درج الدّرر في تفسير القرآن ّالعظيم - ج ٢

عبد القاهر بن عبد الرحمن الجرجاني

درج الدّرر في تفسير القرآن ّالعظيم - ج ٢

المؤلف:

عبد القاهر بن عبد الرحمن الجرجاني


المحقق: د. طلعت صلاح الفرحات / د. محمّد أديب شكور
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الفكر ناشرون وموزعون
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
9957-07-514-9

الصفحات: ٨٠٢
الجزء ١ الجزء ٢

[النور : ٤٦] إذ يقول : «وجه تكراره حسن رد الكلام على صدره» (١).

وفي تفسيره قول الله تعالى : (قالَ لَهُمْ مُوسى وَيْلَكُمْ لا تَفْتَرُوا عَلَى اللهِ كَذِباً فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذابٍ وَقَدْ خابَ مَنِ افْتَرى (٦١)) [طه : ٦١] ، يقول : «ونظم الآية على طريقة مستحسنة غاية للبلاغة وآية للفصاحة ، وهي ردّ آخر الكلام على أوّله ، وإنّما قال لتقديم الدعوة والإنذار مرّة بعد أخرى» (٢).

د ـ الاستعارة :

وهي : «أن الاستعارة نقل اللفظ من معناه الذي عرف به ووضع له إلى معنى آخر لم يعرف به». (٣)

والمثال عليه ما ذكره في قول الله تعالى : (إِنَّكَ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ) [هود : ٨٧] ، إذ يقول : «السفيه الجاهل ، كقوله : (ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ) [الدخان : ٤٩]» (٤). وهو من الاستعارة العنادية ، والتي تفيد التهكم والسخرية. (٥)

المطلب الرابع

عنايته بأبنية الكلمات القرآنية

من الأمور التي اهتم بها المؤلف رحمه‌الله هو بناء الكلمة ، وذلك لأن معرفة بناء الكلمة يزيد من بيان معنى الكلمة وتوضيحها ، وأورد بعض الأمثلة التي توضح عنايته بذلك :

أ ـ يبيّن أصل الكلمة من غير أن يورد خلافا بين العلماء : فمثلا عند تفسير قول الله تعالى : (إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ) [الحج : ١] ، يقول في أصل الزلزلة نقلا عن علقمة قوله : «إن الزلزلة قبل الساعة ، وهو الاضطراب الشديد ، وأصله من الزلل» (٦). وفي قوله تعالى : (فَلِأَنْفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ) [الروم : ٤٤] يقول : «المهد والتمهيد بمعنى ، وهي توطئة المسير ، وأصله من توثير الفراش» (٧).

ب ـ يذكر الوزن الصرفي للكلمة : فمثلا عند قول الله تعالى : (وَالصِّدِّيقِينَ) [النساء : ٦٩] ، يذكر وزن كلمة (الصّدّيق) فيقول : «فعّيل من الصدق ، وهي لأقصى غاية المبالغة في الوصف أو التصديق ، والصديق المجمع عليه هو أبو بكر» (٨).

__________________

(١) درج الدرر ٣٤٨.

(٢) درج الدرر ٢٥٢.

(٣) البلاغة فنونها وأفنانها ـ علم البيان والبديع ١٦٩.

(٤) درج الدرر ٢٦.

(٥) ينظر : البلاغة فنونها وأفنانها ـ علم البيان والبديع ١٦٩.

(٦) درج الدرر ٢٩٩.

(٧) درج الدرر ٤٣٣.

(٨) الأصل (٨٢ و).

٤١

وكذلك عند بيانه معنى كلمة (طوبى) في قوله تعالى : (الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ طُوبى لَهُمْ) [الرعد : ٢٩] ، يقول : «اسم على وزن فعلى ، وهو اسم جامع لكل ما يستطاب ، فكأنها الحياة الطيبة بروح الاتحاد» (١).

ففي هذين المثالين بين وزن الكلمة ليوضح معنى كل منهما وما فيهما من معنى يدل عليه ، ففي الأولى معنى المبالغة ، وفي الأخرى معنى الجمع لكل ما يستطاب.

ج ـ ونجده يذكر اختلاف البصريين والكوفيين في أصل كلمة : فعند حديثه عن أصل كلمة (التوراة) في قول الله تعالى : (وَأَنْزَلَ التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ) [آل عمران : ٣] ، يقول : «أصل التوراة عند الكوفيّين : تورية بوزن توصية ، فلمّا أخرجوا اللفظ من حيّز الأفعال إلى الأسماء نقلوا حركة عين الفعل إلى الفتحة ، فانقلبت الياء ألفا لتحرّكها وانفتاح ما قبلها» ، ويذكر أصلها عند البصريين فيقول : «وعند البصريين وزن التوراة : وورية كقوصرة ، قلبت الواو الأولى تاء ، كما في تولج ، مشتق من الإيراء» (٢).

د ـ يبيّن الفرق بين معنى كلمتين لهما اعتمادا على وزن الكلمة : فمن ذلك ما جاء في تفسير قول الله تعالى : (تَبْغُونَها عِوَجاً) [آل عمران : ٩٩] ، إذ يقول : «والعوج ، بكسر العين : الزيغ في الرأي ، والعوج ، بالفتح : الميل فيما يكون منتصبا» (٣). وكذلك عند تفسيره قول الله تعالى : [آل عمران : ١٧٠] يقول : «و (الفرح) : السّرور. و (الفرح) : ذو الفرح ، كالورع والوجل» (٤). فكلا الكلمتين لهما الصورة نفسها ، لكنهما مختلفتان في الوزن ، لكنه لم يذكر وزن الكلمة.

ه ـ يوضح كلمة بكلمة أخرى أكثر شهرة منها ومشتركة معها بالوزن : ومثالها ما جاء في تفسير قول الله تعالى : (أَوْ كانُوا غُزًّى) [آل عمران : ١٥٦] ، فيقول : «جمع غازي ، كركع وسجد ، جمع راكع وساجد» (٥).

و ـ أحيانا يبين مفرد الكلمة : فعند حديثه عن كلمة (الآلاء) في قول الله تعالى : (فَاذْكُرُوا آلاءَ اللهِ) [الأعراف : ٦٩] ، يقول : «الآلاء : النعماء ، واحدها ألى وإلى» (٦). وكذلك عند تفسيره قول الله تعالى : (أَراذِلُنا) [هود : ٢٧] ، يقول : «جمع أرذل ، وأرذال جمع رذل : وهو النذل الخسيس» (٧). وكذلك يبين مفرد (أفئدة) في قوله تعالى : (فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ) [إبراهيم : ٣٧] ، فيقول : «واحدها فؤاد»» (٨).

__________________

(١) درج الدرر ٨١.

(٢) الأصل (٦٠ و).

(٣) الأصل (٦٩ و).

(٤) الأصل (٧٨ و).

(٥) الأصل (٧٧ و).

(٦) الأصل (١١٨ و).

(٧) درج الدرر ١١.

(٨) درج الدرر ٩٥.

٤٢

ز ـ قد يعلل مجيء كلمة على صيغة معينة : ومنه قوله جل وعز : (وَمَنْ كانَ فِي هذِهِ أَعْمى فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمى وَأَضَلُّ سَبِيلاً (٧٢)) [الإسراء : ٧٢] ، يقول : «إنما جاءت التفضيل على لفظة أعمى عند الفراء ، بخلاف التفضيل في الألوان ؛ لأن المراد به : عمى القلوب ، وعمى القلب من فعل الإنسان بغفلته. يجوز أن يقال : فلان أعمى من فلان في القلب ، ولا يجوز في العين» (١).

المطلب الخامس

عنايته بالشواهد الشعرية

كان للشواهد الشعرية عند مؤلف درج الدرر رحمة الله عليه حضور في تفسيره ، لكن هذا الحضور لم يكن كبيرا ، ففي أول الكتاب اهتم به أكثر من وسطه وآخره ، ولذلك سنجد أن أكثر الاستشهادات من أول الكتاب.

