التفسير الأثري الجامع - ج ٤

الشيخ محمّد هادي معرفة

التفسير الأثري الجامع - ج ٤

المؤلف:

الشيخ محمّد هادي معرفة


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة التمهيد ـ قم
المطبعة: ستاره
الطبعة: ١
ISBN: 978-600-5079-05-0
ISBN الدورة:
978-600-5079-08-1

الصفحات: ٥٦٠

«لتعلم يهود أنّ في ديننا فسحة ؛ إنّي أرسلت بحنيفيّة سمحة» (١).

[٢ / ٤٨٢٥] وأخرج ابن سعد وأحمد وأبو يعلى والطبراني وابن مردويه عن عروة الفقيمي عن أبي عروة قال : كنّا ننتظر النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فخرج رجلا يقطر رأسه من وضوء أو غسل فصلّى ، فلمّا قضى الصلاة ، جعل الناس يسألونه : يا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أعلينا حرج في كذا وكذا؟ أو ما تقول في كذا وكذا؟

فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : لا ، أي لا حرج عليكم في الدين. ثمّ قال : «أيّها الناس ، إنّ دين الله ـ عزوجل ـ في يسر. يقولها ثلاثا» (٢).

[٢ / ٤٨٢٦] وأخرج البزّار عن أنس أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : «يسّروا ولا تعسّروا ، وسكّنوا ولا تنفروا» (٣).

[٢ / ٤٨٢٧] وأخرج أحمد عن أبي ذرّ عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : «الإسلام ذلول لا يركب إلّا ذلولا» (٤).

[٢ / ٤٨٢٨] وأخرج البيهقي من طريق معبد الجهني عن بعض أصحاب النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (هو سلمان) (٥) قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «العلم أفضل من العمل ، وخير الأعمال أوسطها ، ودين الله بين القاسي والغالي ، والحسنة بين السيّئتين لا ينالها [أحد] إلّا بالله ، وشرّ السير الحقحقة» (٦)(٧).

قوله : والحسنة بين السيّئتين أي بين الغلوّ والتقصير ، كما في الحديث التالي :

[٢ / ٤٨٢٩] أخرج الحكيم الترمذي في نوادر الأصول عن الحسن قال : إنّ دين الله وضع دون الغلوّ وفوق التقصير (٨).

[٢ / ٤٨٣٠] وروى العيّاشيّ بالإسناد إلى الحلبي عن بعض أصحابنا عن الإمام أبي جعفر عليه‌السلام قال

__________________

(١) مسند أحمد ٦ : ٢٣٣.

(٢) الطبقات الكبرى ٧ : ٦٨ ؛ أبو يعلى ١٢ : ٢٧٤ / ٦٨٦٣ ؛ كنز العمّال ٣ : ٤٢ ـ ٤٣ / ٥٣٨٩ ؛ القرطبي ٢ : ٣٠١ ؛ الدرّ ١ : ٤٦٣ ؛ مجمع الزوائد ١ : ٦١ ـ ٦٢.

(٣) الدرّ ١ : ٤٦٥ ؛ مجمع الزوائد ١ : ٦١ ؛ ابن كثير ١ : ٢٢٣ ؛ القرطبي ٢ : ٣٠١.

(٤) الدرّ ١ : ٤٦٥ ؛ مسند أحمد ٥ : ١٤٥ ؛ مجمع الزوائد ١ : ٦٢ ؛ كنز العمّال ١ : ٦٦ / ٢٤٤.

(٥) راجع : النهاية لابن الأثير ١ : ٤١٢.

(٦) الحقحقة هو المتعب من السّير. وقيل أن تحمل الدابّة على ما لا تطيقه.

(٧) الدرّ ١ : ٤٦٥ ؛ شعب الإيمان ٣ : ٤٠٢ / ٣٨٨٧ ؛ كنز العمّال ١٠ : ١٣٢ / ٢٨٦٥٨.

(٨) النوادر ١ : ١٦٧ ؛ الدرّ ١ : ٤٦٦.

٥٢١

لابنه أبي عبد الله عليه‌السلام : «يا بنيّ ، عليك بالحسنة بين السيّئتين تمحوهما! قال : وكيف ذاك يا أبه؟ قال : مثل ذلك قول الله عزوجل : (وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخافِتْ بِها وَابْتَغِ بَيْنَ ذلِكَ سَبِيلاً)(١).

فالجهر بصوتك سيّئة. والإخفات به سيّئة. وابتغ بين ذلك سبيلا ، حسنة.

