درج الدّرر في تفسير القرآن ّالعظيم - ج ٢

عبد القاهر بن عبد الرحمن الجرجاني

درج الدّرر في تفسير القرآن ّالعظيم - ج ٢

المؤلف:

عبد القاهر بن عبد الرحمن الجرجاني


المحقق: د. طلعت صلاح الفرحات / د. محمّد أديب شكور
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الفكر ناشرون وموزعون
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
9957-07-514-9

الصفحات: ٨٠٢
الجزء ١ الجزء ٢

فرجع إليهم ، فأخبرهم بالحجارة ، فأنكروه ، وأنكروا (١) الطريق ، فقال مكسلمينا عند ذلك : (رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِما لَبِثْتُمْ) [الكهف : ١٩] ، ثمّ مضى يمليخا حتى أتى السوق ، ولا يعرف أحدا من أهلها ، وإذا ملك من الملوك مسلم ، يقال له : يستفاد ، قد غزا تلك المدينة ، فظهر عليها ، وكسّر علاماتها ، وأظهر علامات المسلمين ، فسأل يمليخا : أيّ مدينة هذه؟ قالوا : هذه مدينة أفسوس ، قال : فأيّ رستاق هذا؟ فأخبروه ، قال : فقال : لقد أصابنا شيء ، إنّ هذه لمدينتنا ، وإنّ هذه لرستاقنا ما أعرفهما ولا أهاليهما ، قال : ثمّ أتى خبّازا وهو يخبز ، فقال : يا خبّاز بعني من طعامك هذا ، وأخرج ورقه ، فلما رآها الخباز أنكرها ، وأنكر الرجل ، فقال : إنّي لأنكرك ، فمن أين لك هذه الدراهم؟ فقال له يمليخا : ولم؟ قال : لأنّ معك دراهم دقيانوس الملك الكافر ، وقد ضربت منذ ثلاث مئة سنة وتسع سنين ، وأنكرك ؛ لأنّك لا تشبه أهل قريتنا ، إمّا أن تعطيني من هذا الكنز الذي وجدت ، وإمّا أن أرافعك إلى ملكنا المسلم ، يقال له : يستفاد الملك ، فإنّك قد وجدت كنزا ، إنّ هذه الدراهم لدراهم ما نعرفها ، فكان كلّ ملك يحدث بعد آخر يضرب دراهمه كلّها على ضربه ، فمن وجد معه غير تلك (٢) الدراهم علم أنّه موجد كنزا ، فلمّا وجدوا معه تلك الدراهم ، قالوا : إنّه لكنز ، فقال لهم يمليخا : إنّ هذه الدراهم ما خرجت بها (٣) إلا أمس ، فظنّ الخباز أنّه يتجانّ (١٩٨ ظ) عليه ليرسله ، فقال : إنّك تتجانّ عليّ لأرسلك ، والله لا أرسلك (٤) حتى تعطيني من هذا الكنز ، أو أرافعك إلى السلطان ، فلمّا رآه لا يعطيه شيئا رفعه إلى ملكهم ، فإذا هو رجل متعبّد مجتهد قائم على مسح يجتهد لربّه حين ردّ الله على أهل تلك المدينة دينكم كما كان ، وقد جعل قاضيين فقيهين يهيّئان أمر الناس ويدبّرانه ، فرفعه الملك إلى ذينك (٥) القاضيين ، فسألاه ، فقال يمليخا : يجيء [إخوتي](٦) أو بنو عمي ، أو بعض معارفي ، وجعل يبكي فرقا أن يرفع إلى ملكهم الجبارّ الذي فرّ منه [فلما أدخل على القاضيين ولم ير الجبّار](٧) سكن ، فقال له القاضيان : دلّنا على هذه الكنز وإلّا عذّبناك ، فقال : ما هذا بكنز ، إنّما خرجت أنا وأصحاب لي عشية أمس هاربين من الملك دقيانوس ، فقالا له : إنّك رجل شابّ ، وذلك الملك قد مضى منذ دهر طويل! قال : فقالوا : مجنون ، فرفعوه إلى ملكهم ، فسأله (٨) ، فقال له : من أين

__________________

(١) أ : أنكر.

(٢) الأصول المخطوطة : ذلك.

(٣) ع : بها من المدينة.

(٤) ع : لأرسلك.

(٥) ع : ذلك.

(٦) زيادة يقتضيها السياق.

(٧) ما بين المعقوفتين من أ.

(٨) الأصل وك وأ : فسائله.

٢٤١

لك هذه الدراهم؟ قال : خرجت بها معي عشيّة أمس أنا وأصحاب لي هاربين من دقيانوس ، وها هو ذي أصحابي ، فانطلقوا إليهم ، قال : وجاع أصحابه جوعا شديدا حين أبطأ عليهم ، فقال الملك : قد عرفت أنّك إنما ترى أنّك مجنون لأرسلك ، وما أنا بالذي أرسلك حتى تخبر من أين هذه الدراهم؟ أخبرنا بقصّتها ، فقصّ عليه أمره وأمر أصحابه ، فقال أناس من المسلمين قد أخبروا بقصتهم (١) : إنّ آباءنا قد أخبرونا أنّ فتية خرجوا بدينهم ، وهم مسلمون فرارا من دقيانوس ، وإنّا والله ما ندري لعلّه صادق ، فاركب ، فانظر لعلّه شيء أراد الله أن يظهرك عليه ، وأن يكون في ولايتك ، فركب الملك ، وركب معه الناس المسلمون (٢) والكافرون حتى انتهوا إلى الكهف ، فدخل صاحبهم ، وهم يبكون ، فأخبرهم بأمره الذي لقي ، وقال : لقد (١٩٩ و) أتاكم الملك فعانق بعضهم بعضا يبكون ، ولا يشكّون أنّه الملك الجبار الكافر الأوّل ، فدخل عليهم الملك والناس يسألونهم عن أمرهم ، وقصّوا عليهم قصّتهم ، والذي فرّوا منه ، فنظروا فإذا اللوح (٣) الرصاص الذي كتبه المسلمان فيه أسماؤهم وأسماء آبائهم ودينهم وفرارهم من دقيانوس الملك الكافر ، فقال (٤) : قوم هلكوا في زمان دقيانوس ، فأحياهم الله في زماني ، فحسبوا ذلك ، فوجدوا ثلاث مئة وتسع سنين ، فلم يبق مع الملك أحد إلا أسلم إذ رآهم ، فبينا (٥) هم إذ ماتوا ، فضرب الله على آذانهم بالنوم ، ثمّ تنازع فيه المسلمون الأول أصحاب الملك قبل أن يأتوا الكهف ، والمسلمون الذين أسلموا حين رأوهم ، فقال المسلمون الآخرون : (ابْنُوا عَلَيْهِمْ بُنْياناً رَبُّهُمْ أَعْلَمُ) [الكهف : ٢١] ، و (قالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلى أَمْرِهِمْ) [الكهف : ٢١](٦) الملك والمسلمون الأوّلون معه : (لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِداً) [الكهف : ٢١] ، قال : فبنوا على الكهف مسجدا ، ثمّ قال الملك المسلم وأصحابه المسلمون الأوّلون : مكثوا في الكهف ثلاث مئة سنين وتسع سنين ، وقال المسلمون الآخرون : بل مكثوا كذا وكذا ، فقال المسلمون الذين مع الملك : الله أعلم بما لبثوا في الكهف ، فذلك قوله : (ثُمَّ بَعَثْناهُمْ لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصى لِما لَبِثُوا) [الكهف : ١٢] ، أيّ الفريقين أحفظ لما لبثوا. (٧) المراد بالمسلمين النصارى ، وإنّما سمّاهم ابن عباس مسلمين ؛ لأنّهم لم يكونوا يقولون

__________________

(١) الأصول المخطوطة : قصته.

(٢) أ : أنكر

(٣) ك : في اللوح.

(٤) ع : فقال الملك.

(٥) ع : فبينما.

(٦) (الملك والمسلمون الآخرون : (ابْنُوا عَلَيْهِمْ بُنْياناً رَبُّهُمْ أَعْلَمُ)) مكرر في جميع النسخ.

(٧) ينظر : المنتظم ٢ / ١٥١ مختصرا عن ابن عباس ، وينظر : قصة أصحاب الكهف في البدء والتاريخ ٣ / ١٢٨ ، الكامل في التاريخ ١ / ٢٧٤.

٢٤٢

في عيسى قول النصارى.

١١ ـ (فَضَرَبْنا عَلَى آذانِهِمْ) : ختما عليها بما يمنعها النوم السمع (١).

١٢ ـ وهذا النوم (أَمَداً) : غاية ، نصب على التفسير (لِما لَبِثُوا).