وذكره للشواهد على الشكل الآتي :

١ ـ في أكثر الأحيان يذكر البيت من الشعر كاملا ، وقد يذكر جزءا منه ، كما في استشهاده بقول الشاعر :

وروضة سقيت فيها نضوتي

 ...

في تفسير قوله تعالى : (رَوْضَةٍ) [الروم : ١٥] ، فذكر الشطر الأول من البيت. (٢)

٢ ـ قد يعزو البيت من الشعر إلى قائله : كعزوه إلى جرير (٣) وحاتم الطائي (٤) وذو الرمة (٥) ولبيد (٦) ، وغيرهم.

أما طريقته في الاستشهاد بالشعر فكانت على الشكل الآتي :

١ ـ الاستشهاد بالشعر لبيان المعاني اللغوية لألفاظ القرآن الكريم وتوضيح غريبها : فعند حديثه عن السجود ، وأن معناه اللغوي : ميل القامة إلى الأرض ، يستشهد بقول حميد (٧) [من المتقارب] :

فضول أزمّتها أسجدت

سجود النّصارى لأربابها

وكذلك عند تفسيره قول الله تعالى : (هارُوتَ وَمارُوتَ) [البقرة : ١٠٢] ، قال : «اسمان أعجميان ، مثل طالوت وجالوت. وقيل : هاروت من الهرت ، وماروت من المرت ، والهريت

__________________

(١) درج الدرر ١٦٧.

(٢) درج الدرر ٤٣٠ ، وكذلك استشهاده بقول امرئ القيس. وينظر : درج الدرر ٢٣٧.

(٣) الأصل (٥٩ و).

(٤) الأصل (٥ و).

(٥) الأصل (١٥ و).

(٦) الأصل (٢٥ و).

(٧) ابن ثور الهلالي ، ديوانه ٩٦ ، ولسان العرب ٣ / ٢٠٥ (سجد) ، وفيهما : لأحبارها ، بدل (لأربابها).

٤٣

الفصيح ، قال الشاعر (١) : [من البسيط]

عاد الأذلّة في دار وكان بها

هرت الشّقاشق ظلّامون للجند

والمرت مفازة لا ماء فيها ولا كلأ ، قال الشاعر (٢) : [من البسيط]

أنّى طربت ولا تلحي على طرب

ودون إلفك أمرات أماليس» (٣)

وفي تفسيره قول الله تعالى : (بَلى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ) [البقرة : ١١٢] : يقول : «وإسلام الوجه للشيء صرف الإقبال إليه ، وتسليم النفس ، وتفويض الأمر ، ومنه يقال في عقد السلم : أسلم كذا وكذا إليه. وهذه صفة المسلمين دون اليهود والنصارى ، قال زيد بن عمرو بن نفيل (٤) : [من المتقارب]

وأسلمت وجهي لمن أسلمت

له المزن تحمل عذبا زلالا

إذا هي سيقت إلى بلدة

أطاعت فصبّت عليها سجالا» (٥)

٢ ـ ويستشهد بالشعر على أن الاختصار على حرف من الكلمة مشهورة في لغة العرب : وذلك عند تفسير قول الله تعالى : (الم) [البقرة : ١] ، وقد استشهد بأكثر من بيت :

قال الشاعر (٦) : [من الرجز]

نادوهم أن ألحموا ألا تا

قالوا جميعا كلّهم ألا فا

وقال آخر (٧) : [من الرّجز]

بالخير خيرات وإن شرّا فا

ولا أريد الشّرّ إلّا أن تا

وذلك تأكيدا على قول من قال : إن لكل حرف من هذه الأحرف معنى خاصّا. (٨)

٢ ـ الاستشهاد النحوي : نجد أن المؤلف يستشهد في بعض الأحيان على إعراب الكلمة ، فمثلا عند تفسيره قول الله تعالى : (وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللهِ) [البقرة : ١٧٧] ينقل قول الفراء : (مَنْ آمَنَ بِاللهِ) خبر (البرّ) ، على الاكتفاء بالمعنى الدالّ في الاسم على المصدر ، كما قيل (٩) : [من الوافر]

__________________

(١) ابن مقبل ، تاج العروس ١ / ٥٩٥ ، وفيه : للجزر بدل (للجند).

(٢) المتلمّس الضّبعي ، ينظر : الأغاني ٢٤ / ٢٣٩.

(٣) الأصل (٨ ظ).

(٤) ينظر : السيرة النبوية ١ / ١٥١ ، والبداية والنهاية ٢ / ٣٠٠.

(٥) الأصل (٢٩ ظ).

(٦) أراد : ألا تركبون ، قالوا : ألا فاركبوا. والبيت بلا عزو في زاد المسير ١ / ١٧ ، وتفسير القرطي ١ / ١٥٦ ، وشرح شواهد الشافية ٢٦٤.

(٧) يريد : إن شرّا فشرّ ، ولا يريد الشّرّ إلّا أن تشاء ، والبيت بلا عزو في الكامل في اللغة والأدب ١ / ٢٤٥ ، وعزي إلى زهير في شفاء العليل ٣ / ١١٣٤ ولم أقف عليه في شرح ديوانه ، وعزي إلى لقيم بن أوس في شرح شواهد الشافية ٢٦٤.

(٨) الأصل (٢ ظ).

(٩) بلا عزو في أمالي المرتضى ١ / ٣٨ ، وكنز الفوائد ٢٩٢ ، ورواية البيت فيهما :

قليل عيبه والعيب جمّ ولكنّ الغنى ربّ غفور

والمراد : ولكنّ الغنى غنى ربّ.

٤٤

قليل همّه والعيب جمّ

ولكنّ الغنى ربّ كريم (١)

وعند تفسيره قول الله تعالى : (وَأُخْرى) [آل عمران : ١٣] : رفع على سبيل الابتداء ، كأنّك قلت : إحداهما ، فيستشهد بقول الشاعر : [من الطويل]

إذا متّ كان النّاس نصفين شامت

وآخر مثن بالذي كنت أصنع (٢)

ويتحدث عن (حتى) في قول الله تعالى : (حَتَّى تَتَّبِعَ) بأن يقدر بعدها (أن) الناصبة ، وبعد أن يستشهد بآية ، يستشهد بقول الشاعر : [من الطويل]

وتنكر يوم الرّوع ألوان خيلنا

من الدّم حتّى تحسب الجون أشقرا (٣)

٣ ـ الاستشهاد على معنى بلاغي : في تفسير قول الله تعالى : (وَلا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْواتٌ بَلْ أَحْياءٌ وَلكِنْ لا تَشْعُرُونَ (١٥٤)) [البقرة : ١٥٤] ، يقول : «واختلفوا في حياة الشهداء ، فمن الناس من ذهب إلى المجاز ، وإلى بقاء ذكرهم ، والثناء عليهم ، كما في قول الشاعر (٤) : [من البسيط]

موت التّقيّ حياة لا انقضاء لها

قد مات قوم وهم في النّاس أحياء»» (٥)

وفي قوله تعالى : (أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللهَ لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) [البقرة : ١٠٧] ، هنا يخرج الاستفهام من معناه إلى معنى الإثبات ، ويستشهد بقول جرير (٦) :

ألستم خير من ركب المطايا

وأندى العالمين بطون راح (٧)

ويستشهد بقول الشاعر :

لدوا للموت وابنوا للخراب

 ...

على أن الأمر في قوله تعالى : (وَقالَ ادْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شاءَ اللهُ آمِنِينَ) [يوسف : ٩٩] ، خرج من معناه الأصلي إلى معنى الخبر (٨).

٤ ـ الاستشهاد بالشعر على معنى عقدي : ففي تفسيره قول الله تعالى : (اللهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ) [البقرة : ١٥] ، أخرج الاستئهزاء من معناه الحقيقي إلى المعنى المجازي ، فقال : «يجازيهم على استهزائهم» ، واستشهد بقول الشاعر (٩) : [من الوافر]

__________________

(١) الأصل (٤٠ ظ).

(٢) الأصل (٦٢ و).

