درج الدّرر في تفسير القرآن ّالعظيم - ج ٢

عبد القاهر بن عبد الرحمن الجرجاني

درج الدّرر في تفسير القرآن ّالعظيم - ج ٢

المؤلف:

عبد القاهر بن عبد الرحمن الجرجاني


المحقق: د. طلعت صلاح الفرحات / د. محمّد أديب شكور
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الفكر ناشرون وموزعون
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
9957-07-514-9

الصفحات: ٨٠٢
الجزء ١ الجزء ٢

الدرجات؟ قالوا : بلى يا رسول الله ، قال : إسباغ الوضوء في السّبرات ، ونقل الأقدام إلى الجماعات ، وانتظار الصلاة بعد الصلاة ، فذلكم الرّباط فذلكم الرّباط فذلكم الرّباط» (١)». (٢)

٥ ـ ويستشهد بحديث على حكم فقهي : فعندما يتحدث عن ميراث البنات حالة الانفراد فإنهن يرثن بالفرض : للابنتين الثلثان ، فيقول مستشهدا بما روي من أن سعد بن الربيع استشهد وترك ابنتين وامرأة وعمّا ، فورث النبي عليه‌السلام الابنتين الثّلثين والمرأة الثّمن وأعطى الباقي العمّ. (٣)

٦ ـ يذكر الحديث أو معناه ولا يشير إليه : من ذلك حين فسر قول الله تعالى : (وَالَّذِينَ إِذا أَصابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ (٣٩)) [الشورى : ٣٩] ، قال : «المستبّان ما قالا من شيء فعلى البادئ ، حتى يعتدي المظلوم» (٤) وهذا نص حديث للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ولكنه لم يذكر أنه حديث ولم يشر إليه بشيء. ويقول في تفسير قول الله تعالى : (وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا): نفى كل استطاعة كل العدل بينهن لأنّ الإنسان وإن سوّى بينهنّ في القسم لم يقدر أن يسوّي بينهنّ في الحبّ والمفاكهة والمطايبة ، (٥) مشيرا إلى الحديث : عن عائشة رضي الله عنها قالت : كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقسم فيعدل ، ويقول : «اللهم هذا قسمي فيما أملك ، فلا تلمني فيما تملك ولا أملك». يعني القلب. (٦) ، وكذلك أشار إلى قول النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من نوقش الحساب فقد عذب» (٧) ، في معرض بيان معنى قوله تعالى : (وَاتَّقُوا اللهَ) [المائدة : ٤] ولم يبين أنه حديث.

٧ ـ يعلل أمرا في الآية بحديث ليزيد من توضيح الآية : فعندما يتحدث عن قول الله تعالى : (فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ) [المائدة : ٣١] ، يعلل هذا الندم من القاتل بحديث عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بقوله : «وإنما لم تنفعه الندامة لقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : (ثلاث لا تقبل توبتهم : إبليس رأس الكفرة ، وقابيل رأس القتلة ، ومن قتل نبيّا أو قتله نبي) (٨)». (٩)

٨ ـ يستشهد بأحاديث مرسلة : فمثلا عن ابن المسيب قال : لما نزلت (وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ) الآية [الرعد : ٦] ، قال عليه‌السلام : «لو لا عفو الله وتجاوزه ما هنأ أحدا عيش ، ولو لا وعيده وعقابه لاتّكلّ كل أحد». (١٠) وكذلك في قوله تعالى : (يَضِيقُ صَدْرُكَ

__________________

(١) أخرجه مالك في الموطأ (٧٧) ، مسلم في صحيحه (٢٥١) ، والترمذي في السنن (٥١).

(٢) الأصل (٧٠ و)

(٣) ينظر : الأصل (٧٢ ظ) والحديث أخرجه أبو داود في السنن (٢٨٩٢) ، والترمذي في السنن (٢٠٩٣ ، وأبو يعلى في المسند (٢٠٣٩) ، عن جابر بن عبد الله الأنصاري.

(٤) الأصل (٢٩١ و). والحديث أخرجه البخاري في الأدب المفرد ١٥٢ ، مسلم في الصحيح (٢٥٨٧) ، وأبو داود في السنن (٤٨٩٤).

(٥) الأصل (٨٨ ظ)

(٦) أخرجه الدارمي ٢ / ١٩٣ ، وأبو داود في السنن (٢١٣٤) ، والحاكم في المستدرك ٢ / ٢٠٤.

(٧) أخرجه البخاري في الصحيح (٤٩٣٩) ، ومسلم في الصحيح (٢٨٧٦) ، والترمذي في السنن (٢٤٢٦).

(٨) لم أقف عليه.

(٩) الأصل : (٩٥ و).

(١٠) درج الدرر ٧٤.

٢١

[الحجر : ٩٧] يروي حديثا «عن الحسن البصري رحمه‌الله يقول : كان عند النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم رجل ، فجعل يعرض عليه الإسلام ، قال : فقال : والله إنّي لكاره لما تدعوني إليه ، قال : «وأنا ، والله ، لقد كنت كارها له ، ولكني أكرهت عليه ، إنّ الله بعثني بالرسالة ، فضقت ذرعا ، ووعدني فيها : لأبلغنّ أو ليعذبنّي». فقال الحسن : فبلّغ ، والله ، رسول الله حتى عذره الله ، فقال : (فَتَوَلَّ عَنْهُمْ فَما أَنْتَ بِمَلُومٍ (٥٤)) [الذاريات : ٥٤]». (١)

٩ ـ يستشهد بأكثر من حديث على معنى الآية : ففي تفسيره قول الله تعالى : (فَمَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبادَةِ رَبِّهِ أَحَداً) [الكهف : ١١٠] ، وبعد ذكر سبب نزول الآية ، فإنه يذكر حديثين ليؤكد أن المعنى الآية هو ما جاء في سبب النزول ، والحديثان هما : عن سهل بن سعد الساعدي قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «المؤمن نيّته خير من عمله ، وعمل المنافق خير من نيّته ، وكل يعمل على نيته ، وليس من مؤمن يعمل عملا إلا سار في قلبه سورتان ، فإن كانت الأولى لله ، فلا تهدم الآخرة» ، والحديث الآخر : عن أبي سعد بن أبي فضالة الأنصاري قال : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : «إذا جمع الناس يوم القيامة ليوم لا ريب فيه نادى مناد : من كان أشرك في عمل عمله لله أحدا ، فليطلب ثوابه عند غير الله ، فإن الله أغنى الشركاء عن الشريك». (٢)

١٠ ـ ونجده يذكر أحاديث تدل على معنى واحد ولكن في أماكن مختلفة : فمثلا قسم أحاديث فضل السجود وسجود التلاوة على مواطن كثيرة ، فعندما يصل إلى قوله تعالى : (وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً وَظِلالُهُمْ بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ (١٥)) [الرعد : ١٥] ، يذكر حديثا عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول إذا سجد : «سجد وجهي للذي خلقه ، وشق سمعه وبصره» (٣) ، وكذلك يورد حديث أبي هريرة رضي الله عنه ، عنه عليه‌السلام قال : «إذا قرأ ابن آدم السجدة فسجد ، اعتزل الشيطان يبكي ويقول : أمر ابن آدم بالسجود فسجد ، فله الجنة ، وأمرت بالسجود فعصيت فلي النار» (٤) ، وذلك عند قول الله تعالى : (وَمِمَّنْ هَدَيْنا وَاجْتَبَيْنا إِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُ الرَّحْمنِ خَرُّوا سُجَّداً وَبُكِيًّا) [مريم : ٥٨].

١١ ـ أكثر من الاستشهاد بأحاديث ضعيفة ، مثال ذلك : ما روي عن النبيّ عليه‌السلام : «إن لربكم نفحات في أيام دهركم ، فتعرضوا لها ، فعسى أن تدرككم ، فلا تشقوا أبدا» (٥) ، وذلك في تفسير قول الله تعالى : (إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ) [يوسف : ٩٤].

__________________

(١) درج الدرر ١١٤ ـ ١١٥.

(٢) درج الدرر ٢١٦.

(٣) درج الدرر ٧٧.

(٤) درج الدرر ٢٣٤ ، وينظر : ٣٠٣ و ٣٧١ و ٣٩٩.

(٥) درج الدرر ٦٨ ـ ٦٩.

