درج الدّرر في تفسير القرآن ّالعظيم - ج ٢

عبد القاهر بن عبد الرحمن الجرجاني

درج الدّرر في تفسير القرآن ّالعظيم - ج ٢

المؤلف:

عبد القاهر بن عبد الرحمن الجرجاني


المحقق: د. طلعت صلاح الفرحات / د. محمّد أديب شكور
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الفكر ناشرون وموزعون
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
9957-07-514-9

الصفحات: ٨٠٢
الجزء ١ الجزء ٢

١
٢

٣
٤

تمهيد

المطلب الأول

نسبة الكتاب لمؤلفه

من أهمّ القضايا التي يبدأ المحقّق ببيانها وتوضيحها هي : هل هذا الكتاب لصاحبه أو أنّه منسوب إليه؟ وبخاصة إذا كان المؤلف من الإئمة الأعلام كالإمام عبد القاهر الجرجانيّ العلّامة الأديب النحويّ البلاغيّ ، فهذا يحتاج إلى جهد ومشقّة وعناء ، وممّا يزيد الأمور تعقيدا ومشقّة أنّ السيرة الذاتيّة لهذا العالم الكبير ، وعلى الرغم من شهرته ، لا تسعفنا كثيرا في مثل هذه المسألة.

فأوّل من ذكر هذا الكتاب في كتب الفهارس والتي تذكر أسماء الكتب ومؤلّفيها هو حاجي خليفة في كتابه «كشف الظنون» فيقول : «درج الدرر في التفسير ، مختصر للشيخ عبد القاهر الجرجانيّ ظنّا» (١) ، وهذا الكلام يشكّك في نسبة هذا الكتاب للإمام عبد القاهر الجرجانيّ ، كما ذكره إسماعيل باشا البغداديّ في «هدية العارفين» إذ يدرج في ضمن الكتب التي ألّفها الجرجاني كتابا باسم «درج الدرر في تفسير الآي والسور» (٢) ، وهذا أيضا يجعل في النفس شيئا من نسبة الكتاب وذلك لاختلاف العنوان.

ومما يثبت نسبة الكتاب إلى عبد القاهر الجرجانيّ ما يأتي :

١ ـ ما ورد في الأصول المخطوطة وعلى الصفحة الأولى من النسخ الأربع ، التي تدلّ على أنّ المخطوطة له ، إذ جاء في النسخة الأصل ما نصّه : «كتاب درج الدرر في تفسير القرآن العظيم للإمام العلامة علامة العالم ، قدوة السلف والخلف عبد القاهر الجرجانيّ» ، وفي النسخة الأخرى من مكتبة كوبرلي : «كتاب درج الدرر في تفسير القرآن العظيم ، تأليف الإمام العالم العلامة وحيد دهره وفريد عصره عبد القاهر الجرجانيّ تغمّده الله برحمته» ، وفي نسخة نور عثمانية يقول : «كتاب تفسير القرآن العظيم المسمّى بدرج الدرر ، تأليف الإمام والحجة الهمام عمدة المفسرين وزبدة ... (٣) مولانا عبد القاهر بن عبد الرحمن الجرجانيّ تغمّده الله بالرحمة والرضوان». أما نسخة الأسكريال فكتب على صفحتها الأولى : «تفسير القرآن العظيم المسمّى بدرج الدرر ، تأليف سلطان ... (٤) سيدنا الشيخ المحقّق عبد القاهر الجرجانيّ تغمّده الله برحمته آمين».

__________________

(١) كشف الظنون ١ / ٧٤٥.

(٢) هدية العارفين في أسماء المؤلفين ٥ / ٦٠٦.

(٣) كلمة غير واضحة في المخطوطة.

(٤) كلمة غير واضحة في المخطوطة.

٥

٣ ـ نجده يقرّر في كتابه أنّ إعجاز القرآن إنّما كان بالنظم العجيب فيقول : «وحدّ الإعجاز هو الإتيان بناقض العادة ، والخارج عن طوق من هو مثل صاحب المعجزة في الخلقة ، ... وإذا وقع التحدّي هاهنا بنظم عجيب بديع ، تضمّن معنى صحيحا غير مناقض ولا هزل ...» (١).

٤ ـ وجود كثير من الإشارات البلاغيّة المودعة في هذا التفسير ، كالحذف والمجاز والكناية ومعاني (افعل) الأمر ، ومعاني الاستفهام ، وغيرها. (يرجع إلى مبحث عنايته بالبلاغة في قسم الدراسة).

٥ ـ الاستئناس بما جاء في بعض الترجمات لعبد القاهر الجرجانيّ بأنّ له تفسيرا ، كما جاء عند الأدنه وي والسيوطي (٢) ، إذ يقولان عند تعدادهما لمصنفات عبد القاهر : «وصنّف التفسير» ، وفي كشف الظنون (٣) يقول : «تفسير عبد القاهر بن عبد الرحمن الجرجانيّ المتوفّى سنة ٤٧٤ ه‍ مختصر في مجلّد ، ولعلّه تفسير الفاتحة».

٦ ـ ومما يستأنس به لإثبات أنّ هذا الكتاب له هو ما ورد من أسماء لأعلام كانت وفاتهم قبله ، ممّا يدلّ على أنّها في عصر الشيخ الجرجانيّ.