١٣ ـ (وَزِدْناهُمْ (١٩٩ ظ) هُدىً) : أي : هدايتهم ، أي : هداية قومهم الاعتراف بالصانع ، وهدايتهم توحيد الصانع إذا كانوا على مجلس يحويهم.

١٤ ـ (شَطَطاً) : جورا.

١٦ ـ (وَما يَعْبُدُونَ) : معطوف على الضمير المنصوب المتّصل بالاعتزال ، والاستثناء على سبيل المجاز ؛ لأنّ المشركين كانوا يعبدون الله على سبيل المجاز بما يظهرون من الخضوع كما يعبدون أوثانهم ، وإن كانت عادتهم في الحقيقة تقع معصية بمخالفتهم الأمر.

١٧ ـ (تَزاوَرُ) : تمايل (٢) وتزايل.

(تَقْرِضُهُمْ) : تحدوهم ، يقال : حدوته وقرضته ذات اليمين.

(فِي فَجْوَةٍ مِنْهُ) : فرجة من الكهف.

١٨ ـ (أَيْقاظاً) : جمع يقظ ، وهو المتنبّه.

(وَهُمْ رُقُودٌ) : جمع راقد ، وهو النّائم.

(ذِراعَيْهِ) : ذراع اسم يشتمل على الكفّ إلى المرفق.

(بِالْوَصِيدِ) : فناء البيت عند العتبة.

وفائدة ذكر الكلب : بقاؤه في تلك المدّة على تلك الحال من جملة الآيات ، فصار كالحمار والبقرة (٣) المذكورين في سورة البقرة (٤) ، أو ذكر الكلب كان موجودا في قصّتهم عند أهل الكتاب كعدّة الملائكة تسعة عشر.

(فِراراً) : هربا ، نصب على التفسير.

(رُعْباً) : نصب على أنّه مفعول ثان (٥) ، ألبسهم الله المهابة ؛ كيلا يدنو منهم أحد.

__________________

(١) قال الزجاج : أي : منعناهم عن أن يسمعوا ؛ لأن النائم إذا سمع انتبه. ينظر : تفسير القرطبي ١٠ / ٣٦٣.

(٢) ع : تتمايل.

(٣) الأصول المخطوطة : البقر.

(٤) في قوله تعالى : (وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً) [البقرة : ٦٧] ، وقوله تعالى لعزير بعد أن أماته مئة عام : (وَانْظُرْ إِلى حِمارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ) [البقرة : ٢٥٩].

(٥) الأصول المخطوطة : ثاني.

٢٤٣

١٩ ـ (بِوَرِقِكُمْ) : دراهمكم.

(أَيُّها) : أيّ الأطعمة.

(أَزْكى) : أطهر وأنظف.

(وَلْيَتَلَطَّفْ) : وليتكلّف اللطف في القول والعمل ؛ كيلا نفتضح.

٢٢ ـ (سَيَقُولُونَ ثَلاثَةٌ) : الكلبيّ ، عن أبي صالح ، عن ابن عباس رضي الله عنهما : أنّ حبري أهل نجران ، وهما السيد والعاقب ، قدما بمن معهما على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فكان السيد مار يعقوبيا ، والعاقب نسطوريا ، فسألهم نبيّ الله عن عدد أصحاب الكهف؟ فقال السيد وأصحابه : ثلاثة رابعهم كلبهم ، وقال العاقب : خمسة سادسهم كلبهم. (١)

(رَجْماً) : ظنّا.

(بِالْغَيْبِ) : ولا علم لهم به.

فلمّا رأى الله ذلك منهم قال لنبيّه عليه‌السلام : (سَبْعَةٌ وَثامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ).

(قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ) : قال ابن عباس : أنا من جملة (٢٠٠ و) أولئك القليل الذي استثنى الله منهم ، فهم ثمانية : سبعة سوى الكلب. (٢)

والواو في (وَثامِنُهُمْ) للاستئناف ، كما في قصة بلقيس (وَكَذلِكَ يَفْعَلُونَ) [النمل : ٣٤].

(مِراءً ظاهِراً) : جدالا على وجه يشترك فيه الخاصّ والعامّ.

والنهي عن الاستفتاء (٣) منهم ؛ لقطع الجدال (٤).

٢٣ ـ (وَلا تَقُولَنَ)(٥) : نهي للنبيّ عليه‌السلام حين قال : أخبركم غدا الأشياء الثلاثة التي ذكرناها في بني إسرائيل ، وكان الوحي قد احتبس لذلك.

وفي الآية رد على القدرية ، وهي متّصلة بما يليها.

٢٤ ـ (وَاذْكُرْ) : الاستثناء بمشيئة الله.

(إِذا نَسِيتَ) : الاستثناء والتوقيت من مجاز الكلام ، والمراد به الشرط ، والحال يدلّ عليه ،

__________________

(١) ينظر : زاد المسير ٥ / ٩١ ، والتفسير الكبير ٧ / ٤٤٧ ، وتفسير القرطبي ١٠ / ٢٤٩.

(٢) ينظر : فضائل الصحابة ٢ / ٨٤٥ ، وتفسير الطبري ٨ / ٢٠٦ ، وزاد المسير ٥ / ٩٢ ، وتفسير مبهمات القرآن ٢ / ١٥٧.

(٣) الأصول المخطوطة : الاستثناء ، وما أثبت مأخوذ من قول الله تعالى : (وَلا تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مِنْهُمْ أَحَداً).

(٤) (والنهي ... الجدال) ، ساقطة من أ.

(٥) ع : ولا تقوله لشيء.

٢٤٤

فإنّ الذكر والنسيان لا يجتمعان في وقت واحد (١) ، والتقدير فيه : إن نسيت الاستثناء عند القول فاستثن عقيب قولك.

(عَسى أَنْ يَهْدِيَنِ (٢)): يدلّني إلى ما يكون أقرب إلى الصواب من قولهم.

٢٥ ـ (وَازْدَادُوا تِسْعاً) : قيل : ازدادوا [في] تلبّثهم تسع ليال. وقيل : تسع سنين. (٣) وقيل : لم يلبثوا إلا ثلاث مئة سنة ، ولكنّ الناس ازداودوا عليها تسعا في الاحصاء. (٤) والمرويّ عن ابن عباس رضي الله عنهما : تسع سنين. (٥)

٢٦ ـ (أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ) : صورته صورة الأمر ، والمراد به التعجّب ، أي : ما أبصره ، وهو جامد ، يجري مجرى الحروف.

٢٧ ـ (مُلْتَحَداً) : معدلا وملجأ.

٢٨ ـ (وَاصْبِرْ نَفْسَكَ) : نزلت فيمن نزلت [فيهم](٦) آيات الأنعام (٧) ، وفيها زيادة إنعام ، وهي نهي العينين عن أن يجاوزاهم إلى غيرهم من أبناء الدنيا. وفي ذلك دلالة على كونهم شهداء رسول الله. وقيل : عينيه في الأرض بعد اتّصافه ليلة المعراج بقوله : (إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ ما يَغْشى) الآية [النجم : ١٦] ، ولم يستحقّوا هذه الرتبة إلّا بعد ما طاشت لدينهم ودنياهم ، وتلاشت نفوسهم في محيّاهم.

(وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنا) : ردّ على القدرية ، وهي في شأن أبي جهل وأمثاله.

(فُرُطاً) : ضائعا منها ونابه. أبو عبيدة : ندما. (٨) وقيل : (٢٠٠ ظ) سرفا. (٩)

٢٩ ـ (وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ) : المأمور بالقول لهم هم الذين أمّلوا (١٠) رسول الله

__________________

(١) ساقطة من أ.

(٢) الأصول المخطوطة : يهدني.

(٣) ينظر : معاني القرآن وإعرابه ٣ / ٢٧٩ ، والوسيط ٣ / ١٤٤ ، والبيان في غريب إعراب القرآن ٢ / ١٠٦ ، والتفسير الكبير ٧ / ٤٥٢.

(٤) ينظر : تفسير الطبري ٨ / ٢١٠ ، وزاد المسير ٥ / ٦٩ عن عبيد بن عمير ومجاهد ، والدر المنثور ٥ / ٣٣٣ عن ابن عباس وابن مسعود.

(٥) ينظر : تفسير الطبري ٨ / ٢١٠ ، وتفسير ابن أبي زمنين ١ / ٤٨٢ ، وزاد المسير ٥ / ٩٦ عن ابن عباس وقتادة.

(٦) زيادة يقتضيها السياق.

(٧) سبق سورة الأنعام الآية ٥٢.

(٨) ينظر : الغريبين ٥ / ١٤٣٦ ، وزاد المسير ٥ / ٩٨.

(٩) ينظر : الغريبين ٥ / ١٤٣٦ ، ومفردات ألفاظ القرآن ٤٢٢ ، وزاد المسير ٥ / ٩٨ عن أبي عبيدة.

(١٠) الأصول المخطوطة : آمنوا.

