّيل والنّهار إلا طارقا يطرق بخير ، يا رحمن ، فطفئت شعلته ، وانكبّ لنحره ، ولم يعي ، ولم يكلّ. (٣)

٣٥ ـ (بَلاغٌ) : أي : هذا بلاغ. (٤)

(يُهْلَكُ) : يمات ، على سبيل الإهانة والعذاب. (٥)

__________________

(١) أ : أنحره.

(٢) الأصول المخطوطة : فتق. والتصويب من كتب التخريج.

(٣) أخرجه النسائي في الكبرى (١٠٧٩٢) ، والطبراني في الأوسط (٤٣).

(٤) ينظر : التبيان في إعراب القرآن ٢ / ٣٦٠.

(٥) معجم مفردات ألفاظ القرآن ٥٧٧ ، وعمدة الحفاظ ٢٩٥.

٥٦٨

سورة محمد عليه‌السلام

مدنيّة. (١) وروي عن ابن عباس : إلا آية (٢) نزلت عليه وهو يريد التّوجّه من مكة إلى المدينة ، وهو قوله : (وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ) [محمد : ١٣]. (٣)

وهي تسع وثلاثون آية في عدد أهل الحجاز والشّام. (٤)

بسم الله الرّحمن الرّحيم

١ ـ (الَّذِينَ كَفَرُوا) : نزلت الآيات في غزوة بدر. (٥)

٤ ـ (فَإِمَّا (٢٩٥ و) مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِداءً) : للتّخيير ، (٦) وليست بمتناقضة لقوله : (ما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرى) [الأنفال : ٦٧] لأنّ (٧) هذه أفادت الحكم بعد الإثخان ، وتلك تثبت الحكم قبل الإثخان ، ولكنّه منسوخ عند [ ...](٨) بقوله : (فَإِنْ تابُوا وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ) [التوبة : ٥]. وعن السّدي وابن جريج : أنّه منسوخ بآية السّيف. (٩)

(حَتَّى تَضَعَ) : لامتداد الحكم إلى الغاية المذكورة وقت وضع أهل (١٠) الحرب أسلحتهم ، والألف واللّام في (الْحَرْبُ) للتّعريف والمعهود. وقيل : للجنس. (١١) وفيه نزل قوله تعالى : (وَقاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ ...) الآية [الأنفال : ٣٩]. وقال سعيد بن جبير : إنّما يكون هذا الوقت عند نزول المسيح ، وهلاك الدّجّال. (١٢)

__________________

(١) تفسير غريب القرآن ٤٠٩ ، والبيان في عد آي القرآن ٢٢٨ ، وزاد المسير ٧ / ١٨٤.

(٢) الأصول المخطوطة : الآية. والتصويب من كتب التخريج.

(٣) تفسير الطبري ١١ / ٣١٣ ، وزاد المسير ٧ / ١٨٤ ، وتفسير القرطبي ١٦ / ٢٢٣.

(٤) وعدد آياتها عند أهل الكوفة ثمان وثمانون ، وعند أهل البصرة أربعون آية. البيان في عد آي القرآن ٢٢٨ ، والتلخيص في القرءات الثمان ٤١١ ، فنون الأفنان ٣٠٨.

(٥) ينظر : تفسير السمرقندي ٣ / ٢٩١ عن الكلبي ، والسمعاني ٥ / ١٦٧.

(٦) ينظر : الكشاف ٤ / ٣٢٠ ، وتفسير البغوي ٧ / ٢٧٨.

(٧) ك : إلا أن.

(٨) هنا سقط في الأصول المخطوطة.

(٩) ينظر : الناسخ والمنسوخ للنحاس ٦٦٨ ـ ٦٦٩ ، والناسخ والمنسوخ في القرآن العزيز ٤١٠ ٢٠٩ ـ ٢١٠.

(١٠) ساقطة من ك.

(١١) تفسير أبي السعود ٨ / ٩٣.

(١٢) ينظر : تفسير السمرقندي ٢٨٣ ، وتفسير القرطبي ١٦ / ٢٢٨ ، وتفسير السمعاني ٥ / ١٦٩.

٥٦٩

٦ ـ (عَرَّفَها) : أي : جعلها معروفة لهم بما جعل الله بينها وبينهم من المناسبة الطّبيعيّة. (١)

٨ ـ (وَالَّذِينَ كَفَرُوا فَتَعْساً لَهُمْ) : جملة متركّبة من شرط وجزاء ، الجزاء دعاء. وتعس الرّجل : إذا سقط. (٢)

١٠ ـ (وَلِلْكافِرِينَ) : من أهل مكة ونحوها. (٣)

(أَمْثالُها) : أمثال عاقبة الذين من قبلهم. (٤)

١٥ ـ (مَثَلُ الْجَنَّةِ) : قيل : الاستفهام معروفة ، فكأنّه قيل : مثل المتّقين فيما وعدوا من الجنّة الموصوفة بهذه الصّفات كمثل من هو خالد في النّار. (٥)

(آسِنٍ) : آجن ، وهو المتغيّر. (٦)

(لَبَنٍ (٧) لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ) : إنّما وصفه به (٨) لكون الحليب أحبّ إلى العرب من الفارض (٩) ، أو للدّلالة على طيب الهواء ، فإنّ الشّيء لا يتغيّر في الهواء الطّيب ، أو لكون الحليب أوفق لطبائع الحيوان على العموم.

