درج الدّرر في تفسير القرآن ّالعظيم - ج ٢

عبد القاهر بن عبد الرحمن الجرجاني

درج الدّرر في تفسير القرآن ّالعظيم - ج ٢

المؤلف:

عبد القاهر بن عبد الرحمن الجرجاني


المحقق: د. طلعت صلاح الفرحات / د. محمّد أديب شكور
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الفكر ناشرون وموزعون
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
9957-07-514-9

الصفحات: ٨٠٢
الجزء ١ الجزء ٢

و (خَمْطٍ) : ثمر الأراك (١) ، وكلّ شجر لا شوك له ، (٢) ويقال له : البرير (٣). وقيل : البرير ثمر الإثل. (٤)

و (الإثل) : شجر يشبه الطّرفاء ، (٥) يصنع منه النّضار ، والنّضار : القدح المتّخذ من شجر الإثل. (٦)

و (سِدْرٍ) : شجر (٧) يستظلّ به ، ويؤكل ثمره. وذكر الفرّاء عن بعضهم : أنّه السّمر. (٨) ولا تبعد ألطاف الله لهؤلاء المعاقبين بأن يكونوا رزقوا من هذه الأشجار في أيّامهم رزقا صالحا يتبلّغ به ، كما رزق بني إسرائيل في التّيه من المنّ ، والمواضع (٩) التي ينبت فيها هذه الأشجار في أيّامنا المفاوز دون البساتين.

١٧ ـ (ذلِكَ) : إشارة إلى (سَيْلَ الْعَرِمِ)، وتبديل الذي هو خير بالذي هو أدنى.

(جَزَيْناهُمْ) : الجزاء والمجازاة بمعنى ، والجزاء يتعدّى (١٠) إلى مفعولين ، قال تعالى : (يُجْزاهُ الْجَزاءَ الْأَوْفى) [النجم : ٤١].

١٨ ـ قال : (وَجَعَلْنا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ (١١) الْقُرَى) : قال الكلبيّ : إنّهم ندموا على صنيعهم ومقاومتهم الرياح ، فوعدوا الرّسل أن يؤمنوا إن كشف الله عنهم الشّرّ ، فدعت لهم الرّسل ، فكشف الله عنهم ، وجعل من أرض سبأ إلى أرض فلسطين قرى متّصلة يبيتون بقرية ويقيلون بقرية ، لا يحلّ المسافر عقدة حتى يرجع إلى أهله ، وكان مقدار سيرهم شهرا في أمن وسلامة ، يمتارون الميرة إلى أهليهم حتى نكثوا العهد ، ورجعوا إلى الكفر والطّغيان. (١٢)

١٩ ـ (فَقالُوا رَبَّنا باعِدْ بَيْنَ أَسْفارِنا) : لسؤالهم معنيان : أحدهما : أنّهم سألوا ذلك

__________________

(١) الأصول المخطوطة : الأرك ، ينظر : تفسير الطبري ١٠ / ٣٦٤ ، وزاد المسير ٦ / ٢٣٩ ، والدر المنثور ٦ / ٦٠٩ عن ابن عباس وغيره.

(٢) ينظر : معجم مفردات القرآن ١٧٩ ، وعمدة الحفاظ ١ / ٦١٨.

(٣) أي : يقال للأراك البرير ، ينظر : المراجع السابقة.

(٤) معاني القرآن للفراء ٢ / ٣٩٥.

(٥) ينظر : تفسير غريب القرآن ٣٥٦ ، ومعاني القرآن للفراء ٢ / ٣٥٩ ، وزاد المسير ٦ / ٢٣٩.

(٦) ينظر : النهاية في غريب الحديث ٥ / ٧٠ ، ولسان العرب ٦ / ٢٥٤.

(٧) ع : وسدسي.

(٨) معاني القرآن للفراء ٢ / ٣٥٩.

(٩) أ : المراضع.

(١٠) أ : يتعد.

(١١) غير موجودة في الأصل وع وأ.

(١٢) ينظر : تفسير السمرقندي ٣ / ٨١ ، وزاد المسير ٦ / ٢٤٠.

٤٨١

على سبيل الاستهزاء وقلّة المبالاة ، كقول آخرين : (فَأْتِنا بِما تَعِدُنا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ) [الأحقاف : ٢٢] ، وقال : (إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَ (٢٧١ و) مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ (١) ...) الآية [الأنفال : ٣٢]. والثاني : أنّهم تبرّموا بالعافية ، فحملهم السّفاهة على أن يشتهوا البلاء ، كقول بني إسرائيل : (لَنْ نَصْبِرَ عَلى طَعامٍ واحِدٍ ...) الآية [البقرة : ٦١]. (٢)

(فَجَعَلْناهُمْ (٣) أَحادِيثَ) : له معنيان على سبيل المجاز : أحدهما : أنّ الله عزوجل جعل أخبارهم مستفيضة يتحدّث النّاس على سبيل الاعتبار. (٤) والثاني : أنّ الله تعالى خرّب ديارهم ومحا آثارهم وأبقى أخبارهم ، فكأنّهم صاروا أحاديث ، يعني (٥) : على الحقيقة ، وهو تقليب الجوهر عرضا ، وبقاء العرب من سبيل هؤلاء ، ليس يخالف الآية ؛ لأنّ الله تعالى إذا أهلك قوما أنشأ من ذرّيّتهم قوما آخرين ، هذه سنّة الله في عباده.

٢٠ ـ (وَلَقَدْ (٦) صَدَّقَ عَلَيْهِمْ) : الظاهر أنّهم في شأن آل سبأ. (٧) ويحتمل : في شأن جميع النّاس. (٨)

٢١ ـ (وَما كانَ لَهُ عَلَيْهِمْ مِنْ سُلْطانٍ) : له معنيان : أحدهما : التّمكّن من غرورهم ووسوستهم (٩) بتمكين. (١٠) والثاني (١١) : الشّبهة التي خلقها الله تعالى ليستدلّ بها الشّيطان فيما يوسوس به النّاس ، فيريه (١٢) أنّها البرهان.

٢٢ ـ (زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللهِ) : أنّهم آلهة (١٣) ، فبيّن الله تعالى أنّهم لا يملكون شيئا ، وهم

__________________

(١) ((مِنَ السَّماءِ)) غير موجود في ع.

(٢) ينظر : زاد المسير ٦ / ٢٤٠ ، وتفسير البيضاوي ٤ / ٢٤٥ ، وتفسير القرطبي ١٤ / ٢٩٠ ، وتفسير أبي السعود ٧ / ١٢٩.

(٣) الأصول المخطوطة : وجعلناهم.

(٤) ينظر : الوسيط ٢ / ٨٢ ، ومعاني القرآن ٥ / ٤١١ ، وتفسير أبي السعود ٧ / ١٢٩.

(٥) أ : يعني.

(٦) ع : لقد.

(٧) ينظر : زاد المسير ٦ / ٢٤٢ ، وتفسير القرطبي ١٤ / ٢٩٢ ، وتفسير أبي السعود ٧ / ١٣٠.

(٨) ينظر : تفسير القرطبي ١٤ / ٢٩٢ ، وتفسير أبي السعود ٧ / ١٣٠.

(٩) أ : وسوستهم.

(١٠) ينظر : زاد المسير ٦ / ٢٤٢ ، و ٤ / ٣٠٦ عن سليمان الدمشقي ، وتفسير القرطبي ١٤ / ٢٩٣.

(١١) الأصول المخطوطة : الثالث ، والصواب ما أثبت.

(١٢) ك : ويريه.

(١٣) بياض في أ.

٤٨٢

مملكون (١) ، ولا يعينون الله على شيء ، وهم معانون. (٢)

٢٣ ـ عن (٣) أبي هريرة رضي الله عنه ، عنه عليه‌السلام قال : «إذا قضى الله [في السّماء] أمرا [ضربت] الملائكة بأجنحتها خضعانا لقوله ، كأنّها سلسلة على صفوان ، فإذا (٤) فزّع عن قلوبهم قالوا (٥) : ماذا قال ربكم؟ قالوا : الحقّ وهو العليّ الكبير ، قال : والشّياطين بعضهم فوق بعض ، فإذا سمع الأعلى منهم الكلمة رمى بها إلى الذي تحته ، وربّما أدرك الشّهاب قبل أن يذبذبها (٦) [وربّما ألقاها](٧) قبل أن يدركه ، فينبذها بعضهم إلى بعض حتى تنتهي إلى الأرض ، فيلقى على لسان الكاهن أو السّاحر ، فيكذب ، فيصدق بالكلمة التي يسمع من السماء» (٨).