٢٢

١٢ ـ يستشهد بأحاديث موضوعة : كما في سورة النور وعند تفسير معنى النور في قول الله تعالى : (اللهُ نُورُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) [النور : ٣٥] ، يورد الحديث القدسي الموضوع : «الشيب نوري» ، (١) وكذلك يورد قصة الغرانيق عند تفسيره قول الله تعالى : (وَلَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً) [الإسراء : ٨٨]. (٢)

المطلب الثالث

التفسير بأقوال الصحابة والتابعين

أولا ـ أقوال الصحابة

بعد أن يفسر المفسّر الآية بالآيات الأخرى من القرآن الكريم ، ثم بما صح من أحاديث عن النبي عليه‌السلام ، ينتقل إلى المرحلة الثالثة ، وهي البحث عن أقوال الصحابة رضوان الله عليهم ، فإن وجد أقوالا صحيحة عنهم اعتمدها وقال بها في تفسير الآية ، فإن الصحابة أدرى الناس بالقرآن ؛ لما شاهدوه من القرائن والأحوال التي اختصوا بها عن غيرهم ، ولما لهم من الفهم والعلم الصحيح ، ولا سيما علماؤهم وكبراؤهم رضي الله عنهم.

ويكون اعتماد المفسّر على الصحيح منها ، لأن كثيرا من الأقوال لا تصح نسبتها إليهم ، وقد يتعارض بعضها مع ظاهر كتاب الله تعالى أو سنة رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فهي كالحديث النبوي الشريف منها الصحيح والضعيف والموضوع.

وقد اهتم المؤلف بهذا النوع اهتماما بالغا ، إذ نقل من أقوال الصحابة في تفسير كتاب الله تعالى الكثير ، وقد اتبع في ذلك أساليب مختلفة ، منها :

١ ـ يفسر آية بقول صحابي : مثال ذلك : «قيل : جاء يهوديّ إلى عمر بن الخطّاب فقال : أرأيت قوله : (وَسارِعُوا إِلى مَغْفِرَةٍ)، الآية [آل عمران : ١٣٣] ، فقال عمر لأصحاب محمّد صلى‌الله‌عليه‌وسلم : أجيبوه ، ولم يكن عندهم فيها شيء ، فقال : أرأيت النهار إذا جاء يملأ السموات والأرض ، قال : بلى ، قال : فأين الليل؟ قال : حيث شاء الله ، فقال عمر : والنّار حيث شاء الله ، فقال اليهوديّ : والذي نفسك بيده ، يا أمير المؤمنين ، إنّها لفي كتاب الله المنزل كما قلت» (٣).

٢ ـ يورد أكثر من قول للصحابة في معنى الآية : في تفسيره قول الله تعالى : (أَوْ خَلْقاً مِمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ) [الإسراء : ٥١] ، يذكر عن ابن عباس : أنه الموت يوم بدر. وعن عبد الله بن عمرو : المراد به البعث. (٤)

٣ ـ يستشهد بقول الصحابي على معنى كلمة نحو : «قيل لعليّ : هلا احترزت من ظهرك؟ قال :

__________________

(١) درج الدرر ٣٤٤.

(٢) درج الدرر ١٧٤.

(٣) الأصل (٧٤ و).

(٤) درج الدرر ١٦٠.

٢٣

فإذا أمكنت من ظهرك ، فلا وألت» (١) ، وذلك في تفسير قول الله تعالى : (مَوْئِلاً) [الكهف : ٥٨].

يفسر كلمة بقول صحابي : ومنها ما جاء في تفسيره قول الله تعالى : (وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْواجِكُمْ بَنِينَ وَحَفَدَةً) [النحل : ٧٢] «عن ابن عباس قال : البنون : الصغار ، والحفدة : ما قد أعان والده على عمله. (٢) وقال ابن مسعود : البنون : الأولاد ، والحفدة : (١٨٣ و) الأختان» (٣).

٤ ـ يستشهد كثيرا جدّا بأقوال ابن عباس رضي الله عنهما ، ولكنه كثيرا ما يذكر قوله عن طريق : الكلي عن أبي صالح عن ابن عباس ، والأمثلة عليه كثيرة ، منها : عند تفسيره قول الله تعالى : (وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُ) [طه : ٨٥] ، يقول : «وروى الكلبي عن أبي صالح ، عن ابن عباس : أن السامري كان من جملة صبيان غيّبهم الآباء والأمهات مخافة أن يذبحهم فرعون ، فربّتهم الملائكة ، وكان جبريل هو الذي تولى تربية السامري ، فكان يمص إبهام يمينه سمنا ، والأخرى عسلا ولبنا ، فمن ثم عرفه حين رآه ، فقبض قبضة من أثره». (٤) ومن المعروف أن رواية الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس من أضعف الروايات وأوهاها ، فلا يستشهد بها.

٥ ـ ويستشهد بقول صحابي على معنى تدل عليه الآية : يروي عن عمر بن الخطاب قوله : لخطيئة أصبتها بمكة أعز عليّ من سبعين خطيئة أصبتها بركبة. (٥) وذلك في معرض تفسيره قول الله تعالى : (ذلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُماتِ اللهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ) [الحج : ٣٠].

٦ ـ يستشهد بقول صحابي على أهمية سورة : عند تفسيره قول الله تعالى : (سُورَةٌ أَنْزَلْناها) [النور : ١] ، يروي عن عمر بن الخطاب أنه كتب : علموا نساءكم سورة النور. (٦)

٧ ـ يذكر قولين متعارضين لصحابي ويوفق بينهما : ففي تفسيره قول الله تعالى : (يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّماءِ إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ (٥)) [السجدة : ٥] يورد قولين لابن عباس في تفسير مقدار اليوم فالقول الأول هو : في يوم من أيام الدنيا ، ولو سار أحد من بني آدم لم يسره في ألف سنة. (٧) والقول الثاني هو ما جاء في تفسيره قول الله تعالى (وَإِنَّ يَوْماً عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ) [الحج : ٤٧] : «وعن ابن أبي مليكة قال : مررت أنا وعبد الله بن فيروز مولى عثمان على ابن عباس فسلّمنا عليه ، فقال لصاحبي : من أنت؟ فانتسب له فعرفه فقال : يا أبا العباس ، (تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ (٤)) [المعارج : ٤] ، أيّ يوم هذا؟ فقال :

__________________

(١) درج الدرر ٢٠٢.

(٢) ينظر : الدر المنثور ٥ / ١٣١.

(٣) درج الدرر ١٢٨.

(٤) درج الدرر ٢٥٦ ، وينظر : درج الدرر ٢٨٤ و ٣٧٢.

(٥) درج الدرر ٣٠٨.

(٦) درج الدرر ٣٢٩.

(٧) درج الدرر ٤٤٣.

٢٤

إنّما سألتك لتخبرني ، قال : فهي أيّام سمّاها الله تعالى في كتابه ، وهو أعلم بها ، أكره أن أقول في كتاب الله ما لا أعلم ، قال ابن أبي مليكة : فضرب الدهر ضربة ، فجلست إلى سعيد بن المسيّب ، سئل عن المسألة ، فلم يدر ما يقول ، فقلت له : ألا أخبرك بما شهدته من ابن عباس؟ ثمّ ذكرته له ، فسرّى ذلك عنه ، وقال : هذا ابن عباس قد اتّقى أن يقول فيها وهو أعلم منّي». فيقول في سورة السجدة : «وهذه الرواية مخالفة لما سبق عن ابن عباس في هذا الباب ، فإن صحت فيحمل : أنه فسّر هذه الآية لتوقيف ، أو لدلالة قامت له. ويحتمل : أن ما سبق قوله الأول ، وهذا قوله الثاني استفاده من عليّ أو أبيّ أو غيرهما ، أو فتح عليه بالإلهام ، وأدركته دعوة النبي عليه‌السلام : «اللهم فقهه في الدين وعلمه التأويل» (١)».

يمكن القول بأن المؤلف رحمه‌الله تعالى قد أكثر بالأخذ بأقوال الصحابة ، ولكن لم يمحص هذه الأقوال تمحيصا تامّا ، فذكر الصحيح منها والضعيف والموضوع ، كما أنه أورد الإسرائيليات على ألسنة الصحابة ، التي تجعل القارئ يحذر كثيرا من مثل هذه الأقوال.

ثانيا ـ أقوال التابعين :

يعدّ تفسير التابعين من قبيل التفسير بالمأثور ، ويشمل التفسير بالمأثور ما جاء في القرآن نفسه من البيان والتفصيل لبعض آياته ، وما نقل عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وما نقل عن الصحابة رضوان الله عليهم ، وما نقل عن التابعين من كل ما هو بيان وتوضيح لمراد الله تعالى من نصوص كتابه الكريم.