٢٤٥

الإيمان به إن أعرض [عن](١) الفقراء ، كقوله تعالى : (لا إِكْراهَ فِي الدِّينِ) [البقرة : ٢٥٦].

و (السّرادق) : الحائط من المدر والوبر.

(يُغاثُوا) : على سبيل المجاز لازدواج الكلام.

و (المهل) : ذائب الرصاص والصفر ونحوهما. وقيل : هي درديّ (٢) الزيت. (٣) وقيل : الصديد. (٤)

(وَساءَتْ مُرْتَفَقاً) : أي : ساءت النار مرتفقا (٥).

٣١ ـ (مِنْ أَساوِرَ) : من صلة أو تبعيض ، و (مِنْ ذَهَبٍ) : من للتجنيس. (أَساوِرَ) جمع إسورة ، وإسورة : جمع سوار (٦) ، والسّوار : القلب ، وهو زينة الذراعين.

(مِنْ سُنْدُسٍ) : رقيق الديباج.

(وَإِسْتَبْرَقٍ) : غليظه.

(الْأَرائِكِ) : جمع أريكة. ثعلب : هي السرير في الحجلة. (٧) الأزهريّ : كلّ ما اتكأت عليه.

٣٢ ـ (وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلاً رَجُلَيْنِ) : كانا من بني إسرائيل ، وكانا أخوين ، اسم أحدهما يهوذا ، واسم الآخر يوقطروس ، وكان أحدهما مسلما ، والآخر كافرا ، وقد ورثا من أبيهما مالا ، فأمّا المؤمن فأنفق حصّته في سبيل الله حتى افتقر ، وأمّا الكافر فاشترى بحصّته الضياع والكراع (٨) والمتاع حتى كثر ماله ، وحسنت حاله ، وافتقر أخوه إلى نفقته ، فتعرّض له ، وكان من قصته (٩) ما نطق به الكتاب. (١٠)

__________________

(١) زيادة يقتضيها السياق.

(٢) في ك : هو رديء. ودرديّ الزيت : هو ما يبقى في أسفله. لسان العرب ٣ / ١٦٦.

(٣) ينظر : تفسير ابن وهب ١ / ٤٧٢ ، والجواهر الحسان ٢ / ٢٩٨ عن النبي عليه‌السلام ، والدر المنثور ٥ / ٣٣٨ عن ابن مسعود.

(٤) ينظر : زاد المسير ٥ / ٩٨ ، والجواهر الحسان ٢٩٨.

(٥) الأصل وع وأ : مرتفق ، وك : من نفق.

(٦) (وإسورة جمع سوار) ، ساقطة من ع.

(٧) ينظر : شمس العلوم ودواء كلام العرب من الكلوم ١ / ٢٣٤. وثعلب هو أبو العباس أحمد بن يحيى بن يزيد الشيباني مولاهم ، إمام النحو والعربية ، توفي سنة ٢٩١ ه‍. ينظر : وفيات الأعيان ١ / ١٠٢ ، وإنباه الرواة ١ / ١٨٣ ، وبغية الوعاة ١ / ٣٩٦ ، وأبجد العلوم ٣ / ٥٠.

(٨) الكراع : اسم لجميع الخيل. النهاية في غريب الحديث ٤ / ١٦٥.

(٩) ك : قصتهما.

(١٠) ينظر : تفسير مبهمات القرآن ٢ / ١٦١ ـ ١٦٢ ، وزاد المسير ٥ / ١٠٢ ، والتفسير الكبير ٧ / ٤٦٢ ، والجواهر الحسان ٢ / ٢٩٨.

٢٤٦

(وَحَفَفْناهُما) : أي : أحدقنا بهما.

٣٣ ـ كلا وكلتا : اسمان موحّدان في اللّفظ ، ومعناهما التّثنية ، وألفهما كألف على (١) وإلى ، ويكون خبرهما (٢) منفردا (٣) ، والمعنى : كلّ واحد ، أو كلّ واحدة منهما كذا وكذا.

٣٤ ـ (يُحاوِرُهُ) : يراجعه في الكلام.

(النّفر) : الخول والولد دون العشيرة ، وأنّهما كانا في العشيرة سواء.

٣٥ ـ (أَنْ تَبِيدَ) : تهلك ، قاله حماقة وغفلة ، أو اعتقادا في الطوالع.

وقيل : (هذِهِ) إشارة ، وهذا أشبه بظاهر كلامه وإنكاره قيام الساعة.

٣٦ ـ (لَأَجِدَنَّ خَيْراً مِنْها مُنْقَلَباً) : طمع الخبيث في خير مع كفره بقيام الساعة ؛ لاعتقاده بأنّ الساعة إن كانت حقّا فسيشفع له (٤) شركاؤه الذين يدعوهم من دون الله ، أو لاعتقاده بأنّ ابتغاء مرضاة الله في عمارة العالم ، وتثمير الأموال دون الإيمان والإحسان. (٢٠١ و)

٣٧ ـ (أَكَفَرْتَ) : هذا حكم بالكفر ، وأنكر عليه لإنكاره خراب الدنيا ، والتحوّل إلى العقبى ، ويحتمل : أنّه لم يحكم به ، ولكن استفهم ، واستعلمه أهو كافر حيث رآه ينكر البعث والنشور ، ولا يعترف بأنّ النعمة من الله إن شاء أسبلها (٥).

٣٨ ـ (هُوَ اللهُ (٦) رَبِّي) : ضمير الأمر والبيان. اسم الله تعالى في محلّ الرفع على سبيل الابتداء ، واسم الله كالبدل منه ، أو كالبيان به. وقيل : هو ضمير الأمر والشأن. (٧)

٣٩ ـ (ما شاءَ اللهُ) : مبتدأ ، أي : ما شاء الله كان. وقيل : خبر ، أي : هذه ما شاء الله. (٨)

(إِنْ تَرَنِ) : شرط لقوله : (ما شاءَ اللهُ لا قُوَّةَ إِلَّا بِاللهِ)(٩) ؛ لأنّ رؤية المجالس الفقير داعية إلى الشكر والاعتبار.

__________________

(١) ك : إلى.

(٢) الأصول المخطوطة : خبره.

(٣) ك : مفردا.

(٤) ك : فيستشفع ، و (له) ساقطة منها.

(٥) ك وأ : أسبلها.

(٦) غير موجودة في الأصل وأ.

(٧) ينظر : التفسير الكبير ٧ / ٤٦٤ ، والبحر المحيط ٧ / ١٧٩ ، والدر المصون ٤ / ٤٥٦.

(٨) ينظر : معاني القرآن وإعرابه ٣ / ٢٨٨ ، والبيان في غريب إعراب القرآن ٢ / ١٠٨ ، والبحر المحيط ٧ / ١٧٩ ، واللباب في علوم الكتاب ١٢ / ٤٩٢.

(٩) من (إِنْ تَرَنِ) ... إلى ... (إِلَّا بِاللهِ).

٢٤٧

(أَنَا) : عماد. وقيل : توكيد لا محلّ له من الإعراب كالضمير المتّصل في قوله : (وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ) [البقرة : ٤١]. (١)

٤٠ ـ (حُسْباناً) : ابن عرفة : عذابا. (٢) الأزهريّ : المرامي الصغار من برد أو حجارة أو نحوها. وحسبان : القسيّ معروفة.

(صَعِيداً زَلَقاً) : مزلّة (٣) ملساء لا تثبت فيها قدم ، يقال : زلق رأسه إذا حلق.

٤٢ ـ (يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ) : عبارة عن غاية التأسّف ، كما أن صكّ الوجه عبارة عن غاية التعجّب.

٤٤ ـ (هُنالِكَ) : إشارة إلى الساعة التي أنكر الكافر قيامها ، وهذه الإشارة يجوز أن تكون من جهة المؤمن ، ويجوز أن تكون من جهة الله تعالى.

(هُوَ خَيْرٌ ثَواباً) : مثيب ومعقب ، إثابة وإعقابا.

و (العقب) : العاقبة.

٤٥ ـ (هَشِيماً) : ما تكسّر وتفتّت من النبات بالدوس وغيره ، والهشام الكسر.

(تَذْرُوهُ) : أجزاؤه في الهواء بسرعة وتفريق.