(لَذَّةٍ) : ذات لذّة ، وشراب لذّ ولذيذ بمعنى. (١٠)

(عَسَلٍ) : ما رزقنا الله في الدّنيا من بطون النّحل.

(مُصَفًّى) : لا شمع فيه. (١١)

(فَقَطَّعَ أَمْعاءَهُمْ) : واحدها معى ، وهو مجرى الطّعام والشّراب في البطن ، وزبن المعدة.

١٦ ـ (وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ) : قيل : إنّ جماعة من المنافقين كانوا يستمعون إلى

__________________

(١) ينظر : زاد المسير ٧ / ١٨٧ عن مجاهد وقتادة ، والبغوي ٧ / ٢٨٠.

(٢) ينظر : تفسير غريب القرآن ٤١٠ ، وزاد المسير ٧ / ١٨٨.

(٣) ينظر : معاني القرآن للفراء ٣ / ٥٩ ، والطبري ١١ / ٣١١ ، وتفسير البغوي ٧ / ٢٨١.

(٤) ينظر : معاني القرآن للفراء ٣ / ٥٩ ، والطبري ١١ / ٣١١.

(٥) ينظر : التبيان في إعراب القرآن ٢ / ٣٦٣ ، ومعاني القرآن وإعرابه ٥ / ١٠.

(٦) ينظر : معاني القرآن للفراء ٣ / ٦٠ ، وتفسير غريب القرآن ٤١٠.

(٧) أ : أي.

(٨) ساقطة من ك.

(٩) ك : القابض.

(١٠) التبيان في إعراب القرآن ٢ / ٣٦٢ ، ولسان العرب ٣ / ٥٠٧.

(١١) ينظر : معاني القرآن وإعرابه ٥ / ٩ ، وتفسير السمعاني ٥ / ١٧٤. وتفسير أبي السعود ٨ / ٩٦.

٥٧٠

رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ابتغاء هفوة منه ، فإذا لم يجدوها وسمعوا الموعظة (١) تصامموا عنها كأنّهم لم يسمعوها ، وسألوا المؤمنين : (ما ذا قالَ آنِفاً). (٢) فمن جملة المنافقين رفاعة (٣) بن زيد والحارث بن عمرو ، وفي جملة الذين أوتوا العلم عبد الله (٤).

(آنِفاً) : أي : الإيمان ، مأخوذ من استئناف.

١٧ ـ (زادَهُمْ) : قول النّبيّ عليه‌السلام (هُدىً). (٥)

١٨ ـ (أَشْراطُها) : علاماتها. (٦) قال الأصمعيّ : ومنه الاشتراط الذي يشترط بعض النّاس على بعض ، إنّما هي علامات بينهم. (٧) قال : هذا بيان للاشتقاق ، فأمّا (٨) حقيقة الشّرط ، فالخصلة الموجبة للحكم.

١٩ ـ (فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا اللهُ) : إنّه الأمر للاستقامة (٩) على العلم. (١٠)

(وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ) : وعن الأعمش قال : ما قعدت إلى أحد أكثر استغفارا من أبي صالح ، وقال أبو صالح : ما قعدت إلى أحد كان أكثر استغفارا من أبي هريرة ، وقال أبو هريرة : ما قعدت إلى أحد كان أكثر استغفارا من النّبيّ عليه‌السلام ، قلت : فكم كان يستغفر؟ قال : كان يستغفر الله (١١) في اليوم واللّيلة مئة مرّة. (٢٩٥ و)

٢٠ ـ (وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا) : ذكر الكلبيّ وغيره : أنّ المؤمنين كانوا يشتهون (١٢) نزول آيات من القرآن ، وكان المنافقون من جملة المؤمنين يكرهون نزول آي القتال ، ويشكّكون فيها ، فتوعّدهم الله عزوجل على ذلك.

__________________

(١) الأصول المخطوطة : المواعظة.

(٢) ينظر : تفسير السمرقندي ٣ / ٢٨٥ ـ ٢٨٦ ، وتفسير القرطبي ١٦ / ٢٣٨ ، والمحرر الوجيز ١٣ / ٣٩٨.

(٣) أ : رواعة.

(٤) (فمن جملة المنافقين ... أوتوا العلم عبد الله) ، ساقط من ك.

(٥) ينظر : معاني القرآن وإعرابه ٥ / ١١.

(٦) تفسير غريب القرآن ٤١٠ ، وتفسير البغوي ٧ / ٢٨٤.

(٧) غريب الحديث لابن سلام ١ / ٤٠ ، والغريبين ٣ / ٩٨٧.

(٨) أ : وأما.

(٩) الأصل وك وأ : الاستقامة. وما أثبت أكثر استقامة للمعنى.

(١٠) ينظر : معاني القرآن وإعرابه ٥ / ١٢ ، وتفسير السمعاني ٥ / ١٧٧ ، وزاد المسير ٧ / ١٩١.

(١١) ع : بدل قال قيل ، وقوله : كان يستغفر الله ، ساقط من ع.

(١٢) أ : يستهزؤون.