وهكذا قوله تعالى : (وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْها كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُوماً مَحْسُوراً)(٢). وقوله : (وَالَّذِينَ إِذا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكانَ بَيْنَ ذلِكَ قَواماً)(٣). فأسرفوا ، سيّئة. وقتروا ، سيّئة. وكان بين ذلك قواما ، حسنة» ، قال عليه‌السلام : «فعليك بالحسنة بين السيّئتين» (٤).

والمراد من الحسنة بين السيّئتين يمحوهما : أنّ الحسنة إذا وقعت موقعها المطلوب شرعا ، كانت قد أمحت سيّئتين : الغلوّ والتقصير ، لو لم تقع تلك الحسنة موضعها المطلوب.

[٢ / ٤٨٣١] وأخرج ابن عبيد والبيهقي عن إسحاق بن سويد قال : تعبّد عبد الله بن مطرّف فقال له مطرّف : يا عبد الله ، العلم أفضل من العمل ، والحسنة بين السيّئتين ، وخير الأمور أوساطها ، وشرّ السير الحقحققة» (٥).

[٢ / ٤٨٣٢] وأخرج ابن جرير عن قتادة في قوله تعالى : (يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ) قال : فأريدوا لأنفسكم الّذي أراد الله لكم (٦).

[٢ / ٤٨٣٣] وأخرج أبو عبيد والبيهقي عن تميم الداري قال : خذ من دينك لنفسك ، ومن نفسك لدينك حتّى يستقيم بك الأمر على عبادة تطيقها (٧).

[٢ / ٤٨٣٤] وأخرج الطبراني والبيهقي عن سهل بن أبي أمامة بن سهل بن حنيف عن أبيه عن جدّه ، أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : «لا تشدّدوا على أنفسكم ، فإنّما هلك من كان قبلكم بتشديدهم على أنفسهم ، وستجدون بقاياهم في الصوامع والديارات» (٨).

__________________

(١) الإسراء ١٧ : ١١٠.

(٢) الإسراء ١٧ : ٢٩.

(٣) الفرقان ٢٥ : ٦٧.

(٤) العيّاشيّ ٢ : ٣١٩ / ١٧٩ ؛ البحار ٦٨ : ٢١٦ ، مع شيء من التغيير لأجل الإيضاح.

(٥) الدرّ ١ : ٤٦٦ ؛ شعب الإيمان ٣ : ٤٠٢ / ٣٨٨٨.

(٦) الطبري ٢ : ٢١٣ / ٢٣٧٣.

(٧) الدرّ ١ : ٤٦٦ ؛ شعب الإيمان ٣ : ٤٠٣.

(٨) الدرّ ١ : ٤٦٥ ؛ الكبير ٦ : ٧٣ ؛ الأوسط ٣ : ٢٥٨ ؛ شعب الإيمان ٣ : ٤٠١ / ٣٨٨٤ ؛ مجمع الزوائد ١ : ٦٢ ؛ كنز العمّال ٣ : ٤٦ / ٥٤١٢.

٥٢٢

باب القصد في العبادة

وعقد ثقة الإسلام الكليني بابا في الأصول من الكافي الشريف ، ترجمه بباب الاقتصاد في العبادة ، ذكر فيه أحاديث أئمّة أهل البيت عليهم‌السلام وأهمّها النقل عن جدّهم الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بشأن الرفق في الدين وتيسيره دون تعسيره ، نذكرها بالنصّ :

[٢ / ٤٨٣٥] روى بالإسناد إلى الإمام أبي جعفر عليه‌السلام قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «إنّ هذا الدين متين ، فأوغلوا فيه برفق ، ولا تكرّهوا عبادة الله إلى عباد الله ، فتكونوا كالراكب المنبتّ ، الّذي لا سفرا قطع ولا ظهرا أبقى» (١).

قوله : «كالراكب المنبتّ» أي المفرط المجهد في السير بحيث أتعب مركوبه فعطب عن الجري. قال ابن الأثير : يقال للرجل إذا انقطع به في سفره وعطبت راحلته : قد انبتّ ، من البتّ : القطع. وهو مطاوع بتّه وأبتّه. يريد أنّه بقي في طريقه عاجزا عن مقصده ولم يقض وطره ، وقد أعطب ظهره (٢).

[٢ / ٤٨٣٦] وروى بالإسناد إلى الإمام أبي عبد الله عليه‌السلام قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لعليّ عليه‌السلام : «يا عليّ ، إنّ هذا الدين متين ، فأوغل فيه برفق ، ولا تبغّض إلى نفسك عبادة ربّك ، فإنّ المنبتّ ـ يعني المفرط ـ لا ظهرا أبقى ولا أرضا قطع. فاعمل عمل من يرجو أن يموت هرما ، واحذر حذر من يتخوّف أن يموت غدا» (٣).