٧ ـ نسب التفسير في فهرس آل البيت لعبد القاهر الجرجاني. (٤)

ومما يشكّك بنسبة الكتاب إلى عبد القاهر الجرجانيّ أمور متعدّدة ، منها :

١ ـ ما دكر فيما سبق أنّ أول ذكر للكتاب جاء في كشف الظنون لحاجّي خليفة ، وجاء بشكل مشكّك إذ قال : «درج الدرر في التفسير ، مختصر للشيخ عبد القاهر الجرجانيّ ظنّا» ، وقوله : ظنّا ، مشكل إذ يشكّك في نسبة الكتاب له ، ولكنّ هذا القول لم يكن متثبّتا منه إذ في مكان آخر ينسبه إليه من غير شكّ فأدرجه ضمن التفاسير فقال : «تفسير عبد القاهر بن عبد الرحمن الجرجانيّ» ، ولكنّه ذكر أنّه «مختصر في مجلّد ولعلّه تفسير الفاتحة» (٥). وقوله هذا دليل على عدم اطّلاعه على الكتاب ، إذ لو اطّلع عليه لعلم أنّه ليس تفسير الفاتحة.

٢ ـ جاء في هديّة العارفين اسم هذا الكتاب ضمن كتب الجرجانيّ «درج الدرر في تناسب الآي والسور دلائل الإعجاز في المعاني والبيان ، شرح الفاتحة في مجلّد» (٦) ، وهذا مخالف لما هو مدرج في المخطوطات الأربع بأنّ اسم هذا الكتاب هو «درج الدرر في تفسير القرآن

__________________

(١) الأصل (٦ و).

(٢) طبقات المفسرين ١٣٣ ، وطبقات المفسرين للسيوطي ١٣٣.

(٣) ١ / ٤٥٣.

(٤) ١ / ١١٤.

(٥) كشف الظنون ١ / ٤٥٣.

(٦) هدية العارفين ١ / ٦٠٦.

٦

الكريم». وهذا أيضا يدحض قول حاجي خليفة بأنّ درج الدرر غير تفسير الفاتحة ، كما أنّ هذا العنوان الذي ذكره إسماعيل باشا هو الأنسب لهذا الكتاب ، وذلك لعادة المؤلفين في ذلك الوقت أن يسمّوا الكتب بأسماء مسجوعة ، ولعلّه اطلع على نسخة أخرى من الكتاب لم تصل إلى مكتبات المخطوطات العامّة.

٣ ـ أما بروكلمان فقد ذكر أنّ التفسير ينسب خطأ للشريف الجرجانيّ ، فقال : «درج الدرر وهو في التفسير ... وينسب خطأ للشريف الجرجانيّ» (١) وعبارته هذه تحمل ادعاء لأحدهم ينسب الكتاب لغير عبد القاهر الجرجانيّ ، وهي في الوقت نفسه نفت هذا الخطأ. كما أنّه بعيد أن يكون له إذ خلا الكتاب في نقله عن علماء من العصور التي بعد عبد القاهر الجرجانيّ ، ممّا يجعل النسبة إليه من باب الوهم ، فالشريف الجرجانيّ قد توفي سنة ٨١٦ ه‍ (٢) ، كما أنّه لم ينقل من المؤلفات في التفسير أو غيره بعد عصر الجرجانيّ ، وبخاصّة الزمخشريّ وأبي حيان وغيرهما من الأعلام الذين جاؤوا بعده.

وقد رجعت إلى مظانّ ترجمة السيد الشريف الجرجانيّ ، فلم أجد ذكرا لهذه النسبة. (٣)

٤ ـ المعروف عن عبد القاهر الجرجانيّ وما ذكرته كتب التراجم التي ترجمت له : أنّه شافعيّ المذهب ، فقد ذكره الإسنويّ في طبقات الشافعيّة (٤) ، وقال عنه : «كان شافعيّا» ، وكذلك في سير أعلام النبلاء ، (٥) وغيرها.

وقد بحثت في مذهب المؤلّف الفقهيّ من خلال دراستي لهذا الكتاب ، وقد تولّد لديّ أنّ صاحب هذا الكتاب له مذهب فقهيّ هو المذهب الحنفيّ ، وذلك من خلال المسائل التي ذكرتها في مبحث (عنايته بالأحكام الفقهيّة) فدرست مذهبه الفقهيّ من خلال ثماني مسائل ، هذه المسائل الثماني خالف فيها المؤلف المذهب الشافعيّ أو الرأي الراجح في المذهب الشافعيّ ، ووافق فيها أصحاب المذهب الحنفيّ بل المشهور في المذهب الحنفيّ ، وأحيانا يصرّح بمخالفته للشافعيّ.

أضف إلى ذلك أنّه يذكر الإمام أبا حنيفة فيترضّى عنه أو يترحّم عليه في أكثر من موضع (٦) ، ويستشهد بقوله كذلك ، (٧) بل إنّه يروي عنه بعض الأحاديث والآثار على الرغم من وجودها عند غيره ، فيختار طريق أبي حنيفة (٨).

__________________

(١) تاريخ الأدب العربي ٥ / ٢٠٧.

(٢) ينظر ترجمته : الضوء اللامع ٥ / ٣٢٨ ، والبدر الطالع ١ / ٤٤٨ ، وأبجد العلوم ٣ / ٥٧.

(٣) ينظر : الكنى والألقاب للقمي ٢ / ٣٥٨ ، والضوء اللامع ٥ / ٣٢٨ ، والبدر الطالع ١ / ٤٨٨.

(٤) ٢ / ٤٩٢.

(٥) ١٨ / ٤٣٣. وينظر : وطبقات الشافعية للسبكي ٥ / ١٤٩ ، طبقات المفسرين للداودي ١ / ٣٣١.

(٦) الأصل (٧١ ب) ، وسورة الأنبياء ٨٤.

(٧) سورة الأنبياء الآية ٧٩ و ٨٤.

(٨) الأصل (١٣ و) ، والأصل (٩٥ ظ) ، وسورة الحجر الآية ٢ والإسراء الآية ٧٩.

٧

٥ ـ من المعلوم عن عبد القاهر الجرجانيّ أنّه أشعريّ المذهب عقائديّا ، وهذا ما ذكرته كتب التراجم التي ترجمت له.