(حَتَّى إِذا فُزِّعَ) : غاية للحالة الغائبة (٩) المتقدّمة عليها ، (١٠) والغاية لا تدلّ على مخالفة حكم ما وراءها.

(فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ) : يعنى : خلا الفزع عن قلوبهم. (١١)

(قالُوا) : يعني : ملك الملائكة دون الملأ الأعلى. (١٢)

(ما ذا قالَ رَبُّكُمْ قالُوا) : جواب الملأ الأعلى (١٣) للذين يلونهم.

(الْحَقَّ) : يحتمل : الإجمال لقطع السّؤال ، ويحتمل (١٤) : البيان لاستراق الشّيطان ، ويحتمل : أنّهم يجهلون الجواب مرّة ، ويفسرونه بإذن الله.

٢٤ ـ (قُلِ اللهُ وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ) : على سبيل الإيجاز ، تقديرها : وإنا لعلى هدى أو في ضلال مبين ، وإنّا أو إيّاكم لعلى هدى أو في ضلال مبين ، وهذا كقولك لخصمك : الله يعلم أن

__________________

(١) أ : مملوكون.

(٢) ينظر : زاد المسير ٦ / ٢٤٢ ، وتفسير القرطبي ١٤ / ٢٩٥.

(٣) الأصل وأ : على.

(٤) ك : حتى.

(٥) الأصل وأ : قال ، والصواب ما أثبت. ينظر كتب التخريج.

(٦) ع : يدنونها.

(٧) ما بين المعقوفات في هذا الحديث زيادة من كتب التخريج ، ليتم المعنى.

(٨) أخرجه الحميدي في المسند ٢ / ٤٨٧ ، البخاري في الصحيح (٤٨٠٠) ، وابن حبان في صحيحه (٣٦).

(٩) الأصل وك وأ : للغابة ، وع : للغائبة.

(١٠) ينظر : الكشاف ٣ / ٥٨٩ ، وتفسير البيضاوي ٤ / ٢٤٦ ، واللباب في علوم الكتاب ١٦ / ٥٦.

(١١) ينظر : كشف المشكلات وإيضاح المعضلات ٢ / ٢٣٩ ، وتفسير القرطبي ١٤ / ٢٩٥.

(١٢) ينظر : تفسير الطبري ١٠ / ٣٧٢ ، وزاد المسير ٦ / ٢٤٣ عن مسروق وغيره.

(١٣) ((ما ذا قالَ رَبُّكُمْ): جواب الملأ الأعلى) ساقط من ك.

(١٤) الأصل وك : يحمل ، وأ : يجهل.

٤٨٣

أحدنا لكاذب. (١)

٢٥ ـ (قُلْ لا تُسْئَلُونَ عَمَّا أَجْرَمْنا) : المراد بالسّؤال : الأخذ والمطالبة.

٢٧ ـ (أَلْحَقْتُمْ بِهِ) : أي : بالله (٢).

(شُرَكاءَ) : على زعمكم أنّ الملائكة (٢٧١ ظ) متولّدة منه ، وأنّ الانفعال قديم بقدم الفعل ، وأنّ المعدوم شيء لا أوّل له ، وأنّ المكان قديم بقدم الآنيّة ، وأن الإيجاد واقع بين الله والعباد.

(كَلَّا بَلْ هُوَ اللهُ الْعَزِيزُ) : الذي عزّ فلا يطاق ، وعزّ فلا يناله الإلحاق.

(الْحَكِيمُ) : الذي تعالى بحكمته عن تمكين المخاذيل من صفته.

٢٨ ـ (إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيراً وَنَذِيراً) : أي : إلا جامعة للنّاس بالبشارة والإنذار ، والهاء في كافّة : للمبالغة ، (٣) كما هي في النسّابة والعلّامة والرّاوية.

٣٣ ـ (وَأَسَرُّوا النَّدامَةَ) : في أوّل أمرهم ، وحسرتهم بعد ذلك. (٤)

(الْأَغْلالَ) : جمع غلّ ، (٥) وهو طوق ذلّ وصغار.

٣٦ ـ (قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ) : في ردّ استدلالهم بكثرة الأموال والأولاد على نفي العذاب في المعاد.

٣٧ ـ (بِالَّتِي)(٦) : إشارة إلى الأشياء ، (٧) إن شاء الله ، أو إلى الخصلة (٨) ، أو إلى الحسنة.

(إِلَّا مَنْ آمَنَ) : إن كان الاستثناء متصلا ، فالتقدير فيه : الأموال للذين عملوا الصالحات وأولادهم ، وذلك لكون أموالهم منفقة في سبيل الله ، وكون أولادهم تابعة بإيمان ، وإن كان الاستثناء منقطعا لمن آمن وعمل صالحا شرط ، وقوله : (فَأُولئِكَ)(٩) جزاء.

__________________

(١) ينظر : معاني القرآن للفراء ٢ / ٣٦٢.

(٢) ك : الله. وينظر : الوسيط ٢ / ٨٨٤ ، والقرطبي ١٤ / ٣٠٠.

(٣) ينظر : الوسيط ٢ / ٨٨٥ ، وتفسير البيضاوي ٤ / ٢٤٧ ، وتفسير القرطبي ١٤ / ٣٠٠ ، وتفسير أبي السعود ٧ / ١٣٣.

(٤) ينظر : تفسير القرطبي ٨ / ٣٥٢.

(٥) تفسير القرطبي ٩ / ٢٨٤.

(٦) أ : يا أي.

(٧) ينظر : معاني القرآن للفراء ٢ / ٣٦٣.

(٨) ينظر : تفسير البيضاوي ٤ / ٢٤٩.

(٩) غير موجودة في ع.

٤٨٤

عن أنس ، عن النّبيّ عليه‌السلام قال : «ينادي مناد (١) كلّ ليلة : لدوا للموت ، وينادي آخر : ابنوا للخراب ، ونادى مناد : اللهمّ هب للمنفق خلفا ، وينادي آخر : اللهمّ وللممسك تلفا ، وينادي مناد : ليت الخلق لم يخلقوا معشار عشير ، وقيل : عشير العشير» (٢) ، وهذه الآية في معنى قوله : (مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ ما لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ) [الأنعام : ٦].

٤٦ ـ (بِواحِدَةٍ) : بخصلة واحدة. (٣)

(أَنْ تَقُومُوا) : بيان لتلك الخصلة. (٤)

(ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا) : أي : في محمد هل هو مجنون أم ليس بمجنون؟

وقوله : (ما بِصاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ) : كلام مبتدأ على هذا التقدير ، وهو تزكية (٥) من الله تعالى لمحمد عليه‌السلام ، ويحتمل : أنّ التقدير فيه : ثمّ تتفكروا أيّ شيء بصاحبكم من جنون ، فإن كان التقدير هكذا لم يحسن الوقف على قوله : (ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا).

٤٨ ـ (قُلْ إِنَّ رَبِّي يَقْذِفُ بِالْحَقِّ) : على الباطل فيدمغه.

٤٩ ـ الواو في (وَما يُبْدِئُ) لعطف الجملة ، (٦) وهذه الآية في معنى قوله : (قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكائِكُمْ مَنْ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ) [يونس : ٣٤].

٥٠ ـ (إِنْ ضَلَلْتُ فَإِنَّما أَضِلُّ عَلى نَفْسِي) : أي : إن سلكت طريق الشّرّ ودعوتكم إلى الشّرّ فأنا شريككم فيه.

(وَإِنِ اهْتَدَيْتُ فَبِما يُوحِي إِلَيَّ) : أي : إن سلكت طريق الخير ، ودعوتكم إلى الخير فبوحي الله وإذنه ، وإن كان تلك من جهة الله تعالى لزمكم قبوله.

٥١ ـ (وَلَوْ تَرى إِذْ فَزِعُوا) : تذكير وقت إحساس اليأس ، واليأس عن النّاس وانقطاع الأنفاس ، وذلك حين ينخفض الصّوت (٢٧٢ و) ويتقرّب الموت (٧) ، ويتعذّر الفوت. عن سمرة قال : قال عليه‌السلام : «مثل الذي يفرّ من الموت كالثّعلب ، فطالبته الأرض بدين

__________________

(١) الأصول المخطوطة : منادي ، وما أثبت الصواب ، وكذلك التي بعدها.

(٢) أخرجه الثعلبي في تفسيره ٨ / ٩٢ ـ ٩٣.

(٣) تفسير السمرقندي ٣ / ٨٩ ، وتفسير السمعاني ٤ / ٣٤٠١ ، وتفسير أبي السعود ٧ / ١٣٨.

(٤) ينظر : مشكل إعراب القرآن ٥٤٨ ، وتفسير السمعاني ٤ / ٣٤٠ ، والبيان في غريب إعراب القرآن ٢ / ٢٣٥.