(٣) الأصل (٣١ و).

(٤) عزي إلى سابق البربري في زهر الأكم في الأمثال والحكم ١ / ٤٠٨ ، وهو بلا عزو في تاريخ بغداد ١٣ / ٢٠٧ ، والمستطرف ١ / ٣١٣.

(٥) الأصل (٣٨ و).

(٦) شرح ديوانه ٨٩.

(٧) الأصل (٧ ظ).

(٨) درج الدرر ٧٠.

(٩) عمرو بن كلثوم ، ديوانه ٧٦.

٤٥

ألا لا يجهلن أحد علينا

فنجهل فوق جهل الجاهلينا (١)

والسبب في هذا الخروج إلى المجاز هو أن فعل الاستهزاء لا يجوز في حق الله تعالى ، وكما يقول البلاغيون : هو على سبيل المشاكلة.

٥ ـ يستشهد بالشعر على أن الحروف في الكلمة قد تتناوب : فعند تفسير الفوم في قول الله تعالى : (وَفُومِها) [البقرة : ٦١] ، يقول : و (الفوم) ، والثوم : كالجدث والجدف ، ويقال : زيد فمّ عمرو ، أي : ثمّ ، قال (٢) : [من المتقارب]

وأنتم عبيد لئام الأصول

طعامكم الفوم والحوقل (٣)

٦ ـ يستشهد بالشعر على معنى اسم من أسماء الله تعالى وهو (الواسع) : «الذي لا يضيق علما ورحمة وقدرة ، قال زيد بن عمرو (٤) : [من البسيط]

إنّ الإله عزيز واسع حكم

بكفّه الخير والباساء والنّعم» (٥)

__________________

(١) الأصل (٤ و).

(٢) عزي إلى حسان في تفسير القرطبي ١ / ٤٢٥ ، والبحر المحيط ١ / ٣٨٠ ، وفتح القدير ١ / ٩٢ ، ولم أقف عليه في شرح ديوانه.

(٣) الأصل (١٥ و).

(٤) ينظر : الدر المنثور ١ / ١٧٢ ، وفيه : الضّرّ ، بدل (الخير).

(٥) الأصل (٣٠ و).

٤٦

المبحث الثالث

عنايته بعلوم القرآن

المطلب الأول

الأحرف المقطعة

اختلف العلماء والمفسرون في تفسير الأحرف المقطعة التي صدّرت بها تسع وعشرون سورة من سور القرآن الكريم ، على قولين رئيسين :

الأول : أن هذا علم مستور ، وسر محجوب استأثر الله تعالى به ، فهو من المتشابه.

الثاني : أن المراد منها معلوم ، وذكرت فيها أوجها كثيرة تصل إلى عشرين وجها ، منها المحتمل القريب ، ومنها غير المحتمل البعيد ، ومن هذه الأقوال :

١ ـ إنها أسماء للسور.

٢ ـ إن كلا منها مأخوذ من اسم من أسماء الله تعالى ، وكذلك اختلفوا في ذلك كثيرا.

٣ ـ إن هذه الحروف ذكرت لتدل على أن القرآن مؤلف من الحروف الهجائية العربية التي ينطق بها العرب ، ولم يأت بغيرها.

٤ ـ إنها كالمهيجة لمن سمعها من الفصحاء ، والموقظة للهمم الراقدة من البلغاء لطلب التساجل والأخذ في التفاصيل. (١)

ونجد أن المؤلف رحمه‌الله تعالى قد أكثر من ذكر الأقوال في تفسير هذه الأحرف ، وكانت على الشكل الآتي :

١ ـ ففي مفتتح سورة البقرة وعند حديثه عن قوله تعالى : (الم)، يذكر أقوالا عدة في معناها ناقلا ذلك عن ابن عباس أكثر من قول ، وعن غيره ، بأنها مختصرات لكلمات محددة ، سواء كانت أسماء لله تعالى أو صفات ونعم ، وبعد انتهائه من ذكر هذه الأقوال ، يقول : «وطريق الاختصار على حرف من الكلمة مشهور في لغة العرب» ، ويستشهد ببيت من الشعر على ذلك. (٢)

٢ ـ ونجده يذكر قولا لابن عباس في تفسير قوله تعالى : (المص)، ولكنه هنا يذكر احتمالات يفسر فيها هذه الأحرف ، فيقول : «ويحتمل أن تكون الصاد إشارة إلى الفصل ، أي : إلى هذا الفصل ، فإن السور فصولا لا محالة. ويحتمل إشارة إلى الصدق ، أي : أنا الله أعلم

__________________

(١) ينظر : البرهان ١ / ١٧٣.

(٢) الأصل (١ و ـ ٢ ظ).

٤٧

وأصدق ، أو الرسول صادق ، أو الوحي صدق». (١)

٣ ـ أما مفتتح سورة مريم (كهيعص (١)) فإنه يذكر أكثر من قول ثم يتبع ذلك باحتمال آخر فيقول : «ويحتمل : أنّه يتّصل بما بعده ، والتقدير : كتابنا هدانا بها العالم الصادق» (٢) يزيد فيه على تلك الأقوال قولا.

٤ ـ وفي تفسير قول الله تعالى : (طه (١)) يذكر قولا يعتمد هذا القول على حساب الجمّل ، فيقول بعد أن ذكر عددا من الأقوال : «وقيل : الطاء تسعة ، والهاء خمسة من حساب الجمل ، وهم أربعة عشر ، والليلة الرابعة عشر ليلة البدر ، فكأنه قيل : أيها البدر» (٣) ، يستشهد بحديث على أن النبي عليه‌السلام كان وجهه كالبدر.

٥ ـ وفي تفسير قول الله تعالى : (طسم (١)) [الشعراء : ١] ينقل عن ابن عباس رضي الله عنهما قوله : عمي على العلماء علمه (٤).

٦ ـ وفي سورة الشورى في تفسيره قوله تعالى : (حم (١) عسق (٢)) [الشورى : ١ ـ ٢] ، يذكر أقوالا تبين أن هذه الأحرف هي إشارة إلى أشياء معينة ، مثل : العين إشارة إلى العلم ، وفي السين إشارة إلى سر الله في افتراق الفرق ، ... (٥).

فعلى هذا يمكن القول : إن رأيه هو أنه يمكن تفسيرها ، سواء كانت مختصرات لكلمات معينة ، كأسماء الله تعالى ، أو صفات له ، أو صفات للنبي عليه‌السلام ، أو غير ذلك ، بدليل قوله : ويحتمل كذا أو يحتمل كذا. والله أعلم.

المطلب الثاني

أسباب النزول

أسباب النزول اصطلاحا : فقد عرفة الشيخ الطاهر بن عاشور بقوله : «هي حوادث يروى أن آيات من القرآن الكريم نزلت لأجلها ، كبيان حكمها ، أو لحكايتها ، أو إنكارها ، أو نحو ذلك». (٦)

وأسباب النزول لآي القرآن يتعدى كونه علما من علوم القرآن إلى كونه أصلا من أصول التفسير ، التي لا يمكن للمفسر ـ مهما أوتي من العلم ـ أن يستغني عنها ، لأن قضية أسباب النزول تشكل قضية هامة على فهم بعض آي التنزيل ، إذ إن بعض آيات القرآن الكريم يتوقف فهمها على معرفة سبب النزول ، فعندما نقرأ مثلا قول الله تعالى : (وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى

__________________

(١) الأصل (١١٠ و).

(٢) درج الدرر ٢١٨.

(٣) درج الدرر ٢٤٥.

(٤) درج الدرر ٣٧٦.

(٥) ينظر : الأصل (٢٨٩ و).

(٦) التحرير والتنوير ١ / ٤٦.