ولكن عند الدراسة في عقيدته في هذا الكتاب يتبيّن أنّ مؤلف الكتاب ليس أشعريّ المذهب ، فهو ينهج منهج الإمام أبي حنيفة النعمان في بعض. المسائل العقدية التي ذكرها في تفسيره ، ومن هذه المسائل :

أ ـ قوله بأن الإيمان لا يزيد ولا ينقص ، فقد جاء في تفسيره قول الله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللهِ وَرُسُلِهِ) [النساء : ١٥٠] إذ يقول : «وفي الآية دليل على أنّ الإيمان لا يزيد ولا ينقص» (١) ، وهذا القول يقول به الإمام أبو حنيفة رحمه‌الله تعالى ومن وافقه من بعده فقد جاء في شرح المقاصد (٢) ما نصّه : «وعند أبي حنيفة (رحمه‌الله) وأصحابه وكثير من العلماء ، وهو اختيار إمام الحرمين ، أنه لا يزيد ولا ينقص ، لأنّه اسم للتصديق البالغ حد الجزم والإذعان ، ولا يتصوّر فيه الزيادة والنقصان».

ب ـ وعند تفسيره قول الله تعالى : (وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللهِ إِنَّ اللهَ واسِعٌ عَلِيمٌ) [البقرة : ١١٥] ، يقول : «و (وجه الله) ليس كأوجه خلقه ، وهو خالق الوجوه ، متعال عن الحلول في الجهات والأقطار ، وهو أقرب من حبل الوريد ، سبحانه وتعالى. وقد أوّل من أوّل من أصحابنا بأنّه الإقبال بالرحمة والرضوان والقبول ، وهو ممكن أن يكون مرادا» (٣).

ج ـ كذلك عند تفسيره قول الله تعالى : (هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آياتِ رَبِّكَ) [الأنعام : ١٥٨] يقول : «دليل أنّ إتيان الربّ صفة له لا يجوز حملها على إتيان الأمر ، إذ الشيء لا يعطف على نفسه».

د ـ أمّا عن صفة الكلام فيقول : «والتكليم صفة لله تعالى حقيقية من غير كيفيّة» وذلك عند تفسيره قول الله تعالى : (وَكَلَّمَ اللهُ مُوسى تَكْلِيماً) [النساء : ١٦٤] ، وأيضا يقول في موضع آخر : «وقول الله تعالى حقيقة ، وقد أكّد بقوله : (وَكَلَّمَ اللهُ مُوسى تَكْلِيماً) [النساء : ١٦٤] ، والتأكيد لنفي إيهام الاستعارة ، وفي فحوى قوله : (وَما كانَ

__________________

(١) الأصل (٩٠ و).

(٢) ٥ / ٢١١.

(٣) الأصل (٣٠ و)

٨

لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللهُ إِلَّا وَحْياً)، الآية [الشورى : ٥١] ما يدل على أنّ القول صفته حقيقة» (١).

٦ ـ ومن المعلوم أيضا عن الإمام عبد القاهر الجرجانيّ أنّه نحويّ بصريّ ، فقد تتلمذ على تلميذ الإمام أبي عليّ الفارسيّ ، وهو أبو الحسين الفارسيّ ، أحد أئمة البصريين ، بل لم يكن له شيخ له غيره ، وقد شرح كتابه «الإيضاح» واعتنى به عناية فائقة ، وسمّاه «المغني» وقد بلغ هذا السفر نحوا من ثلاثين مجلدا ، ولكننا نلحظ أنّ مؤلّف هذا الكتاب لم ينقل عن أبي عليّ إلا في موضع واحد فقط (٢).

كما نجده ميّالا إلى مذهب الكوفيين ، فهو يقدّم آراءهم في كثير من الأحيان على آراء البصريين ، ويعتدّ بها ، بل قد يكتفي بذكرها.

٧ ـ هناك أمر يلفت انتباه المتتبع لهذا الكتاب إذ نجد في موضع يقول : «وفي الآية دلالة أنّ صبر الخليفة على جنايات قومه والتغافل عنها جائز لابتغاء المصلحة ، كمنابذته ومضاجرته إيّاهم ، ولذلك يصبر خلفاء نبيّنا صلى‌الله‌عليه‌وسلم من آل عباس على قبائح هذه الأمّة وافتراق أهوائها» (٣) وكذلك عند حديثه عن قول الله تعالى : (وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ) بأنّ المراد هو «أمّة محمد عليه‌السلام ، وقد اختصّت بها الخلفاء الأربعة وبنو عمّه الأئمة المهديّون» (٤) ، ولعلّه يقصد به الخلفاء العباسيّين ، وفي هذا الكلام دلالة واضحة على أنّ مؤلف الكتاب كان يميل لخلفاء بني عباس ، على عكس ما ذكر في سيرة عبد القاهر الجرجانيّ أنّه كان يكره الحكام ، ولا يميل إليهم ، ويتبرّم منهم.

٨ ـ أورد في كثير من المواضع ما يخالف نظريّة النظم التي ابتكرها الجرجانيّ ، فنلاحظ أنّه في عدد من المواضع يقول : «كذا لوفق رؤوس الآي» ، وهذا يتعارض مع نظرية النظم ، إذ يقول في دلائل الإعجاز : «واعلم أن ليس النّظم إلا أن تضع كلامك الوضع الذي يقتضيه علم النّحو ، وتعمل على قوانينه وأصوله» (٥). فالتّقديم والتّأخير ، أو تغيير التّركيب لوفق رؤوس الآي لا يتّفق مع قوله : «أن تضع كلامك الوضع الذي يقتضيه علم النّحو».