(٥) أ : تركه.

(٦) ينظر : بيان القرآن الكريم ٨ / ٢٥٢.

(٧) كلمة الموت مكررة في أ.

٤٨٥

يسعى ، حتى إذا عيي وانبهر ، دخل جحره ، فقالت (١) له الأرض عند سبلته : أيا ثعلب ، ديني ديني ، فخرج ، فلم يزل كذلك حتى انقطع عنقه ، فمات» (٢).

٥٢ ـ (وَقالُوا آمَنَّا بِهِ) : إنّه الذي قال الله : (فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا) [غافر : ٨٥].

(وَأَنَّى لَهُمُ التَّناوُشُ) : كيف لهم منازل الإيمان ، وبطلب الأمان؟ (٣)

(مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ) : لبعد معاينة اليأس عن رتبة الاختيار والاختبار.

٥٣ ـ (وَيَقْذِفُونَ بِالْغَيْبِ) : مثل رجمهم بالغيب ، وهو ظنّهم بالنّبيّ عليه‌السلام الظّنون الفاسدة. (٤)

(مِنْ مَكانٍ) : لبعد السّفهاء عن إصابة العقلاء.

٥٤ ـ (وَحِيلَ بَيْنَهُمْ) : في المشركين ، متصلة بما قبلها يدلّ عليه فحوى الخطاب ، ولكن عموم قوله : (ما يَشْتَهُونَ) جعل ممّا يجوز اقتباسه (٥) لوصف المؤمنين ، وذلك لأنّ كلّ واحد من النّاس يشتهي أن يعيش ، ويشكّ في ساعة موته الذي يبقى به ، وهذا النّوع من الاقتباس (٦) كاقتباس عليّ رضي الله عنه قوله : (إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنى) الآية [الأنبياء : ١٠١].

وعن أبيّ بن كعب ، عنه عليه‌السلام : «من قرأ سورة سبأ لم يبق رسول ولا نبيّ إلا كان له يوم القيامة مصافحا» (٧).

__________________

(١) الأصول المخطوطة : فقال.

(٢) أخرجه الطبراني في الأوسط (٦٣٢٨) ، والبيهقي في شعب الإيمان ٧ / ٣٨٨ ، وأمثال الحديث ١٠٧.

(٣) ينظر : تأويل مشكل القرآن ٢٥٥.

(٤) ينظر : تفسير السمعاني ٤ / ٢٤١ ، والتسهيل لعلوم التنزيل ٣ / ١٥٢ ـ ١٥٣.

(٥) أ : اقتسامه.

(٦) أ : اقتباس.

(٧) ينظر : الوسيط ٣ / ٤٨٦ ، والكشاف ٣ / ٦٠٣.

٤٨٦

سورة الملائكة (فاطر)

مكيّة. (١)

وهي خمس وأربعون آية في غير عدد (٢) أهل الشّام والمدنيّ الآخر ، (٣) والله أعلم.

بسم الله الرّحمن الرّحيم

١ ـ (أُولِي أَجْنِحَةٍ) : في محلّ النّصب على أنّه نعت للرسل. (٤) ويحتمل : أنّه في محلّ الخفض بدلا من الملائكة ، ويجوز إبدال النّكرة من المعرفة.

وقوله : (مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ) : عائد إلى الملائكة (٥) أو الرّسل (٦).

(يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ)(٧) : أي في الأجنحة. (٨)

عن عقيل بن شهاب : أنّ النّبيّ (٩) عليه‌السلام سأل جبريل أن يتراءى له في صورته (١٠)؟

فقال له (١١) جبريل : إنّك لن تطيق ذلك ، قال : فإنّي أحبّ أن تفعل ، فخرج رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى المصلّى [في](١٢) ليلة مقمرة ، فأتاه جبريل عليه‌السلام في صورته ، فغشي على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حين رآه ، ثمّ أفاق وجبريل مسنده واضعا إحدى يديه على صدره والأخرى بين كتفيه ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : وما كنت أرى أنّ شيئا من الخلق هكذا؟! فقال جبريل عليه‌السلام : كيف لو رأيت إسرافيل؟ إنّ له اثني عشر جناحا ، جناح بالمشرق ، وجناح بالمغرب ، وإنّ العرش لعلى كاهله ، وإنه ليتضاءل الأحايين لعظمة الله حتى يعود مثل الوصع ، والوصع عصفور صغير ، حتى ما يحمل عشرة إلا عظمته. (١٣) (٢٧٢ ظ)

__________________

(١) ينظر : تفسير مقاتل بن سليمان ٣ / ٧١ ، وتفسير غريب القرآن ٣٦٠ ، وتفسير القرطبي ١٤ / ٧١٨ ، وإتحاف فضلاء البشر ٤٦٢.

(٢) ع : مدد.

(٣) وعدد آياتها في المدني الآخير والشامي فهي ست وأربعون. البيان في عد آي القرآن ٢١٠ ، وجمال القراء ٢ / ٥٣٩ ، وإتحاف فضلاء البشر ٤٦٢.

(٤) ينظر : إعراب القرآن للنحاس ٣ / ٣٥٩ ، وتفسير القرطبي ١٤ / ٣١٩ ، وبلاغة القرآن وإعرابه ٨ / ٢٥٨.

(٥) ينظر : تفسير السمرقندي ٣ / ٩٢ ،

(٦) ينظر : معاني القرآن ٥ / ٤٣٥ ، قال : الرسل منهم جبريل ميكائيل ...

(٧) ك زيادة : (يَشاءُ).

(٨) ينظر : معاني القرآن للفراء ٢ / ٣٦٦ ، وتأويلات أهل السنة ٤ / ٣٦٦ ، والكشاف ٣ / ٦٠٤.

(٩) ع : جبريل.

(١٠) أ : صورة.

(١١) ساقطة من ع.

(١٢) زيادة من كتب التخريج.

(١٣) أخرجه ابن المبارك في الزهد ٧٤ ، وإثبات صفة العلو ٩٢ ، وتخريج الأحاديث والآثار ٣ / ١٤٦.

٤٨٧

وعن ابن مسعود (١) قال : إنّ لله ملكا ، يقال له : صندفيل ، البحار كلّها في نقرة إبهامه. (٢) وعنه عليه‌السلام قال : «أذن لي أن أحدّث عن ملك من حملة العرش ، رجلاه في الأرض السّفلى ، وعلى قرنيه العرش ، وبين شحمة أذنه إلى عاتقه خفقان الطّير سبع مئة سنة ، يقول ذلك الملك : سبحانك حيث كنت». (٣)

٨ ـ (أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَناً) : كمن يعرف الخير من الشّرّ ، (٤) وقد سبق القول في الاقتصار على أحد طرفي الكلام. وقيل : تقديره : أفمن زيّن له سوء عمله ذهبت نفسك عليه حسرات ، إنّ الله يضلّ من يشاء ويهدي من يشاء ، (٥) كقولك لأخيك : أحمار عصاك ، فإنّ الله لم يجعل له عقلا ، فلا يضجر منه ، يريد بذلك أحمار عصاك ، فضجرت منه ، فلا يضجر منه ، إنّ (٦) الله لم يجعل له عقلا (٧) ، ولكنّك اكتفيت بما أبقيت دليلا على ما ألقيته.

١٠ ـ (إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ) : ذهب الكلبيّ : أنّ العمل الصالح رافع الكلم الطّيب. (٨) وروى الأشج عن الضّحاك موافقة للكلبيّ. (٩) وروى صالح بن محمد عنه مخالفته. (١٠) وكلا (١١) القولين محتمل ؛ لأنّ عمل اللّسان هو رافع الكلم الطّيب الذي في الصّدر ، والكلم الطّيب على لسانه هو رافع أعماله الصّالحة بالأركان ، والكلم الطّيب (١٢) الشّهادتين. والصعود إلى الله الارتفاع إلى محلّ الكرامة والقبول ، ويحتمل التقدير : إلى الله يصعد الكلم الطّيب ، والله يرفع العمل الصّالح.

(وَالَّذِينَ يَمْكُرُونَ السَّيِّئاتِ) : والذين يعملون السّيئات. قال سعيد (١٣) بن جبير : هم

__________________

(١) ع : عباس.

(٢) أ : إبهاميه. ينظر : البدء والتاريخ ١ / ١٧٤ عن ابن مسعود ولم يذكر اسم الملك ، وينظر : العظمة ٢ / ٧٤٦ عن شهر بن حوشب ، وتفسير القرطبي ١ / ٣٨٨ عن كعب الأحبار ، وذكر اسم الملك بأنه : صندفاييل.