قال الشريف الرضيّ : ووصف الدين هاهنا مجاز ، والمراد أنّه صعب الظهر ، شديد الأسر (٤) مأخوذ من متن الإنسان ، وهو ما اشتدّ من لحم منكبيه. وإنّما وصفه ـ عليه الصلاة والسّلام ـ بذلك ، لمشقّة القيام بشرائطه ، والأداء لوظائفه. فأمر ـ عليه الصلاة والسّلام ـ أن يدخل الإنسان أبوابه

__________________

(١) الكافي ٢ : ٨٦ / ١.

(٢) النهاية ١ : ٩٢ «مادّة بتّ».

(٣) الكافي ٢ : ٨٧ / ٦.

(٤) الأسر : الشدّ بالقيد المستحكم. قال تعالى : (نَحْنُ خَلَقْناهُمْ وَشَدَدْنا أَسْرَهُمْ) (الإنسان ٧٦ : ٢٨) أي استحكمنا أربطة مفاصلهم.

٥٢٣

مترفّقا ، ويرقى هضابه (١) متدرّجا ، ليستمرّ على تجشّم متاعبه (٢) ، ويمرن على امتطاء مصاعبه (٣). وشبّه ـ عليه الصلاة والسّلام ـ العابد الّذي يحسر منّته ويستنفد طاقته (٤) ، بالمنبت. وهو الّذي يغذّ السّير ويكدّ الظّهر (٥) منقطعا من رفقته ، ومنفردا عن صحابته ، فتحسر مطيّته (٦) ولا يقطع شقّته (٧).

قال : وهذا من أحسن التمثيلات وأوقع التشبيهات!

قال : وممّا يقوّي المراد بهذا الخبر ، ما كشفناه من حقيقة الخبر الآخر عنه ـ عليه الصلاة والسّلام وهو :

[٢ / ٤٨٣٧] فيما رواه بريدة بن الحصيب الأسلمي ، قال : قال ـ عليه الصلاة والسّلام ـ : «عليكم هديا قاصدا ، فإنّه من يشادّ هذا الدين يغلبه» (٨)(٩).

قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «فاعمل عمل من يرجو أن يموت هرما ، واحذر حذر من يتخوّف أن يموت غدا».

قال العلّامة المجلسيّ : أي تأنّ وارفق ولا تستعجل ، فإنّ من يرجو البقاء طويلا لا يسارع في الفعل كثيرا. أو أنّ من يرجو ذلك لا يتعب نفسه بل يداريها ولا ينهكها بكثرة العمل والازدحام فيه. فهذا نهي عن الإفراط.

كما ويجب التحذّر عن التفريط والتقصير في العمل ، وعن التسويف في أداء الواجب. علّه يموت غدا! (١٠)

__________________

(١) هضاب جمع هضبة : الجبل المنبسط على وجه الأرض أو الطويل الممتنع المنفرد. ويقال للأرض المرتفعة المستطيلة : هضبة. ومراد الشريف هنا هو المرتفع الممتنع الصعود.

(٢) أي تحمّل مشاقّه.

(٣) يمرن : يتعوّد ويلين له صعوبة الأمر. وامتطأ الدابّة : ركبها.

(٤) يحسر من أحسر أي أعيا. والمنّة : القوّة. واستنفد وسعه أي استفرغه.

(٥) أغذّ السّير وفي السير. أسرع وألحّ في السير. وكدّ يكدّ الدابّة : أتعبها. والمراد من الظهر هنا الدابّة. أي أتعبها في مداومة السير.

(٦) حسر وحسر : كلّ. والمطيّة الدابّة.

(٧) الشّقّة ـ بالكسر والضمّ : المسافة الّتي يشقّها السائر ، أي يقطعها ويطويها في مسيرته.

(٨) مسند أحمد ٤ : ٤٢٢ و ٥ : ٣٦١ ؛ الحاكم ١ : ٣١٢ ؛ البيهقي ٣ : ١٨ ؛ مجمع الزوائد ١ : ٦٢ ؛ كنز العمّال ٣ : ٢٩ / ٥٣٠٥ ؛ الدرّ ١ : ١٩٣.

(٩) المجازات النبويّة : ٢٦٠ ـ ٢٦١ / ٢٠٥ ، مؤسسة الحلبي بمصر ، و ٢٤٤ ـ ٢٤٥ / ٢٠٧. مؤسسة دار الحديث.