وقد يردّ على ما سبق : أنّ عبد القاهر الجرجانيّ ربّما ألّف «درج الدرر» في أوّل حياته العلمية قبل أن تنضج لديه فكرة نظريّة النظم ، وكان هذا التفسير بداية طريقه مع هذه النظريّة ، لما تضمّن من أمور بلاغيّة كثيرة ، تدلّ على بذرة جيّدة لنظرية النظم ، كما أنّه لم يتتلمذ على أحد

__________________

(١) الأصل (١٦ ظ)

(٢) الأصل (٥٦ ظ).

(٣) الأصل (١٢٥ و)

(٤) درج الدرر ٣١٢.

(٥) دلائل الإعجاز ٧٧.

٩

سوى أبي الحسين الفارسيّ ، وكان هذا التتلمذ متأخّرا ، فقد كان في بداية حياته العلمية حنفيّ المذهب والاعتقاد ، كوفيّا نحويّا ، وبعد أن نضج وتتلمذ على يد أبي الحسين الفارسيّ ، وقرأ كتبا أخرى ، جعلته يغيّر منهجه الذي يسير عليه إلى منهج آخر مختلف تماما ، نظرا لسعة اطّلاعه ، وسعة أفقه ومداركه.

٩ ـ ومما تجدر الإشارة إليه أنّ المؤلف أورد خلال حديثه عن اسم الله تعالى (البارئ) خلال تفسير الآية ٢٤ من سورة الحشر يقول : «وقد استوفينا الكلام في الأسماء في مفتاح الهدى» (١) ، وقد استبشرت خيرا بهذا فقد ذكر أنّ للجرجانيّ كتابا هو المفتاح ، فقلت : إنّ ضالّتي قد وجدت ، فبحثت عن الكتاب ، وبعد جهد توصّلت إلى كتاب للجرجانيّ اسمه «المفتاح في الصرف» ، وبحثت فيه عن ذلك فلم أجد شيئا يدلّ على ما ذكره ، ولو بالإشارة ، فكان المفتاح في الصرف ليس له علاقة في اشتقاق بأسماء الله من قريب ولا بعيد ، كما أنّي لم أجد كتابا بهذا الاسم فيما لديّ من مصادر يذكر كتابا اسمه مفتاح الهدى ، سواء للجرجانيّ أو غيره.

وخلال بحثي في الكتاب عن شيء يدلّ على المؤلّف في محاولة لمعرفة المؤلّف وجدت عبارة مهمة وهي : «قال الأمير» (٢) ، ولعلّها من أهمّ العبارات التي تشير إلى المؤلّف ، إذ قد يكون الأمير هو مؤلّف الكتاب ، إذ من المعتاد في كتب القدماء أن يذكر المؤلف باسمه أو بلقيه ، لأنّ كثيرا منهم قد أملى كتابه إملاء على تلاميذه ، فقام هؤلاء التلاميذ بذكر أسمائهم فيها ، والأمثلة على ذلك كثيرة ، منها : «معاني القرآن» للفراء ، والذي ترد فيه عبارة «قال الفراء» أو «حدثنا شيخنا» (٣).

ونظرا لأهميّة هذه العبارة قمت بالبحث في المصادر عمّن يلقب بالأمير من العلماء الذين عاشوا في عصر المؤلّف في القرن الخامس ، فلم أجد سوى الأمير العالم ابن ماكولا ، وهو سعد الملك أبو نصر عليّ بن هبة الله بن عليّ بن جعفر ، صاحب كتاب «الإكمال في رفع الارتياب عن المؤتلف والمختلف في الأسماء والكنى والأنساب» المتوفّى سنة نيّف وسبعين ، أو نيّف وثمانين وأربع مئة للهجرة ، فيكون كما ذكرت ، من عصر عبد القاهر الجرجانيّ ، وهو العصر الذي رجحت أن يكون قد كتب فيه الكتاب.

__________________

(١) الأصل (٣٠٧ ظ).

(٢) الأصل (١٢٣ و) ، و (١٥٠ و) ، ودرج الدرر ٢١٨.

(٣) ينظر : على سبيل المثال : معاني القرآن ١ / ٢١ و ٢٢ و ٣٣٨.

١٠

ورغم أنّ مصادر ترجمة ابن ماكولا ذكرت «أنّه كان نحويّا مجوّدا وشاعرا مبرّزا» (١) لكنّي لم أقف في مصادر ترجمته على تاليف في التفسير ، فلم تذكر أنّه كان له تفسير أو حتى تفسير سورة واحدة.

كما أنّه ممّا يظهر من هذا التفسير والأحاديث الواردة فيها أنّ صاحب التفسير هذا لم تكن لديه اهتمامات المحدّثين في ضبط الأحاديث وأسانيدها والحكم عليها ، بل نجده يستشهد بأحاديث ضيعفة جدّا بل موضوعة ، وكذلك يهتمّ بالإسرائيليات والتاريخ ، مما يدفع كون مؤلّف الكتاب هو من أهل الحديث كما هو معروف عن ابن ماكولا ، ودقته واحترافه لهذا الفنّ ، وبخاصّة أنّه ألّف كتابا في نقد الرجال وتاريخهم وهو كتاب «الإكمال في رفع الارتياب عن المؤتلف والمختلف في الأسماء والكنى والأنساب».

وخلاصة القول : إنّ كتاب «درج الدرر في تفسير القرآن العظيم» وحسب ما ترجح لديّ ، والله أعلم ، أنّ الكتاب ليس لعبد القاهر الجرجاني ، بل هو لغيره ، ولم أستطع نسبته لغيره ، إذ لم توجد علامات دالّة على ذلك ، فهو ، في رأيي المتواضع ، منسوب له ، ويبقى كذلك حتى يتبيّن لي أو لأحد غيري مؤلّف الكتاب.