والواقع أنّ كثيرا من أقوال التابعين في كثير من القضايا التي لا يمكن أن تكون من أقوالهم ، وليس للاجتهاد مجال فيها ، من مثل أسباب النزول والنسخ وغيرها ، فهذه الأقوال لا بد أن تكون قد أخذت من الصحابة رضوان الله عليهم ، هذا إن كان التابعي الذي نقل هذا القول ثقة ، فلا يمكن أخذه على أنه كذب ، وإن لم يكن مورده فيها. والصحيح أنه يكون من المرسل الذي يقع فيه سقط للصحابي ، ويكون حكمه كحكم المرسل في المعاملة والأخذ به. (٢)

أما ما كان في مجال الاجتهاد والرأي ، فالرأي الراجح في ذلك أنه رأي قابل للصواب والخطأ ، وإنما يستأنس به في التفسير ، لأنهم قد شاهدوا وعايشوا الصحابة الذين بدورهم شاهدوا النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وعاصروا التنزيل.

وقد نهج مؤلف درج الدرر رحمه‌الله تعالى نهجا واسعا في الأخذ بأقوال التابعين ، وذكر أقوالهم ، وأكثر النقل عنهم ، سواء ذكر أن هذه الأقوال لهم أو لم يذكر ، وقد اتبع الأساليب الآتية :

١ ـ أقوال يذكر أصحابها : وهي كثيرة وأكثر نهجه على ذلك ، وأمثلته كثيرة منها :

في تفسير قول الله تعالى : (قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ لا تَقْتُلُوا يُوسُفَ) [يوسف : ١٠] ، يقول : «قتادة

__________________

(١) درج الدرر ٣١٣.

(٢) ينظر : مناهج المفسرين ٤٤ ـ ٤٥.

٢٥

وابن إسحاق : روبيل. مجاهد : شمعون» (١). وكذلك في تفسير قول الله تعالى : (وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنْكُمْ وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَأْخِرِينَ (٢٤)) [الحجر : ٢٤] ، يقول : «(الْمُسْتَقْدِمِينَ): القرون الماضية ، و (الْمُسْتَأْخِرِينَ) القرون الباقية ، عن مجاهد. وهم المسارعون في الخيرات ، والمتثاقلون عنها ، عن الحسن ، وهم من يسلم ، ومن لا يسلم ، عن سفيان بن عيينة» (٢).

٢ ـ أقوال لا يذكر أصحابها : بل يذكر على صيغة (قيل) ، وهذا أمثلته كثيرة جدا أيضا ، ومن هذه الأمثلة :

ففي تفسير قول الله تعالى : (هذا رَبِّي) [الأنعام : ٧٦] يقول : « ... وقيل : هذا ربي بزعمهم ، قال الله تعالى : (أَيْنَ شُرَكائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ) [القصص : ٦٢]. (٣) وقيل : استدراج القوم ليطمئنوا إليها بإظهار الموافقة فيرجعوا برجوعه ، ومثله يتصور في الشرع كالتقية ، وعن بعض الحواريين نحو هذا. وقيل : إنه قول بظن ، والذي من مقدمات اليقين ...» ، وقيل : العجل : الطين ، قاله الكلبي وغيره. وفي تفسير قوله : (مَسْنُونٍ) [الحجر : ٢٦] يورد أقوالا عديدة في تفسير هذه الكلمة ، فيقول : «وقيل : مصبوب. وقيل : خلق الله تعالى قالبا من سلالة الأرض على صورة آدم ...» (٤).

٣ ـ يذكر أقوالا ولا يرجح بينها : ومنه في تفسير (الرياح اللواقح) في قول الله تعالى : (وَأَرْسَلْنَا الرِّياحَ لَواقِحَ) [الحجر : ٢٢] ، يقول : «التي تحمل الندى ، والثرى ؛ ليتكون غيوما في أثنائها بإذن الله. وقيل : الملقحات للغيوم ، والأشجار. وقيل : هي التي ينتفع بها ؛ لما ضمّنها الله تعالى من النفع ، بخلاف العقيم ، وهي الدّبور. وقيل : اللواقح ريح واحدة ، وهي الجنوب وحدها ، وإنما جمع على الجنس. وقيل : كل ريح أتى بالمطر النافع ، فهي من جملة اللواقح» (٥). فبعد ذكر هذه الأقوال لم يرجح قولا منها ، وهذا كثير ، كما في الأمثلة على ما سبق.

٤ ـ يذكر أقوالا ثم يردها أو يرد بعضها :

يرد قولا من هذه الأقوال : ومثاله ما جاء في تفسير قول الله تعالى : (رَبَّنا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ) [آل عمران : ١٩٢] ، يقول : «(الإخزاء) : الإلجاء ... وههنا أربعة أقوال أحدها : أنّه لا يدخل المؤمنين النّار وإن ارتكبوا الجرائم ، بل يغفر لهم ويشفع فيهم ؛ لأنّه تعالى لا يخزي (النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ) [التّحريم : ٨] ، [أي :] والمؤمنين ، وهذا قول فيه مقال ...» (٦).

__________________

(١) درج الدرر ٤٠.

(٢) درج الدرر ١٠٤.

(٣) الأصل (١٠٥ ظ).

(٤) درج الدرر ١٠٥.

(٥) درج الدرر ١٠٤.

(٦) الأصل (٧٩ ظ).

٢٦

المبحث الثاني

عنايته بعلوم اللغة

المطلب الأول

عنايته باللغة

يعدّ الاهتمام بمعاني المفردات ، وتحقيق الألفاظ القرآنية من أول ما ينبغي أن يشتغل به المقبل على كتاب الله تعالى ، فقد نص الراغب الأصبهاني في مستهل كتابه «معجم مفردات ألفاظ القرآن الكريم (١)» على «أن أول ما يحتاج أن يشتغل به من علوم القرآن العلوم اللفظية ، ومن العلوم اللفظية تحقيق الألفاظ المفردة ، فتحصيل معاني مفردات ألفاظ القرآن في كونه من أوائل المعاونين لمن يريد أن يدرك معانيه ، كتحصيل اللبن في كونه من أول المعاون في بناء ما يريد أن يبنيه ، وليس ذلك نافعا في علم القرآن فقط ، بل هو نافع في كل علم من علوم الشرع ، فألفاظ القرآن هي لب كلام العرب وزبدته ، وواسطته وكرائمه ، وعليها اعتماد الفقهاء والحكماء في أحكامهم وحكمهم»

ويشكل البيان اللغوي لألفاظ القرآن الرافد الأول المؤدي إلى فهم معاني القرآن الكريم واستيعابه ، ولذلك قال الإمام مالك فيما روي عنه : «لا أوتى برجل يفسر كتاب الله غير عالم بالعربية إلا جعلته نكالا». (٢)

ولقد اهتم المؤلف رحمه‌الله تعالى بمفردات القرآن الكريم أيّما اهتمام ، وهذا واضح بيّن من خلال تفسيره لمعاني الكلمات القرآنية الشريفة التي تحتاج إلى بيان وتوضيح ، وذلك ليكون القارئ لكتاب الله تعالى على علم بأصول كلام العرب الذي به نزل القرآن ، وليكون أقدر على فهم النصوص التي تتألف من مثل هذه المفردات.

وقد كان أسلوبه في توضيح ذلك على الشكل الآتي :

١ ـ بيان معنى المفردة القرآنية بالاعتماد على آية أو حديث نبوي شريف.

٢ ـ بيان معنى الآية القرآنية بالاعتماد على الشعر.

٣ ـ يوضح معنى الكلمة بالاشتقاق.

وقد عقدت مبحثا خاصّا لكل من الأنواع السابقة ، فلا حاجة للتكرار.

٤ ـ ينقل أقوال المفسرين واللغويين الذين سبقوه ، كالفراء وأبي عبيد وأبي عبيدة وغيرهم ممن سبقوا المؤلف في التأليف في معاني ألفاظ القرآن الكريم ، مما جعل المفسر يعتمد عليهم

__________________

(١) ٢٦.

(٢) شعب الإيمان ٢ / ٤٢٥ ، والإتقان ٢ / ٤٧٤.