٤٨

التَّهْلُكَةِ) [البقرة : ١٩٥] نجد أن بعض الجهلة يستشهد بهذه الآية الكريمة في معرض الدفاع عن النفس حين يجبنوا ويتخاذلوا في الدفاع عن الدين والأرض والعرض ، فيأتي سبب النزول لهذه الآية الكريمة موضحا ومفسرا لهذه الآية الكريمة يوضح معناها ، ويزيل الغشاوة عن عيون أولئك ، فقد جاء في الحديث الذي يخرجه الترمذي في سننه (٢٩٧٢) عن أسلم بن أبي عمران قال : كنا بمدينة الروم ، فأخرجوا إلينا صفّا عظيما من الروم ، فخرج إليهم من المسلمين مثلهم أو أكثر ، وعلى أهل مصر عقبة بن عامر ، وعلى الجماعة فضالة بن عبيد ، فحمل رجل من المسلمين على صف الروم حتى دخل فيهم ، فصاح الناس ، وقالوا : سبحان الله ، يلقي بيده إلى التهلكة ، فقام أبو أيوب فقال : يا أيها الناس ، إنكم تتأولون هذه الآية هذا التأويل ، وإنما أنزلت هذه الآية فينا معشر الأنصار لّما أعز الله الإسلام ، وكثير ناصروه ، فقال بعضنا لبعض سرّا دون رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : إن أموالنا ضاعت ، وإن الله قد أعز الإسلام وكثر ناصروه ، فلو أقمنا في أموالنا ، فأصلحنا ما ضاع منها. فانزل الله على نبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم يردّ علينا ما قلنا (وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللهِ وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ) [البقرة : ١٩٥] ، فكانت التهلكة الإقامة على الأموال وإصلاحها ، وتركنا الغزو ، فما زال أبو أيوب شاخصا في سبيل الله حتى دفن بأرض الروم. وقال الترمذي هذا حديث حسن صحيح غريب.

ولكن عند ما يدرس موضوع أسباب النزول في كثير من الكتب ـ سواء المختصة بها أو كتب التفسير ـ نجد فيها الصحيح الذي يعتمد عليه ، ونجد فيها الضعيف والواهي ، بل نجد فيها الموضوع المختلق ، وهذه آفة من آفات كتب التفسير والتاريخ وغيرها ، هذا من جهة أما الجهة الأخرى لأسباب النزول فإنها تلقي ضوءا على الحياة والبيئة التي نزل فيها القرآن الكريم ، وجاء بها الوحي ، ليصحح المعوج منها ، ويرسم معالم صورة واضحة للحياة التي يريدها الإسلام للناس ، كما تساعد على فهم صور الصراع بين الدعوة الإسلامية وأعدائها ، إلى آخر ما يمكن الاستفادة منه في أسباب النزول. (٢٩٧٣)

أهمية معرفة سبب النزول :

إن إدراج علم أسباب النزول في علوم القرآن نابع من أهمية معرفة المفسر له ، فتكون معرفته من جملة المعارف التي تكون آلة المفسر ، وقد أفرده بعض العلماء في كتب مستقلة دلالة على أهميته.

يقول الإمام الشاطبي رحمه‌الله في الموافقات (٢٩٧٤) : «معرفة أسباب النزول لازمة لمن أراد علم القرآن ، والدليل على ذلك أمران :

__________________

(٢٩٧٢) (٢٩٧٢).

(٢٩٧٣) ينظر : أسباب نزول القرآن الكريم دراسة وتحليل ٦ ـ ٧.

(٢٩٧٤) ٤ / ١٤٦.

٤٩

أحدهما : أن علم المعاني والبيان الذي يعرف به إعجاز نظم القرآن فضلا عن معرفة مقاصد الكلام إنما مد اره على معرفة مقتضيات الأحوال فحال الخطاب من جهة نفس الخطاب ، أو المخاطب أو الجميع ، إذ الكلام الواحد يختلف فهمه بحسب حالين ، وبحسب مخاطبين ، وبحسب غير ذلك ...

والوجه الثاني : هو أنّ الجهل موقع في الشبه والإشكالات ، ومورد للنصوص مورد الإجمال حتى يقع الاختلاف ، وذلك مظنّة النّزاع».

ولذلك نجد أن صاحب الكتاب رحمه‌الله قد اهتم بأسباب النزول اهتماما كبيرا ، يوضحه كثرة ذكره لأسباب نزول الآيات ، وهذا من عادة المفسرين السابقين الذين أولعوا بأسباب النزول ، وتلقفوا الروايات فيها من غير تمحيص ولا تدقيق ، من حيث هي صحيحة أو ضعيفة ، ولكن المؤلف رحمه‌الله تعالى لم يكتف بذكر الضعيف فيها فحسب ، بل نجده يذكر الموضوع الذي لا أصل له ، وهذه بعض الأمثلة على ذلك :

١ ـ أسباب نزول صحيحة الرواية : فعند قول الله تعالى : (وَما نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ لَهُ ما بَيْنَ أَيْدِينا وَما خَلْفَنا وَما بَيْنَ ذلِكَ وَما كانَ رَبُّكَ نَسِيًّا (٦٤)) [مريم : ٦٤] ، يأتي برواية عن ابن عباس قوله : قال النبي عليه‌السلام : «يا جبريل ، ما لك لا تزورنا أكثر مما تزورنا» ، فأنزل الله (١). هذا حديث أخرجه الإمام أحمد والبخاري والترمذي وغيرهم.

وعن مصعب بن سعد ، عن أبيه ، قال : أنزل الله تعالى القرآن على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فتلاه عليهم زمانا ، فقيل : يا رسول الله ، لو قصصت علينا ، فأنزل الله تعالى : (نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ) الآية [يوسف : ٣] ، فتلا عليهم زمانا ، قيل : يا رسول الله ، لو حدثتنا ، فأنزل (اللهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتاباً مُتَشابِهاً) الآية [الزمر : ٢٣]. وروي فقيل : لو خوّفتنا ، فأنزل : (أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللهِ) الآية [الحديد : ١٦]. (٢)

٢ ـ أسباب نزول ضعيفة وموضوعة : وعند تفسير قوله تعالى : (لَيَفْتِنُونَكَ) [الإسراء : ٧٣] ، يذكر سبب النزول لهذه الآية فيقول : وعن المطلب بن عبد الله بن حنطب : رأى رسول الله من قومه كفا عنه ، فجلس خاليا يتمنى أن لا ينزل عليه شيء ينفرهم عنه ، وقاربهم ، وقاربوه ، ودنوا منه ، وألقى الشيطان في أمنيته في سورة النجم ما ألقى ، فرضوا بما تكلم به رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وقالوا : قد عرفنا أن الله هو يحيي ، ويميت ، ويرزق ، ولكن آلهتنا هذه تشفع لنا (٣) ، ولما سجد في آخر السورة سجدوا معه أجمعون ، ورفع الوليد بن المغيرة ، وأبو أحيحة سعيد بن العاص التراب إلى وجوههما يسجدان عليهما من ضعفهما ، وعجزهما ، وقال أبو أحيحة : يا

__________________

(١) درج الدرر ٢٣٦.

(٢) درج الدرر ٣٦ ، وهذا حديث إسناده قوي كما قال الشيخ شعيب الأرناؤوط في صحيح ابن حبان عند تخريجه هذا الحديث ، وهو في صحيح ابن حبان برقم (٦٢٠٩).

(٣) في أ : لنا عنده.

٥٠

محمد ، إن لك أن تراجع ، ولقد أصبت حيث ذكرت آلهتنا بخير ، فاغتم رسول الله ، وجلس في بيته حزينا ، فلما أتاه جبريل عليه‌السلام قرأ عليه سورة والنجم ، قال : ما جئتك بهاتين الكلمتين ، فقال عليه‌السلام : قلت عليه ما لم أقل فأنزل. وهذا حديث باطل بلا شك ، موضوع مختلق على النبي عليه‌السلام. (١)

ولم يكن المؤلف رحمه‌الله تعالى يميز بين ما كان سببا للنزول حقيقة أو كان في حكم سبب النزول ، فإنه يستعمل تعبير «فنزلت الآية ، فنزل قوله ..» ، وهذا ليس بكاف على كون هذا الحدث سببا لنزول هذه الآية أو تلك ، فقد تكون الحادثة التي قال إنها سبب للنزول حادثا حدث في الجاهلية أو بعد نزول الآية فتلاها النبي عليه‌السلام ليبين أن حكم هذه الحادثة كحكم الآية التي نزلت بسببها هذه الآية ، أو أن الصحابي قرأ الآية ليدل على ذلك أيضا. والأمثلة على ذلك كثيرة :

ففي سورة النحل وعند تفسيره الآية : (يَتَوارى مِنَ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ ما بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلى هُونٍ أَمْ ...) [النحل : ٥٩] ، وبعد بيان معنى الدس ، يقول : «كانوا يقتلون أؤلادهم خشية إملاق ، فأنزل : (وَإِذَا الْمَوْؤُدَةُ سُئِلَتْ (٨)) [التكوير : ٨]» (٢).