المطلب الثاني

أهمية الكتاب

إنّ تفسير «درج الدرر» وبالرغم من أنّه مختصر ، إلا أنّه يعدّ من التفاسير القيّمة ، فهو ليس من المختصرات المخلّة ، ولا من المطولات المملّة ، فهو ذو فائدة للقارئ العاديّ غير المختصّ ، كما أنّه ذو فائدة عالية للقارئ المختصّ في آن واحد.

وقد حوى الكتاب على كثير من النقولات عن علماء سابقين من أعلام التفسير والحديث واللغة والنحو وغيرها من العلوم ، فهو بذلك جمع بين التفسير بالمأثور بهذه النقولات ، وبين التفسير بالرأي بما كان يبدي من رأي في كثير من المسائل التي فيها اختلاف ، سواء في المعاني أو الإعراب أو غيرها.

وهذه النقولات تدلّ بشكل لا ريب فيه على غزارة علم المؤلف ، وسعة اطّلاعه ، كما أنّها تعطي صورة واضحة عن المرحلة التي عاش فيها المؤلّف ، وهي مرحلة مهمّة من مراحل سير التأليف في ذلك الوقت ، ومنها كتب تفسير القرآن الكريم ، إذ انصرف اهتمام العلماء في تلك المرحلة إلى جمع أقوال العلماء المتقدّمين من الصحابة والتابعين ومن بعدهم ، وتدوين آرائهم ، فيناقشون أراءهم وأقوالهم ، ويردّون على أصحابها ، ويرجّحون بعضها على بعض. ونلاحظ هذا في كتاب «درج الدرر» ، فنجده ينقل الأقوال من غير ترجيح ، وقد يرجّح بينها ، وقد يردّها جميعا ، وأحيانا يأت برأي مغاير لهم.

__________________

(١) سير أعلام النبلاء ١٨ / ٥٧٥ ، وطبقات الحفاظ ٤٤٣.

١١

المطلب الثالث

مصادر المؤلف في الكتاب

لقد كان كتاب «درج الدرر» زاخرا بالنقول عمّن سبقه من آراء لأئمّة التفسير والحديث واللغة والسيرة ، وغيرها ، وهذه النقول التي ذكرها تفصح عن اطلاع واسع ، وكثرة مراجع اعتمد عليها ، وقد قسّمت المصادر التي اعتمدها المؤلف إلى نوعين : النوع الأوّل مصادره من الأعلام الذين ذكرهم في كتابه ، وليس على سبيل الحصر ، والنوع الثاني مصادره من الكتب التفسيريّة واللغويّة وغيرها.

أولا ـ الأعلام الذين أكثر من النقل عنهم :

أ ـ أئمة التفسير والحديث :

١ ـ الصحابي الجليل عبد الله بن مسعود الهذلي رضي الله عنه (ت ٣٢ ه‍).

٢ ـ الصحابي الجليل أبو هريرة عبد الرحمن بن صخر الدوسي رضي الله عنه (ت ٥٧ ه‍).

٣ ـ أم المؤمنين عائشة بنت أبي بكر الصديق رضي الله عنهما (٥٨ ه‍).

٤ ـ التابعي العلامة مجاهد بن جبر المكي (١٠٣ ه‍).

٥ ـ الحسن البصري (١١٠ ه‍).

٦ ـ قتادة بن دعامة السدوسي (١١٧ ه‍).

٧ ـ إسماعيل بن عبد الرحمن السدي (١٢٧ ه‍).

٨ ـ عبد الرحمن بن زيد بن أسلم العدوي (١٨٢ ه‍).

ب ـ أئمة اللغة والنحو :

١ ـ أبو زكريا يحيى بن زياد الفرّاء (٢٠٧ ه‍).

٢ ـ أبو عبيدة معمر بن المثنى (٢١٣ ه‍).

٣ ـ عبد الله بن مسلم بن قتيبة الدينوري (٢٧٦ ه‍).

٤ ـ إبراهيم بن السرّي الزجاج (٣١١ ه‍).

٥ ـ إبراهيم بن عرفة الشهير بنفطويه (٣٢٣ ه‍).

وثمة أعلام آخرون لم يكثر النقل عنهم ، منهم :

١ ـ أبو عمرو بن العلاء الحضرمي (١٥٤ ه‍).

٢ ـ النضر بن شميل (٢٠٣ ه‍).

٣ ـ محمد بن المستنير الشهير بقطرب (٢٠٦ ه‍).

١٢

٤ ـ أحمد بن يحيى الكوفي الشهير بثعلب (٢٩١ ه‍).

٥ ـ محمد بن جرير الطبري (٣١٠ ه‍).

٦ ـ أبو جعفر أحمد بن محمد بن سلامة الطحاوي (٣٢١ ه‍).

ثانيا ـ مصادره من الكتب :

ثمة كتب كثيرة أخذ عنها المؤلّف رحمه‌الله تعالى ، لكنّه لم يصرح إلا بما ندر من هذه الكتب ، ولكن بعد التحقيق ، والرجوع إلى هذه الكتب تبيّن أنّه يعتمد على كثير من الكتب منها :

أ ـ كتب التفسير :

١ ـ تفسير ابن عباس (٦٨ ه‍).

٢ ـ تفسير مجاهد : للإمام مجاهد بن جبر المكي (١٠٢ ه‍).

٣ ـ تفسير الطبري : للإمام محمد بن جرير الطبري (٣١٠ ه‍).

٤ ـ تفسير القرآن العظيم مسندا عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم والصحابة والتابعين : للإمام عبد الرحمن بن محمد بن إدريس الرازي ابن أبي حاتم (٣٢٧ ه‍).

ب ـ كتب تفسير غريب القرآن :

١ ـ تفسير غريب القرآن : ابن قتيبة الدينوري (٢٧٦ ه‍).