٢٧

كثيرا ، وينتفع منهم ، وينقل الكثير من أقوالهم ، سواء ذكر أنّ هذه الأقوال لهم ، أم لم يذكر ذلك ، بل حتى إنه لا يشير إليهم بمجرد إشارة ، وكانت طريقته على النحو الآتي :

أ ـ ينقل الأقوال مبينا أصحاب الأقوال : فمثلا عند تفسيره قول الله تعالى : (فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفاءً) [الرعد : ١٧] ، ينقل أقوال العلماء ، فيقول : «قال أبو عمرو بن العلاء : أجفأت القدر ، إذا غلت فعلاها الزبد ، فإذا سكنت لم يبق منه شيء. وقال أبو عبيد الهروي : جفا الوادي ، وأجفأ : إذا ألقى غثاء على جانبيه ، وأجفأت القدر : إذا ألقت زبدها» (١).

ب ـ ينقل أقوال العلماء ، ولا يبين أصحاب الأقوال ، وإنما يذكر أن هذه الأقوال ليست له بل هي أقوال لغيره بقوله : «قيل». والأمثلة على ذلك كثيرة ، منها ما جاء في تفسيره قول الله تعالى : (يَوْمَ نَطْوِي السَّماءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ) [الأنبياء : ١٠٤] ، ففسره هو بأنه الصك يطوى ، ثم جاء بقول غير منسوب لأحد ، لكنه بيّنه بأنه منقول عن أحدهم ، فقال : «وقيل : السجل : الوراق الكاتب» (٢).

ج ـ يذكر معاني للكلمات وهي أقوال لعلماء سابقين له وموجودة في كتبهم من غير أن يشير إلى ذلك ، وأمثلتها كثيرة ، ومنها ما جاء في تفسير قول الله تعالى : (وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيها) [هود : ٦١] ، فيقول : «ويحتمل من قوله : أعمرته الدار ، أي : جعلتها له مدة عمره ، وهي العمرى» (٣) ، وهذا القول بنصه تقريبا في كتاب الغريبين لأبي عبيد ، لكنه لم يشر إلى ذلك. وكذلك عند تفسيره قول الله تعالى : (أَوْزِعْنِي) [النمل : ١٩] ، يقول : «ألهمني واجعلني مولعا بشكرك وبالعمل الصالح ، وفي الحديث : «كان موزعا بالسواك» ، أي مولعا به» (٤). وهذا القول موجود بنصه في كتاب الغريبين (٥) ، وغريب القرآن لابن قتيبة (٦).

وقد انتقيت هذه الأمثلة لأنه استشهد بأقوال أصحابها كثيرا ، وذكر أنها لهم ، وأخذ عنهم أقوالا كثيرة من غير أن يذكر أنها لهم.

المطلب الثاني

عنايته بالنحو

الألفاظ قوالب المعاني ، والمعاني تتغير تبعا لتغير حركات الإعراب ، فالموقع الإعرابي للكلمة يحدد معنى السياق اللغوي ، ومن عناية المؤلف رحمه‌الله تعالى بالعربية ، اهتمامه بالإعراب في تفسير كلمات القرآن ، وقد جاءت عنايته بالشكل الآتي :

__________________

(١) درج الدرر ٧٩.

(٢) درج الدرر ٢٩٥ ، وينظر : درج الدرر ١٤ ، ١٧ ، ٣٧ ، ٤١.

(٣) درج الدرر ١٨.

(٤) درج الدرر ٣٩٠.

(٥) ٦ / ١٩٩٥.

(٦) ٣٢٣.

٢٨

أ ـ يذكر وجها إعرابيا واحدا : ومنه ما جاء في إعرابه كلمة (قتال) في قول الله تعالى : (قِتالٍ فِيهِ) [البقرة : ٢١٧] ، فيقول : «مكسور على طريق بدل الاشتمال» ، ثم يعرّف بدل الاشتمال بأنه : «هو إبدال حال الشيء أو ما يجري مجراه منه». (١)

ب ـ يذكر أكثر من وجه إعرابي للكلمة : ومن هذا النوع ما جاء في قول الله تعالى : (وَتِلْكَ عادٌ جَحَدُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ) [هود : ٥٩] ، فيقول : «(وَتِلْكَ) مبتدأ ، و (عادٌ) خبرها ، والتقدير تلك الأمة عاد. وقيل : (وَتِلْكَ) مبتدأ ، و (عادٌ) كالبدل عنه ، والخبر (جَحَدُوا)، أي : أنكروا» (٢).

وكذلك في قوله تعالى : (إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) [هود : ١١] ، يقول : «إن كان المراد بالإنسان : عبد الله بن أمية المخزومي ، أو رجلا معيّنا مثله فالاستثناء منقطع ، وإن كان المراد به : الجنس ، فالاستثناء متصل ؛ لأنه مستثنى من مثبت» (٣).

ج ـ وفي قول الله تعالى : (وَما ذَرَأَ لَكُمْ فِي الْأَرْضِ) [النحل : ١٣] ، ذكر محل إعراب ما الموصولة ، فيقول : «في محل النصب عطفا على (اللَّيْلَ وَالنَّهارَ) [النحل : ١٢] ، وقيل : في محل الخفض عطفا على قوله : (إِنَّ فِي ذلِكَ) [النحل : ١٢] ، وقيل : في محل الرفع بالابتداء ، وخبره الجملة» (٤).

د ـ وفي حديثه عن قول الله تعالى : (فَآمِنُوا خَيْراً لَكُمْ) [النساء : ١٧٠] ، يذكر خلافا بين البصريين والكوفيين ، فيقول : «نصب على القطع عند الكوفيين ، وعلى المحل عند البصريين ، فكأنك قلت : ائت خيرا» (٥).

وقد يذكر رأي أحدهما من غير ذكر رأي الآخر ، فمثلا عند تفسيره قول الله تعالى : (أَنْ تَضِلُّوا) [النساء : ١٧٦] ، قال : «لئلا تضلوا ، حذف للاكتفاء ، وعند البصريين : كراهة أن تضلوا» (٦). وكأنه يقول : إن الرأي الأول هو رأي الكوفيين الذي يتبناه ، وخالفهم البصريون الذين قالوا القول الثاني.

وكذلك عند تفسيره قول الله تعالى : (بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ) [البقرة : ٩٠] يقول : «(بئس) و (نعم) فعلان ماضيان مثل : لعب وشهد فمنعا الصرف ، وكلّ واحد منهما يقتضي اسمين غالبا ، ويكون الأوّل عامّا لعموم المدح والذّمّ ، والثاني خاصّا لأنّ المقصود مخصوص ، ثمّ الاسم الأوّل إمّا اسم جنس فيرتفع بالفعل ، وإمّا نكرة فينتصب على التفسير ، والاسم الثاني مرفوع

__________________

(١) الأصل (٤٧ ظ).

(٢) درج الدرر ١٨.

(٣) درج الدرر ٦.

(٤) درج الدرر ١١٩.

(٥) الأصل (٩٠ ظ).

(٦) الأصل (٩١ و).

٢٩

أبدا ؛ لأنّه خبر مبتدأ محذوف ، والاسم الأوّل ههنا : (بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ) والثاني :

(أَنْ يَكْفُرُوا)، وهذا قول البصريّين. وعند الكوفيّين هما حرفان يشبهان الفعل ، وفيهما معنى الصّفة ، والدليل على كونهما حرفين لزومهما صورة واحدة في التذكير والتأنيث والجمع والخطاب والحكاية عن النفس والغائب ، ولأنّهما لو كانا فعلين لدخلهما (قد) ، والدليل على أنّهما يشبهان الأفعال جواز قولك : بئس وبئست ، ونعم ونعمت ، والدليل على أنّ فيهما معنى الصفة استقلال قولك : بئس الرجل زيد ، ونعم الرجل عمرو ، وأيّ مذموم زيد ومحمود عمرو ، وعلى هذا (ما اشتروا به أنفسهم) ههنا اسم ، و (الكفر) مشترى به ، و (الأنفس) مشترى لها فانتصب بنزع الخافض» (١). في هذا انتصار للمذهب الكوفي.

ه ـ استعماله لمصطلحات الكوفيين خلال إعرابه لكثير من الكلمات والأمثلة عليها كثيرة ، منها : ما جاء في تفسيره قول الله تعالى : (لَكُمْ آيَةً) [هود : ٦٤] ، إذ يستعمل مصطلح «نصب على القطع» (٢). وكذلك استعماله لمصطلح (العماد) ، مثاله : عند تفسيره قول الله تعالى : (إِنْ تَرَنِ أَنَا أَقَلَ) [الكهف : ٣٩] ، إذ يقول : «(أنا) : عماد» (٣). وكذلك استعماله لمصطلحات أخرى مثل : التفسير (٤) ، والنعت (٥) ، والنسق (٦) ، والجحد (٧) ، والكناية (٨).