(١٠) نقلا بتصرّف وتلخيص : مرآة العقول ٨ : ١١١.

٥٢٤

[٢ / ٤٨٣٨] وبهذا المعنى أخرج البيهقي عن عبد الله بن عمرو بن العاص عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : «إنّ هذا الدين متين ، فأوغل فيه برفق ، ولا تبغّض إلى نفسك عبادة ربّك ؛ فإنّ المنبتّ لا سفرا قطع ولا ظهرا أبقى. فاعمل عمل امرىء يظنّ أن لن يموت أبدا ، واحذر حذرا تخشى أن تموت غدا» (١).

[٢ / ٤٨٣٩] وهكذا أخرج بالإسناد إلى جابر بن عبد الله عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : «إنّ هذا الدين متين ، فأوغل فيه برفق ولا تبغّض إلى نفسك عبادة الله ، فإنّ المنبتّ لا أرضا قطع ولا ظهرا أبقى» (٢).

[٢ / ٤٨٤٠] وأخرج عن عائشة عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : «إنّ هذا الدين متين ، فأوغل فيه برفق ولا تكرّهوا عبادة الله إلى عباده ، فإنّ المنبتّ لا يقطع سفرا ولا يستبقي ظهرا» (٣).

[٢ / ٤٨٤١] وروى الكليني بالإسناد إلى حفص بن البختري عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : «لا تكرّهوا إلى أنفسكم العبادة» (٤).

قال المجلسي : وحاصله النهي عن الإفراط في التطوّعات ، بحيث تكرهها النفس ولا تكون فيها راغبة ناشطة (٥).

[٢ / ٤٨٤٢] وبالإسناد إلى حنان بن سدير قال : سمعت أبا عبد الله عليه‌السلام يقول : «إنّ الله ـ عزوجل ـ إذا أحبّ عبدا فعمل عملا قليلا جزاه بالقليل الكثير ، ولم يتعاظمه أن يجزي بالقليل الكثير له!» (٦).

قوله : ولم يتعاظمه أي لا يعظم عليه مجازاة الكثير إزاء عمل قليل ، ذلك لأنّ كبر العمل وصغره بالكيفيّة والقصد ، لا بالكمّيّة والحجم.

قال المجلسي : وفي ذلك إشارة إلى أنّ السعي في زيادة كيفيّة العمل أحسن من السعي في زيادة كمّيّته ، وأنّ السعي في تصحيح العقائد والأخلاق أهمّ من السعي في كثرة الأعمال (٧).

[٢ / ٤٨٤٣] وروى بالإسناد إلى أبي بصير عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : «مرّبي أبي وأنا بالطواف ، وأنا

__________________

(١) البيهقي ٣ : ١٩ ؛ شعب الإيمان ٣ : ٤٠ / ٣٨٨٦ ؛ كنز العمّال ٣ : ٤٠ / ٥٣٧٩.

(٢) البيهقي ٣ : ١٨.

(٣) شعب الإيمان ٣ : ٤٠١ ـ ٤٠٢ / ٣٨٨٥ ؛ كنز العمّال ٣ : ٤٠ / ٥٣٧٨.

(٤) الكافي ٢ : ٨٦ / ٢.

(٥) مرآة العقول ٨ : ١١٠.

(٦) الكافي ٢ : ٨٦ / ٣.

(٧) مرآة العقول ٨ : ١١٠.

٥٢٥

حدث (١) وقد اجتهدت في العبادة ، فرآني وأنا أتصابّ عرقا (٢). فقال لي : يا جعفر ، يا بنيّ ، إنّ الله إذا أحبّ عبدا أدخله الجنّة ورضي منه باليسير» (٣).

[٢ / ٤٨٤٤] وبالإسناد إلى ابن أبي عمير عن غير واحد عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : «اجتهدت في العبادة وأنا شابّ. فقال لي أبي : يا بنيّ ، دون ما أراك تصنع ؛ فإنّ الله ـ عزوجل ـ إذا أحبّ عبدا ، رضي منه باليسير» (٤).

قوله : دون ما أراك تصنع. قال المجلسي : دون ، منصوب بفعل مقدّر ، أي اصنع دون الّذي أراك فيه (٥).

وقوله ـ في الحديث السابق ـ : «إذا أحبّ عبدا» .. قال المجلسي : أي بحسن العقائد وصدق النيّات ، ورعاية الخلق الكريم في الأعمال والعبادات. ومنها : رعاية تقوى الله (٦).