(٣) أخرجه الطبراني في الأوسط (٦٥٠٣) عن أنس بن مالك ، وقال الهيثمي في المجمع ١ / ٨٠ : تفرد به عبد الله بن المنكدر ، هو وأبوه ضعيفان.

(٤) ينظر : تأويلات أهل السنة ٤ / ١٧١.

(٥) ينظر : تأويل مشكل القرآن ١٦٩ ، ومعاني القرآن للفراء ٢ / ٣٦٧ ، والمحرر الوجيز ١٢ / ٢١٩.

(٦) ساقطة من أ.

(٧) (فلا يضجر ... له عقلا) ، ساقط من ع.

(٨) ينظر : المحرر الوجيز ١٢ / ٢٢٣ عن ابن عباس.

(٩) ينظر : تفسير ابن أبي حاتم (١٧٩٤١) ، وتفسير الماوردي ٣ / ٣٧٠.

(١٠) ينظر : تفسير الماوردي ٣ / ٣٧٠ عن الحسن ويحيى بن سلام.

(١١) أ : كذا.

(١٢) (على لسانه هو رافع أعماله الصالحة بالأركان ، والكلم الطيب) ، ساقط من ع.

(١٣) أ : سعد.

٤٨٨

الذين يعملون بالرّياء. (١) وهكذا عن مجاهد. (٢) وهذا لأنّ المرائي يظهر محبوب الطّاعة ، ويضمر مكروه النّفاق. وعن أبيّ بن كعب ، عنه عليه‌السلام : «بشّر هذه الأمة بالسّناء والرّفعة ، والتّمكين في البلاد ، ما لم يعملوا عمل الآخرة للدّنيا ، ومن يعمل عمل الآخرة للدّنيا لم (٣) يقبل منه ، وليس له في الآخرة من نصيب» (٤).

(هُوَ يَبُورُ) : أي : يحبط العمل.

١٢ ـ (وَمِنْ كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْماً طَرِيًّا) : واللّحم الطّريّ موجود في البحرين ، (٥) وأطيبه الذي في بحر الملح (٦).

واللؤلؤ غير معهود وجوده في العذاب ؛ (٧) لامتناع أن يصل الغوّاص إلى قعره ولسائر الافات ، وأمّا الصدف فلا يبعد تقلبه في البحرين جميعا ، وأما الياقوت والعنبر وسائر ما يتحلّى به من الشّدّ والخرز فغير ممتنع وجوده في كلّ واحد من البحرين.

عن أبي هريرة رضي الله عنه ، عنه عليه‌السلام قال : «كلم البحران ، فقيل للبحر الذي بالشّام (٨) : يا بحر ، إنّي قد خلقتك وأكثرت فيك من الماء ، وإنّي حامل فيك عبادا لي يسبحونني ، ويحمدونني ويهلّلونني (٢٧٣ و) ويكبرونني ، فما أنت صانع بهم؟ قال : أغرقهم؟ قال الله تعالى : إنّي أحملهم على ظهرك ، وأجعل بأسك في نواحيك ، وقال للبحر الذي باليمن : إنّي قد خلقتك وأكثرت فيك من الماء ، وإنّي حامل (٩) فيك عبادا لي يسبحونني ويحمدونني ويهلّلونني ويكبّروني ، فما أنت صانع بهم؟ قال : أسبّحك وأحمدك وأهلّلك وأكبرك معهم ، وأحملهم في بطني ، قال الله تعالى : فإنّي أفضّلك على البحر الآخر بالحلية والطّريّ. (١٠) ومعنى الحمل في بطن الماء حمل (١١) الغوّاصين.

__________________

(١) ينظر : تفسير ابن كثير ٣ / ٧٢٧.

(٢) ينظر : الزهد لابن المبارك ١٥ ، وتفسير ابن أبي حاتم (١٧٩٤٢) ، وشعب الإيمان ٥ / ٣٣٨.

(٣) ساقطة من أ.

(٤) أخرجه أحمد في المسند ٥ / ١٣٤ ، والحاكم في المستدرك ٤ / ٣١١ ، والبيهقي في الشعب (٦٨٣٣) عن أبي بن كعب رضي الله عنه.

(٥) ينظر : المحرر الوجيز ١٢ / ٢٢٨ ، واللباب في علوم الكتاب ١٦ / ١١٦.

(٦) أ : المالح.

(٧) ينظر : المحرر الوجيز ١٢ / ٢٢٨.

(٨) أ : الشام.

(٩) ك : جاعل.

(١٠) ينظر : مختصر زوائد البزار (١٢٩٨) ، وقال : ترفد به سهيل بن عبد الرحمن وهو منكر الحديث ، وقال الهيثمي في المجمع ٥ / ٢٨١ ـ ٢٨٢ : فيه عبد الرحمن بن عمر العمري ، وهو متروك. وهو مروي من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص قال فيه صاحب العلل المتناهية ١ / ٥٠ : لا يصح عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

(١١) ك : عمل.

٤٨٩

١٣ ـ (قِطْمِيرٍ)(١) : حبّة في بطن نواة التّمر. وقيل : لفافة نواة التّمر. (٢) يضرب به المثل في القلّة والخسّة ، (٣) كالنّقير والفتيل.

١٤ ـ (وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ) : معطوف على مضمر تقديره : أحطنا بالغيب والشّهادة خبرا ، ولا ينبئك بالأمر أحد مثل خبير به ، كالمثل السّائر : ما حكّ جلدك مثل ظفرك (٤).

١٦ ـ (وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ) : ليس بعطفه على قوله : (إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ) ؛ لكونه موقوفا (٥) عليه ، ولكنّ العطف للتّنبيه على كمال القدرة ، والحثّ على العبرة ، يدلّ عليه قوله : (كُلُّ مَنْ عَلَيْها فانٍ (٢٦) وَيَبْقى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالْإِكْرامِ (٢٧)) [الرحمن : ٢٦ ـ ٢٧].

١٧ ـ (وَما ذلِكَ) : إشارة إلى الشّرط الذي هو المشيئة لم يكن ذلك على الله بعزيز ؛ لكونه شايئا على سبيل الاختصار دون الاضطرار. ويحتمل : أنّه إشارة إلى الإذهاب أو الإتيان بخلق جديد ، أو إلى الإذهاب والإتيان جميعا ، نسخ الشّيء بالشّيء فعل واحد.

١٨ ـ (الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ) : هم العلماء ، (٦) وهم الموصوفون بالنّضرة والنّور والحياة ، المشبهون بالظلّ ، وهم المعتبرون بمخالفة الألوان ومجانسة الأعيان.

وقوله : (وَلَوْ كانَ ذا قُرْبى) : على سبيل المبالغة ، أي : وإن كان المدعو قريبا للنفس المثقلة الدّاعية إلى تحمّل شيء من أوزارها.

٢١ ـ (الْحَرُورُ) : باللّيل كالسّموم بالنّهار. (٧)

٢٢ ـ (وَما أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ) : له معنيان : أحدهما : وصف الجهّال المتقلّبين على وجه الأرض ، شبّهوا بأصحاب القبور كما شبّهوا بالأموات ؛ لتأكيد وصفهم بأنّهم في أشباحهم كالأموات لا يكسبون حسنة ، ولا يدفعون سيئة ، (٨) والثاني : أنّه في أصحاب القبور حقيقة ؛ (٩) وذلك للتّنبيه على استحالة مطالبة المشركين رسول الله بأن يأتي بالموتى شهداء

__________________

(١) ع : تظهر.

(٢) تفسير مجاهد ٥٣١ ، وصحيح البخاري ٨ / ٥٣٩ (الفتح) عن مجاهد ، والكشاف ٣ / ٦١٥ ، وتفسير البيضاوي ٤ / ٢٥٧.

(٣) ينظر : تفسير غريب القرآن ٣٦٠ ، وتفسير أبي السعود ٧ / ١٤٨.

(٤) مثل يضرب به للاعتماد على النفس وترك الاتكال على الآخرين. ينظر : المستصفى في أمثال العرب ٢ / ٣٢١ ، ومجمع الأمثال ٢ / ٢٦٨ ، ونصه : ما حك ظهري مثل يدي.

(٥) ع : مرفوعا.

(٦) المحرر الوجيز ١٢ / ٢٣٤.

(٧) ينظر : صحيح البخاري ٨ / ٥٣٩ (الفتح) عن ابن عباس ، وزاد المسير ٦ / ٢٦١ عن رؤبة ، والمحرر الوجيز ١٢ / ٢٣٦ ..

(٨) ينظر : تفسير مقاتل بن سليمان ٣ / ٧٦ ، وتفسير ابن أبي حاتم (١٧٩٧٢) ، والمحرر الوجيز ١٢ / ٢٣٦.