و ـ اهتم في بعض الأماكن بتعريف أدوات الاستفهام ، ومن الأمثلة عليها : في تفسيره قول الله تعالى : (وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللهِ إِنَّ اللهَ واسِعٌ عَلِيمٌ (١١٥)) [البقرة : ١١٥] يقول : «(أين) استفهام عن المكان ، فإذا اتصلت ب (ما) صارت للشرط ، وعمت الأماكن عموم (أيّ) ، قال الله تعالى : (أَيْنَما تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ) [النساء : ٧٨] ، (أَيْنَ ما تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللهُ جَمِيعاً) [البقرة : ١٤٨]». (٩) وفي تفسيره قول الله تعالى : (قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِياءَ اللهِ) [البقرة : ٩١] يقول : «و (لم) أداة لطلب الحجّة ، وهو في الأصل (لماذا) ، وتقديره : لأجل أيّ شيء ذلك الفعل وذلك القول ، ونظيره في الاختصار : (عمّ) و (ممّ)». (١٠)

__________________

(١) الأصل (٢٢ و ـ ٢٢ ظ).

(٢) درج الدرر ١٩.

(٣) درج الدرر ١٩٩.

(٤) درج الدرر ١٨٦.

(٥) درج الدرر ٢٢٠.

(٦) الأصل (٢٨ و) ،

(٧) درج الدرر ١٦٧.

(٨) درج الدرر ٢٩٣.

(٩) الأصل (٣٠ و).

(١٠) الأصل (٢٢ و).

٣٠

تناوب الحروف

«وهذا الباب في العربية دقيق المداخل والمخارج ، يفضي إلى غير قضية. وهو باب يمسك النحاة منه بطرف وأهل البيان بطرف ، لأنه باب يسلط فيه النظر على المبنى والمعنى. وللعلماء فيه مذاهب شتى ، ودروب متباينة ، وتأويلات مختلفة ، ولكنه ، على ما فيه من عناء ، ممتع شائق لطيف ، لأن النظر فيه عمل من إعمال العقل ، تنقدح الحقائق للناظر فيه بعد طول تأمل ، وإمعان نظر ، وبعد نفاذ في بواطن المسائل ، وتجاوز الظاهر المكشوف الخفي المستتر.» (١)

ومعاني الحروف من أعمال اللغوي الباحث عن دلالات الألفاظ المفردة ، وإنما احتفى بها النحاة ، وأفردوا لها كتبا ؛ لأن الحروف روابط التركيب ، وعلى التركيب ينصب عمل النحوي. وفي بعض كتب النحو نرى أن النحاة يسوقون معاني الحروف ، ومنها حروف الجر أو الإضافة أو الصفات. (٢)

فالعلماء في تناوب الحروف على رأيين : فالبصريون لا يجيزون وقوع بعض الحروف موقع بعضها الآخر ، والكوفيون يجيزون ذلك. ويبدو أن تأدية الحرف معنى حرف آخر ، عند الكوفيين ، تأدية حقيقية لا مجازية ، وإلا فما معنى التنويع في معاني الحرف الواحد؟ وما معنى أن يكون للحرف الواحد عدة معان؟ (٣)

وكأن المؤلف رحمه‌الله قد تبنّى رأي الكوفيين في هذه المسألة ، فنجده كثيرا ما يخرج الحرف إلى معنى حرف آخر ، والأمثلة على ذلك كثيرة جدا في تفسيره ، وأحاول أن أوضح طريقته على الشكل الآتي :

١ ـ تناوب (أو) : تكون بمعنى (الواو) ، كما في قوله تعالى : (فَهِيَ كَالْحِجارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً) [البقرة : ٧٤] ، فجعلها هو بمعنى (الواو) ، ونقل قول غيره بأنها بمعنى (بل) ، وسوّغ قوله : إنها بمعنى (الواو) بقوله : «إلا أنه في مثل هذا الموضع لاستدراك الصواب بالأصوب» (٤).

وفي قوله تعالى : (فَاذْكُرُوا اللهَ كَذِكْرِكُمْ آباءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْراً) [البقرة : ٢٠٠] ، جعل (أو) بمعنى (بل) ، ونقل قولا بأنها بمعنى (أو) (٥) ، أي : عكس سابقتها.

٢ ـ تناوب (ثم) : فقد جعلها بمعنى (الواو) ، وذلك في قوله تعالى : (ثُمَّ أَفِيضُوا) [البقرة : ١٩٩] ، وشبهها بالآية الأخرى من سورة يونس قول الله تعالى : (ثُمَّ اللهُ شَهِيدٌ) [يونس : ٤٦]. (٦)

٣ ـ تناوب (على) : ومثال ذلك ما جاء في تفسيره قول الله تعالى : (وَاتَّبَعُوا ما تَتْلُوا

__________________

(١) تناوب حروف الجر في لغة القرآن ٥.

(٢) ينظر : كشاف اصطلاحات الفنون ١ / ٣٢ ، وتناوب حروف الجر ٨.

(٣) النحو الوافي ٢ / ٤١٤.

(٤) الأصل (١٨ ظ).

(٥) ينظر : الأصل (٤٦ و).

(٦) ينظر : الأصل (٤٦ ظ).

٣١

الشَّياطِينُ عَلى مُلْكِ سُلَيْمانَ) [البقرة : ١٠٢] ، فقال : «(على) بمعنى (في)» (١) ، وكذلك في قول الله تعالى : (لَيْسَ عَلَى الْأَعْمى) [النور : ٦١] ، إذ ينقل قول الفرّاء بأنّ (على) مكان (في) (٢) ، فيكون المعنى على هذا الرأي : ليس في الأعمى حرج ، ولا في الأعرج حرج.

٥ ـ تناوب (الباء) : جعل (الباء) في قول الله تعالى : (سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِما أَشْرَكُوا بِاللهِ) [آل عمران : ١٥١] ، بمعنى (مع). (٣) وفي قول الله تعالى : (ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ) [الأنعام : ١] جعل (الباء) بمعنى (عن) نقلا عن النضر بن شميل ، فيكون معناها كما يقول : «عن ربهم يعرضون وينحرفون» (٤). وكذلك في قوله تعالى : (الرَّحْمنُ فَسْئَلْ بِهِ خَبِيراً) [الفرقان : ٥٩] ، (٥) وقول الله تعالى : (سَأَلَ سائِلٌ بِعَذابٍ واقِعٍ (١)) [المعارج : ١] ، جعل (الباء) مكان (عن) ، وذلك في معرض تفسيره قول الله تعالى : (عَنْ قَوْلِكَ) [هود : ٥٣].

٦ ـ تناوب اللام : ففي الآيتين الكريمتين : (هَدانا لِهذا) [الأعراف : ٤٣] ، (بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحى لَها (٥)) [الزلزلة : ٥] ، جعل معنى (اللام) (إلى) (٦). كما نجده ينقل عن الفراء والكسائي : بأن معنى اللام هو (أن) وذلك في قول الله تعالى : (يُرِيدُ اللهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ) [النساء : ٢٦] ، وذكر أنها بهذا المعنى في قول الله تعالى : (وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ) [البقرة : ١٨٥] ، وقول الله تعالى : (وَأُمِرْنا لِنُسْلِمَ) [الأنعام : ٧١] ، وغيرها ، وقول الله تعالى : (يُرِيدُونَ لِيُطْفِؤُا نُورَ اللهِ) [الصف : ٨]. (٧) وكذلك في قول الله تعالى : (أُولئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ) [الرعد : ٢٥] يقول : «عليهم اللعنة ، و (اللام) مكان (على)» (٨).

٧ ـ تناوب (الفاء) : ومثالها ما جاء في تفسير قول الله تعالى : (فَجاءَها بَأْسُنا بَياتاً) [الأعراف : ٤] ، إذ يقول : «(الفاء) بمعنى (الواو)» (٩). وكذلك في قول الله تعالى : (فَلا يَمْلِكُونَ) [الإسراء : ٥٦] ، إذ يقول : «جواب شرط مضمر ، أو هي جملة معطوفة على ما مضى ، و (الفاء) بمعنى (الواو)» (١٠).

__________________

(١) الأصل (٢٥ و).

(٢) درج الدرر ٣٥٦.

(٣) الأصل (٧٥٦ ظ).

(٤) الأصل (١٠١ و).

(٥) درج الدرر ٣٧١.

(٦) ينظر : الأصل (٣٢٥ ظ).

(٧) ينظر : نسخة الاسكريال ٧٤.