٢ ـ الغريبين في القرآن والحديث : للعلامة أبي عبد الرحمن أحمد بن محمد الهروي صاحب الأزهري (٤٠١ ه‍). وهو من الكتب التي اعتمد عليها كثيرا جدّا في تفسيره الكلمات والآيات ، وكذلك النقولات عن بعض الأئمة في اللغة والتفسير.

ج ـ كتب الحديث :

١ ـ صحيح البخاري : للإمام أبي عبد الله محمد بن إسماعيل البخاري (٢٥٦ ه‍).

٢ ـ صحيح مسلم : للإمام أبي الحسين مسلم بن الحجاج القشيري النيسابوري (ت ٢٦١ ه‍).

٣ ـ سنن أبي داود : للإمام أبي داود سليمان بن الأشعث السجستاني الأزدي (٢٧٥ ه‍).

٤ ـ سنن ابن ماجه : للحافظ أبي عبد الله محمد بن يزيد القزويني ابن ماجه (٢٧٥ ه‍).

٥ ـ سنن الترمذي : لأبي عيسى محمد بن عيسى بن سورة الترمذي (٢٧٩ ه‍).

٦ ـ سنن النسائي : للإمام أبي عبد الرحمن أحمد بن شعيب النّسائي (٣٠٣ ه‍).

د ـ كتب السيرة :

١ ـ السيرة النبوية : للإمام أبي محمد عبد الملك بن هشام المعافري (٢١٣ ه‍).

٢ ـ دلائل النبوة : لأبي نعيم أحمد بن عبد الله الأصبهاني (٤٣٠ ه‍).

ه ـ المعجمات :

١ ـ مقاييس اللغة : لأبي الحسين أحمد بن بن فارس بن زكريا (١٧٠ ه‍).

٢ ـ تهذيب اللغة : لأبي منصور محمد بن أحمد الأزهري (٣٧٠ ه‍).

١٣

المآخذ على الكتاب

١ ـ عدم وجود مقدمة في الكتاب ، ممّا جعل هناك صعوبة في فهم منهجه.

٢ ـ اختصاره في بعض المواضع إلى حدّ الإخلال ، وتوسّعه في مواضع أخرى إلى حدّ الإطالة المملّة.

٣ ـ أورد كثيرا من الأحاديث الضعيفة والموضوعة ، ولم ينبّه عليها ، خاصّة ما يتعلّق بأسباب النزول.

٤ ـ ذكره للإسرائيليات بشكل كبير ، ممّا أخرج الكتاب ، في بعض الأحيان ، من كونه تفسيرا إلى كتاب تاريخي ، أو كتاب قصص.

٥ ـ إقلاله من ذكر المصنّفات التي أخذ عنها ، والاكتفاء بذكر اسم من ينقل عنه من المفسرين والنحويّين واللغويّين وغيرهم ، وأحيانا لا يذكر حتى اسم من يأخذ عنه.

٦ ـ عدم اهتمامه بالقراءات القرآنية.

١٤

الفصل الأوّل

منهج المؤلف في «درج الدرر»

ويتضمن أربعة مباحث :

المبحث الأول : التفسير بالمأثور.

المبحث الثاني : عنايته بعلوم اللغة.

المبحث الثالث : عنايته بعلوم القرآن.

المبحث الرابع : متفرقات.

١٥
١٦

المبحث الأول

التفسير بالمأثور

المطلب الأول

تفسير القرآن بالقرآن

عند ما يقبل العالم على تفسير كتاب الله تعالى ، فإنّ عليه في المقام الأوّل أن ينظر في آيات القرآن الكريم نفسها ، لأنّ آيات القرآن الكريم يفسّر بعضها بعضا ، ويوضّح بعضها الآخر ، فإنّ القرآن الكريم قد اشتمل على الإيجاز والإطناب ، والإجمال والتبيين ، والإطلاق والتقييد ، والعامّ والخاصّ ، وما أوجز في مكان فقد بسط في مكان آخر.

وكذلك نجد في قصص القرآن تأتي القصة في مكان مختصرة ، ثمّ تفصّل في موضع آخر ، وقد يذكر في مكان جزء منها لا يذكر في المكان الآخر ، فعندما تجمع الآيات تعطي صورة واضحة لهذه القصّة أو تلك.

يقول ابن تيمية رحمه‌الله تعالى : «إنّ أصحّ الطرق في ذلك : أن يفسّر القرآن بالقرآن ، فما أجمل في مكان ، فإنّه قد فسّر في مكان آخر ، وما اختصر في مكان فقد بسط في موضع آخر» (١) ، فهو كتاب الله تعالى المعجز ، (أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً (٨٢)) [النساء : ٨٢].

فإذن ينبغي على المفسّر عند ما يفسّر آية من القرآن أن يستذكر الآيات الأخرى في موضوعها ويستحضرها ، فقد يحتاج إلى بعضها ، لتوضيح معنى الآية التي هو بصددها.

وهذا يتطلّب منه أن يكون متمكّنا من القرآن الكريم ، وتعبيره عن الموضوع الواحد في عدّة سور ، إذ إن من طبيعة القرآن في عرض موضوعاته أنّه لا يعرض الموضوع الواحد في موضع واحد ، وسورة واحدة ، وإنّما يوزّعه على سور ومواضع متعددة ، لحكم تربوية وتشريعية ، ....

ونجد المؤلّف رحمه‌الله تعالى قد اهتمّ بهذا النوع من التفسير كثيرا ، واعتمد عليه اعتمادا كبيرا ، فقد أكثر من ظاهرة الاستشهاد بالآيات الكريمة لبيان معاني القرآن الكريم ، وقد نوّع أساليبه على أشكال متعددة منها :

١ ـ يفسّر آية بآية أخرى : ففي تفسيره لقول الله تعالى : (فِي جَوِّ السَّماءِ) [النحل : ٧٩] ، يفسّرها بالهواء ، ويقول : «مجملة تفسيرها : (صافَّاتٍ وَيَقْبِضْنَ) [الملك : ١٩]» (٢). وعند

__________________

(١) مقدمة في أصول التفسير ٤٥.