(٩) ينظر : التسهيل لعلوم التنزيل ٣ / ١٥٧.

٤٩٠

يشهدون له ، فيهم قصيّ بن كلاب ، وكان شيخا صدوقا على ما سبق.

٢٤ ـ (وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلا فِيها نَذِيرٌ) : فيه دليل أنّه عمّ العباد بالإنذار بالمعاد ، وإن كانوا في الأقطار والأبعاد ، (لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيى مَنْ حَيَ (٢٧٣ ظ) عَنْ بَيِّنَةٍ) [الأنفال : ٤٢].

٢٧ ـ (جُدَدٌ) : جمع جدّة ، وهي الخطّة والطّريقة. (١)

(وَحُمْرٌ) : جمع أحمر ، الذي لونه حمرة ، وهو لون العقيق ، بين الشّقرة والكتمة ، والعرب تسمّي الأبيض أحمر.

(وَغَرابِيبُ) : جمع غربيب ، وهو شديد السّواد ، (٢) وإنّما تأخّر ذكر السّواد لبيان اللّفظ الغريب ، أو لاعتبار نظم الآي.

٢٨ ـ (إِنَّما يَخْشَى اللهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ) : إنّما خصّهم بالخشية لاختصاصهم بالهيبة ، واختصاصهم بالهيبة ؛ لاختصاصهم بتجلّي ذي الجلال لهم.

٣٢ ـ والضّمير في قوله : (فَمِنْهُمْ) عائد إلى (الَّذِينَ اصْطَفَيْنا). (٣) ويجوز أنّه عائد إلى (عِبادِنا)(٤).

عن ابن عباس : أنّه سأل كعبا عن قوله : (ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنا) الآية؟ قال : تحاكّت مناكبهم ، ورب الكعبة ، ثمّ أعطوا الفضل بأعمالهم. (٥) وعن البراء ، عنه عليه‌السلام : «كلّهم ناج ، وهي لهذه الأمّة» (٦). وعن [أبي](٧) مسعود البدري : كلّهم في الجنّة. وقال عطاء : إنّي لأحسبهم كلّهم يدخلون الجنّة. سئلت عائشة (٨) عن هذه الآية (٩) ، قالت : نعم ، يجتمعون في الجنّة ، فالسّابق بالخيرات على عهد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، والمقتصد من اتبع أثره من

__________________

(١) ينظر : تفسير غريب القرآن ٣٦١ ، ومعاني القرآن وإعرابه ٤ / ٢٦٩ ، وتذكرة الأريب ٦٥.

(٢) ينظر : تفسير الماوردي ٣ / ٣٧٤.

(٣) ينظر : المحرر الوجيز ١٢ / ٢٤٧ عن ابن عباس وابن مسعود.

(٤) ينظر : المحرر الوجيز ١٢ / ٢٥٠ عن عكرمة وقتادة والحسن ، وتفسير القرطبي ١٤ / ٣٤٦.

(٥) المحرر الوجيز ، والدر المنثور

(٦) طريق الهجرتين ٣١٣.

(٧) الأصل وك وع : ابن مسعود ، وهذا من أ.

(٨) ساقطة من ك.

(٩) ك : الأمة.

٤٩١

أصحابه حتى لحق به ، والظالم لنفسه مثلي ومثلك. (١)

وعن جهم بن زجر (٢) قال : قدمت المدينة زائرا قبر النّبيّ عليه‌السلام ، فرأيت أبا الدرداء رضي الله عنه قال : أما إنّي سأحدّثك بحديث سمعته من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لم أحدّث به أحدا قبلك ، ولا أحدّث به أحدا بعدك ، قال رسول الله عليه‌السلام : «تجيء في هذه الأمّة غدا على ثلاثة أصناف أو فرق : فصنف يدخلون الجنّة بغير حساب ، وصنف يحاسبون حسابا يسيرا ، وصنف تصيبهم شدائد وزلازل وأهوال ، ثمّ يصيرون إلى الجنّة ، فذلك قوله : (ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتابَ)(٣) الآية». (٤)

وعن عمرو بن دينار ، عن ابن عباس في هذه الآية قال : الظّالم لنفسه الكافر. (٥) وروى (٦) مجاهد عن ابن عباس في هذه الآية قال : الظّالم لنفسه أصحاب المشأمة ، والمقتصد اليمين ، والسابق الناس كلّهم من سبق منهم ، هؤلاء في الجنّة ، ولا أبالي ، وهؤلاء في النار ، ولا أبالي. وإلى هذا ذهب الحسن البصريّ (٧) ومجاهد (٨) والكلبيّ.

٣٣ ـ (يَدْخُلُونَها)(٩) : الضّمير عائد إلى الظّالم ، والمقتصد ، والسّابق ، (١٠) أو عائد إلى (الَّذِينَ اصْطَفَيْنا).

٣٥ ـ (دارَ الْمُقامَةِ) : بقعة الإقامة ، (١١) كما أنّ المقسمة بقعة القسمة.

(لُغُوبٌ) : (نَصَبٌ) [الحجر : ٤٨] ، جمعا للتأكيد. (١٢)

٣٦ ـ (وَالَّذِينَ كَفَرُوا) : صريح لفظة الكفر دليل على نجاة الظّالم.

__________________

(١) أخرجه الحاكم في المستدرك ٢ / ٤٦٢ ، والطبراني في الأوسط (٦٠٩٤) ، وينظر : سلسلة الأحاديث الضعيفة والموضوعة (٣٣٣٥).

(٢) لم أجد بين من روى عن أبي الدرداء أحدا باسم جهم بن زجر.

(٣) ع زيادة (الذين).

(٤) ينظر : الدر المنثور ٧ / ٢٥ ، والفردوس بمأثور الأخبار ٥ / ٤٦٦

(٥) ينظر : تفسير الصنعاني ٣ / ١٣٥ ، وتفسير ابن أبي حاتم (١٧٩٨٦).

(٦) ع : ويروى.

(٧) ينظر : تفسير الثعلبي ٨ / ١٠٩.

(٨) تفسير مجاهد ٥٣٢.

(٩) الأصول المخطوطة : يدخلون.

(١٠) ينظر : المحرر الوجيز ١٢ / ٢٥٤ ، وتفسير القرطبي ١٤ / ٣٤٦.

(١١) ينظر : تفسير الماوردي ٣ / ٣٧٧ ، والكشاف ٣ / ٦٢٤ ، وتفسير أبي السعود ٧ / ١٥٤.

(١٢) أي جمعت الآية الكريمة بين النصب واللغوب والمعنى واحد للتأكيد.

٤٩٢

٣٧ ـ (يَصْطَرِخُونَ)(١) : يستغيثون ، افتعال من الصّراخ. (٢)

والقول مضمر عند قوله : (أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ). (٣)

٣٧ ـ عن مجاهد (٢٧٤ و) قال : سألت ابن عباس عن قوله : (حَتَّى إِذا بَلَغَ أَشُدَّهُ) [الأحقاف : ١٥]؟ قال : ما بين الثلاث والثلاثين إلى الأربعين (٤) ، وسأله (٥) عن العمر الذي عبّر به : (أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ ما يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ)؟ قال : ستون سنة ، (٦) وسألته عن قوله : (وَجاءَكُمُ النَّذِيرُ)؟ قال : الشّيب. (٧) عن أبي هريرة ، عنه عليه‌السلام : «من أتت عليه ستون سنة فقد أعذر الله إليه» (٨).

٤٢ ـ (وَأَقْسَمُوا بِاللهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ) : قال الكلبيّ : المراد ب (إِحْدَى الْأُمَمِ) هاهنا : اليهود والنصارى ، لّما سمع مشركو قريش بقتل أنبيائهم ، وباختلاف النّصارى في المسيح ، فقالوا : لعن الله اليهود والنّصارى ، والله لئن أتانا رسول لكنّا أهدى منهم. (٩) وإنما كانت اليهود والنّصارى إحدى الأمم ؛ لأنّهم جميعا أولاد إسحاق عليه‌السلام ، أو خصّت قريش إحدى القبيلتين : إما اليهود ، وإما النصارى.

٤٣ ـ (وَمَكْرَ السَّيِّئِ) : إضافته كإضافة الحقّ إلى اليقين. (١٠)

٤٥ ـ (وَلَوْ يُؤاخِذُ اللهُ النَّاسَ) : المراد بالمؤاخذة المعالجة بالعقوبة ، والوجه في إهلاك كلّ دابّة على ظهر الأرض عند مؤاخذة النّاس. (١١)

(بِما كَسَبُوا) : إنّما هو كون دوابّ الأرض كلّها لمنافع (١٢) بني آدم واعتبارهم بها لا

__________________

(١) ع : يسطرخون.