وهذا ليس سببا للنزول ، أعني : أنه لم تحدث هذه الحادثة فنزل القرآن ليحرم هذه المسألة ، وإنما كانت تحدث في الجاهلية كوضع عام سائد ، فجاء القرآن الكريم محرما لها ابتداء ليعالج هذه الحالة من حالات المجتمع الجاهلي.

قوله بتعدد النزول :

فقد ذكر في معرض كلامه عن قول الله تعالى : (وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنْكُمْ وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَأْخِرِينَ (٢٤)) [الحجر : ٢٤] ، هل هي مكية أو مدنية بعد أن يذكر رواية عن ابن عباس أن الآية نزلت بالمدينة ، في الذين قصدوا بيع دورهم القاصية عن المسجد ، واشتروا دورا قريبة من المسجد ، لازدحامهم على الصف الأول. يقول : «فعلى هذا القول مكية ، أي سورة الحجر ، إلا هذه الآية ، أو الآية نزلت مرتين» (٣).

والقول بتعدد النزول أكثر من مرة ، هو محاولة للتخلص من قبول بعض الأقوال وردّ بعضها الآخر ، مع صعوبة الجمع بينهما ، فيصار إليهما جميعا ، والحكم عند ذلك بتعدد النزول.

وهذا الكلام غير مقنع البتة ، فقد ذكر الآلوسي الاعتراض على القول بتعدد النزول بعد أن عرف النزول بأنه ظهور من عالم الغيب إلى الشهادة ، والظهور بها لا يقبل التكرار ، فإن ظهور

__________________

(١) درج الدرر ١٦٧ ـ ١٦٨.

(٢) درج الدرر ١٢٥.

(٣) درج الدرر ١٠٥.

٥١

الظاهر ظاهر البطلان. (١) ، وقال الأستاذ الدكتور فضل عباس : «وتعدد النزول على الرغم من أن بعض العلماء لا يرى به بأسا ، إلا أن الذي يبدو لنا بعد نظر ثاقب ، أن الأمر ليس كذلك ، فليس هناك داع لأن تنزل الآية أكثر من مرة واحدة». (٢)

المطلب الثالث

التناسب بين الآيات

القرآن الكريم كتاب الله تعالى ، أنزله على نبيه محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم منجما على فترة من الزمن ، امتدت ثلاثة عشر عاما ، ولكن هذا الكتاب ليس كباقي الكتب ، فإنه وحدة واحدة متماسكة مترابطة ، يأخذ بعضها بحجز بعض ، فلا يجد القارئ لآياته اختلافا بينها نتيجة لهذا الوقت.

وعلم المناسبة علم شريف دقيق ، حتى قيل فيه : أكثر لطائف القرآن مودعة في الترتيبات والروابط. وقيل : ارتباط آي القرآن بعضها ببعض حتى تكون كالكلمة الواحدة ، متسقة المعاني ، منتظمة المباني. (٣)

المناسبة في اللغة : المشاكلة والمقاربة. (٤)

اصطلاحا : «هو المعنى الرابط بين الآيات ، عام أو خاص ، عقلي أو حسي ، خيالي أو غير ذلك من أنواع العلاقات ، أو التلازم الذهني ، كالسبب والمسبب ، والعلّة والمعلول ، النظيرين والقيدين ونحوه» (٥).

وفائدته : جعل أجزاء الكلام بعضها آخذ بأعناق بعض ، فيقوى بذلك الارتباط ، ويصير التأليف حاله حال البناء المحكم المتلائم الأجزاء. (٦)

والمناسبة على ضربين :

الأول : مناسبة في المعاني : وهي أن يبتدئ المتكلم بمعنى ثم يتم كلامه بما يناسبه من معنى دون لفظه.

الثاني : مناسبة لفظية : وهي دون رتبة المعنوية ، فهي الإتيان بكلمات تامة أو غير تامة. فالتامة تكون مقفاة موزونة ، وغير التامة ، أي : ناقصة ، موزونة غير مقفّاة. (٧)

لم يهتم المؤلف رحمه‌الله تعالى بمناسبة السور بعضها مع بعض ، لكنه في كثير من المواضع نجده يربط الآية بسابقتها واتصالها بها ، وفي بعض الأحيان يذكر صلة نهاية الآية بالآية نفسها ، ونجده يصرح في أكثر تلك المواضع بقوله : واتصال الآية بما قبلها من حيث ... فمن الأمثلة على ذلك ما يأتي :

__________________

(١) روح المعاني ١ / ٣٤.

(٢)؟؟؟

(٣) ينظر : الإتقان ٢ / ٢٨٨.

(٤) ينظر : لسان العرب ١ / ٧٥٦.

(٥) الإتقان ٢٨٩ ، وينظر : البرهان ١ / ٣٥.

(٦) ينظر : الإتقان ٢ / ٢٨٨.

(٧) ينظر : الكليات ٨٦٦.

٥٢

أولا ـ مناسبة الآية لما قبلها : وهذا كثير ، نضرب عليه بعض الأمثلة :

١ ـ في سورة آل عمران آية ٩٦ يقول : «واتصال قوله : (إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ) بما قبلها من حيث اتباع ملة إبراهيم». (١)

٢ ـ وعند قوله تعالى : (فَإِذا قَرَأْتَ) [النحل : ٩٨] يقول : «اتصالها من حيث إن الاستعاذة من الأعمال الصالحة» (٢).

٣ ـ وقد يذكر أكثر من اتصال للآية مع ما سبقها : ففي السورة نفسها وعند قوله تعالى : (وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ) [آل عمران : ١٠٩] يقول : «اتصالها بما قبلها لأن الإساءة إلى المملوك على الإطلاق لا يكون ظلما ما لم يخالف للحكمة ، يدل عليه إحداث الآلام الدنياوية في الحيوان ابتداء من غير جزاء. وعلى المعنى الثاني من حيث ذكر الملك والاستيلاء ليكون الوعد والوعيد أمكن في قوالب المخاطبين». (٣)

ثانيا ـ مناسبة نهاية الآية للآية : وهذا النوع قليل جدّا ، ونعطي عليه الأمثلة الآتية :

١ ـ يقول عند قوله : (سَرِيعُ الْحِسابِ) [آل عمران : ١٩٩] : «واتصال هذا القول بما قبله من حيث إن الجزاء بعد الحساب». (٤)

٢ ـ وفي الآية (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجارَةً عَنْ تَراضٍ مِنْكُمْ وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللهَ كانَ بِكُمْ رَحِيماً (٢٩)) [النساء : ٢٩] ، يقول : «وإنّما وصف نفسه بالرّحمة ؛ لأنّه أراد بنا الخير حيث نهانا عن أكل المال بالباطل وقتل النّفس المحظورين بالعقل قبل الوحي».

٣ ـ ويقول : «وذكر المغفرة والرحمة لترغيب التائبين الذين ركبوا السفينة» (٥) ، وذلك في قوله تعالى : (وَقالَ ارْكَبُوا فِيها بِسْمِ اللهِ مَجْراها وَمُرْساها إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (٤١)) [هود : ٤١].