(٢) درج الدرر ١٢٩.

١٧

تفسيره قول الله تعالى : (غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ) [الفاتحة : ٧] يقول : «هم اليهود ؛ لقول الله تعالى : (فَباؤُ بِغَضَبٍ عَلى غَضَبٍ) [البقرة : ٩٠]. (وَلَا الضَّالِّينَ) [الفاتحة : ٧] : النصارى ؛ لقول الله تعالى : (وَلا تَتَّبِعُوا أَهْواءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيراً وَضَلُّوا عَنْ سَواءِ السَّبِيلِ) [المائدة : ٧٧]». (١)

٢ ـ استشهاده على معنى كلمة بآية : مثال ذلك عند تفسيره كلمة (الْمُسَوَّمَةِ) [آل عمران : ١٤] ، فبعد أن فسّرها بالراعية ، يستشهد على هذا المعنى بقول الله تعالى : (شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ) [النحل : ١٠]. وعند بيانه لمعنى (التظاهر) في قول الله تعالى : (تَظاهَرُونَ عَلَيْهِمْ) [البقرة : ٨٥] ، يقول : «تعاونون عليهم ، قال الله تعالى : (سِحْرانِ تَظاهَرا) [القصص : ٤٨]». (٢)

٣ ـ يستشهد بآية في معرض حديثه عن القضايا النحويّة : ففي قوله : (إِذْ هَمَّتْ طائِفَتانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلا وَاللهُ وَلِيُّهُما) [آل عمران : ١٢٢] ، يقول : «و (إِذْ) : بدل عن (إِذْ) الأوّل ، لاتّحاد وقتهما ، كقوله : (إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُما فِي الْغارِ إِذْ يَقُولُ لِصاحِبِهِ) [التوبة : ٤٠]». (٣) وفي قوله تعالى : (أَوْ كَصَيِّبٍ) [البقرة : ١٩] يقول : «أو هاهنا للعطف ، كقوله : (وَلا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِماً أَوْ كَفُوراً) [الإنسان : ٢٤]». (٤)

٤ ـ في تفسيره لقوله تعالى : (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ) [آل عمران : ١١٠] ، يستشهد بقول الله تعالى : (مَنْ كانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا) على أنّ (كان) في (كنتم) هي زائدة ، كما في الآية الأخرى. (٥)

٥ ـ يشابه بين حالين في آيتين من حيث المعنى : فعند قوله تعالى : (وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ) [النساء : ٧٨] ، يقول : «إخبار عن بعض المنافقين ، تشاءموا بالنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقالوا : نقص بقدومه غلّاتنا ، وغلت أسعارنا ، وهو قريب من قصّة آل فرعون ، (فَإِذا جاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ قالُوا لَنا هذِهِ) الآية [الأعراف : ١٣١]». (٦) فشابه بين حال المنافقين في عهد النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم وحال بني إسرائيل في معاملة نبيّهما عليهما‌السلام.

٦ ـ يستشهد بالآية على معنى بلاغيّ : ففي قوله تعالى : (الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ) [هود : ٨٧] يبين أن معنى هذا هو السفيه الجاهل ، فيستشهد بقوله تعالى : (ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ) [الدخان : ٤٩] ، (٧) فخرج بهذا من المعنى الظاهر إلى المعنى المجازيّ في الآيتين.

__________________

(١) الأصل (٢ و).

(٢) الأصل (٢٠ ظ).

(٣) الأصل (٧٢ ظ).

(٤) الأصل (٤ ظ).

(٥) الأصل (٧١ و).

(٦) الأصل (٨٣ ظ).

(٧) ينظر : درج الدرر ٢٦.

١٨

٧ ـ يستشهد بأكثر من آية مؤيّدا قولا ذهب إليه : ففي قوله تعالى : (وَأَوْحَيْنا) [يوسف : ١٥] ، فيقول عن الواو : إنّها مقحمة ، فيؤكّد ذلك بأنّها كما في قوله تعالى : (وَفُتِحَتْ أَبْوابُها) [الزمر : ٧٣] ، وقوله تعالى : (فَلَمَّا أَسْلَما وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ) (١٠٣) [الصافات : ١٠٣]. (١)

٨ ـ يستشهد بالآية ليرجّح رأيا على آخر : يقول عن (ما) في (إِنَّما) في قول الله تعالى : (وَإِنَّما تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ) [آل عمران : ١٨٥] ، إنّ (ما) هنا كافّة ، إذ لو كانت بمعنى (الذي) لكان (أُجُورَكُمْ) بالرفع ، ولكان قوله : (يَوْمَ الْقِيامَةِ) من الصلة ، والصلة لا تنفك عن الموصول ، كقوله تعالى : (إِنَّما تُنْذِرُ) [يس : ١١] ، (إِنَّما يَخْشَى اللهَ) [فاطر : ٢٨] ، (إِنَّما يَبْلُوكُمُ اللهُ بِهِ) [النّحل : ٩٢]. (٢)

المطلب الثاني

تفسير القرآن بالسنة

تأتي هذه المرحلة بعد المرحلة الأولى التي هي تفسير القرآن بالقرآن ، والسنّة هي المصدر الثاني من مصادر التشريع ، وهي موضّحة للقرآن الكريم.