٤٦ ـ إبراهيم في قوله : (وَالْباقِياتُ الصَّالِحاتُ) قال : سبحان الله والحمد لله ، ولا إله إلا الله والله أكبر. (٤) أبو هريرة ، عنه عليه‌السلام : «لأنّ أقول : سبحان الله والحمد لله ، ولا إله إلى الله والله أكبر أحبّ إليّ ممّا طلعت عليه الشمس» ، وقال : «هنّ الباقيات الصالحات». (٥) ابن عمر : أنّ النبيّ عليه‌السلام خرج على قومه ، فقال : «خذوا جنّتكم» ، فقالوا (٦) : يا رسول الله ، من عدو حضر؟ قال : «بل من النار» ، قالوا : وما جنّتنا من النار (٧)؟ قال : سبحان الله والحمد لله ، ولا إله إلا الله ، ولا حول ولا قوة إلّا بالله ، فإنّهنّ يأتين يوم القيامة مقدمات ومجنّبات ومعقّبات ، وهنّ الباقيات الصالحات». (٨) وقيل : الباقيات الصالحات : الصلوات الخمس. (٩)

__________________

(١) ينظر : البحر المحيط ٧ / ١٨٠ ، والدر المصون ٤ / ٤٥٨ ، وتفسير روح البيان ٥ / ٢٩٥.

(٢) ينظر : معجم ألفاظ القرآن ١٣١.

(٣) زلّ يزلّ إذا زلق ، أي تزلق عليه الأقدام. لسان العرب ١١ / ٣٠٦.

(٤) جاء في تفسير الباقيات الصالحات ١٩ : أن هذا قول جمهور المفسرين ، وأورد إبراهيم النخعي : أنها الصلوات الخمس.

(٥) أخرجه مسلم في الصحيح (٢٦٩٥) ، والبرتي في جزء الحميري ٣٩ ، والترمذي (٣٥٩٧) ، والعمدة من الفوائد ١٦٢.

(٦) الأصول المخطوطة : فقال ، والتصحيح من مصادر التخريج.

(٧) (قالوا : وما جنتنا من النار؟) ، ساقط من أ.

(٨) أخرجه ابن أبي شيبة ٦ / ٩٢ ، والنسائي في علم اليوم والليلة (١٠٦٨٥) ، والطبراني في الصغير (٤٠٧) ، والأمالي المطلقة ١ / ٢٢٤ و ٢٢٥.

(٩) ينظر : تفسير الطبري ٨ / ٢٢٩ ـ ٢٣٠ ، وزاد المسير ٥ / ١١٠ ، وتفسير الباقيات الصالحات ١٩ ، والدر المنثور ٥ / ٣٥١ ، عن ابن عباس وغيره.

٢٤٨

(أَمَلاً) : طمعا.

٤٧ ـ (وَيَوْمَ) : واو العطف على قوله : (وَاضْرِبْ) [الكهف : ٤٥] ، والتقدير : واذكر يوم كذا.

(نُسَيِّرُ الْجِبالَ) : وتسييرها قوله : (وَتَرَى الْجِبالَ ...) الآية [النمل : ٨٨] ، والمعنى فيه فسخ نظام الدنيا ، وتسطيح العرصات ، وتهويل الأمر ، وما شاء الله من المعاني اللطيفة الخفيّة.

عمرو بن دينار : لتسبيحة بحمد الله في صحيفة مؤمن يوم القيامة خير له من جبال الدنيا ذهبا. (١)

(فَلَمْ نُغادِرْ) : أي : لم نترك ، ولم نخلّف.

٤٨ ـ (صَفًّا) : مصدر كالاصطفاف. وقيل : اسم (٢) ، وهو ترتّب بعض الأشياء بجنب بعض ، والتشبيه بحيرتهم واشتغالهم بأنفسهم.

٤٩ ـ (وَوُضِعَ الْكِتابُ) : في أيديهم ، أو في موازينهم.

(مُشْفِقِينَ) : خائفين : (٢٠١ ظ)

(ما لِهذَا الْكِتابِ) : تعجّب.

والاستثناء منقطع (٣).

٥١ ـ (ما أَشْهَدْتُهُمْ) : عائد إلى إبليس وذريّته ، وإلى كلّ معبود عبد من دون الله.

(عَضُداً) : معينا.

٥٢ ـ (مَوْبِقاً) : مهلكا ، يقال : أوبقه ، أي : أهلكه الله ، والمراد به : الوصلة التي كانت بين المشركين وآلهتهم في الدنيا ، أو النار يوم القيامة فيما بينهم يتهافتون فيها.

٥٣ ـ (مُواقِعُوها) : النار والبحر اقتحامها.

(لِلنَّاسِ) : اسم جنس.

٥٤ ـ (جَدَلاً) : فالجدل طبيعة (٤) الإنس وإن تفاوتوا في ذلك ، وقد وصف الله تعالى

__________________

(١) ينظر : الزهد لابن المبارك (٩٣١ و ١١٢٣) ، وحلية الأولياء ٣ / ٢٧٢ ، وشعب الإيمان (٦٩٢) عن عمرو ابن دينار عن عبيد بن عمير.

(٢) أ : أهم.

(٣) في قوله تعالى : (لا يُغادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصاها).

(٤) أ : لطبيعة.

٢٤٩

الصحابة بذلك ، فقال : (يُجادِلُونَكَ فِي الْحَقِ) [الأنفال : ٦] ، قال عليه‌السلام : «ثلاثة أتخوّفهم عليكم : فيض المال فيكم ، وزلّة عالم (١) ، ورجال يجادلون بالقرآن ، فالنجاة من فيض المال الشكر ، والنجاة من زلّة العالم أن ينتظر فتنة ولا يعمل بزلّته ، والنجاة من الذين يجادلون بالقرآن أن يعمل بمحكمه ، ويؤمن بمتشابهه». (٢)

٥٥ ـ (سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ) : قولهم : (أَبَعَثَ اللهُ بَشَراً رَسُولاً) [الإسراء : ٩٤].

وقوله : (أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذابُ) : إلى أن يأتيهم العذاب ، نظيره : (لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ)(٣) [آل عمران : ١٢٨].

٥٦ ـ (لِيُدْحِضُوا) : ليزلّوا ، أو ليزلقوا ، ومكان دحض ، أي : زلق مزلّة.

٥٨ ـ (لَوْ يُؤاخِذُهُمْ بِما كَسَبُوا) : أي : لو لم يحلم عنهم ، وضيّق عليهم الأمر.

(مَوْئِلاً) : منجى. قيل لعليّ : هلّا احترزت من ظهرك؟ قال : فإذا أمكنت من ظهرك ، فلا وألت. (٤)

٥٩ ـ (وَتِلْكَ) : إشارة إلى القريات التي ذكر إهلاكها في القرآن ، ومن جملتها جنّة أحد الرجلين.

(مَوْعِداً) : وقتا موقّتا لآجالهم عند الله تعالى.

عن ابن عباس : أنّه تمارى هو والحرّ بن قيس بن [حصن الفزاريّ (٥) في صاحب موسى ، قال ابن عباس : هو خضر ، فمرّ بهما](٦) أبيّ بن كعب ، فدعاه ابن عباس فقال : إنّي تماريت وصاحبي هذا في صاحب موسى الذي سأل موسى السبيل إلى لقيه ، هل سمعت رسول الله يذكر شأنه؟ قال : نعم ، سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : بينا موسى في ملأ من بني إسرائيل إذ قام إليه رجل فقال : هل تعلم أحدا أعلم منك؟ فقال موسى : لا ، فأوحى الله إلى موسى : بلى (٧) ، عبدنا خضر (٨) ، فسأل موسى السبيل إليه ، فجعل له الحوت آية ، وقيل : إذا فقدت الحوت

__________________

(١) ع : العالم.

(٢) أخرجه الطبراني في الأوسط (٨٧١٥) ، واعتقاد أهل السنة ١ / ١١٦ ـ ١١٧ بألفاظ متقاربة ، وهو حديث ضعيف ، ينظر : مجمع الزوائد ١ / ١٨٦.

(٣) ع زيادة : أو يعذبهم.

(٤) ينظر : النهاية في غريب الأثر ٥ / ١٤٣ ، وغريب الحديث لابن الجوزي ٢ / ٤٤٩ ، ولسان العرب ١١ / ٧١٥.

(٥) الحر بن قيس بن حصن بن بدر الفزاري ، صحابي ، كان من جلساء عمر بن الخطاب. ينظر : الاستيعاب ١ / ٤٠٣ ، والإصابة ١ / ٣٢٤.

(٦) ما بين المعقوفتين من مصادر التخريج.

(٧) ع : نعم.

(٨) ع : الخضر.