ثالثا ـ مناسبة قصة لما سبقها من آيات : وهذا نادر عنده ، لم أجد عنده إلا مثالا واحدا ، وهو : عند قوله تعالى : (وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسى تِسْعَ آياتٍ بَيِّناتٍ فَسْئَلْ بَنِي إِسْرائِيلَ إِذْ جاءَهُمْ فَقالَ لَهُ فِرْعَوْنُ إِنِّي لَأَظُنُّكَ يا مُوسى مَسْحُوراً (١٠١)) [الإسراء : ١٠١] ، يقول : «اتصالها من حيث اقتراحهم الآيات» (٦).

__________________

(١) الأصل (٧٠ و).

(٢) درج الدرر ١٣٢.

(٣) الأصل (٧١ و).

(٤) ك (٧٠ ب).

(٥) درج الدرر ١٣.

(٦) درج الدرر ١٧٩.

٥٣

المطلب الرابع

ذكره عدد آيات السورة

يذكر المؤلف ، رحمه‌الله تعالى ، عدد آيات كل سورة من سور القرآن الكريم التي يفسرها ، ويذكر معه العدد الذي ذكره ، سواء كان العدد مكيا أو مدنيا ، أو ....

وفي ذكر هذا العدد فوائد عديدة ، لم يذكرها المؤلف ، وذلك أن بعض أهل العلم قد أفرد هذا العلم بكتب مخصوصة ، فصّلت القول في هذا ، ومن هذه الفوائد ما يأتي (١) :

١ ـ معرفة الوقف.

٢ ـ إن الإجماع منعقد على أن الصلاة لا تصح بنصف آية. (٢) وقال بعض العلماء : تجزئ بآية. وقال غيرهم : تجزئ بثلاث آيات.

٣ ـ إن الإعجاز القرآني لا يقع بدون آية. وقال بعضهم : بثلاث آيات.

والسبب في الاختلاف في عدد آي القرآن أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان يقف على رؤوس الآي للتوقيف ، ثم إن بعض العلماء يعدّ البسملة آية من الفاتحة ، وبعضهم لا يعدّها. (٣)

ومما ينبغي التنبيه إليه الاختلاف في عدد الآيات للسورة ، كثرة وقلّة ، لا يعني زيادة القرآن أو نقصانه ، وإنما هو معرفة للفواصل القرآنية فحسب. (٤)

ومن المفيد أن أذكر أنواع العدد التي ذكرها المؤلف ، وأبين المراد منها كي تكون الصورة واضحة للقارئ :

«العدد المكي : هو ما روي عن عبد الله بن كثير القارئ عن مجاهد بن جبر عن ابن عباس عن أبي بن كعب عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وعدد آي القرآن الكريم عنده هو ٦٢١٠ آية.

العدد المدني الأول : هو ما رواه نافع عن شيخيه لكن اختلف أهل الكوفة والبصرة في روايته عن المدنيين. فأما أهل الكوفة فرواه عن أهل المدينة بدون تعيين أحد منهم ، ورواه أهل البصرة عن ورش عن نافع عن شيخه ، وعدد آي القرآن في رواية الكوفيين عن أهل المدينة ٦٢١٧ ، وفي رواية أهل البصرة ٦٢١٤ ، والذي اعتمده الإمام الشاطبي رواية أهل الكوفة ، قد تبع في ذلك الإمام الداني.

العدد المدني الأخير : وهو ما يرويه إسماعيل بن جعفر عن يزيد وشيبة (بوساطة) نقله عن سليمان بن جماز عن شيبة ويزيد ، وعدد آي القرآن عنده ٦٢١٤.

العدد الدمشقي (الشامي) : وهو ما رواه يحيى الذماري عن عبد الله بن عامر اليحصبي عن أبي الدرداء ، وينسب هذا العدد إلى عثمان بن عفان رضي الله عنه ، وعدد الآي فيه ٦٢٢٧ ، وقيل : ٦٢٢٦.

__________________

(١) ينظر : فصل الخطاب ١٣.

(٢) لم ينعقد الإجماع كما هو واضح من الأقوال التي بعده.

(٣) فصل الخطاب ١٣.

(٤) مدخل لدراسة القرآن والسنة ٣١٦.

٥٤

العدد البصري : هو ما يرويه عطاء بن يسار وعاصم الجحدري ، وهو منسوب بعد إلى أيوب بن المتوكل ، وعدد آي القرآن عنده ٦٢٠٤.

العدد الكوفي : هو ما يرويه حمزة وسفيان عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه (بوساطة) ثقات ذوي علم وخبرة ، وهذا العدد الذي اشتهر بالعدد الكوفي ، فيكون لأهل الكوفة عددان : أحدهما مروي عن أهل المدينة ، وهو المدني الأول ، السابق ذكره ، وثانيهما : ما يرويه حمزة وسفيان ، كما تقدم. والحاصل أن ما يروى عن أهل الكوفة موقوفا على أهل المدينة فهو المدني الأول ، وما يروى عنهم موصولا إلى علي بن أبي طالب فهو المنسوب إليهم ، وعدد آي القرآن فيه ٦٢٣٦». (١)

وهناك أمثلة كثيرة ذكرها المؤلف في مطلع كل سورة من سور القرآن نذكر أمثلة على ذلك :

أولا ـ في مطلع سورة هود عليه‌السلام يذكر أن عدد آياتها هو : «مئة واثنتان وعشرون آية عند أهل المدينة والشام» (٢). مما يدل على أنه يتبنى هذا القول ، إذ لم يذكر بقية العادّين لآيات هذه السورة ، كما أنه لم يبين أن العدد المدني هو العد الأول أو الأخير ، مما يشكل أنه هذا العدد للمدني الأول والأخير ، لكن في كتاب البيان في عد آي القرآن يوضح أن هذا العدد الذي ذكره هو العد المدني الأول والشامي ، أما العدد المدني الأخير والمكي والبصري لهذه السورة هو (مئة وإحدى وعشرون آية).

وكذلك سورة الإسراء يذكر أن عدد آياتها هو «مئة وعشر آيات في غير عدد أهل الكوفة» (٣) ، ولم يذكر كم عدد آياتها عند أهل الكوفة الذي هو مئة وإحدى عشرة آية.

ثانيا ـ هناك بعض السور يذكر عددها وأنه لا خلاف في هذا العدد كما في سورة يوسف ، فيقول : «مئة وإحدى عشرة آية بلا اختلاف» (٤) ، وكذلك سورة الفرقان (٥).

ثالثا ـ وبعض السور يذكر العد الحجازي فقط ، وهو العدد الذي يشمل العدد المدني الأول والأخير والمكي ، وكأنه يتبنى هذا العدد أو يميل إليه ، ففي سورة الرعد يذكر أنها «أربع وأربعون آية حجازي» (٦) ، وسورة الكهف «مئة وخمس آيات في عدد أهل الحجاز» (٧) ، إلى غير ذلك من السور.

رابعا ـ وسور أخرى يذكر عدد آياتها من غير أن يبين أنه لا اختلاف فيه ، أو هو لعدد معين ، كما نجد ذلك في سورة الحجر إذ يقول : «وهي تسع وتسعون آية» (٨). وسورة النحل «مئة

__________________

(١) الفوائد الحسان في عد آي القرآن ٢٤ ـ ٢٧ ، والبيان في عد آي القرآن ص ح وط.

(٢) درج الدرر ١.

(٣) درج الدرر ١٣٧.

(٤) درج الدرر ٣٥.

(٥) درج الدرر ٣٥٩.

(٦) درج الدرر ٧٢.

(٧) درج الدرر ١٨٥.

(٨) درج الدرر ٩٨.

٥٥

وثمان وعشرون آية» (١) ، وكذلك سورتي القصص والعنكبوت. وهو في الحقيقة لا اختلاف فيه ، وأجمع العادّون على عدد آيات هذه السور.

خامسا ـ في سورة مريم يقول : «وهي ثمان وتسعون آية في غير عدد أهل مكة وإسماعيل» (٢) ، وسورة المؤمنون «مئة وتسع عشرة آية في غير عدد أهل الكوفة» (٣). وذكر هنا أن العدد لإسماعيل مخالف ما ذكره في غيرها بأنه عدد أهل المدينة الأخير.