(٨) درج الدرر ٨٠.

(٩) الأصل (١١٠ و).

(١٠) درج الدرر ١٦٣.

٣٢

المطلب الثالث

عنايته بالبلاغة

البلاغة القرآنية هي روح المعاني ، في جوانبها دلائل الإعجاز ، وفي ميدانها يتسابق المتسابقون ، فأعرف الناس بالبلاغة أكثرهم فهما لكلام الله تعالى ، وما آمن العرب الفصحاء البلغاء إلا لطول باعهم ، وعلوّ كعبهم في بلاغة الكلام.

واعتنى المؤلف بفنون البلاغة ، واستند إليها في بيان معاني الآيات ، ويشمل ذلك موضوعات : علم المعاني وعلم البيان وعلم البديع ، وإليك التفصيل والأمثلة :

أولا ـ علم المعاني : ويشمل :

أ ـ أسلوب التعريف :

من الأساليب البلاغية التي تقتضيها أحوال المخاطبين ، ويقصدها المتكلم ، ولها من الأسرار التي تضفي على الكلام روعة وجمالا لا يحدثه غيابهما. (١)

١ ـ التعريف ب (أل) التي تفيد الجنس : ومثالها ما جاء في تفسير قول الله تعالى : قال تعالى : (ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ فَهِيَ كَالْحِجارَةِ) [البقرة : ٧٤] ، إذ يقول : «الألف واللام في (كَالْحِجارَةِ) لاستغراق الجنس». (٢)

وكذلك في قوله تعالى : (وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ) [البقرة : ١١٠] يقول : والألف واللام في (الصلاة) و (الزكاة) للجنس. (٣)

٢ ـ التعريف ب (أل) لإفادة العهد : ففي تفسيره قول الله تعالى : (إِنَّ اللهَ اصْطَفى لَكُمُ الدِّينَ) [البقرة : ١٣٢] يقول : «والألف والام في (الدين) للمعهود لا للجنس». (٤) وفي قوله تعالى : (ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ) [البقرة : ٥١] يقول : «وقيل : الألف واللام للمعهود». (٥)

٣ ـ التعريف بضمير الشأن والقصة : وفائدته الدلالة على تعظيم المخبر عنه وتفخيمه بأن يذكر أولا مبهما ثم يفسر. (٦)

والمثال عليه ما جاء في تفسيره قول الله تعالى : (وَأُوحِيَ إِلى نُوحٍ أَنَّهُ) [هود : ٣٦] إذ يقول في الضمير في قوله : (أَنَّهُ): «الهاء ضمير الأمر والشأن» (٧). وكذلك في قوله تعالى : (وَهُوَ

__________________

(١) ينظر : البلاغة فنونها وأفنانها ـ علم المعاني ٢٩٥.

(٢) الأصل (١٨ ظ).

(٣) الأصل (٢٨ ظ).

(٤) الأصل (٣٤ ظ).

(٥) الأصل (١٣ و).

(٦) الإتقان في علوم القرآن ١ / ٥٥٢.

(٧) درج الدرر ١٢.

٣٣

مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْراجُهُمْ) [البقرة : ٨٥] يقول : «وقيل : هو ضمير الأمر والشأن». (١)

ب ـ التقديم والتأخير :

وهو باب من أبواب البلاغة قال عنه عبد القاهر الجرجاني في كتابه دلائل الإعجاز (٢) : «هو باب كثير الفوائد ، جم المحاسن ، واسع التصرف ، بعيد الغاية ، لا يزال يفتر لك عن بديعة ، ويلطف لديك موقعه ، ثم تنظر فتجد سبب أن راقك ولطف عندك أن قدم فيه شيء ، وحول اللفظ عن مكان إلى مكان» ، والمؤلف رحمه‌الله تعالى وقف مع بعض آيات الكتاب الكريم مبينا ما فيها من أسرار أسلوب التقديم والتأخير مشتملا على أمرين :

الأمر الأول : التنبيه على وجود تقديم وتأخير ، وبيان أسراره في الآية.

الأمر الثاني : الاكتفاء بالإشارة إلى وجود هذا الأسلوب في الآية الكريمة متخذا منه وسيلة لفهم المعنى من غير تعقيب.

والأمثلة عليه كثيرة منها :

فمن النوع الأول : ما جاء في قول الله تعالى : (وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ) [هود : ٣] إذ يقول : «وإنما قدم الاستغفار على التوبة لأن الإنسان يستقبح الشر ويعرض عنه مستغفرا ، ثم يستفتح الخير ويقبل عليه مستوفيا» (٣).

وعند تفسيره قول الله تعالى : (كُونُوا قِرَدَةً خاسِئِينَ) [البقرة : ٦٥] ، إذ يقول :

«(خاسِئِينَ) متباعدين على الذلّ والصّغار ، وتقديره : خاسئين قردة ، وإلا يقال قردة خاسئة ، لكن التقديم لوفق رؤوس الآي». (٤)

وفي قوله تعالى : (وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجاً (١) قَيِّماً لِيُنْذِرَ) [الكهف : ١ ـ ٢] ، يقول : «وفيها تقديم وتأخير ، تقديرها : أنزل على عبده الكتاب قيّما ، ولم يجعل له عوجا» (٥). وكذلك في قوله تعالى : (رَسُولاً نَبِيًّا) [مريم : ٥١] ، يقول : «على التقديم والتأخير ، لاعتبار نظم الآي ، ومعناه أنه كان نبيّا رسولا» (٦).

ومن النوع الثاني : ما جاء في تفسير قوله تعالى : (حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا) [النور : ٢٧] يقول : «وفيه تقديم وتأخير ، أي : حتى تسلموا وتستأنسوا» (٧).

وعند قوله تعالى : (ظُلُماتٌ بَعْضُها فَوْقَ بَعْضٍ إِذا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَراها وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللهُ لَهُ نُوراً فَما لَهُ مِنْ نُورٍ) [النور : ٤٠] يقول : «وقيل : فيه تقديم وتأخير ، تقديره :

__________________

(١) الأصل (٢٠ ظ).

(٢) ١٠٦.

(٣) درج الدرر ٤.

(٤) الأصل (١٦ ظ).

(٥) درج الدرر ١٨٦.

(٦) درج الدرر ٢٢٩.

(٧) درج الدرر ٣٣٨.

٣٤

ظلمات بعضها فوق بعض ، ومن لم يجعل الله له نورا فما له من نور إذا أخرج يده لم يكد يراها» (١).

ج ـ أسلوب الحذف :

وهو نوع من أنواع الإيجاز ، فالحذف إسقاط كلمة للاجتزاء عنها بدلالة غيرها من الحال أو فحوى الكلام ، والفائدة منه أنه تذهب فيه النفس كل مذهب.

ومثال ذلك : ما جاء في تفسير قول الله تعالى : (وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّماواتُ وَالْأَرْضُ) [آل عمران : ١٣٣] إذ يقول : «أي : كعرض السماوات ، وإنما حذف لعدم الإيهام». (٢)

وكذلك في قوله تعالى : (يُخَوِّفُ أَوْلِياءَهُ) [آل عمران : ١٧٥] فيقول : «وقيل : يخوف بأوليائه». (٣) فحذف حرف الجر.

وفي قول الله تعالى : (أَفَمَنْ هُوَ قائِمٌ) [الرعد : ٣٣] يقول : «حذف جوابه اكتفاء ؛ لأنه يدل على الخبر بصفته ، تقديره : أفمن هذه صفته كمن ليست هذه صفته ، أو : أفمن صفته خير أحقّ بأن يعبد أم من ليست هذه صفته» (٤).

وفي قوله تعالى : (اللهُ نُورُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) [النور : ٣٥] ، يقول : «وقيل : الله جاعل نور السماوات والأرض ، حذف المضاف ، وأقام المضاف إليه مقامه» (٥).

د ـ معاني الأمر :

تعريف الأمر : هو طلب الفعل على جهة الاستعلاء. (٦)

وقد استطاع المؤلف أن ينظر إلى صيغة الأمر في القرآن الكريم ، ويحدد مطلوبها وفق سياقها مبرزا أهم معانيها التي تدل عليها ، ويقول المؤلف رحمه‌الله تعالى : وظاهر الأمر يقتضي الوجوب ، ولكن يمكن أن يخرج الأمر إلى غير الوجوب ، «ولفظ (افعل) يحتمل عشرة معان : (٧)

١ ـ الإيجاب ، كقوله تعالى : (وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ) [البقرة : ٤٣].