٢٥٠

فارجع ، فإنّك ستلقاه ، فكان يتبع أثر الحوت ، فقال فتاه : (أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ وَما أَنْسانِيهُ إِلَّا الشَّيْطانُ أَنْ أَذْكُرَهُ) [الكهف : ٦٣] ، قال له موسى : (ذلِكَ ما كُنَّا نَبْغِ فَارْتَدَّا عَلى آثارِهِما قَصَصاً فَوَجَدا) [الكهف : ٦٤ ـ ٦٥] ، فكان من شأنهما الذي قصّ الله في كتابه. (١)

عن سعيد بن جبير قال : قلت لابن عباس : إنّ نوفا البكاليّ يزعم أنّ موسى صاحب بني إسرائيل ليس بموسى صاحب الخضر ، قال : كذب عدوّ الله ، سمعت أبيّ بن كعب يقول : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : قام موسى خطيبا في بني إسرائيل فسئل أيّ الناس أعلم؟ فقال : أنا أعلم ، (٢٠٢ و) فعتب الله عليه إذ لم يردّ العلم إليه ، فأوحى الله إليه أنّ عبدا من عبادي بمجمع البحرين هو أعلم منك ، قال موسى عليه‌السلام : أي ربّ ، فكيف لي به؟ فقال : احمل حوتا في مكتل (٢) ، فحيث تفقد الحوت فهو ثمّ ، فانطلق هو ، وانطلق معه فتاه يوشع بن نون ، فجعل موسى حوتا في مكتل ، فانطلق هو وفتاه يمشيان حتى أتيا الصخرة ، فرقد موسى وفتاه ، فاضطرب الحوت في المكتل حتى خرج من المكتل (٣) ، فسقط في البحر ، فقال : وأمسك عنه جرية الماء حتى كان مثل الطّاق ، فكان للحوت ولموسى وفتاه عجبا ، فانطلقا بقيّة يومهما وليلتهما ، ونسي صاحب موسى أن يخبر ، فلمّا أصبح (قالَ لِفَتاهُ آتِنا غَداءَنا لَقَدْ لَقِينا مِنْ سَفَرِنا هذا نَصَباً) [الكهف : ٦٢] ، قال : ولم ينصب موسى حتى جاوز المكان الذي أمر به ، فقال : (أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ وَما أَنْسانِيهُ إِلَّا الشَّيْطانُ أَنْ أَذْكُرَهُ وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ عَجَباً) [الكهف : ٦٣] ، قال موسى : (ذلِكَ ما كُنَّا نَبْغِ (٤) فَارْتَدَّا عَلى آثارِهِما قَصَصاً) [الكهف : ٦٤] ، قال : يقصّان آثارهما ، فقال سفيان : يزعم ناس أنّ تلك الصخرة عندها عين الحياة (٥) ، لا يصيب ماؤها شيئا إلا عاش. قال : وكان الحوت قد أكل منه ، فلمّا قطر عليه الماء عاش ، قال : فقفيا آثارهما حتى أتيا الصخرة ، فرأى (٦) رجلا مسجى عليه بثوب ، فسلّم موسى ، فقال : أنّي بأرضك السّلام ، قال : أنا موسى ، قال : موسى بني إسرائيل؟ قال : نعم ، قال : يا موسى إنّك على علم من الله علّمكه الله لا أعلمه ، وأنا على علم

__________________

(١) أخرجه أحمد في المسند ٥ / ١١٦ ، والبخاري في الصحيح (٧٤ و ٣٢١٩) ، ومسلم في الصحيح (٢٣٨٠).

(٢) المكتل بكسر الميم : الزنبيل الكبير. ينظر : غريب الحديث لابن الجوزي ٢ / ٣٦٨ ، ولسان العرب ١١ / ٥٨٣.

(٣) (حتى خرج من المكتل) ، ساقطة من أ.

(٤) الأصول المخطوطة : نبغي.

(٥) ع : الحوت.

(٦) أ : في أي.

٢٥١

من الله علّمنيه الله لا تعلمه (١) ، فقال موسى عليه‌السلام : (هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْداً (٦٦) قالَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً (٦٧) وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلى ما لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْراً (٦٨) قالَ سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللهُ صابِراً وَلا أَعْصِي لَكَ أَمْراً) قال له الخضر : (فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلا تَسْئَلْنِي عَنْ شَيْءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْراً (٧٠)) [الكهف : ٦٦ ـ ٧٠] ، قال : نعم ، فانطلق الخضر وموسى عليهما‌السلام يمشيان على ساحل البحر ، فمرّت بهما سفينة ، فكلماهم أن يحملوهما ، فعرفوا الخضر ، فحملوهما بغير نول ، فعمد الخضر إلى لوح من ألواح السفينة فنزعه ، قال موسى : قوم حملونا بغير نول فعمدت إلى سفينتهم فخرقتها لتغرق أهلها لقد جئت شيئا إمرا ، (قالَ أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً (٧٢) قالَ لا تُؤاخِذْنِي بِما نَسِيتُ وَلا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْراً (٧٣)) [الكهف : ٧٢ ـ ٧٣] ، ثم خرجا من السفينة ، فبينا (٢) هما يمشيان على الساحل إذا غلام يلعب مع الصبيان ، فأخذ الخضر برأسه فاقتلعه بيده فقتله ، فقال له موسى : (أَقَتَلْتَ نَفْساً زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً نُكْراً (٧٤) قالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكَ (٢٠٢ ظ) إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً (٧٥)) [الكهف : ٧٤ ـ ٧٥] ، قال : وهذه أشدّ من الأولى (٣) ، (قالَ إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَها فَلا تُصاحِبْنِي قَدْ بَلَغْتَ مِنْ لَدُنِّي عُذْراً (٧٦) فَانْطَلَقا حَتَّى إِذا أَتَيا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَما أَهْلَها فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُما فَوَجَدا فِيها جِداراً يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَ) [الكهف : ٧٦ ـ ٧٧] يقول : مائل ، قال الخضر بيده هكذا فأقامه ، قال له موسى : قوم أتيناهم فلم يضيّفونا ، ولم يطعمونا ، ولو شئت لاتّخذت عليه أجرا ، (قالَ هذا فِراقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ ما لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً) [الكهف : ٧٨] ، قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : رحم الله موسى ، لوددنا أنّه كان (٤) صبر حتى يقصّ علينا من أخبارهم. وقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : الأولى كانت (٥) من موسى نسيانا. قال : وجاء (٦) عصفور حتى وقع على حرف السفينة ، ثمّ نقر في البحر ، فقال له الخضر عليه‌السلام : ما نقص علمي وعلمك من علم الله إلا مثل ما نقص هذا العصفور من البحر. (٧) وذكر الكلبيّ هذا الحديث عن أبي صالح ، عن ابن عباس

__________________

(١) ك : لا تعلم.

(٢) ك : فبينما.

(٣) (وهذه أشد من الأولى) ، ساقطة من ك.

(٤) ساقطة من ع.

(٥) الأصول المخطوطة : كان. والتصحيح من مصادر التخريج.

(٦) أ : فجاء.

(٧) أخرجه البخاري في الصحيح (١٢٢) ، ومسلم في الصحيح (٢٣٨٠) ، والترمذي في السنن (٣١٤٩) ، وأبو عوانة في المسند ٣ / ٤٣٠.

٢٥٢

موقوفا عليه ، وذكر أنّ مجمع البحرين بحر فارس والروم ، وذكر فيه عين الحياة ، وذكر أنّ الخضر عليه‌السلام قال لموسى حين التفت إليه : وعليك السّلام يا نبيّ بني إسرائيل ، فقال موسى : ومن أخبرك بأنّي نبيّ بني إسرائيل؟ قال له الخضر : أخبر بذلك الذي أخبرك بي ، فعرف موسى عند ذلك أنّ الخضر كان أعلم منه ، وذكر بعد خرق السفينة : جلس موسى عليه‌السلام يقول في نفسه : ما كنت أصنع؟ إن أتبع هذا الرجل يظلم هؤلاء القوم ، وينقب سفينتهم ، كنت في بني إسرائيل أقرأ عليهم كتاب الله غدوة وعشيّة ، يقبلون منّي ، فتركت ذلك ، وصحبت هذا الذي يظلم هؤلاء ، قال : فلمّا خرقها ، وأخرج أهل السفينة متاعهم الجد ، قال الخضر لموسى : حدّثتك نفسك بكذا وكذا ، ثمّ رجعنا إلى تفسير الآية.

٦٠ ـ (حُقُباً)(١) : ابن عرفة : دهرا أو زمانا طويلا. (٢) الأزهريّ في قوله : (لابِثِينَ فِيها أَحْقاباً) [النبأ : ٢٣] : جمع حقب ، وهو ثمانون سنة. (٣) صاحب الديوان : الحقبة واحده (٤) الحقب ، وهي السنون. (٥)

٦١ ـ (سَرَباً) : مسلكا الذي يواري (٦) ما يخفيه.

٦٢ ـ (غَداءَنا) : طعام الغداة.

٦٣ ـ (الصَّخْرَةِ) : الكتلة العظيمة من الحجر.

(نَسِيتُ الْحُوتَ) : أي : ذكر أمر الحوت أنّه عاد حيّا ، وتسرّب في الماء.

وإنّما أسند الإنساء إلى الشيطان لكون النسيان سبب فوات المقصد الذي خرجا إليه.

و (أَنْ أَذْكُرَهُ) : بدل عن الضمير في (أَنْسانِيهُ)، وتقديره : أن أذكره لك.

(وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ) : خبر منه لموسى عليه‌السلام. (٢٠٣ و)

٦٥ ـ (رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنا) : أي : النبوّة ، يقول تعالى : (أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ) [الزخرف : ٣٢].

وفيه دليل على نبوّة الخضر عليه‌السلام ، واختصاصه بأيّام مخصوصة.

٦٦ ـ (أَتَّبِعُكَ) : أصحبك.

__________________

(١) ك : وحقبا.

(٢) ينظر : الغريبين ٢ / ٤٧٠ ، وفيه بدلا من (أو) (و).

(٣) ينظر : تهذيب اللغة ١ / ٨٧٤.

(٤) ك : ولهذه.

(٥) ينظر : تهذيب اللغة ١ / ٨٧٤ عن الكسائي ، وزاد المسير ٥ / ١٢١ عن ابن قتيبة.

(٦) الأصول المخطوطة : يواريه.

٢٥٣

٦٨ ـ (خُبْراً) : علما.

٦٩ ـ (إِنْ شاءَ اللهُ) : الاستثناء لمعنيين : أحدهما : أنّه سنة الأنبياء والأولياء في مواعيدهم. والثاني : وقوع التوهّم بأنّ طاعته عسى أن تكون طاعة لله تعالى ، وأن تكون معصية ، فإذا دخل الاستثناء نفي (١) الوعد حالة الموافقة ، وانتفى حالة المضايقة.

٧٠ ـ (حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْراً) : أي : حيث ابتدأنا ذكرا منه.

٧١ ـ (إِمْراً) : شيئا عجبا مكروها كالداهية.

٧٣ ـ (بِما نَسِيتُ) : ابن عباس ، عن أبيّ بن كعب : لم ينس موسى ، ولكنّه من معاريض الكلام. (٢) والمراد بالنسيان المثبت فيما تقدم موضع النسيان ، والمراد بالنسيان (٣) المنفيّ هاهنا حقيقة النسيان.

(لا تُرْهِقْنِي) : لا تعجلني.

(عُسْراً) : نصب لقيامه مقام المصدر.

٧٤ ـ (غُلاماً فَقَتَلَهُ) : ابن عباس ، عن أبيّ بن كعب قال : الغلام الذي قتله الخضر طبع يوم طبع كافرا. (٤) والجمع بين هذا وبين قوله : «كلّ مولود يولد على الفطرة» (٥) ، أنّ المراد بكفر الغلام كفر النّعمة ، لا كفر الديانة ، وخبث الطبيعة الراجعة إلى الكفر بعد حين.

و (النّكر) : ضدّ العرف.

٧٧ ـ (أَهْلَ قَرْيَةٍ) : أنطاكيّة.

(فِيها جِداراً) : بناء على القواعد.

(يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ) : من مجاز الكلام ، أي : يكاد الله أن يسقطه. والانقضاض : سقوط في انكسار. (٦)

٧٨ ـ قال الخضر : (هذا) أي : وقت فراق.

__________________

(١) أ : في.

(٢) ينظر : تفسير الطبري ٨ / ٢٥٨ ، وزاد المسير ٥ / ١٢٦ ، والدر المنثور ٥ / ٣٧٤.

(٣) ع : الإنسان.

(٤) أخرجه موقوفا مسلم في صحيحه (٢٢٦١) ، والطيالسي في مسنده ١ / ٧٣ (٥٣٨) ، والديلمي في الفردوس بمأثور الخطاب ٣ / ١٠٧ ، كما أخرجه مرفوعا مسلم في الصحيح (٢٣٨٠) ، وابن حبان في الصحيح (٦٢٢٠) ، والصيداوي في معجم الشيوخ ١ / ٢٣٩ ، والبيهقي في الاعتقاد ١ / ١٣٩.

(٥) أخرجه مالك في الموطأ (٥٧٢) البخاري في الصحيح (١٢٩٢ و ١٢٩٣ و ...) ، ومسلم في الصحيح (٢٦٥٨) ، وابن عبد البر القرطبي في الاستذكار ٣ / ٩٧ (٥٢٦) عن أبي هريرة رضي الله عنه.

(٦) ينظر : مجاز القرآن لأبي عبيدة ٤١٠.

٢٥٤

٧٩ ـ (وَكانَ وَراءَهُمْ مَلِكٌ) : الكلبيّ : اسم الملك جلندا. (١) وقيل : إن أولاد (٢) آمد ميا فارقين من أصله ، وهم الأكراد. وقيل : كان هذا الملك بأنطاكيّة ، وكان عربيّا ، واسمه المنذر بن جليد الأزديّ.

٨٠ ـ (فَخَشِينا) : علمنا.

٨١ ـ (رُحْماً) : قال الكلبيّ : فولدت أمّ الغلام لأبيه جارية ، تزوّجها نبيّ من الأنبياء ، فولدت له ولدا (٣) هدى الله به أمّة من الأمم. (٤)

٨٢ ـ (وَكانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُما) : ابن عباس : كان صحف علم ليس بذهب ولا فضة. (٥) وكان فيه مكتوب (٦) : عجبت لمن يوقن بالقدر كيف يحزن؟ وعجبت لمن يوقن بالموت كيف يفرح؟ وعجبت لمن يعرف الدنيا وتقلّبها بأهلها كيف يطمئنّ إليها؟ وعنه قال : كان لوحا (٧) من ذهب فيه بسم الله الرحمن الرحيم ، لا إله إلا الله أحمد رسول الله ، عجبت لمن يعلم أنّه ميّت كيف يفرح؟ وعجبت لمن يوقن بالقدر كيف يحزن؟ وعجبت لمن يرى الدنيا وتصرّف أهلها حالا بعد حال كيف يطمئنّ إليها.

وعن المسيّب ، عمّن حدّثه قال : لمّا فارق الخضر موسى عليه‌السلام أوصاه ، فقال : انتزع ، يا موسى ، عن (٨) اللّجاجة ، ولا تمش في غير حاجة ، ولا تضحك من غير عجب ، ولا تعيّر (٩) الخاطئين بخطاياهم ، وابك (٢٠٣ ظ) على خطيئتك يا ابن عمران. (١٠)

ولفقراء (١١) الله تعالى إشارة لطيفة إلى علمهم المختصّ بهم في مراتب خطاب الخضر عليه‌السلام. قالوا : كأنّه خاطب موسى عليه‌السلام أوّل مرّة من عندانيّة نفسه التي هي الحجاب ، فقال : أردت أن أعيبها ، وذلك لكراهية إسناد العيب (١٢) إلى الله تعالى ، ولإيناس (١٣) المستمع

__________________

(١) في عمدة القاري ١٣ / ٣٠٤ : اسم الملك جلندي.

(٢) الأصول المخطوطة : أولاه.

(٣) الأصل وك وع : ولد.

(٤) ينظر : مجمع البيان ٦ / ٤٣١ عن الكلبي.

(٥) ينظر : تفسير الطبري ٨ / ٢٦٨ ، وتفسير الماوردي ٣ / ٣٣٦ ، وزاد المسير ٥ / ٧.

(٦) الأصل وك : مكتوبا.

(٧) الأصول المخطوطة : لوح ، وهذا هو الصواب لأنه خبر كان.

(٨) أ : غريب.

(٩) ع : تعين.

(١٠) ينظر : العلل ومعرفة الرجال ٢ / ٣٧٣٧ ، والزهد لابن أبي عاصم ٦١ عن وهيب المكي ، وشعب الإيمان ٥ / ٢٩١ عن أبي عبد الله الملطي.

(١١) ك وأ : بياض.

(١٢) ك : العجب.

(١٣) ك : ولا ييأس.

٢٥٥

بالمجانسة ، وكأنّه خاطبه ثانيا من عندانيّة روحه التي هي درجة الاستناد في الإيهام والاتحاد ، فقال : أردنا ، وذلك لاستدراج المستمع إلى المقصود ، وكأنّه خاطبه ثالثا من عند الآنيّة التي لا أينية لها ، وهي عين التوحيد ، وحقيقة التفريد ، ثمّ كأنّه ردّ إلى موقف الحجاب بقوله : (وَما فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ذلِكَ تَأْوِيلُ ما لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً)، وأنما ردّه إلى موقف الحجاب للإبقاء عليه حتى يبلغ الكتاب أجله.