* * *

[٢ / ٤٨٤٥] وروى بالإسناد إلى زرارة عن أبي جعفر عليه‌السلام قال : «أحبّ الأعمال إلى الله ـ عزوجل ـ ما داوم عليه العبد وإن قلّ» (٧).

[٢ / ٤٨٤٦] وعن نجبة عنه عليه‌السلام قال : «ما من شيء أحبّ إلى الله ـ عزوجل ـ من عمل يداوم عليه وإن قلّ» (٨).

[٢ / ٤٨٤٧] وعن معاوية بن عمّار عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : «كان عليّ بن الحسين ـ صلوات الله عليهما ـ يقول : إنّي لأحبّ أن أداوم على العمل وإن قلّ» (٩).

[٢ / ٤٨٤٨] وعن محمّد بن مسلم عن أبي جعفر عليه‌السلام قال : «كان عليّ بن الحسين ـ صلوات الله عليهما ـ يقول : إنّي لأحبّ أن أقدم على ربّي وعملي مستو» (١٠). أي لا إفراط فيه ولا تفريط.

[٢ / ٤٨٤٩] وعن سليمان بن خالد قال : قال أبو عبد الله عليه‌السلام : «إيّاك أن تفرض على نفسك فريضة

__________________

(١) الحدث : الشابّ.

(٢) من الصبّ وهو الرشف الغزير.

(٣) الكافي ٢ : ٨٦ / ٤ ؛ الوسائل ١ : ١٠٩ / ٣.

(٤) الكافي ٢ : ٨٧ / ٥ ؛ الوسائل ١ : ١٠٨ / ١.

(٥) مرآة العقول ٨ : ١١١.

(٦) المصدر : ١١٠. مع شيء من التصرّف.

(٧) الكافي ٢ : ٨٢ / ٢.

(٨) المصدر / ٣.

(٩) المصدر / ٤.

(١٠) المصدر : ٨٣ / ٥.

٥٢٦

فتفارقها اثني عشر هلالا!» (١).

[٢ / ٤٨٥٠] وروى ابن بابويه الصدوق وأبو جعفر الكليني ، كلاهما بالإسناد إلى الحسن بن محبوب عن جميل بن صالح عن محمّد بن مروان عن أبي عبد الله عليه‌السلام في حديث بشأن صوم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : «كان أبي ـ أبو جعفر الباقر عليهم‌السلام ـ يقول : ما من أحد أبغض إلى الله ـ عزوجل ـ (٢) من رجل يقال له : كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يفعل كذا وكذا ، فيقول : لا يعذّبني الله على أن أجتهد في الصلاة والصوم ، كأنّه يرى أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ترك شيئا من الفضل عجزا عنه!» (٣). أي يجتهد في الزيادة على ما فعله رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بزعم : أنّ الإكثار في العبادة مندوب إليه كيفما كان!

[٢ / ٤٨٥١] ولعلّه نظرا لما رواه أبو جعفر الصفّار بالإسناد إلى أبي هاشم عن عنبسة بن نجاد العابد قال : سمعت جعفر بن محمّد عليه‌السلام ـ وذكرت عنده الصلاة ـ فقال : «إنّ في كتاب عليّ عليه‌السلام الّذي أملاه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : أنّ الله لا يعذّب على كثرة الصلاة والصيام ، ولكن يزيده جزاء». وفي نسخة : «يزيده خيرا» (٤).

[٢ / ٤٨٥٢] وما رواه الحسن بن حمزة العلوي بالإسناد إلى مسعدة بن صدقة عن الصادق عليه‌السلام عن آبائه عليهم‌السلام قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «الصلاة خير موضوع ، فمن شاء استقلّ ومن شاء استكثر».

رواه المجلسي عن كتاب الإمامة والتبصرة (٥).

[٢ / ٤٨٥٣] ولكن روى أبو جعفر الطوسي بالإسناد إلى الأعمش عن تميم بن سلمة عن أبي عبيدة عن عبد الله بن مسعود قال : «اقتصاد في سنّة ، خير من اجتهاد في بدعة. ثمّ قال : تعلّموا ممّن علم فعمل» (٦). يعني رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الّذي هو صاحب الرسالة. قال تعالى : (لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كانَ يَرْجُوا اللهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللهَ كَثِيراً)(٧). وقد نهى ـ كما مرّ ـ الإجهاد في العبادة ،

__________________

(١) المصدر / ٦.

(٢) في رواية الكافي : «أبغض إليّ».