(٢) معاني القرآن وإعرابه ٤ / ٢٧١ ، وتأويلات أهل السنة ٤ / ١٨٤ ، والكشاف ٣ / ٦٢٤ ، والمحرر الوجيز ١٢ / ٢٥٥.

(٣) الكشاف ٣ / ٦٢٥ ، والمحرر الوجيز ١٢ / ٢٥٥.

(٤) ع : الآن يعني. وينظر : معاني القرآن ٦ / ٤٤٨.

(٥) أ : وساده.

(٦) ينظر : تفسير الصنعاني ٣ / ١٣٨ ، وتفسير السمرقندي ٣ / ١٠٥.

(٧) ينظر : تفسير مجاهد ٥٣٢.

(٨) أخرجه أحمد في المسند ٢ / ٣٧٠ ، والبخاري في الصحيح (٦٤١٩) ، والبيهقي في السنن ٣ / ٣٧٠ ،.

(٩) ينظر : الكشاف ٣ / ٦٢٥ من غير نسبة.

(١٠) ينظر : معاني القرآن للفراء ٢ / ٣٧١ عند تفسير قوله تعالى : (إِنَّ هذا لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ (٩٥)) [الواقعة : ٩٥].

(١١) ينظر : تأويلات أهل السنة ٤ / ١٨٩.

(١٢) أ : المنافع.

٤٩٣

لمعنى مفرد ، أوجب إهلاكهم (١) إهلاكها.

وفي الآية دلالة أنّ غضب الله غير مضادّ رحمته ، فإنّه يريد الخير والشّرّ على قضيّة حكمه (٢) لا على قضيّة رقة محرقة أو حدة مقلقة.

عن أبيّ بن كعب ، عنه عليه‌السلام : «من قرأ سورة الملائكة دعته يوم القيامة ثمانية أبواب الجنّة يدخل من أيّها شاء» (٣). قال ابن جريج : للجنة ثمانية أبواب : فباب للمرسلين والنّبيّين ، وباب للصّدّيقين ، وباب للشّهداء ، وباب للصّالحين ، وباب للصّائمين ، وباب للصّابرين ، وباب للمتصّدقين ، وباب لسائر المؤمنين.

__________________

(١) أ : إهلاكها.

(٢) ع : وحكمه.

(٣) ينظر : تفسير الثعلبي ٨ / ٩٧ ، والكشاف ٣ / ٦٢٩ ، وتفسير البيضاوي ٤ / ٢٦٢.

٤٩٤

سورة يس

مكية. (١) وقيل : أية واحدة نزلت بالمدينة ، وهي قوله : (وَإِذا قِيلَ لَهُمْ أَنْفِقُوا) [يس : ٤٧]. (٢)

وهي اثنتان وثمانون آية في غير عدد أهل الكوفة ، وآيتها الأولى : (الْحَكِيمِ) [يس : ٢]. (٣)

بسم الله الرّحمن الرّحيم

١ ـ (يس) : قال : يا إنسان (٤) ، إلا أنّ حرف النّداء لا (٥) يمال (٦) ، واسم النّداء (٧) لا يكون ساكنا ، بل يكون مرفوعا ، أو مبنيّا على الضّم ، (٨) ولو قيل : (يا) من أيّ ، و (السّين) من الإنسان ، وهم حرفان مشيران إلى اسمين ، والتقدير : أيّها الإنسان ، لكان أقرب.

وعن مجاهد : اجتمعت قريش رؤساؤهم ، وهم أميّة بن خلف ، والوليد بن المغيرة ، والعاص بن وائل وعتبة وشيبة ابنا ربيعة ، وأبو جهل بن هشام في رجال من قريش ، فبعثوا عتبة بن ربيعة فقالوا : لو رأيت هذا الرجل (٢٧٤ ظ) فقل له : إنّ قومك يقولون : إنّك جئت بأمر عظيم ، ولم يكن عليه آباؤنا ، ولا يتبعك عليه أحد ، وإنّك إنّما صنعت هذا لأنّك ذو حاجة ، فإن كنت تريد المال فإنّ قومك سيجمعون لك يعطونك ، فدع ما ترى ، وعليك (٩) بما كانت عليه آباؤك ، فانطلق إليه عتبة ، فقال له الذي أمروه ، فدخل عليه بيته ، فلمّا فرغ [من قوله](١٠) وسكت ، قال رسول

__________________

(١) تفسير مقاتل بن سليمان ٣ / ٨١ ، وتفسير السمرقندي ٣ / ١٠٩ ، وزاد المسير ٦ / ٢٧١ ، والدر المنثور ٧ / ٣٤ عن ابن عباس وغيره.

(٢) ينظر : زاد المسير ٦ / ٢٧١ عن ابن عباس وقتادة.

(٣) وعدد آياتها عند أهل الكوفة ثمانون وثلاث آيات ، وآيتها الأولى (يس (١)). البيان في عد آي القرآن ٢١١ ، وجمال القراء ٢ / ٥٣٩ ، وإتحاف فضلاء البشر ٤٦٥.

(٤) ينظر : تفسير الطبري ١٠ / ٤٢٤ ، وتأويلات أهل السنة ٤ / ١٩١ ، ولسان العرب ٦ / ١٣ عن ابن عباس ، ومعاني القرآن الكريم ٥ / ٤٧١ عن الحسن.

(٥) ك وع وأ : إلا.

(٦) قال صاحب أسرار العربية ١ / ٣٥١ ـ ٣٥٢ : «فإن قيل : فلم لم تدخل الإمالة في الحروف؟ قيل : لأن الإمالة ضرب من التصرف أو لتدل الألف على أن أصلها ياء ، والحروف لا تتصرف ، ولا تكون ألفاتها منقلبة عن ياء ولا واو ، فإن قيل : فلم جازت الإمالة في بلى ويا في النداء قيل : أما بلى فإنما أميلت لأنها أغنت غناء الجملة ، وأما يا في النداء فإنما أميلت لأنها قامت مقام الفعل فجازت إمالتها كالفعل».

(٧) ع : المنادى.

(٨) ينظر : المفصل في صنعة الإعراب ٦٠ ، وأوضح المسالك ٤ / ١٧ ـ ١٩.

(٩) ع : عليه.

(١٠) زيادة من كتب التخريج.

٤٩٥

الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : بسم الله الرحمن الرحيم (حم (١) تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (٢)) [فصلت : ١ ـ ٢] ، فقرأ عليه من أوّلها حتى بلغ : (فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صاعِقَةً مِثْلَ صاعِقَةِ عادٍ وَثَمُودَ) [فصلت : ١٣] إلى آخر الآية ، فرجع عتبة ، وأخبرهم الخبر ، وقال : لقد كلّمني بكلام ما هو بشعر ، وإنّي لشاعر أعرف الشّعر ، ولا هو بسحر ، وإنّه لكلام عجب (١) ما هو بكلام النّاس وما وقفوا به ، قالوا : نذهب إليه بأجمعنا ، فلمّا أرادوا ذلك طلع عليهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فعمد لهم حتى قام على (٢) رؤوسهم وقال : بسم الله الرحمن الرحيم (يس (١) وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ (٢) إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (٣)) [يس : ١ ـ ٣] حتى بلغ إلى قوله : (جَعَلْنا فِي أَعْناقِهِمْ أَغْلالاً) [يس : ٨] ، فضرب الله بأيديهم إلى أعناقهم ، فجعل من بين أيديهم سدّا ، ومن خلفهم سدّا ، (فَأَغْشَيْناهُمْ فَهُمْ لا يُبْصِرُونَ) [يس : ٩] ، فلمّا انصرف عنهم رأوا الذي صنع بهم ، فتعجّبوا وقالوا : ما رأينا أحدا قطّ أسحر منه ، انظروا ما صنع بنا. (٣)

٣ ـ وفي قوله : (إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ) صريح ما في قوله : (قُلْ كَفى بِاللهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ (٤) الْكِتابِ).

٥ ـ (تَنْزِيلَ) : رفع اللّام التي في التنزيل (٥) ، وبتقدير مبتدأ (٦) ، والنّصب على القطع ، (٧) أو على التّحريض ، أي : أقبل واتل عليهم.

٨ ـ (مُقْمَحُونَ) : رافعون رأسهم ، والقموح والقماح رفع الإبل رأسها من الماء امتناعا عن الشّرب ، (٨) والإقماح فعل عن القامح به وذلك.