٥٧١

(فَأَوْلى لَهُمْ) : تهديد ، ومثله قوله : (أَوْلى لَكَ فَأَوْلى) [القيامة : ٣٤]. (١) وقال الأصمعيّ : أولى له : قاربه ما يهلكه. (٢) أي : نزل به. وقيل : أولى : تحسّر.

٢١ ـ (طاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ) : أي : ظاهر المنافقين طاعة وقول معروف. (٣)

(فَإِذا عَزَمَ الْأَمْرُ) : أي : جدّ. (٤)

٢٢ ـ (فَهَلْ عَسَيْتُمْ) : كدتم.

(إِنْ تَوَلَّيْتُمْ) : إن أعرضتم عن الإسلام ، (٥) ألا ترى (٦) قال : (إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا) [محمد : ٢٥](وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ) [محمد : ٣٨].

والمراد بقوله : (أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحامَكُمْ) ما كان بين الأوس والخزرج قبل الإسلام.

٢٤ ـ (أَقْفالُها) : جمع قفل ، مثل جزء وأجزاء (٧) ، وقرص وأقراص ، وهو آلة من الحديد ونحوه (٨) يغلق به الباب ، فلان منقفل (٩) اليدين إذا كان بخيلا. (١٠)

٣١ ـ (وَنَبْلُوَا) : عطف على قوله : (حَتَّى (١١) نَعْلَمَ)، وإنّما حسن العطف عليه لكون البلاء الأوّل مسندا إلى الله في اللّفظ والمعنى ، والبلاء الثّاني مسند إلى الله في اللّفظ وإلى أوليائه في المعنى (١٢) ، أو المراد بالأوّل : الإصابة بالبلايا والمكاره ، والثاني : الاختيار.

٢٩ ـ (أَضْغانَهُمْ)(١٣) : حقدهم. (١٤)

__________________

(١) تأويل مشكل القرآن ٣٢٥ و ٤١٧ ، وتفسير غريب القرآن ٤١١ ، ومعاني القرآن وإعرابه ٥ / ١٢.

(٢) النهاية في غريب الحديث ٥ / ٢٢٨.

(٣) ينظر : معاني القرآن وإعرابه ٥ / ١٣ ، وتفسير البغوي ٧ / ٢٨٦.

(٤) تفسير السمرقندي ٣ / ٢٨٨ ، ومعاني القرآن الكريم ٦ / ٤٨١ ، والقرطبي ١٦ / ٢٤٤.

(٥) ينظر : معاني القرآن وإعرابه ٥ / ١٣ ، وزاد المسير ٧ / ١٩٣ عن جماعة من المفسرين.

(٦) (ألا ترى قال) ، ساقط من ع.

(٧) ع : أو أجزاء.

(٨) ساقطة من ع.

(٩) ك : منفصل.

(١٠) ينظر : المحكم والمحيط الأعظم ٦ / ٤١٧ ، ومعجم مفردات ألفاظ القرآن ٤٥٦ ، وعمدة الحفاظ ٣ / ٣٨٥.

(١١) أ : حين.

(١٢) (في المعنى) ، ساقط من أ.

(١٣) أ : أصابهم.

(١٤) غريب القرآن ٨٠ ، والكشاف ٤ / ٣٢٩ ، وتفسير البغوي ٧ / ٢٨٨ ، والكليات ١٣٧.

٥٧٢

٣٠ ـ (فِي لَحْنِ الْقَوْلِ) : صرف الكلام عن ظاهره (١) قصدا أو خطأ. (٢)

٣٥ ـ (لَنْ يَتِرَكُمْ) : لن ينقصكم ، (٣) وفي الحديث : «من فاتته العصر فإنّما وتر أهله وماله» (٤).

٣٧ ـ (فَيُحْفِكُمْ) : يبالغوا في السّؤال عنكم. (٥)

وعن أبي هريرة قال : قال أناس من أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : من هؤلاء الذين ذكرهم الله إن تولينا يستبدلوا ، ثمّ لم يكونوا أمثالنا؟ وكان سلمان بجنب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فضرب رسول الله فخذ سلمان قال : «هذا وأصحابه ، والذي نفسي بيده ، لو كان الإيمان منوطا بالثّريا لتناوله رجال من فارس». وروي : «معلّقا بالثّريا». (٦) وعن عطاء بن أبي رباح قال : قال رسول الله عليه‌السلام : «الأبدال من الموالي» (٧).

__________________

(١) الأصول المخطوطة : ظاهر.

(٢) ينظر : جمهرة اللغة ١ / ٥٧٠ ، ومعجم مفردات ألفاظ القرآن ٥٠٣ ، وعمدة الحفاظ ٤ / ٢٠.

(٣) تفسير مجاهد ٥٩٩ ، وتفسير غريب القرآن ٤١١ ، ومعاني القرآن وإعرابه ٥ / ١٦ ، وزاد المسير ٧ / ١٩٦.

(٤) أخرجه البخاري في الصحيح (٥٥٢) ، ومسلم في الصحيح (٦٢٦) ، والطبراني في مسند الشاميين (٢٨٩٥) عن ابن عمر رضي الله عنهما.

(٥) ينظر : الكشاف ٤ / ٣٣٢ ، وتفسير البيضاوي ٥ / ١٢٥ ، وعمدة الحفاظ ١ / ٥٠١.