المطلب الخامس

فضائل السور والآيات

وردت أحاديث كثيرة في فضائل سور القرآن الكريم ، بيد أن قسما من هذه الأحاديث ليس صحيحا ، كما قرر أهل العلم ، قال ابن تيمية (٤) ، رحمه‌الله تعالى : «وفي التفسير من هذه الموضوعات قطعة كبيرة مثل الحديث الذي يرويه الثعلبي والواحدي والزمخشري في فضائل سورة القرآن سورة سورة ، فإنه موضوع باتفاق أهل العلم».

وقد ذكر المؤلف ، رحمه‌الله تعالى ، في كثير من السور فضائل لهذه السور وبعض آياتها :

أولا ـ فضائل بعض الآيات : ومن الأمثلة على ذلك :

١ ـ في مطلع سورة الكهف يذكر ثلاثة أحاديث في فضل أوائل سورة الكهف ، فيقول : عن أبي الدرداء ، عنه عليه‌السلام : «من حفظ أول الكهف عصم من فتنة الدجال» ، وعنه مرفوعا : «من قرأ ثلاث آيات من أول الكهف عصم من الدجال» ، وروي عنه عليه‌السلام : «من قرأ عشر آيات من أول الكهف عصم من فتنة الدجال». (٥)

٢ ـ وفي آخر سورة الكهف يذكر حديثا في فضل قوله تعالى : (فَمَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبادَةِ رَبِّهِ أَحَداً) [الكهف : ١١٠] ، عن عمر بن الخطاب قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أنه أوحي إليّ من قال : (فَمَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبادَةِ رَبِّهِ أَحَداً) كان له نور من عدن أبين إلى مكة حشوه الملائكة» (٦).

٣ ـ وفي سورة المؤمنون يذكر فضل الآيات في مطلع السورة فيقول : «وعن عمر بن الخطاب قال : كان النبي عليه‌السلام إذا نزل عليه الوحي سمع عند وجهه دوي كدوي النحل ، فأنزل عليه يوما فمكثنا ساعة فسرّي عنه ، فاستقبل الكعبة ، فرفع يديه وقال : «اللهم زدنا ولا

__________________

(١) درج الدرر ١١٦.

(٢) درج الدرر ٢١٨.

(٣) درج الدرر ٣١٧.

(٤) مقدمة في أصول التفسير ٣٥.

(٥) درج الدرر ١٨٥.

(٦) درج الدرر ٢١٦ ـ ٢١٧.

٥٦

تنقصنا ، وأكرمنا ولا تهنّا ، وأعطنا ولا تحرمنا ، وآثرنا ولا تؤثر علينا ، وارضنا وارض عنّا» ، ثم قال : «أنزل عليّ عشر آيات من أقامهن دخل الجنة» ، ثم قرأ : (قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ (١)) [المؤمنون : ١] حتى ختم عشر آيات» (١).

ثانيا ـ فضائل السور : ومن الأمثلة عليه :

١ ـ ما جاء في آخر سورة الكهف : «قال البراء بن عازب : بينما رجل يقرأ سورة الكهف إذا رأى دابته تركض ، فنظر فإذا مثل الغمامة أو السحابة ، فأتى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فذكر ذلك له ، فقال عليه‌السلام : «تلك السكينة نزلت مع القرآن ، أو نزلت على القرآن»» (٢).

٢ ـ ونجده يذكر في كثير من السور حديث أبي بن كعب في فضل القرآن الكريم سورة سورة ، ففي آخر سورة مريم يقول : عن أبي بن كعب ، عنه عليه‌السلام : «من قرأ سورة مريم أعطي عشر حسنات بعدد من كذب زكريا ، وصدّق به ، ويحيى وعيسى وإبراهيم وإسحاق ويعقوب وموسى وهارون وإدريس ، وبعدد من دعا لله ولدا ، لا إله إلا الله ، وبعدد من لم يدع لله ولدا» (٣). وهذا حديث موضوع باتفاق العلماء كما ذكرنا قول ابن تيمية في صدر هذا المبحث ، وفي تخريج الحديث في موضعه هناك.

٣ ـ وكذلك مطلع سورة طه ، فيذكر حديثا في فضل سورة طه وسورة يس ما نصه : «عن أبي هريرة ، عنه عليه‌السلام : «أن الله تبارك وتعالى قرأ طه ويس قبل أن يخلق آدم بألفي سنة ، فلما سمعت الملائكة القرآن قالت : طوبى لأمة ينزل هذا عليها ، وطوبى لأجواف تحمل هذا ، وطوبى لألسن تتكلم بهذا»» (٤). وهو حديث موضوع. وكذلك يذكر قول عمر ابن الخطاب رضي الله عنه في سورة النور ، فيقول : «عن أبي عطية قال : كتب عمر : علموا نساءكم سورة النور» (٥).

المطلب السادس

القراءات القرآنية

القراءات : جمع قراءة ، وهي في اللغة مصدر سماعي لقرأ. (٦) وتدل في أصل معناها على الجمع والضم. (٧)

أما في الاصطلاح : فقد عرفه ابن الجزري (٨) بأنها : «علم بكيفية أداء كلمات القرآن

__________________

(١) درج الدرر ٣١٧.

(٢) درج الدرر ٢١٦.

(٣) درج الدرر ٢٤٣ ، وقد ذكر أجزاء من هذا الحديث في مواضع مختلفة ينظر : ٢٩٦ و ٣٢٨ و ٣٧٥ وغيرها.

(٤) درج الدرر ٢٤٤.

(٥) درج الدرر ٣٢٩.

(٦) مناهل العرفان ١ / ٣٦٤.

(٧) ينظر : معجم مقاييس اللغة ٥ / ٧٩ ، ولسان العرب ١ / ١٢٨.

(٨) ينظر : منجد المقرئيين ٩.

٥٧

واختلافها معزوّا للناقلة».

والقراءات القرآنية هي جزء من الأحرف السبعة التي جاء بها الحديث الشريف عن النبي عليه‌السلام : «أنزل القرآن على سبعة أحرف كلها شاف كاف» ، فالأحرف السبع هي أعمّ من القراءات ، قال مكي بن طالب رحمه‌الله : «فإن سأل سائل فقال : هل القراءات السبعة التي يقرأ بها الناس اليوم ، وتنسب إلى الأئمة ، هي الأحرف السبعة التي أباح النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم القراءة بها ... أو هي بعضها ، أو هي واحدة منها؟ فالجواب أن هذه القراءات كلها التي يقرأ بها الناس اليوم ، وصحت روايتها عن الأئمة ، إنما هي جزء من الأحرف السبعة التي نزل بها القرآن ، ووافق اللفظ بها خط المصحف ، مصحف عثمان ، الذي أجمع الصحابة فمن بعدهم عليه ، واطرح ما سواه مما خالف خطه ..». (١)

والقراءات القرآنية على أنواع ستة هي (٢) :

النوع الأول : القراءات المتواترة : وهي التي نقلت جمعا عن جمع لا يمكن تواطؤهم على الكذب عن مثلهم إلى منتهاه.

النوع الثاني : القراءات المشهورة : وهي ما صح سندها ، ولم تبلغ درجة التواتر ، ووافقت العربية والرسم العثماني ، واشتهرت عند القرّاء ، فلم يعدوها من الغلط ، ولا من الشذوذ ، ويقرأ به.

النوع الثالث : القراءات الآحاد : وهي ما صح سندها ، وخالفت الرسم العثماني أو العربية ، ولا يقرأ به.

النوع الرابع : القراءات الشاذة ، وهي ما لم يصح سنده.

النوع الخامس : القراءات الموضوعة.

النوع السادس : المدرج : وهو ما زيد في القراءات على وجه التفسير.

وبناء على هذا التقسيم السداسي قسمت القراءة إلى قسمين :

الأول : القراءة المقبولة ، وتشمل : المتواترة والمشهورة.