(٣) الفقيه ٢ : ٤٨ / ٢٠٩ ؛ الكافي ٤ : ٩٠ / ٣.

(٤) بصائر الدرجات : ١٦٥ (الجزء الرابع : ١١) ؛ البحار ٧٩ : ٣٠٨ / ٨.

(٥) البحار ٧٩ : ٣٠٨ / ٩.

(٦) الأمالي ٢ : ٢٧٠ / ٢٢ ، الجزء العاشر. ورواه صاحب الوسائل (١ : ١١١ / ٩) بالإسناد إلى عبد الله عن عليّ عليه‌السلام.

(٧) الأحزاب ٣٣ : ٢١.

٥٢٧

بحيث يملّ أو يضني ويعقّب : أن لا سفرا قطع ولا ظهرا أبقى.

[٢ / ٤٨٥٤] وهكذا روى أبو جعفر الكليني بالإسناد إلى سلّام بن المستنير عن أبي جعفر عليه‌السلام قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «ألا إنّ لكلّ عبادة شرّة ، ثمّ تصير إلى فترة (١). فمن صارت شرّة عبادته إلى سنّتي فقد اهتدى ، ومن خالف سنّتي فقد ضلّ وكان عمله في تبار!» (٢)

[٢ / ٤٨٥٥] قال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «أما إنّي أصلّي وأنام ، وأصوم وأفطر ، وأضحك وأبكي. فمن رغب عن منهاجى وسنّتي فليس منّي» (٣).

[٢ / ٤٨٥٦] وقال الإمام أمير المؤمنين عليه‌السلام : «إنّ للقلوب شهوة وإقبالا وإدبارا ، فأتوها من قبل شهوتها وإقبالها ، فإنّ القلب إذا أكره عمي» (٤).

[٢ / ٤٨٥٧] وقال عليه‌السلام : «قليل مدوم عليه خير من كثير مملول منه» (٥).

[٢ / ٤٨٥٨] وقال : «قليل تدوم عليه أرجى من كثير مملول منه» (٦).

[٢ / ٤٨٥٩] وقال : «إذا أضرّت النوافل بالفرائض فارفضوها» (٧).

[٢ / ٤٨٦٠] وقال : «لا ترى الجاهل إلّا مفرطا أو مفرّطا» (٨)

[٢ / ٤٨٦١] وقال : «إضاعة الفرصة غصّة» (٩).

[٢ / ٤٨٦٢] وفي وصيّته ـ صلوات الله عليه ـ لابنه الحسن عليه‌السلام : «واقتصد ـ يا بنيّ في معيشتك ، واقتصد في عبادتك ، وعليك فيها بالأمر الدائم الّذي تطيقه».

رواه الشيخ في الأمالي بالإسناد إلى أبي معمر عن أبي بكر بن عيّاش عن الفجيع العقيلي عن الإمام الحسن بن علي عليهما‌السلام (١٠).

__________________

(١) الشرّة : النشاط وشدّة الرغبة.

(٢) وفي نسخة : «في تباب». وكلاهما بمعني الخسران والدمار.

(٣) الكافي ٢ : ٨٦ / ١ ؛ الوسائل ١ : ١٠٩ / ٥ ـ ٢٦٨ ؛ البحار ٦٨ : ٢٠٩ (باب الاقتصاد في العبادة والمداومة عليها ، وفضل التوسّط فيها والاستواء).

(٤) نهج البلاغة ، قصار الحكم : ١٩٣.

(٥) المصدر ، قصار الحكم : ٤٤٤.

(٦) المصدر ، قصار الحكم : ٢٧٨.

(٧) المصدر ، قصار الحكم : ٢٧٩.

(٨) المصدر ، قصار الحكم : ٧٠.

(٩) المصدر ، قصار الحكم : ١١٨.

(١٠) الأمالي ١ : ٧ / ٨ ، الجزء الأوّل ؛ البحار ٦٨ : ٢١٤ / ٩.

٥٢٨

[٢ / ٤٨٦٣] وروى ابن بابويه الصدوق بالإسناد إلى هشام بن سالم عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : «العمل الدائم القليل على اليقين ، أفضل عند الله من العمل الكثير على غير يقين» (١).

إلى غيرها من أحاديث كريمة ، جمعها وشرحها العلّامة الكبير المولى محمّد باقر المجلسي في بحار أنواره ، في باب ترجمه بباب «الاقتصاد في العبادة والمداومة عليها. وفعل الخير وتعجيله. وفضل التوسّط في جميع الأمور واستواء العمل» (٢). فلله درّه وعليه أجره.