(٦) أخرجه الترمذي في السنن (٣٢٦١) ، والطبراني في الأوسط (٨٨٣٨) ، وابن حبان في صحيحه (٧١٢٣).

(٧) أخرجه المزي في تهذيب الكمال ٢٢ / ٤٢١ ، والذهبي في ميزان الاعتدال ٣ / ٧٢.

٥٧٣

سورة الفتح

مدنيّة. (١)

وهي تسع وعشرون آية بلا خلاف. (٢)

بسم الله الرّحمن الرّحيم

١ ـ (إِنَّا فَتَحْنا) : عن عمر : أنّه كان يساير رسول الله في بعض أسفاره فسأله عن شيء ، فلم يجبه ، قال : قلت : ثكلتك أمّك يا عمر ، سألت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ثلاث مرّات كلّ ذلك لا يجيبك ، فحرّكت بعيري ، وتقدّمت بين يدي ، فلم ألبث أن سمعت صارخا ينادي ، فأتيت رسول الله ، وقد خشيت أن يكون نزل فيّ قرآن ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «قد أنزلت عليّ سورة هي أحبّ [إليّ](٣) ممّا طلعت عليه الشّمس» ثمّ قرأ : (إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً). (٤)

٢ ـ (لِيَغْفِرَ لَكَ اللهُ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ) : وعن المغيرة بن شعبة : أنّ النّبيّ عليه‌السلام صلّى حتى انتفخت قدماه ، فقيل له : أتتكلّف هذا ، وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخّر؟ قال : «أفلا أكون عبدا شكورا؟» (٥).

قيل : المراد بالفتح هو حكم الموادعة بين رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وبين المشركين عام الحديبية ، (٦) ويحتمل : أنّه معنى قوله : (ما يَفْتَحِ اللهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ) [فاطر : ٢]. وعن أنس قال : أنزل على النّبيّ عليه‌السلام : (لِيَغْفِرَ لَكَ اللهُ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ) مرجعه من الحديبية ، وقال النّبيّ عليه‌السلام : «لقد نزلت عليّ آية أحبّ إليّ ممّا على الأرض» ، ثمّ قرأها عليه‌السلام عليهم ، فقالوا : هنيئا مريئا ، قد بين الله لك ما ذا يفعل بك ، فماذا يفعل بنا؟ فنزلت عليه : (لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي) [الفتح : ٥] حتى بلغ : (فَوْزاً عَظِيماً) [الفتح : ٥]. (٧) وذكر الكلبيّ : أنّ الله تعالى لّما أنزل في المؤمنين من كتابه ما أنزل ، وذلك في الحديبية قبل رجوع

__________________

(١) تفسير السمرقندي ٣ / ٢٩٣ ، وزاد المسير ٧ / ١٩٩ ، والبحر المحيط ٩ / ٤٨٢ ، والدر المنثور ٧ / ٤٤٦ عن ابن عباس وابن الزبير.

(٢) البيان في عد آي القرآن ٢٢٩ ، وجمال القراء ٢ / ٥٤٥ ، وإتحاف فضلاء البشر ٥٠٩.

(٣) زيادة من كتب التخريج.

(٤) أخرجه البخاري في الصحيح (٤١٧٧) ، والترمذي في السنن (٣٢٦٢) ، وابن حبان في صحيحه (٦٤٠٩).

(٥) أخرجه أحمد في المسند ٤ / ٢٥٥ ، والبخاري في الصحيح (٦٤٧١) ، ومسلم في الصحيح (٢٨١٩) ، وابن ماجه في السنن (١٤١٩).

(٦) وهذا القول عليه الأكثرون. ينظر : الطبري ١١ / ٣٣٣ ـ ٣٣٤ ، وتفسير السمعاني ٥ / ١٨٨ ، وزاد المسير ٧ / ١٩٩.

(٧) أخرجه أحمد في المسند ٣ / ١٣٤ ، والترمذي في السنن (٣٢٦٣) ، والنسائي في الكبرى (١١٥٠٢) ، وقال الترمذي : هذا حديث حسن صحيح.

٥٧٤

رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى المدينة بلغ ذلك ابن أبيّ بن سلول ، فقال لأصحابه : هيهات ، ما نحن إلا كهيئتهم ، فأنزل الله : (وَيُعَذِّبَ الْمُنافِقِينَ وَالْمُنافِقاتِ) [الفتح : ٦]. وعن معاذ بن جبل قال : قال النّبيّ عليه‌السلام : «ثلاث من كنّ فيه فهو منافق ، وإن صام وصلّى ، وزعم أنّه مؤمن : إذا حدّث كذب ، وإذا اؤتمن خان ، وإذا وعد أخلف» (١) ، فقيل : يا رسول الله ، هذا للمسلمين؟ قال : «إنّما حدثت عن رجال من المنافقين ، حدّثوا أنّهم أسلموا ، فكذبوا ، وائتمنتهم عليّ فخانوا ، ووعدوا الله فأخلفوا».