١٢ ـ (فِي إِمامٍ مُبِينٍ) : أمّ الكتاب ، وهو اللّوح المحفوظ. (٩)

عن أبي سعيد الخدري قال : كانت بنو سلمة في ناحية المدينة ، فأرادوا النّقلة إلى قرب

__________________

(١) ع : عجيب.

(٢) ع : إلى.

(٣) ينظر : الدر المنثور ٧ / ٤٤ ـ ٤٥.

(٤) ك : أم.

(٥) الأصول المخطوطة : رقع باللام التي في لتنزيل ، وأ : التنزيل.

(٦) قراءة ابن كثير ونافع ونافع وأبي عمرو (تنزيل) بالرفع ، فيكون التقدير : الذي أنزل إليك تنزيل ، ينظر : البيان في غريب إعراب القرآن ٢ / ٢٤٣ ، والكشاف ٤ / ٦ ، واللباب في علوم الكتاب ١٦ / ١٦٨.

(٧) ينظر : تفسير الثعلبي ٨ / ١٢١ ، والبيان في غريب إعراب القرآن ٢ / ٢٤٣ على تقدير : نزل تنزيلا.

(٨) ينظر : تفسير غريب القرآن ٢٦٣ ، ومشكل إعراب القرآن ٥٥٦ ، وتأويلات أهل السنة ٤ / ١٩٤.

(٩) تأويلات أهل السنة ٤ / ١٩٥ ، وينظر : تأويل مشكل القرآن ٣٥٤ ، وتفسير الثوري ٢٤٨ واعتقاد أهل السنة ٣ / ٥٥٢ عن مجاهد.

٤٩٦

المسجد ، فنزلت الآية فقال عليه‌السلام : «إنّ آثاركم تكتب ، فلا تنتقلوا». (١) قال : نزول الآية متقدّم على هذه الحادثة. والحديث محمول ، إمّا على نزول الآية مرّتين ، وإمّا لم يكن سمع أبو سعيد الخدريّ هذه الآية فيما قبل ، فظنّ أنّها نزلت يومئذ.

١٣ ـ (وَاضْرِبْ لَهُمْ) : اقصص لهم القصّة ، كقوله : (وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلاً رَجُلَيْنِ) [الكهف : ٣٢].

(أَصْحابَ الْقَرْيَةِ) : أهل أنطاكية. (٢)

١٤ ـ (إِذْ أَرْسَلْنا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ) : على عهد عيسى عليه‌السلام ، وهما تومان وبالوس ، (٣) وهما من الحواريين ، فجعلا يدعوان (٤) إلى توحيد الله حتى اطّلع الملك على أمرهما (٢٧٥ و) فحبسهما فجاء شمعون الصّفا ، وهو من عظماء الحواريين ، في إثرهما مسجونين ، فجعل نفسه كواحد من أهل أنطاكية ، وجاء بطعام ؛ ليطعم أهل السّجن ، فأطعم كلّ واحد من أهل السّجن شيئا شيئا ، فلمّا انتهى إلى صاحبيه قال : إنّي أسعى في تقويتكما وإخراجكما ، ثمّ خرج من السّجن ، ودخل بيت الأصنام ، فاعتكف فيه أيّامّا يصلّي لله عزوجل ويتضرّع إليه ، وأهل أنطاكية يرونه متقرّبا إلى (٥) أصنامهم ، فسكنوا إليه ، ووثقوا به ، ورفعوا خبره إلى الملك ، فدعاه الملك ، واستخلصه (٦) ، ثمّ إنّه قال للملك : إنّي سمعت أنّك سجنت رجلين مخالفين لك في دينك ، فأخرجهما لأخاصمهما ، فأخرجهما (٧) الملك ، [ ...](٨) فقال لهما شمعون : وأنا أفعل ذلك ، قالا : نحن نحيّي الموتى ، قال شمعون : عندنا ميّت قد مات منذ سبعة أيّام ، فأحيياه (٩) ، فدعوا الله جهرا ، ودعا شمعون سرّا ، فأحيا الله ذلك الميّت ، فقال شمعون : أشهد أنّهما صادقان ،

__________________

(١) أخرجه عبد الرزاق في المصنف ١ / ٥١٧ ، والترمذي في السنن (٣٢٢٦) ، وقال : حديث حسن غريب. والحديث أخرجه البخاري (٦٥٥) وغيره من غير ذكر سبب النزول.

(٢) ينظر : تفسير الطبري ١٠ / ٤٣١ ، ومعاني القرآن الكريم ٣ / ٩٣ عن ابن شهاب و ٥ / ٤٨٢ عن عكرمة ، والدر المنثور ٧ / ٤٥ عن ابن عباس وغيره.

(٣) ينظر : تفسير السمرقندي ٣ / ١١٢ ، وزاد المسير ٦ / ٢٧٥ عن مقاتل.

(٤) الأصول المخطوطة : يدعوانه.

(٥) مكررة في ك.

(٦) أ : واستخلفه.

(٧) ك : وأخرجهما.

(٨) هنا سقط في الكلام ، ويمكن إضافة ما يأتي ليتم المعنى من تفسير السمرقندي ٣ / ١١٣ ـ ١١٤ : «وأقيما بين يديه فقال لهما شمعون : أخبراني عن إلهكما ، فقالا : إنه يبرئ الأكمه والأبرص ، فدعي برجل ولد أعمى ، فدعوا الله تعالى فأبصر الأعمى ، قال شمعون : فأنا أفعل مثل ذلك ، فأتي بآخر ، فدعا شمعون رضي الله فبرئ ، فقال لهما شمعون : لا فضل لكما علي بهذا ، ثم أتي برجل أبرص ، فدعا شمعون فبرئ ، وفعل شمعون بآخر مثل ذلك ، فقال لهما شمعون : فهل عندكما شيء غير هذا».

(٩) الأصول المخطوطة : فأحييا.

٤٩٧

وأنّ إلههما حقّ ، فآمن عند ذلك حبيب النّجار ، ودعا الناس إلى الإيمان بهم ، فوطئوه بأرجلهم حتى قتلوه ، فأدخله الله الجنّة ، قال : يا ليت قومي يعلمون. واختلف الروايات ، قيل : آمن الملك وطائفة من النّاس معه ، فصاح جبريل عليه‌السلام بالباقين. (١) وقيل : لم يؤمن الملك ولا أحد سوى حبيب النّجار ، ولكن رجموا الأنبياء ، فصاح جبريل بهم أجمعين. (٢) وروي : أنّ الرّجل الذي آمن بهؤلاء الرسل عليهم‌السلام لم يكن نجّارا ، ولكنّه كان راعيا من رعاتهم ، وهو أب الميت الذي أحيوه بإذن الله ، وهو الذي قتلوه ، فقال : يا ليت قومي يعلمون.

٣٠ ـ (يا حَسْرَةً) : لبيان موضع التّحسّر ، كأنّه قيل : يا متحسّرّا ، أي (٣) : هل من متحسّر فيكم؟ (٤)

٣١ ـ (أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ) : في الاستدلال بانتفاء الرّجعة العامّة المطلقة على ثبوت المعاد ؛ لأنّ الأرواح لا تدبر بالإجماع ، فلا بدّ له من محلّ ما ، والمحلّ محلّان ، فإذا انتفى أحدهما ثبت الثاني ، بخلاف رجعة قوم معذورين ؛ لأنّها كانت مخصوصة مقيّدة ، وقد مات أصحاب تلك الرّجعة بعد رجعتهم ، فلم يرجعوا.

٣٥ ـ (مِنْ ثَمَرِهِ) : من ثمر ما ذكرنا. (٥)

(وَما عَمِلَتْهُ) : للحجر على الحقيقة ، أي : لم توجده أيديهم (٦). وعن ابن عباس : أنّ (ما) بمعنى الذي. (٧) والمراد تلقيح النّخل ، وهو على سبيل كسب الفعل.

٣٦ ـ (خَلَقَ الْأَزْواجَ) : الأجناس. (٨)

٣٨ ـ (وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَها) : قيل : لا مستقرّ لها كلّ ليلة ، ولكنّ مستقرّها في آخر الزّمان ، تغرب الشّمس فتمكث (٩) ما شاء الله (١٠) غير طالعة ، ثمّ تطلع من نحو الغرب يوما واحدا ، ثمّ تعود بهيأتها إلى انتهاء أيّام الدّنيا ؛ (١١) لقوله تعالى : (وَسَخَّرَ لَكُمُ

__________________

(١) ينظر : تفسير البيضاوي ٤ / ٢٦٥ ، وتفسير القرطبي ١٥ / ١٥.

(٢) ينظر : مجمع البيان ٨ / ٢٠٢ ـ ٢٠٣.

(٣) أ : التي.

(٤) ينظر : اللباب في علوم الكتاب ١٦ / ٢٠٣.