يقول ابن تيمية رحمه‌الله تعالى : «فإن أعياك ذلك فعليك بالسنّة ، فإنّها شارحة وموضّحة له ، بل قد قال الإمام محمد بن إدريس الشافعيّ : (كلّ ما حكم به رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فهو ممّا فهمه من القرآن). قال الله تعالى : (إِنَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِما أَراكَ اللهُ وَلا تَكُنْ لِلْخائِنِينَ خَصِيماً (١٠٥)) [النساء : ١٠٥] ، وقال تعالى : (وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ) [النحل : ٤٤] ، وقال تعالى : (وَما أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ إِلَّا لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ وَهُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (٦٤)) [النحل : ٦٤] ، ولهذا قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ألا إنّي أوتيت القرآن ومثله معه». (٣)

والغرض : أنّك تطلب تفسير القرآن منه ، فإن لم تجده فمن السنّة». (٤)

وعلى المفسّر أن يكون حذرا في اعتماده على أحاديث رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وذلك أن يأخذ بالصحيح الثابت منها ، ويترك الضعيفة والموضوعة ، فينزّه تفسيره عنها.

ومؤلف درج الدرر رحمه‌الله تعالى اعتمد اعتمادا كبيرا على السنّة النبويّة المطهّرة ليفسّر بها القرآن الكريم ، وبأوجه مختلفة ومتنوّعة ، موليا اهتمامه لهذا النوع من التفسير ، لكنّه لم ينقّح الأحاديث التي أوردها في هذا التفسير ، فنجده يروي الأحاديث الصحيحة الثابتة ، والأحاديث

__________________

(١) درج الدرر ٤١.

(٢) الأصل (٧٩ و).

(٣) جزء من حديث أخرجه أحمد (١٧١٧٣) ، وأبو داود (٤٦٠٤) ، البيهقي في الدلائل ٦ / ٥٤٩.

(٤) مقدمة في أصول التفسير ٤٥.

١٩

الضعيفة ، بل والموضوعة كذلك.

والملحوظة العامّة المهمّة أنّه لا يذكر إسناد الحديث ، فيكتفي بذكر المتن ، ولا يذكر درجة الحديث أو مصدره من كتب الحديث ، وقد يعتمد في تفسيره لآية على حديث ضعيف أو موضوع ، فيبني عليه آراء معيّنة ، مستندا في ذلك على ما أورده من قول الإمام أحمد بن حنبل رحمة الله عليه ، مبرّرا استشهاده بهذه الأحاديث الضعيفة ، فعن أحمد بن حنبل قال : إذا روينا عن رسول الله في الحلال والحرام والسنن والأحكام تشدّدنا في الأسانيد ، وإذا روينا في فضائل الأعمال ، وما لا يضع حكما ولا يرفعه تساهلنا في الأسانيد. (١) وأظنّ أنّ الإمام أحمد لم يرد بهذه المقولة الأحاديث الضعيفة المتهالكة التي لا تجبّر ، أو الأحاديث الموضوعة المختلقة على النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ولكنّه أراد الأحاديث التي يمكن أن تجبر بغيرها سواء بالمتابعة أو الشواهد ، فهذا القول ليس مبرّرا أن يورد هذه الكثرة من الأحاديث الضعيفة والضعيفة جدّا والموضوعة ، وهذه آفة كثير من المفسرين.

ونجد أنّ أسلوبه في ذكر الأحاديث النبويّة المطهّرة في التفسير جاء على النحو الآتي :

١ ـ يذكر الحديث بشكل مباشر لمعنى الآية ، إذ يذكر الآية في ضمن الحديث ، والمثال عليه : في سورة هود عليه‌السلام يقول : «عن أبي موسى ، عنه عليه‌السلام : أنّ الله تعالى يملي للظّالم ، أو قال : يمهل ، حتى إذا أخذه لم يفلت ، ثم قرأ : (وَكَذلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ ...) الآية [هود : ١٠٢]». (٢)

٢ ـ يستشهد بحديث على معنى استنبطه من معنى آية : مثال ذلك عند تفسير قوله تعالى : (وَأَطِيعُوا اللهَ وَالرَّسُولَ) [آل عمران : ١٣٢] ، يقول : «إنما ذكر الرسول ليعلم أن أوامره شريعة واجبة ، وإن لم ينطق بها الكتاب لتقرير الله ذلك بتبقية إعجازه ، وقد تواترت الأخبار أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «أوتيت القرآن ومثله مرتين» (٣)».

٣ ـ يستشهد بحديث على معنى بلاغي ، وهو الحذف ، في الآية : ففي تفسير قوله تعالى : (عَرْضُهَا السَّماواتُ) [آل عمران : ١٣٣] ، يقول : «أي : كعرض السماوات ، وإنما حذف لعدم الإيهام ، كقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : (الضبع نعجة سمينة) (٤)».

٤ ـ يستشهد بالحديث على معنى عام يمكن أن يؤخذ من الآية ، فبعد أن يعطي معنى (المرابطة) في قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصابِرُوا وَرابِطُوا وَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) [آل عمران : ٢٠٠] إذ يقول : «والظاهر من الرباط ارتباط الخيل ، ولكنه يستعمل في كل ما يلزم ويثبت» فيستشهد بالحديث بقوله : «وفي الحديث : ألا أدلكم ما يمحو الله به الخطايا ، ويرفع به

__________________

(١) درج الدرر ٣٥٨.

(٢) درج الدرر ٢٩.

(٣) جزء من حديث المقدام بن معدي كرب الكندي أخرجه الإمام أحمد (١٧١٧٣) ، وأبو داود في السنن (٤٦٠٤) ، والطبراني في مسند الشاميين (١٠٦١).

(٤) وهو قول عكرمة في الأوسط ٢ / ٣١٢ ، وعن أبي هريرة أنه سئل عن الضبع فقال : نعجة من الغنم ، ينظر : مصنف ابن أبي شيبة ٥ / ١١٨ ، والمحلى ٧ / ٤٠٢ ، والسنن الكبرى للبيهقي ٩ / ٣١٩.

٢٠