* * *

وعقد البخاري في كتاب الإيمان بابا ترجمه بقوله : باب الدين يسر. وقول النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «أحبّ الدين إلى الله الحنيفيّة السمحة» (٣).

قال ابن حجر في الشرح : أي أحبّ خصال الدين ؛ لأنّ خصال الدين كلّها محبوبة ، لكن ما كان منها سمحا أي سهلا فهو أحبّ إلى الله.

[٢ / ٤٨٦٤] قال : ويدلّ عليه ما أخرجه أحمد بسند صحيح من حديث أعرابيّ لم يسمّه : أنّه سمع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول : «خير دينكم أيسره» (٤).

قال : أو الدين جنس ، أي أحبّ الأديان إلى الله الحنيفيّة. والمراد بالأديان الشرائع الماضية. والحنيفيّة ملّة إبراهيم. والحنيف في اللغة من كان على ملّة إبراهيم. وسمّي إبراهيم حنيفا لميله عن الباطل إلى الحقّ ؛ لأنّ أصل الحنف الميل. والسمحة : السهلة ، أي أنّها مبنيّة على السهولة ، لقوله تعالى : (هُوَ اجْتَباكُمْ وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْراهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ)(٥).

قال : وهذا الحديث المعلّق (٦) لم يسنده المؤلّف في هذا الكتاب ، لأنّه ليس على شرطه ، نعم

__________________

(١) علل الشرائع ٢ : ٢٤٦ ؛ البحار ٦٨ : ٢١٤ / ١٠.

(٢) البحار ٦٨ : ٢٠٩ ـ ٢٢٧.

(٣) البخاري ١ : ١٦.

(٤) مسند أحمد ٣ : ٤٧٩. نقلا عن أبي قتادة عن الأعرابي ؛ مجمع الزوائد ١ : ٦١ باب قوله : خير دينكم أيسره. قال الهيثمي رواه أحمد ورجاله رجال الصحيح ؛ ابن كثير ١ : ٢٢٣.

(٥) الحجّ ٢٢ : ٧٨.

(٦) أي حديث «أحبّ الدين إلى الله الحنيفيّة السمحة». وسمّي معلّقا لحذف الراوي الأوّل من الإسناد. (مقياس الهداية للمامقاني ١ : ٢١٥).

٥٢٩

وصله في كتاب الأدب المفرد ، وكذا وصله أحمد بن حنبل وغيره من طريق محمّد بن إسحاق عن داوود بن الحصين عن عكرمة عن ابن عبّاس (١). وإسناده حسن ، استعمله المؤلف في الترجمة ، لكونه متقاصرا عن شرطه ، وقوّاه بما دلّ عن معناه ، لتناسب السهولة واليسر (٢).

[٢ / ٤٨٦٥] وأخرج بالإسناد إلى أبي هريرة عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : «إنّ الدين يسر ولن يشادّ الدين أحد إلّا غلبه ، فسدّدوا وقاربوا وأبشروا ، واستعينوا بالغدوة والرّوحة وشيء من الدّلجة» (٣).

قوله : «ولن يشادّ الدين أحد إلّا غلبه». قال ابن حجر : المشادّة ـ بالتشديد ـ المغالبة ، يقال : شادّه يشادّه مشادّة إذا قاواه. والمعنى : لا يتعمّق أحد في الأعمال الدينيّة ويترك الرفق إلّا عجز وانقطع فيغلب. قال ابن المنير : في هذا الحديث علم من أعلام النبوّة ، فقد رأينا ورأى الناس قبلنا أنّ كلّ متنطّع في الدين ينقطع .. وليس المراد منع طلب الأكمل في العبادة ، فإنّه من الأمور المحمودة ، بل منع الإفراط المؤدّي إلى الملال ، أو المبالغة في التطوّع المفضي إلى ترك الأفضل أو إخراج الفرض عن وقته ، كمن بات يصلّي الليل كلّه ويغالب النوم إلى أن غلبته عيناه في آخر الليل فنام عن صلاة الصبح في الجماعة أو إلى أن خرج الوقت المختار أو إلى أن طلعت الشمس فخرج وقت الفريضة.

[٢ / ٤٨٦٦] وفي حديث محجن بن الأدرع عند أحمد : «إنّكم لن تنالوا هذا الأمر بالمغالبة ، وخير دينكم اليسرة» (٤).

قال ابن حجر : وقد يستفاد من هذا الإشارة إلى الأخذ بالرخصة الشرعيّة ، فإنّ الأخذ بالعزيمة ، موضع الرخصة ، تنطّع ، كمن يترك التيمّم عند العجز عن استعمال الماء ، فيفضي به استعماله إلى حصول الضرر (٥).