٨٣ ـ (وَيَسْئَلُونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ) : عن عقبة بن عامر (١) قال : كنت أخدم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فخرجت من عنده ، فوجدت ناسا من أهل الكتاب معهم كتب ومصاحف ، قالوا : استأذن لنا على محمد رسول الله ، قال : فدخلت ، فأخبرته بمكانهم ، قال : «ما لي ولهم يسألونني عمّا لا أعلم ، وإنّما أنا عبد لا أعلم شيئا إلّا ما علّمني ربّي ، أبغني وضوءا» ، فتوضّأ ، ثمّ دخل في مصلّى بيته ، فصلّى ركعتين ، فلم ينصرف حتى رأيت البشر في وجهه ، فقال : «اخرج إليهم ، فأذن لهم ، وانظر من كان بالباب من أصحابي ، فأدخله» ، فلمّا دخلوا قال : «إن شئتم أنبأتكم بالذي جئتم له ، وإن شئتم سألتموني فأخبركم» ، قالوا : بل أخبرنا لأيّ شيء جئنا؟ وعن أيّ شيء نسألك؟ قال : «جئتموني تسألونني عن ذي القرنين ، وكيف كان أوّل شأنه؟ فقال : وسأخبركم (٢) ما تجدونه في كتابكم إن شاء الله ، إنّه غلام من الروم ، فأتى ساحلا من سواحل مصر ، فبنى له مدينة ، يقال لها : الاسكندرية ، فلمّا فرغ من بنائه بعث الله إليه ملكا ، فرفعه إلى السماء ، فقال له : انظر ما ترى؟ فقال : أرى مدينتي قد اختلطت في المدائن ، قال : ثم رفعه (٣) ، فقال : انظر ما ترى؟ قال : أرى مدينتي وحدها ، ولا أرى غيرها ، قال : هذه التي ترى الدنيا ، والمدير بها البحر الأخضر ، قيل له : فاذهب فحدّث العالم ، وعلم الجاهل ، قد جعل الله لك سلطانا ، فانطلق حتى أتى مغرب الشمس ، وأتى مطلعها ، وأتى الدين ، وهو جبلان زلقان يزلّ عنهما كلّ شيء ، فبناهما ، ثمّ أتى يأجوج ومأجوج (٤) ، ثمّ جاوزهما ، فأتى على قوم قصار يقاتلون يأجوج ومأجوج ، ثمّ جاوزهم ، فوجد أمّة من الغرانيق (٥) يقاتلون القوم الذي وجوههم على وجوه الكلاب ، ثمّ جاوزهم ، فوجد أمّة من الحيّات ، الحيّة الواحدة تلتقم الصخرة العظيمة ، ثمّ جاوزها حتى انتهى إلى البحر المستدير بالدنيا. فقالوا : نشهد (٢٠٤ و) أنّا نجده هكذا. (٦)

__________________

(١) أبو حماد عقبة بن عامر بن عبس الجهني ، الإمام المقرئ ، صاحب رسول الله عليه‌السلام ، توفي سنة ه. ينظر : الطبقات الكبرى ٤ / ٣٤٣ ، والاستيعاب ٣ / ١٠٧٣ ، وتكملة الإكمال ٢ / ٦٧٨.

(٢) أ : ما خبركم.

(٣) (فقال له : انظر ... ثم رفعه) ، ساقطة من ك.

(٤) (ثم جاوزهما ... يأجوج ومأجوج) ، ساقطة من ع.

(٥) الغرانيق جوع غرنوق وهو طائر أسود من طير الماء طويل العنق. لسان العرب ١٠ / ٢٨٧.

(٦) ينظر : دلائل النبوة للبيهقي ٦ / ٢٩٥ ـ ٢٩٦ ، والخصائص الكبرى ٢ / ١٠١.

٢٥٦

قال : كان قد وقع السؤال عن الروح والكهف وذي القرنين ، وقد وقع بمكة على ما قدمنا (١). والآيات فيها مكيّة ، وهذا سؤالهم بالمدينة ثانيا.

والاسكندر هو ذو القرنين الثاني ، قال عمر بن الخطاب : هو ملك من الملائكة. (٢) وقيل : متولّد بين عبري ، وهو ملك ، وبين قبريّ ، وهي إنسيّة. وزعم المجوس : أنّه دارا بن بهمن بن أسفنديارين بنت قيلقوس. (٣) وزعمت النصارى : أنّه من صلب قيلقوس ، لا عرق للمجوس فيه. وهذا أصحّ.

وذو القرنين الأوّل هو فريدون الذي يسمّى النمرود. وقيل : الضحاك.

واختلف في الخضر عليه‌السلام أنّه على مقدمة أيّهما كان حين وجد ماء الحيوان ، وإنّما سمّي ذو القرنين الأوّل بذلك ؛ لأنّه عاش ، وامتدّ عمره حتى هلك قرن مع ابنه ابرح ، وقرن مع ابنه منو شهرا ، أو لأنّه بنى حصنين في (٤) الدنيا ، والحصون تسمّى قرونا وصياصي ، أو لأنّه ملّك ابنه توس على المشرق ، وابنه سلما على المغرب ، فهما من الناس بمنزلة قرني ذوات القرون ، أو لحديث الحيّتين على منكبيّ الضحاك.

وإنّما سمّي الثاني بذلك لانتهائه إلى قرني المعمورة ، وهما (٥) طرفاها من مطلع الشمس عليها إلى مغربها ، أو لطول حميتها على رأسها.

وذكر الطحاويّ (٦) في كتاب مشكل الأخبار (٧) ، عن أبي الطفيل (٨) قال : قام عليّ على المنبر فقال : سلوني قبل أن لا تسألوني ، ولن تسألوا بعدي مثلي ، فقام إليه ابن الكوّاء (٩) ، فقال : ما كان ذو القرنين ، أملكا كان أم نبيّا؟ قال : لم يكن ملكا ولا نبيّا ، ولكنّه كان عبدا صالحا ، أحبّ الله ، فأحبّه ، وناصح الله فناصحه ، ضرب على قرنه الأيمن فمات ، ثمّ بعثه الله ، وضرب على قرنه الأيسر فمات ، وفيكم مثله. وأراد بالقرن جانب الرأس.

٨٥ ـ (فَأَتْبَعَ سَبَباً) : السبب : العلم الذي يوصل به إلى الشيء.

__________________

(١) ك : قدمت.

(٢) ينظر : الدر المنثور ٥ / ٣٨٤ ، وتفسير الخازن ٣ / ١٧٥.

(٣) ينظر : تاريخ دمشق ١٧ / ٢٣١ عن أبي عبيدة.

(٤) ساقطة من أ.

(٥) ساقطة من أ.

(٦) الإمام أبو جعفر أحمد بن محمد بن سلامة الأزدي الحجري المصري الطحاوي الحنفي ، توفي سنة ٣٢١ ه‍. ينظر : تاريخ دمشق ٥ / ٣٦٧ ، وطبقات الحفاظ ٢٣٩ ، والفوائد البهية ٣١.

(٧) ٥ / ١١٩ ـ ١٢٠ ، والكتاب مطبوع باسم «شرح مشكل الآثار».

(٨) عامر بن واثلة بن عبد الله بن عمرو بن جحش الكناني ثم الليثي ، له صحبة ، توفي سنة ١٠٠ ه‍ ، وهو آخر من مات من الصحابة. ينظر : الطبقات الكبرى ٦ / ٦٤ ، ورجال مسلم ٢ / ٨٧ ، والاستيعاب ٢ / ٧٩٨.

(٩) أبو عمرو عبد الله بن أوفى ، ويقال : بن عمرو ، ابن النعمان اليشكري ، المعروف بابن الكوا ، توفي سنة ه. ينظر : تاريخ دمشق ٢٧ / ٩٦ ، وغوامض الأسماء المبهمة ١ / ٢٥٤.

٢٥٧

(١) نهاية المعمورة من نحو الدبور متياسرة إلى الشمال.

٨٦ ـ (فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ) : موضع من البحر المستدير ، سخن ماؤه من أسن ، وكثر فيه الحمأ من حرارة الشمس. قيل : غروبها في العين الحمئة الحقيقية. (٢) وقيل : مجاز وتمثيل. (٣)

(قُلْنا) : بالإلهام. وقيل : هتف به هاتف بأمر الله تعالى.

(إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ) : تمكين من الاختيار على الاختبار والابتلاء.

٨٨ ـ (سَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنا يُسْراً) : من جهته يسرا قولا ميسورا يسكن بذلك ، ويذهب رعبه.

٩٠ ـ (مَطْلِعَ الشَّمْسِ) : نهاية (٤) المعمورة من نحو الصّبا متيامنة إلى الجنوب.

٩١ ـ (كَذلِكَ وَقَدْ أَحَطْنا) : أي : هي كما نقصّه عليك ، أو بلغ مطلع الشمس كما بلغ مغربها ، أو لم يكن لهم من دونها سترا ، كما لم يكن لأهل المغرب. (٢٠٤ ظ)

٩٤ ـ (قالُوا) : أي : على لسان التّرجمان.

(يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ) : اسمان أعجميان كطالوت وجالوت وهاروت وماروت وهؤلاء القوم.

وهذا الفجّ الذي سدّه ذو القرنين من نحو القطب الظاهر المحسوس الذي يسمّى قطب الشمال ، وبلادهم باردة ، وفيها جبال شامخة.