٦ ـ (ظَنَّ السَّوْءِ) : ظنّ أسد وغطفان (٢) أنّه (لَنْ يَنْقَلِبَ الرَّسُولُ وَالْمُؤْمِنُونَ إِلى أَهْلِيهِمْ أَبَداً) [الفتح : ١٢] سالمين. (٣)

٩ ـ (وَتُسَبِّحُوهُ) : الضّمير عائد إلى الله تعالى. (٤)

١٠ ـ (فَمَنْ نَكَثَ) : ذكر الكلبيّ : أنّ جدّ بن قيس كان من الذين نكثوا العهد ، وكان قد توارى تحت إبط بعيره ، ولم يسر مع القوم. (٥) قال جابر بن عبد الله رضي الله عنه : بايعنا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم تحت الشّجرة على الموت وعلى أن لا نفرّ ، فما نكث أحد منّا العهد إلا جدّ بن قيس ، وكان منافقا ، اختبأ تحت إبط بعيره ، ولم يسر مع القوم. (٦)

١١ ـ (سَيَقُولُ لَكَ الْمُخَلَّفُونَ مِنَ الْأَعْرابِ) : الآيات نزلن في مزينة وجهينة وغطفان وأمثالهم. (٧)

١٥ ـ (ذَرُونا نَتَّبِعْكُمْ (٨) يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلامَ اللهِ) : فلن تتبعونا (٩). أراد بنفي خروجهم بعد ذلك نفي تكليفهم وتشريكهم في الغنائم ، فخرج جماعة منهم إلى خيبر متبرّعين لا غنيمة لهم. وقيل : لم تكن غنيمة خيبر إلا لأهل الحديبية خاصّة. (١٠)

__________________

(١) الأحاديث المختارة ٦ / ٢٣٤ ، والمسند المستخرج على صحيح مسلم ١ / ١٤٧ (٢٠٧) ، صحيح ابن حبان ١ / ٤٩٠ (٢٥٧) ، السنن الكبرى ٦ / ٥٣٥ (١١٧٥٤).

(٢) (ظن أسد وغطفان (، ساقط من ع.

(٣) ينظر : تفسير العز بن عبد السّلام ٣ / ٢٠٤.

(٤) ينظر : الكشاف ٤ / ٣٣٧ ، وزاد المسير ٧ / ٢٠٤ ، والبحر المحيط ٩ / ٤٨٦.

(٥) ينظر : تفسير مبهمات القرآن ٢ / ٥١٧.

(٦) ينظر : تخريج الأحاديث والآثار ٣ / ٣٠٧.

(٧) ينظر : معاني القرآن للفراء ٣ / ٦٥ ، والكشاف ٤ / ٣٣٨ ، وتفسير القرطبي ١٦ / ٢٦٨ عن ابن عباس ومجاهد ، وتفسير مبهمات القرآن ٢ / ٥١٥.

(٨) ((ذَرُونا نَتَّبِعْكُمْ)) ، غير موجود في ع.

(٩) ك : تتبعوا.

(١٠) ينظر : تفسير الطبري ١١ / ٣٤٤ عن قتادة ، وزاد المسير ٧ / ٢٠٦ عن ابن عباس.

٥٧٥

١٦ ـ (سَتُدْعَوْنَ) : قد سبق في سورة التوراة (١). قيل : المراد بالدعاء دعاء رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم النّاس إلى فتح مكة بعد غزوة خيبر ، وإنّما يصحّ هذا التأويل بعد أن يكون المخلّفون عن الحديبية غير المخلّفين عن تبوك.

١٨ ـ (لَقَدْ رَضِيَ اللهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ) : كان السّبب في بيعة الرّضوان.

(تَحْتَ الشَّجَرَةِ) : أنّ النّبيّ عليه‌السلام خرج من المدينة يريد العمرة ، وتجهّز معه ناس كثير من أصحابه ، ومعهم هدي ، فهم يسوقون الهدي معهم ، فبلغ ذلك قريشا ، فاستعدّوا ليصدّوه وأصحابه ، وبعثوا خالد بن الوليد في عصابة لذلك ، فلما بلغ النّبيّ عليه‌السلام (٢٩٦ ظ) مسير خالد بن الوليد ، أحبّ أن يأخذ طريقا لا يعلم به أحد من المشركين ، فقال : أيّ رجل منكم يأخذ بنا نحو السّيف ؛ لعلّنا نطوى مسلحة القوم؟ فقال رجل : أنا يا رسول الله ، قال : امض على بركة الله ، فنزل الرّجل عن راحلته ، فلمّا نزل لم يثق النّبيّ عليه‌السلام بهدايته ، ثمّ عاد فقال : أيّ رجل يأخذ بنا الطّريق نحو السّيف ؛ لعلّنا نطوي مسلحة القوم؟ فقال رجل آخر : أنا يا رسول الله ، قال : امض على بركة الله (٢) ، فمضى على راحلته ، وطوى برسول الله خالدا وأصحابه ، فلم تشعر بهم قريش حتى نزلوا الحديبية ، ففزع المشركون لنزول النّبيّ عليه‌السلام الحديبية فجأة ، فاستعدوا ليصدّوه ، فأراد النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يبعث عمر بن الخطّاب رضي الله عنه ، فقال عمر : يا رسول الله ، لو بعثت عثمان بن عفّان رضي الله عنه كانوا له أرقّ منهم لي ، فبعث النّبيّ عليه‌السلام عثمان ، فسار إليهم ، فتلقّاه أبان بن سعيد بن العاص ، فأجاره ، وحمله بين يديه على الفرس (٣) ، فلم يقربه أحد بأذى ، ثمّ إنّ قريشا بعثوا عروة بن مسعود إلى النّبيّ عليه‌السلام وأصحابه ليأتيهم بالخبر ، فلمّا أتاهم عروة أبصر قوما عمّارا لم يأتوا للقتال ، فرجع إلى قريش ، فقال لهم : لم أر قوما مثل قوم صدّوا هؤلاء عن الكعبة ، فشتموه واتّهموه ، ثمّ بعثوا بديل بن ورقاء الخزاعيّ ورباب بن الحليس أخا بني الحارث بن عبد مناة ، فلمّا قدما قال : النّبيّ عليه‌السلام لأصحابه : ابعثوا الهدي في وجوههما ، ولبّوا ، فلمّا فعلوا ذلك رجع بديل وصاحبه إلى قريش ، فقالا لهم مثل مقالة عروة بن مسعود ، فآذوهما واتّهموهما وشتموهما ، ثمّ بعثوا سهيل بن عمرو ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عند ما أبصر سهيلا : هذا رجل فاجر وما أرى (٤) إلا وقد سهّل