٢ ـ الإرشاد ، كقوله تعالى : (وَأَشْهِدُوا إِذا تَبايَعْتُمْ) [البقرة : ٢٨٢].

٣ ـ الإباحة ، كقوله تعالى : (فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ) [الجمعة : ١٠]. وفي قوله : (فَكُلُوا مِنْها) [الحج : ٣٦] ، يقول : «أمر إباحة ، وهو عام في كل بدنة ...».

٤ ـ الإعجاز ، كقوله تعالى : (فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ) [البقرة : ٢٣].

__________________

(١) درج الدرر ٣٤٧.

(٢) الأصل (٧٤ و).

(٣) الأصل (٧٨ ظ).

(٤) درج الدرر ٨٣.

(٥) درج الدرر ٣٤٤.

(٦) البلاغة فنونها وأفنانها ـ علم المعاني : ١٤٩.

(٧) الأصل (١٠ و).

٣٥

٥ ـ التهديد ، كقوله تعالى : (اعْمَلُوا ما شِئْتُمْ) [فصلت : ٤٠]. وكذلك في قوله تعالى : (اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ إِنِّي عامِلٌ) [هود : ٩٣] يقول : «فقال على سبيل التهديد» فذكر الآية.

٦ ـ السؤال ، كقوله تعالى : (وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنا) [البقرة : ٢٨٦].

٧ ـ الندب ، كقوله تعالى : (فَكاتِبُوهُمْ) [النور : ٣٣].

٨ ـ الحث على الاعتبار ، كقوله : (فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ) [الزخرف : ٢٥].

٩ ـ الإكرام ، كقوله تعالى : (ادْخُلُوا الْجَنَّةَ) [الأعراف : ٤٩].

١٠ ـ الامتنان ، كقوله : (فَامْشُوا فِي مَناكِبِها) [الملك : ١٥].

ثم يقول : «والظاهر من الجميع الإيجاب ، وإنما يحمل على غيره بدليل ، ثم هذا اللفظ يكون أمرا لمن هو دونه في الرتبة لصيغته».

١١ ـ وخلال حديثه عن قول الله تعالى : (انْظُرْ كَيْفَ) [الإسراء : ٤٨] يقول : «أمر على سبيل التعجب» (١) ، فزاد هنا نوعا آخر من خروج الأمر عن حقيقته.

ه ـ أسلوب الاستفهام :

أسلوب الاستفهام من الأساليب البيانية العظيمة التي عني بها القرآن عناية كبيرة لكونه وسيلة مهمة في إيصال الأفكار والأهداف ، وتثبيت المفاهيم والاتجاهات ، فهو أسلوب تربوي ناجح في زرع الفكرة أو المعلومة لدى المخاطب بأسلوب فائق لا تعقيد فيه ؛ لأنه أوقع في النفس ، وأدل على الإلزام ، وهو في الحقيقة الاستخبار عن الشيء الذي لا علم لنا به.

ولقد وقف المؤلف رحمه‌الله تعالى أمام هذا الأسلوب ، وكشف عن معانيه وأغراضه بعبارة مختصرة دالة على المقصود ، ومن أبرز هذه الأغراض :

١ ـ التقرير : ومعناه حمل المخاطب على الإقرار والاعتراف بأمر قد استقر عنده. (٢)

ومثاله ما جاء في قوله تعالى : (سَلْ بَنِي إِسْرائِيلَ) [البقرة : ٢١١] يقول : «وفائدة السؤال تذكيرهم حالتهم الأولى وتقرير الأمر عند من لا يؤمن بالتنزيل». (٣) وكذلك في قوله تعالى : (وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ) [آل عمران : ١٣٥] يقول : «استفهام بمعنى التقرير». (٤)

٢ ـ الاستفهام الإنكاري : ومعناه النفي ، والمقصود منه هو الإنكار على المخاطب فعل أمر قام به في الماضي أو يمكن أن يحدث في المستقبل.

والمثال عليه ما جاء في قول الله تعالى : (أَرَأَيْتَكَ هذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَ)

__________________

(١) درج الدرر ١٦٠.

(٢) البرهان في علوم القرآن ٢ / ٣٧٥.

(٣) الأصل (٤٧ و).

(٤) الأصل (٧٤ و).

٣٦

[الإسراء : ٦٢] إذ يقول : «استفهام بمعنى الإنكار» (١). وكذلك في قوله تعالى : (كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللهِ) [البقرة : ٢٨] ، فيقول : «استفهام بمعنى الإنكار». (٢).

وقد يخرج الاستفهام إلى معان أخرى غير التقرير والإنكار ، ومن هذه المعاني التي ذكرها المؤلف ما يأتي :

٣ ـ الإثبات : فعند تفسيره قول الله تعالى : (أَلَمْ تَعْلَمْ) [البقرة : ١٠٧] يقول : «بمعنى الإثبات ، كقوله : (أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ) [الأعراف : ١٧٢] ، قال جرير (٣) [من الوافر] :

ألستم خير من ركب المطايا

أندى العالمين بطون راح» (٤)

٤ ـ الزجر والإنكار : ففي تفسيره قول الله تعالى : (قُلْ أَتُحَاجُّونَنا) [البقرة : ١٣٩] يقول : «استفهام بمعنى الزجر والإنكار». (٥)

٥ ـ النفي : ومثال ذلك ما جاء في تفسير قوله تعالى : (مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ) [البقرة : ٢٥٥] إذ قال : «استفهام بمعنى النفي ، كقوله : (هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا) [مريم : ٦٥]». (٦)

٦ ـ الأمر : كما في قوله تعالى : (أَأَسْلَمْتُمْ) [آل عمران : ٢٠] ، فيقول : «بمعنى الأمر ، كقوله : (فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) [هود : ١٤] ، و (هَلْ أَنْتُمْ مُطَّلِعُونَ) [الصّافّات : ٥٤]» (٧). وكذلك في قوله تعالى : (هَلْ أَنْتُمْ مُجْتَمِعُونَ) [الشعراء : ٣٩] إذ يقول : «استفهام بمعنى الأمر» (٨).

٧ ـ البيان لموضع التعجب : وذلك كما في قوله تعالى : (كَيْفَ يَهْدِي اللهُ قَوْماً) [آل عمران : ٨٦] إذ يقول : «استفهام بمعنى البيان لموضع التعجب». (٩)

٨ ـ النهي والإنكار : كما في قوله تعالى : (أَتَأْخُذُونَهُ) [النساء : ٢٠] ، يقول : «استفهام بمعنى النهي والإنكار». (١٠)

٩ ـ اللوم والتقريع : فيقول عند قول الله تعالى : (هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ) [النحل : ٣٣] : «استفهام بمعنى اللوم والتقريع» (١١).

__________________

(١) درج الدرر ١٦٥.

(٢) الأصل (٧ و).

(٣) شرح ديوانه ٨٩.

(٤) الأصل (٧ ظ).

(٥) الأصل (٣٥ ظ).

(٦) الأصل (٥٦ و).

(٧) الأصل (٦٣ ظ).

(٨) درج الدرر ٣٧٩.

(٩) الأصل (٦٩ ظ).

(١٠) الأصل (٧٣ ظ).

(١١) درج الدرر ١٢١.

٣٧

و ـ أسلوب التكرار :

عند تفسير المؤلف رحمه‌الله تعالى قول الله تعالى : (وَلَقَدْ جاءَكُمْ مُوسى بِالْبَيِّناتِ ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظالِمُونَ) [البقرة : ٩٢] يقول : «والتكرار ربما اتصل بزيادة فائدة ، وربما لم يتصل ، وفيما يتصل ثلاثة أنواع :

أحدها : مثل هذا ، إذ الأولى لإلزام الحجة وتذكير النعم بدلالة أنه أتبعها : (ثُمَّ عَفَوْنا) [البقرة : ٥٢] ، والثانية : لتكذيبهم في دعواهم بدلالة قوله : (فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِياءَ اللهِ مِنْ قَبْلُ) [البقرة : ٩١].

والنوع الثاني : مثل قوله : (وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ وَرَفَعْنا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا ما آتَيْناكُمْ بِقُوَّةٍ) وقال في موضع : (وَاذْكُرُوا ما فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) [البقرة : ٦٣] ، وقال في الموضع الثاني : (وَاسْمَعُوا قالُوا سَمِعْنا وَعَصَيْنا) [البقرة : ٩٣] ، وكلّ واحدة من الآيتين تتضمّن من المعنى ما لا تتضمّنه الأخرى لا محالة.