الثاني : القراءة غير المقبولة ، وتشمل الأنواع الأخرى.

فحكم القسم الأول هو جواز القراءة بها ، وتجزئ في الصلاة ، أما القسم الثاني فلا يعدّ قرآنا ، ولا تجوز القراءة بها في الصلاة ولا خارجها ، لكن يحتج بها في اللغة والإعراب والتفسير.

رغم أهمية القراءات القرآنية في تفسير القرآن وفهمه ، نجد أن المؤلف رحمه‌الله تعالى لم يولها اهتماما يذكر ، إلا أنّه ذكرها في مواضع نادرة جدا ، ومن هذه المواضع :

١ ـ ففي حديثه عن قوله تعالى : (ها أَنْتُمْ هؤُلاءِ حاجَجْتُمْ) [آل عمران : ٦٦] يقول :

__________________

(١) ينظر : الإبانة عن معاني القراءات ٢١.

(٢) ينظر : النشر في القراءات العشر ١ / ٣٨٦ ، والإتقان ١ / ٢٠٣ ـ ٢٠٤.

٥٨

«زعمهم ذلك بعد التبديل والتحريف على قراءة قنبل» (١) وقد قرأ قنبل : هأنتم ، بغير ألف بعد الهاء ، على معنى أأنتم. (٢)

٢ ـ وفي سورة الروم وعند قوله تعالى : (غُلِبَتِ الرُّومُ (٢)) [الروم : ٢] ينقل عن ابن عباس أنه قال : غلبت ، وغلبت. وهاتان قراءتان فالجمهور من القراء على أنها غلبت ، بالضم ، والقراءة الأخرى بالفتح أي : غلبت. (٣)

٣ ـ وعند قول الله تعالى : (وَإِذْ أَخَذَ اللهُ مِيثاقَ النَّبِيِّينَ) [آل عمران : ٨١] ، يقول : «ولقد صرّح ابن مسعود وقرأ : (وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب)» ، (٤) ذلك أنه فسر الآية على القراءة الأولى ، بأن أخذ الميثاق من الأمم وليس من الأنبياء ، واستشهد بهذه القراءة.

ولكنا نجده ينقل قول مجاهد : «حتى ظنّ مجاهد أنّ قراءة ابن مسعود هو لفظ القرآن وأنّ ما انعقد الإجماع من سهو الكاتب» ، ويرد على هذا القول بقوله : «وليس كما ظنّ مجاهد ؛ لأنّ هذا اللفظ يحتمل ما يحتمله لفظ ابن مسعود».

ويذكر ما جاء في مصحف عبد الله بن مسعود ، ومصحف أبي بن كعب ، ومصحف ابن عباس مستدلا على معنى من المعاني التي يريدها أو فسر بها الآية ، ومن الأمثلة على ذلك :

١ ـ فعند تفسيره قول الله تعالى : (وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللهُ) [آل عمران : ٧] ، يقول : «وفي مصحف عبد الله : (إن تأويله إلا عند الله)» (٥) مستشهدا على أن المعنى لقوله : (تَأْوِيلِهِ) هو مآله ومصيره وما يؤدي إليه ، وأنه هاهنا وقف تام.

٢ ـ وفي معرض الحديث عن قوله تعالى : (حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِياطِ) [الأعراف : ٤٠] يقول : «وفي مصحف ابن عباس (الجمّل) ، بضم الجيم وتشديد الميم» (٦) ليأتي بمعنى آخر وهو حبل السفينة.

٣ ـ وفي سورة النمل وعند قوله تعالى : (أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ وَمَنْ حَوْلَها) [النمل : ٨] ، يستشهد بما في مصحف عبد الله بن مسعود وأبي بن كعب على المعنى الذي قاله : «من في طلب النار» (٧).

__________________

(١) الأصل (٦٧ ظ).

(٢) ينظر : إعراب القراءات السبع وعللها ١ / ١١٤ ، والإقناع ٢ / ٦٢٠.

(٣) درج الدرر ٤٢٩.

(٤) الأصل (٦٨ ظ).

(٥) الأصل (٦٢ و).

(٦) الأصل (١١٢ ظ).

(٧) درج الدرر ٣٨٧.

٥٩

المطلب السابع

المحكم والمتشابه

«ولقد جاء في القرآن الكريم ما يدل على أنه محكم كله ، إذ قال سبحانه : (كِتابٌ أُحْكِمَتْ آياتُهُ) [هود : ١] ، وجاء ما يدل على أنه كله متشابه ، إذ قال جل ذكره : (اللهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتاباً مُتَشابِهاً) [الزمر : ٢٣] ، وجاء فيه ما يدل على أن بعضه محكم وبعضه متشابه ، إذ قال عز اسمه : (هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ وَأُخَرُ مُتَشابِهاتٌ) [آل عمران : ٧] ، ولا تعارض بين هذه الإطلاقات الثلاثة ، لأن معنى إحكامه كله أنه منظم رصين ، متقن متين ، لا يتطرق إليه خلل لفظي ولا معنوي ، ... ، ومعنى كونه كله متشابها أنه يشبه بعضه بعضا في إحكامه وحسنه ، وبلوغه حد الإعجاز في ألفاظه ومعانيه ، ... ، وأما أن بعضه محكم وبعضه متشابه ، فمعناه أن من القرآن ما اتضحت دلالته على مراد الله تعالى منه ، ومنه ما خفيت دلالته على هذا المراد الكريم ، فالأول هو المحكم ، والثاني هو المتشابه ، على خلاف يأتي بين العلماء في ذلك». (١)

المحكم : لغة : الإحكام : المنع ، وأحكم الأمر أي أتقنه ومنعه من الفساد. (٢)

والمتشابه : لغة : من شبه ، وهو «أصل واحد يدل على تشابه الشيء وتشاكله لونا ووصفا ... والمشبهات من الأمور : المشكلات ، واشتبه أمران إذا أشكلا». (٣)

أما كلاهما من حيث الاصطلاح ، فقد ورد فيهما أقوال عدة (٤) :

فالمحكم : هو ما وضح معنا. والمتشابه نقيضه.

المحكم : ما لا يحتمل من التأويل إلا وجها واحدا ، والمتشابه : ما احتمل أوجها.

المحكم : ما كان معقول المعنى ، والمتشابه بخلافه.

المحكم : ما استقل بنفسه ، والمتشابه ما لا يستقل بنفسه إلا برده إلى غيره.

وهناك أقوال أخرى ، ليس مجالها الحصر هنا.

أما المؤلف رحمه‌الله فقد عرف المحكم بقوله : «والمحكم : ما أحكم وجهه بتشديد اللفظ وتلخيصه ، فلم يترك للمتأول فيه متعلق» (٥). ولم أجده يعرّف المتشابه.

ويقول الراغب في مفردات القرآن (٦) : «الآيات عند اعتبار بعضها ببعض على ثلاثة أضرب : محكم على الإطلاق ، ومتشابه على الإطلاق ، ومحكم من وجه متشابه من وجه.

فالمتشابه بالجملة على ثلاثة أضرب : متشابه من جهة اللفظ فقط ، ومن جهة المعنى فقط ،

__________________

(١) مناهل العرفان ١٥٤ ـ ١٥٥.

(٢) ينظر : معجم مقاييس اللغة ٢ / ٩١ ، ومعجم تهذيب اللغة ١ / ٨٨٦ و ٨٨٧ ، والصحاح ٥ / ١٩٠٢.

(٣) مقاييس اللغة ٣ / ٢٤٣ ، والمحكم والمحيط الأعظم ٤ / ١٩٣ ، وعمدة الحفاظ ٢ / ٢٨٤.

(٤) ينظر : الإتقان في علوم القرآن ٢ / ٥ ـ ٦ ، الكليات ٨٤٥ ، ومناهل العرفان ٢ / ١٩٦.

(٥) الأصل (٦١ ظ).

(٦) ٣٥٥ ، وينظر : عمدة الحفاظ ٢ / ٢٨٤.

٦٠