__________________

(١) لم أجد فيما لدي من مصادر تذكر سورة باسم سورة التوراة ، وأظنه يعني بها سورة الاسراء. والآية المعنية بذلك هي الخامسة من السورة ذاتها. والله أعلم.

(٢) (على بركة الله) ، ساقط من ك.

(٣) ساقطة من أ.

(٤) ع : ولا أدري.

٥٧٦

من أمركم ، فلمّا أتاهم سهيل ذاكرهم الهديّة والمواعدة ، فاطمأنّ النّبيّ عليه‌السلام ، وانطلق أناس من المسلمين إلى عشائرهم بمكة ، فحبسوهم عندهم بمكة ، فلمّا كان من أوسط النّهار ، والقوم في الرّحال ، أمر النّبيّ عليه‌السلام بأخذ البيعة ، فنادى منادي رسول الله عليه‌السلام في القوم ألا إنّ روح القدس جبريل عليه‌السلام منزل على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يأمره بأخذ البيعة ، فأتوا رسول الله فبايعوه ، وكبرت تلك البيعة في صدور المشركين ، وعهد أناس من المسلمين كانوا ببطن النّخلة ، فأتوا عصابة من المشركين ووجدوهم جلوسا ، فأخذوهم حتى أتوهم الرّحال رهائن من أصحابهم الذين في أيدي المشركين ، فأمسوا وهم على ذلك ، فرمى رجل من المشركين من تحت اللّيل في أصحاب رسول الله ، فثار المسلمون عليهم بالحجارة ، فرموا أعداء الله بها حتى أدخلوهم البيوت ، وهزموهم بإذن الله ، فأقبل أشرافهم إلى النّبيّ عليه‌السلام فقالوا : يا محمد ، لم يكن من رضى منّا ، وإنّما فعله سفهاؤنا ، وعرضوا الصّلح عليه ، فقبله بعد ، قهر المسلمون المشركين بالحجارة ، فأرسل كلّ واحد من الفريقين من كان في أيديهم ، (٢٩٧ و) وكتبوا القضيّة بينهم وبين رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وكان (١) سهيل (٢) بن عمرو أمير المشركين على قضيّتهم ، وكتبوا : إنّا نتوادع سنتين ، بعضنا لبعض آمن ، فمن لحق بالنّبيّ عليه‌السلام لم يقبله حتى تنقضي المدّة ، ومن لحق بالمشركين من أصحابه فهو منهم ، وإنّكم لتسوقون الهدي ، فإذا حبسناه نحرتموه ، ليس لكم أن تجاوزوا موضعا نحبسه ، وإنّكم إن شئتم اعتمرتم عاما قابلا في هذا الشّهر الذي حبسناكم فيه ، ولا تحملوا (٣) بأرضنا سلاحا إلا سلاحا في قراب ، وهو القوس والسّيف ، فأجابهم النّبيّ إلى ذلك ، ووجد رجال من المسلمين من ذلك الشّرط وجدا شديدا ، فقال النّبيّ عليه‌السلام : أمّا من لحق بهم فأبعده الله ، فهم أولى بمن (٤) كفر ، وأمّا من أراد أن يلحق بنا منهم فسيجعل الله [له](٥) مخرجا ، وكان الكاتب عليّ بن أبي طالب كرّم الله وجهه ، فكان قد كتب في أوّل الصّحيفة : هذا ما قضى عليه رسول الله ، فأبت قريش ذلك وقالوا : إن علمنا أنّك رسول الله لم نمنعك عن بيت الله ، بل أنت محمد بن عبد الله ، فقال رسول الله : أنا رسول الله ، وأنا محمد بن عبد الله (٦) ، فاكتب ، يا عليّ ، محمد بن عبد الله ، وامح ما كتبت ، فعظم (٧) على عليّ رضي الله عنه أن يمحو

__________________

(١) ك : فكان.

(٢) ع : سهل.

(٣) الأصول المخطوطة : تحملوه.

(٤) ك : من.

(٥) زيادة يقتضيها السياق.

(٦) ع : المطلب.

(٧) ع : عظم ذلك.