والثالث : وصف الجنة والنار ، وفائدة التكرار : تجديد الحث والإنذار.

وما لا يتصل بفائدة نوع واحد ، وهو ما يوجد في سورتين.

والوجه في الأنواع الثلاثة أنّ تضمّن الفوائد كلّها لا يجب في قصّة واحدة ، ثمّ إذا وقعت الحاجة إلى ذكر فائدة لم تذكر في القصّة فالأحسن تكرار القصّة لاستدراك ذكر الفائدة في محلّها ، وربّما لا يتصوّر غير ذلك.

والوجه في هذا النوع الواحد أنّ السورتين بمنزلة كتابين ، والله يقول : (فِيها كُتُبٌ قَيِّمَةٌ) [البيّنة : ٣] ، ووجود قصّة واحدة في كتابين معروف واجب ، وذلك لا يسمّى تكرارا إذ كلّ كتاب في الحاجة إليها كمثله ، وكذلك تضمين قصّة واحدة في قصيدتين أو خطبتين. وقيل : الفائدة في هذا النوع موجودة ، وهي شهود قوم نزول الثانية لم يشهدوا نزول الأولى.

وتكرار قوله : (وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ) أيضا على وجه اللّوم والتّكذيب ، ألا ترى أنّه أعاد قوله : (إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ).». (١)

ثانيا ـ علم البيان : ويشتمل على :

أ ـ الحقيقة :

في الاصطلاح : هي الكلمة المستعملة فيما وضعت له في اصطلاح التخاطب. (٢)

والمؤلف رحمه‌الله تعالى بعد أن بين أن اللفظ حقيقة ومجاز في سورة الإسراء وخلال تفسيره

__________________

(١) الأصل (٢٢ و ـ ٢٢ ظ).

(٢) التلخيص ٢٩٢ ـ ٢٩٣.

٣٨

قول الله تعالى : (وَما مَنَعَنا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآياتِ) [الإسراء : ٥٩] ، (١) جاء فعرفها بأنها : «ما لا إشكال في وجهه ، ولم يصرف عن ظاهره» (٢).

ففي تفسيره قول الله تعالى : (مَسْحُوراً) [الإسراء : ١٠١] ، قال : «وقيل : مسحورا حقيقة ؛ لقوله : (إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ) [الشعراء : ٢٧]» (٣).

وعند تفسيره قول الله تعالى : (أَمْواتٌ غَيْرُ أَحْياءٍ) [النحل : ٢١] ، يقول : «ويحتمل الأصنام على سبيل الحقيقة عند من يجعل الموت والجمود شيئا واحدا» (٤).

ب ـ المجاز :

هو الكلمة المستعملة في غير ما وضعت له في اصطلاح التخاطب على وجه يصح مع قرينة عدم إرادتها. (٥)

وعرفه عبد القاهر الجرجاني بأنه : «ما توسع الناس فيه لفظا ، واصطلحوا عليه واستجازوه ، إما ضرورة كتسمية الرجل كلبا أو أسدا ، وإما اختيارا للتخفيف والعادة ، كقولها : طلع الفجر ، وأظلم الليل ، ونبت الشجر». (٦)

وقد استعمل المؤلف هذا الأسلوب على الشكل الآتي :

أ ـ المجاز العقلي : وهو إسناد الفعل أو ما في معناه إلى ما هو له لعلاقة مع قرينة مانعة من إرادة الإسناد الحقيقي :

وهذا النوع ينسب ابتكاره إلى الإمام الجرجاني رحمه‌الله ، فقد قال صاحب الطراز : «واعلم أن ما ذكرناه في المجاز الإسناد العقلي هو ما قرره الشيخ النحرير عبد القاهر الجرجاني ، واستخرجه بفكرته الصافية ، وتابعه على ذلك الجهابذة من أهل الصناعة كالزمخشري وابن الخطيب الرازي وغيرهما». (٧)

ومن الأمثلة عليه :

١ ـ ما علاقته الزمانية : فعند تفسيره قول الله تعالى : (ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذلِكَ سَبْعٌ شِدادٌ يَأْكُلْنَ) [يوسف : ٤٨] ، يقول : «أسند الأكل إلى السنين على طريق المجاز ، كقولك : ليل نائم ، وسيوف قائمة» (٨). وكذلك عند تفسيره لقول الله تعالى : (اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عاصِفٍ) [إبراهيم : ١٨] يقول : «وإنما يوصف اليوم بأنه عاصف ؛ لأن اليوم يوصف بما يحدث فيه على سبيل

__________________

(١) درج الدرر ١٦٤.

(٢) الأصل (١١ و).

(٣) درج الدرر ١٨١.

(٤) درج الدرر ١٢٠.

(٥) جواهر البلاغة ١٧٩.

(٦) الأصل (١١ و ـ ١١ ظ).

(٧) الطراز ٣ / ٢٥٧.

(٨) درج الدرر ٥٥.

٣٩

المجاز ، وقال الراجز :

يومين غيمين

ويوما شمسا» (١).

٢ ـ ما علاقته الجزئية : مثالها ما جاء في تفسيره قول الله تعالى : (وَكُلَّ إِنسانٍ أَلْزَمْناهُ طائِرَهُ فِي عُنُقِهِ) [الإسراء : ١٣] ، إذ يقول : «وقيل : أصل الكلمة تقال ، وذكر العنق على سبيل المجاز ؛ لأنه موضع ما يلزم الإنسان من قلادة أو طوق ، أو غل أو نحوه» (٢).

٣ ـ ما علاقته السببية : يقول المؤلف في تفسيره قول الله تعالى : (فَوَجَدا فِيها جِداراً يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَ) [الكهف : ٧٧] : «من مجاز الكلام ، أي : يكاد الله يسقطه» (٣) ، وهنا يقرر بما ذكره من المعنى أن إسناد الفعل إلى غير فاعله ، فيكون هذا مجازا عقليا بعلاقة تسبب إرادة السقوط لقربه. (٤) وقد جعله بعضهم استعارة مكنية وتخييلية. (٥) وهذا ما قرره المؤلف رحمه‌الله في موضع آخر حينما قال في تفسيره لقول الله تعالى : (إِذْ هَمَّتْ طائِفَتانِ) [آل عمران : ١٢٢] : «(همت : كادت ، على سبيل الاستعارة ، كقوله تعالى : (يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَ) [الكهف : ٧٧]» (٦). وكذلك في قوله تعالى : (تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ) [البقرة : ٢٥] يقول : «وإنما أسند إلى الأنهار مجازا ، كقوله : (فَما رَبِحَتْ تِجارَتُهُمْ) [البقرة : ١٦]». (٧)

٤ ـ ما علاقته الكلية : ففي قوله تعالى : (يَجْعَلُونَ أَصابِعَهُمْ فِي آذانِهِمْ) [البقرة : ١٩] يقول : «يصيرون بنانهم في العضو المختص بالسمع» ، فالبنان جزء من الأصابع ، والأصبع لا يمكن إدخاله كله في الأذن. (٨)

٥ ـ ما علاقته المفعولية : ومثال ذلك ما جاء في قوله تعالى : (لَأَظُنُّكَ يا مُوسى مَسْحُوراً) [الإسراء : ١٠١] ، إذ يقول : «ساحرا ، بدليل سائر النظائر» (٩).

٦ ـ ما علاقته الفاعلية : ومن ذلك ما جاء في قول الله تعالى : (حِجاباً مَسْتُوراً) [الإسراء : ٤٥] ، إذ يقول : «ساترا ، كقوله : (وَماءٍ مَسْكُوبٍ (٣١)) [الواقعة : ٣١] : ساكب» (١٠).

ج ـ من المحسنات اللفظية ردّ العجر على الصدر :

ومن الأمثلة على ذلك ما جاء في تفسيره قول الله تعالى : (لَقَدْ أَنْزَلْنا آياتٍ مُبَيِّناتٍ)

__________________

(١) درج الدرر ٨٩ ـ ٩٠.

(٢) درج الدرر ١٥٠.

(٣) درج الدرر ٢٠٧.

(٤) ينظر : إعراب القرآن الكريم وبيانه ٦ / ١٦.

(٥) ينظر : التحرير والتنوير ٨ / ٨ ، إعراب القرآن الكريم وبيانه ٦ / ١٦.

(٦) الأصل (٧٢ ظ).

(٧) الأصل (٦ ظ).

(٨) ينظر : البلاغة فنونها وأفنانها علم البيان والبديع ١٥٢.

(٩) درج الدرر ١٨١.

(١٠) درج الدرر ١٥٩.

٤٠