٩٥ ـ (ما مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ) : دليل على امتناعه عن أخذ الجعل.

(فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ) : بالآلات والرجال (٥).

(رَدْماً) : حاجزا. (٦)

٩٦ ـ (زُبَرَ الْحَدِيدِ) : قطع واحدتها زبرة.

(جَعَلَهُ ناراً) : أي : كالنار بالإيقاد عليه.

(قِطْراً) : نحاسا مذابا.

__________________

(١) قوله تعالى : (حَتَّى إِذا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ).

(٢) ينظر : تفسير الطبري ٨ / ٢٧٣ ، والغريبين ٢ / ٤٩٠ ، وزاد المسير ٥ / ١٣٧ ، وروح المعاني ٨ / ٣٥٥.

(٣) ينظر : مجاز القرآن لأبي عبيدة ٤١٣ ، والتفسير الكبير ٧ / ٤٦٩ ، وتفسير الخازن ٣ / ١٧٦ ، وروح البيان ٥ / ٣٤٧.

(٤) ك : غاية.

(٥) ك : في الرجال.

(٦) الأصول المخطوطة : جزا.

٢٥٨

٩٧ ـ (أَنْ يَظْهَرُوهُ) : يعلوه.

(نَقْباً) : تقبا وخرقا.

زعم ابن المقنع : أنّ الاسكندر كتب على السدّ بسم الله الأعز الأكرم ، بني هذا السدّ بقوة الله ، وسيثبت (١) ما شاء الله ، فإذا مضى مئة وستون من الألف الأخيرة انفتح هذا السدّ (٢) ، وذلك عند كثرة الخطايا والذنوب ، تقطّع الأرحام ، وقساوة القلوب ، فيخرج من الأمم ما لا يحصيهم إلا الله تعالى ، فيبلغون مغرب الشمس ، فيأكلون جميع ما يصلون إليه حتى يفيضوا إلى الحشيش وورق الشجر ، ويشربون جميع المياه حتى لا يدعوا حياة ، فإذا بلغوا أرض كذا هلكوا عن آخرهم بإذن الله وأمره.

عن أبي هريرة ، عنه عليه‌السلام في السّدّ قال : يحفرونه كلّ يوم حتى إذا كانوا يخرقونه قال الذي عليهم : ارجعوا فستخرقون غدا ، قال : فيعيده (٣) كأشدّ ما كان حتى إذا بلغ مدّتهم ، وأراد الله (٤) أن يبعثهم على الناس ، قال الذي عليهم : ارجعوا ، ستخرقون غدا إن شاء الله ، واستثنى ، فيرجعون ، فيجدونه كهيئته حين تركوه ، فيخرقونه ، فيخرجون على الناس ، فينشّفون المياه ، ويفرّ الناس منهم ، فيرمون سهامهم في السماء ، فترجع مخضّبة بالدماء ، فيقولون : قهرنا من في الأرض ، وعلونا من في السماء قسوة وعلوّا ، قال : فيبعث الله نغفا (٥) في أقفائهم ، فيهلكون ، قال : فو الذي نفس محمد بيده ، إنّ دوابّ الأرض لتسمن ، وتبطر ، وتسكر سكرا من لحومهم. (٦)

قال كعب : يمكث الناس بعد خروج يأجوج ومأجوج إلى الرخاء والخصب والدعة عشر سنين حتى الرجلين ليحملان الرمّانة الواحدة ، ويحملان العنقود الواحد من العنب ، فيمكثون على ذلك عشر سنين ، قال : ثمّ بعث الله تعالى ريحا طيّبة لا تدع مؤمنا إلا قبضت روحه ، ثمّ يبقى الناس بعد ذلك يتهارجون كما تتهارج الحمر في المروج ، فيأتيهم أمر الله والساعة ، وهم على ذلك. (٧)

٩٩ ـ (وَتَرَكْنا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ) : أراد الزمان. وقيل : بوصول يوم القيامة ، فإنّ صدره من الدنيا ، وأعجازه من الآخرة. (٨)

__________________

(١) ع : ويثبت.

(٢) ك : اللسد.

(٣) أ : فيعيد.

(٤) غير موجودة في ع.

(٥) النّغف بالتحريك : دود يكون في أنوف الإبل والغنم. النهاية في غريب الحديث والأثر ٥ / ٨٦ ، ولسان العرب ٩ / ٣٢٨.

(٦) أخرجه أحمد في المسند ٢ / ٥١٠ ، والترمذي (٣١٥٣) ، وابن ماجه (٤٠٨٠) ، وابن حبان (٦٨٢٩).

(٧) ينظر : الفتن ٢ / ٥٩٧ (١٦٦١) ، وحلية الأولياء ٦ / ٢٥.

(٨) ينظر : تفسير الطبري ٨ / ٢٩٠ ، والدر المنثور ٥ / ٤٠٨ عن ابن زيد ، وتفسير البغوي ٥ / ٢٠٩.

٢٥٩

١٠٠ ـ (وَعَرَضْنا جَهَنَّمَ) : في معنى قوله (٢٠٥ و) (وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِلْغاوِينَ) [الشعراء : ٩١].

١٠١ ـ (فِي غِطاءٍ) : وهو ما يستر الشيء كالغشاوة ونحوها.

(عَنْ ذِكْرِي) : وهو ما نصبه الله تعالى من العلامات للتذكرة ، أراد نفي الاستطاعة التي هي موقوفة على التوفيق دون الاستطاعة التي هي موقوفة على صحة البنية.

١٠٣ ـ (قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ) : قال الكلبيّ : الخطاب للمؤمنين ، والذي ضلّ سعيهم هم اليهود والنصارى. (١) وقيل : الخطاب لهم كما في قوله : (هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذلِكَ) [المائدة : ٦٠]. (٢) وفائدة الاستفهام استدراج المستمعين.

١٠٤ ـ (ضَلَّ) : حبط عند الله ، أو عند المؤمنين وفي الآخرة.

(سَعْيُهُمْ) : الذي سعوه في الحياة الدنيا ، وكان عليّ رضي الله عنه يتأوّل هذه الآية في الخوارج. (٣)

١٠٥ ـ (فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَزْناً) : أراد نفي السعي المتّزن. عن كعب بن عجرة (٤) قال : يجاء بالرجل يوم القيامة ، فيوزن بالحبّة فلا يزنها ، ثمّ يوزن بجناح بعوضة فلا يزنها ، ثمّ تلا هذه الآية. (٥)

١٠٦ ـ (ذلِكَ) إشارة إلى النزل ، فهو مبتدأ وخبره. وقيل : (ذلِكَ) إشارة إلى ما تقدم ، أي : اعلم ذلك ، ويكون (جَزاؤُهُمْ) مبتدأ منقطعا عما تقدم. (٦)

١٠٧ ـ (جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ) : الفردوس : البستان بلغة الشام. قال الكلبيّ : الفردوس : أدنى الجنان منزلا. وزاد أبو حاتم أحمد بن حمدان (٧) صاحب كتاب الزينة : أنّ طعام أهل

__________________

(١) ينظر : مصنف بن أبي شيبة ٧ / ٥٦٠ ، وصحيح البخاري (٤٤٥١) ، وتفسير الطبري ٨ / ٢٩٢ و ٢٩٣ عن سعد بن أبي وقاص.

(٢) ينظر : تفسير الصنعاني ٣ / ٢٤٢ ، ومسند الشاشي ٢ / ٩٦ ، والمستدرك ٢ / ٣٨٣.

(٣) ينظر : تفسير الماوردي ٣ / ٣٤٧ ، وتفسير البغوي ٥ / ٢١٠ ، والتفسير الكبير ٧ / ٥٠١.

(٤) أبو محمد كعب بن عجرة بن أمية السالمي الأنصاري المدني ، من أهل بيعة الرضوان ، توفي سنة ٥٢ ه‍. ينظر : التاريخ الكبير للبخاري ٧ / ٢٢٠ ، ومعجم الصحابة ٢ / ٣٧١ ، مولد العلماء ووفياتهم ١ / ١٥٣.

(٥) أخرجه البخاري في الصحيح (٤٤٥٢) ، ومسلم في الصحيح (٢٧٨٥) ، والخطيب البغدادي في موضح أوهام الجمع والتفريق ٢ / ٤٣٢ عن أبي هريرة عن النبي عليه‌السلام.

(٦) ينظر : البحر المحيط ٧ / ٢٣١ ، واللباب في علوم الكتاب ١٢ / ٥٧٤.

(٧) أحمد بن حمدان بن أحمد الورسامي الليثي ، كان من أهل الفضل ، ثم صار من دعاة الإسماعيلية ، توفي سنة ٣٢٢ ه‍. ينظر : لسان الميزان ١ / ١٦٤ ، والتدوين في أخبار قزوين ٣ / ٥٤.

٢٦٠