٥٧٧

اسم رسول الله ، فمحاه النّبيّ عليه‌السلام بيده ، فلمّا فرغوا من كتاب الموادعة ، وختموا عليه أقبل أبو جندل بن سهيل (١) وهو يرسف في قيوده كان قد أسلم وقيّده أبوه ، فقال : إنّي مسلم ، وإنّي أعوذ بالله أن ترجعوني إلى الكفّار ، فتحرّك عند ذلك رجال من المسلمين ، وكاد يكون شر ، فقال النّبيّ عليه‌السلام : خلّوا بينه وبينهم ، فإن يعلم الله من أبي جندل الصّدق يجعل له مخرجا ، فانطلق به أبوه ، وساق النّبيّ عليه‌السلام وأصحابه الهدي حتى قال المشركون جلب الهدي ، ونحر عند ذلك ، وحلق النّبيّ عليه‌السلام رأسه ، وحلّ من إحرامه ، وعهد (٢) أناس من أصحابه فقصروا ، أو كرهوا أن يحلقوا ، ولم يطوفوا بالبيت ، فبلغ ذلك رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فأخرج رأسه من القبّة قد حلقه ، فقال : اغفر اللهمّ (٣) للمحلّقين ، فقيل : يا رسول الله ، وللمقصّرين ، فقال : اللهمّ اغفر للمحلّقين ، فقيل : يا رسول الله ، وللمقصّرين ، فقال : اللهمّ اغفر للمحلّقين ، ثمّ استغفر للمقصّرين بعد ثلاث مرّات ، فلبث رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في غزوة الحديبية شهرا ونصف ، فوعدهم خيبر أن يفتحها لهم ، ثمّ رجع النّبيّ عليه‌السلام إلى المدينة ، ونزل عليه القرآن : (لَقَدْ رَضِيَ اللهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ) [الفتح : ١٨]. (٤)

وعن جابر في هذه الآية قال : بايعنا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم على أن لا نفرّ ، ولم نبايعه على الموت. (٥) وعن يزيد بن أبي عبيدة قال : قلت لسلمة بن الأكوع : على أيّ شيء بايعتم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يوم الحديبية؟ قال : على الموت. (٦) وعن ابن عمر قال : كنّا نبايع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم على السّمع والطّاعة (٢٩٧ ظ) في العسر واليسر والمنشط والمكره ، وأن لا ننازع الأمر (٧) أهله ، وأن نقوم بالحقّ حيث ما كنّا ، وأن لا نخاف في الله لومة لائم ، يقول (٨) النّبيّ عليه‌السلام : فيما استطعتم. (٩)

ثمّ إنّ الله تعالى جعل لأبي جندل بن سهيل مخرجا ، فهرب من قومه ، ولم يأت رسول الله

__________________

(١) ع : سهل.

(٢) أ : وعد.

(٣) غير موجودة في أ.

(٤) تنظر قصة الحديبية بألفاظ مقاربة من هذا النص في مسند أحمد بن حنبل ٤ / ٣٢٨ ـ ٣٣٠ ، وصحيح البخاري (٢٧٣١ و ٢٧٣٢) والسنن الكبرى للبيهقي ٩ / ٢١٩ ، عن المسور بن مخرمة ومروان بن الحكم.

(٥) أخرجه مسلم في الصحيح (١٨٥٦) ، والترمذي في السنن (١٥٩١) ، والنسائي في الصغرى ٧ / ١٤٠.

(٦) أخرجه البخاري في الصحيح (٤١٧٠) ، ومسلم في الصحيح (١٨٦٠) ، والنسائي في الصغرى ٧ / ١٤١.

(٧) الأصول المخطوطة : الأمير ، والصواب ما أثبت.

(٨) ك : ثم يقول.

(٩) أخرجه مسلم في الصحيح (١٨٦٧) ، والترمذي (١٥٩٣) ، والنسائي في الكبرى (٧٨١٠) ، بلفظ مختصر ، أما بهذا النص فهو حديث أخرجه البخاري في الصحيح (٧١٩٩ و ٧٢٠٠) ، ومسلم في الصحيح (١٧٠٩) وغيرهما عن عبادة بن الصامت رضي الله عنهم ، من غير لفظ : «فيما استطعتم».

٥٧٨

صلى‌الله‌عليه‌وسلم مخافة أن يردّه إليهم على شرط ، ولكنّه عمد إلى ذي عروة ، فكان به ، واجتمع إليه قريب من سبعين رجلا (١) من المسلمين فعمدوا إلى عير لقريش مقبلة من الشّام ، أو ذاهبة إليها فأخذوها ، وجعلوا يقطعون الطّريق على المشركين ، فأرسل المشركون (٢) إلى النّبيّ عليه‌السلام يناشدونه ، فيضمهم ويأويهم (٣) ، وأنّه في حلّ من كتاب (٤) الموادعة ، فكتب إليهم رسول الله ، فلحقوا به ، وعلم الذين كرهوا كتاب القضّية كيف صنع الله لرسوله (٥) وللمستضعفين من المؤمنين.

٢٢ ـ (وَلَوْ قاتَلَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوَلَّوُا الْأَدْبارَ) : أسد وغطفان حيث اعترضوا لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في مسيره إلى خيبر ، فناصبهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم دون خيبر ، فعلموا أنّه لا طاقة لهم به ، فألقوا إليه السّلم أن لا يكونوا معه ولا عليه. (٦)

٢٤ ـ (وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ ...) : الآية نزلت في الوقعة بين المسلمين والمشركين (٧) بالحديبية. (٨) والحديبية على أربعة أميال (٩) من مكة.