(٥) ينظر : تفسير القرطبي ١٥ / ٢٥ ، وتفسير أبي السعود ٧ / ١٦٦.

(٦) أ : بأيديهم.

(٧) ينظر : تفسير الثعلبي ٨ / ١٢٧.

(٨) تفسير غريب القرآن ٣٦٥ ، ومعاني القرآن وإعرابه ٤ / ٢٨٧ ، وزاد المسير ٦ / ٢٨٠ ، والدر المنثور ٧ / ٥٠.

(٩) أ : وتمكث.

(١٠) غير موجودة في ع.

(١١) ينظر : مجمع البيان ٨ / ٢٠٩ عن جماعة من المفسرين.

٤٩٨

الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دائِبَيْنِ) [إبراهيم : ٣٣] (٢٧٥ ظ) وقراءة ابن مسعود : (والشّمس تجري لا مستقرّ (١) لها). وقيل : إنّها تستقرّ كلّ ليلة ساجدة تحت العرش (٢) حتى يؤذن لها إلى الرجوع إلى الدّنيا ؛ لقوله : (وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَها). وعن أبي ذرّ قال : سألت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن قوله تعالى : (وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَها)؟ قال : «مستقرّها تحت العرش» (٣). وعن أبي ذرّ قال : كنت مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في المسجد حين وجبت الشّمس ، فقال : «يا أبا ذرّ أتدري أين تذهب الشّمس؟» قلت : الله ورسوله أعلم ، قال : «إنّها (٤) تذهب حتى تسجد بين يدي ربّها ، فتستأذن بالرّجوع ، فيؤذن لها ، وكأن قد قيل لها : ارجعي من حيث جئت ، فترجع إلى مطلعها ، فذلك مستقرّها» ، ثمّ قرأ : (وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَها). (٥) وعن ربيعة الجرشيّ قال : عشر آيات بين يدي السّاعة : خسف بالمشرق ، وخسف بالمغرب ، وخسف بحجاز العرب ، والرابعة : الدّجال ، والخامسة : نزول عيسى بن مريم ، والسادسة : الدابّة ، والسابعة : الدّخان ، والثّامنة : يأجوج ومأجوج ، والتاسعة : ريح بارد لا تبقى نفس مؤمنة إلا قبضت في تلك الرّيح ، والعاشرة : طلوع الشّمس من مغربها. (٦)

٣٩ ـ (وَالْقَمَرَ قَدَّرْناهُ مَنازِلَ) : وهي النّجوم ، هي أجزاء (٧) من البروج ، وهي ثمانية وعشرون منزلا فيما يشاهد. (٨)

(كَالْعُرْجُونِ) : قال الفراء : العرجون ما بين الشّماريخ (٩) إلى النّابت في النّخلة من العذق. (١٠)

٤٠ ـ (لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَها أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ) : فيه ما يبطل قول المنجّمة في الكسوف والاحتراق ، إلا أنّهم لا يسمّون ليالي الهلال والمحاق قمرا.

__________________

(١) أ : لمستقر. وتنظر قراءة ابن مسعود : الكشاف ، والبحر المحيط ٩ / ٥٧ ، ومعجم القراءات القرآنية ٤ / ١٧٥.

(٢) الأصول المخطوطة زيادة كلمة : ساجدة.

(٣) أخرجه أحمد في المسند ٥ / ١٥٨ ، والبخاري في الصحيح (٤٨٠٢) ، ومسلم في الصحيح (١٥٩).

(٤) ساقطة من ع.

(٥) أخرجه أحمد في المسند ٥ / ١٥٢ ، والبخاري في الصحيح (٧٤٢٤) ، ومسلم في الصحيح (١٥٩).

(٦) أخرجه معمر بن راشد في الجامع ١١ / ٣٧٨ ، وعبد الرزاق في المصنف ١١ / ٣٧٨ ، والطبراني في الكبير (٣٠٦١) ، والداني في السنن الواردة في الفتن ٥ / ٩٧٧.

(٧) ك : آخر ، و (من) التي بعدها ساقطة من أ.

(٨) ينظر : تأويل مشكل القرآن ٢٤٣ ، وزاد المسير ٦ / ٢٨١.

(٩) الشمروخ : هو كل غصن من أغصان العذق من أعذاق النخل الذي يكون عليه الرطب. ينظر : النهاية في غريب الحديث ٢ / ٥٠٠ و ٣ / ١٨٣.

(١٠) معاني القرآن للفراء ٢ / ٣٧٩.

٤٩٩

٤١ ـ (وَآيَةٌ لَهُمْ) : لقريش وأمثالهم. (١)

(ذُرِّيَّتَهُمْ) : ذرّيّة من حمل مع نوح. (٢)

٤٢ ـ (وَخَلَقْنا لَهُمْ) : للذّرّية.

(مِنْ مِثْلِهِ) : مثل الفلك المشحون. (٣)

عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس قال : أتدرون ما المشحون؟ قلنا (٤) : لا ، قال : الموقّر ، قال : جعلت سفينة نوح عليه‌السلام على مثالها. (٥) وعن السّدّيّ ، عن أبي مالك : (أَنَّا حَمَلْنا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ) [يس : ٤١] قال : سفينة نوح حمل فيها من كل زوجين اثنين ، وقال : (ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنا مَعَ نُوحٍ) [الإسراء : ٣] ، قال : (خَلَقْنا لَهُمْ مِنْ مِثْلِهِ ما يَرْكَبُونَ) [يس : ٤٢] ، قال : السّفن التي في البحر والأنهار التي يركب (٦) النّاس فيها. (٧)

٤٤ ـ (إِلَّا رَحْمَةً) : نصب ؛ لأنّه مفعول لها ، (٨) وتقديره : إلا أن ننقذ (٩) نحن لرحمة منّا.

٤٥ ـ (وَإِذا قِيلَ) : جوابه مضمر ، والتقدير فيه : أعرضوا. (١٠)

٥٠ ـ عن أبي هريرة قال : تقوم السّاعة والرّجل يدّرع الثّوب ، والرّجل يحلب النّاقة ، ويتبايعون في السّوق ، ثمّ قرأ : (فَلا يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً وَلا إِلى أَهْلِهِمْ يَرْجِعُونَ). (١١)

٥١ ـ (وَنُفِخَ فِي الصُّورِ) : عن أبي هريرة (١٢) قال : أخبرنا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ونحن طائفة من أصحابه ، فقال : «إنّ الله (١٣) تبارك وتعالى (٢٧٦ و) لمّا فرغ من خلق السّماوات والأرض خلق الصّور ، وأعطاه إسرافيل ، [فهو] واضعه (١٤) على فيه ، شاخص ببصره إلى العرش ينتظر متى

__________________

(١) ينظر : معاني القرآن للفراء ٢ / ٣٧٩ ، واللباب في علوم الكتاب ١٦ / ٢٢٦.

(٢) ينظر : مجمع البيان ٨ / ٢١٢ ، والدر المنثور ٧ / ٥٤.

(٣) ينظر : مجمع البيان ٨ / ٢١٢ ، وزاد المسير ٦ / ٢٨٢ ، والدر المنثور ٧ / ٥٤ عن ابن عباس.

(٤) ع : قالوا.

(٥) ينظر : تفسير الطبري ١٠ / ٤٤٥ ، وتفسير ابن أبي حاتم (١٥٧٩٢) ، وزاد المسير ٦ / ٢٨٢ ، والدر المنثور ٧ / ٥٤.

(٦) ع : ركب.

(٧) ينظر : تفسير ابن أبي حاتم (١٨٠٨٤) ، والدر المنثور ٧ / ٥٤.

(٨) ينظر : البيان في غريب إعراب القرآن ٢ / ٢٤٨ ، ومعاني القرآن وإعرابه ٤ / ٢٨٩ ، ومجمع البيان ٨ / ٢١١

(٩) أ : نقيد.

(١٠) ينظر : اللباب في علوم الكتاب ١٦ / ٢٣٢.

(١١) أخرج أحمد في المسند ٢ / ٣٦٩ ، ومسلم في الصحيح (٢٩٥٤) ، وأبو يعلى في المسند (٦٢٧١) بألفاظ متقاربة.

(١٢) ينظر : تفسير ابن أبي حاتم ٩ / ٢٩٣٠ وما وراءها ، والعظمة ٣ / ٨٣٥. والأحاديث الطوال (الطبراني) ١ / ٢٦٩.

(١٣) (ونحن طائفة ... إن الله) ، ساقط من أ

(١٤) الأصول المخطوطة : واضع ، والتصويب وما بين المعقوفتين من كتب التخريج.

٥٠٠