٢٥ ـ (رِجالٌ مُؤْمِنُونَ) : الوليد بن المغيرة وسلمة بن هشام وعباس بن ربيعة وأبو جندل بن سهيل وغيرهم كانوا بمكة.

(لَوْ تَزَيَّلُوا) : لو تخلّص المؤمنون منهم ، وتميّزوا. (١٠)

٢٦ ـ (وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوى) : عن عليّ رضي الله عنه : كلمة التّقوى لا إله إلا الله. (١١) وعن ابن عمر : أنّ الكلمة التي ألزمناها ليلة الحديبية كلمة التّقوى لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، له الملك ، وله الحمد ، يحيي ويميت ، بيده الخير ، وهو على كلّ شيء قدير.

٢٧ ـ (لَقَدْ صَدَقَ اللهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيا) : كان النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم قد رأى في منامه أنّه دخل المسجد الحرام مع أصحابه (مُحَلِّقِينَ رُؤُسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لا تَخافُونَ)، وكان رؤياه هذه قبل الحديبية ، فخرج إلى الحديبية ، وهو يطمع في تأويل رؤياه ، والمؤمنون كذلك ، وكان تأويل الرّؤيا

__________________

(١) ع : رجل.

(٢) (فأرسل المشركون) ، ساقط من أ.

(٣) الأصول المخطوطة : وآواهم.

(٤) الأصول المخطوطة : الكتاب.

(٥) الأصول المخطوطة : لرسول. والصواب ما أثبت.

(٦) ينظر : تفسير السمرقندي ٣ / ٣٠٢ ، وتفسير القرطبي ١٦ / ٢٨٠.

(٧) ساقطة من أ.

(٨) ينظر : تفسير الطبري ١١ / ٣٥٥ ، وزاد المسير ٧ / ٢١٠ عن عبد الله بن المغفل ، وتفسير مبهمات القرآن ٢ / ٥١٨.

(٩) أ : ليال.

(١٠) ينظر : معاني القرآن للفراء ٣ / ٦٨ ، وتأويل مشكل القرآن ٢٨٥ ، وزاد المسير ٧ / ٢١٢.

(١١) تفسير الثوري ٢٧٨ ، وتفسير الطبري ١١ / ٣٦٤ ، وإيجاز البيان عن معاني القرآن ٢ / ٧٥٣ ، والدر المنثور ٧ / ٤٦٥.

٥٧٩

عند الله مؤجلا إلى سنة بعد ذلك ، فلما صدّهم المشركون دخل (١) في قلوب أناس من المؤمنين ، فأنزل الله ، ووعدهم عمرة القضاء على نحو ما رأى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في منامه. (٢)

٢٧ ـ (فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذلِكَ فَتْحاً قَرِيباً) : وهو فتح خيبر. (٣)

٢٩ ـ والواو في قوله : (وَالَّذِينَ مَعَهُ) لعطف الجملة. (٤)

(سِيماهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ) : خشوعهم وخضوعهم. (٥) وقيل : بياض في وجوههم يوم القيامة. (٦) وقيل : هو الذي ينعقد على أكفّهم وجباههم وركبهم كنفثات البعير ، ولهذا سمّي زين العابدين ذا النّفثات (٧).

(ذلِكَ مَثَلُهُمْ) : أي : هذا الذي ذكرنا صفتهم. (٨)

(شَطْأَهُ) : فرخ الزّرع ، وهو ما ينبت من الزّرع أصغر منه ، وهذا (٩) الفرع يؤازر الزّرع ليقوم على سوقه ، (١٠) ف (الزرع) رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، و (الشّطء) أصحابه ، (١١) و (الكفّار) هم الذين يقاتلون المؤمنين.

__________________

(١) أ : خطر.

(٢) ينظر : تفسير السمعاني ٥ / ٢٠٧.

(٣) تفسير الطبري ١١ / ٣٦٨ عن ابن زيد ، وزاد المسير عن ابن عباس وعطاء وغيرهما.

(٤) ينظر : البيان في غريب إعراب القرآن ٢ / ٣١٧.

(٥) ينظر : تفسير الطبري ١١ / ٣٧٠ عن ابن عباس ومجاهد ، وزاد المسير ٧ / ٢١٥ عن مجاهد.

(٦) ينظر : تفسير الطبري ١١ / ٣٧٠ عن عطية والحسن ، وزاد المسير ٧ / ٢١٦ عنهما والزهري ، والدر المنثور ٧ / ٤٧٠ عن ابن عباس وعطية.

(٧) أ : كالنفثات.

(٨) ينظر : تفسير غريب القرآن ٤١٣ ، وإيجاز البيان عن معاني القرآن ٢ / ٧٥٤ ، والبحر المحيط ٩ / ٥٠١.

(٩) أ : وهلا.

(١٠) ينظر : تفسير غريب القرآن ٤١٣ ، وإيجاز البيان عن معاني القرآن ٢ / ٧٥٤ ، وعمدة الحفاظ ٢ / ٣٠٩.

(١١) ينظر : تفسير غريب القرآن ٤١٤.

٥٨٠