قوله : «فسدّدوا» أي ألزموا السداد وهو الصواب من غير إفراط أو تفريط. قال أهل اللغة : السداد ، التوسّط في العمل.

قوله : «وقاربوا» أي إن لم تستطيعوا الأخذ بالأكمل فاعملوا بما يقرب منه.

__________________

(١) مسند أحمد ١ : ٢٣٦. وسيأتي.

(٢) فتح الباري ١ : ٨٦ ـ ٨٧.

(٣) البخاري ١ : ١٦.

(٤) مسند أحمد ٥ : ٣٢. وسنذكره تفصيلا.

(٥) فتح الباري ١ : ٨٧ ـ ٨٨.

٥٣٠

قوله : «وأبشروا» أي بالثواب على العمل الدائم وإن قلّ. قال ابن حجر : والمراد بالتبشير هنا تبشير من عجز عن العمل بالأكمل ، بأنّ العجز إذا لم يكن من صنيعه ، لا يستلزم نقص أجره ، وأبهم المبشّر به تعظيما له وتفخيما (١).

قوله : «واستعينوا بالغدوة والرّوحة وشيء من الدّلجة» أي استعينوا على مداومة العبادة بإيقاعها في الأوقات المنشّطة. والغدوة ـ بالضمّ ـ البكرة أو ما بين صلاة الغداة وطلوع الشمس ، كما قال الجوهري (٢). والغدوة ـ بالفتح ـ سير أوّل النهار ، نقيض الرّوحة : السير بعد العصر ، والدّلجة ـ بضمّ أوّله وفتحه وإسكان اللام ـ سير آخر الليل.

وأنشدوا للإمام أمير المؤمنين عليه‌السلام :

اصبر على السّير والإدلاج في السّحر

وفي الرّواح على الحاجات والبكر

فجعل الإدلاج في السّحر (٣).

قال ابن حجر : وهذه الأوقات أطيب أوقات المسافر ، وكأنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم خاطب مسافرا إلى مقصد ، فنبّهه على أوقات نشاطه ، لأنّ المسافر إذا سافر الليل والنهار جميعا ، عجز وانقطع. وإذا تحرّى السير في هذه الأوقات المنشّطة ، أمكنته المداومة من غير مشقّة.

قال : وحسن هذه الاستعارة ، أنّ الدنيا ـ في الحقيقة ـ دار نقلة إلى الآخرة ، وأنّ هذه الأوقات بخصوصها أروح ما يكون فيها البدن للعبادة (٤).

[٢ / ٤٨٦٧] أخرج البخاري بالإسناد إلى ابن أبي ذئب عن سعيد المقبريّ عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «لن ينجّي أحدا منكم عمله! قالوا : ولا أنت ، يا رسول الله؟ قال : ولا أنا ، إلّا أن يتغمّدني الله برحمة. ثمّ قال : سدّدوا وقاربوا واغدوا وروحوا وشيء من الدّلجة ، والقصد القصد ، تبلغوا» (٥).

قال ابن حجر : «القصد القصد» بالنصب فيهما على الحثّ والإغراء. والقصد : الأخذ بالأمر

__________________

(١) المصدر ١ : ٨٨.

(٢) الصحاح ٦ : ٢٤٤٤. «مادة غدا» ؛ اللسان ١٥ : ١١٦ ؛ النهاية ٣ : ٣٤٦.

(٣) النهاية لابن الأثير ٢ : ١٢٩ ؛ اللسان ٢ : ٢٧٣.

(٤) فتح الباري ١ : ٨٨.

(٥) البخاري ٨ : ١٢٢ ، كتاب الرقاق ، باب القصد والمداومة على العمل ؛ مسند أحمد ٢ : ٥١٤ و ٥٣٧.

٥٣١

الوسط.

قال : وهذه الأحاديث تضمّنت الترغيب في القيام والصيام والجهاد. فأراد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يبيّن أنّ الأولى للعامل بذلك أن لا يجهد نفسه بحيث يعجز وينقطع ، بل يعمل بتلطّف وتدريج ليدوم عمله ولا ينقطع (١).

[٢ / ٤٨٦٨] وأخرج البخاري بالإسناد إلى أبي هريرة عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : «إنّ الدين يسر ، ولن يشادّ الدين أحد إلّا غلبه ، فسدّدوا وقاربوا وأبشروا ، واستعينوا بالغدوة والروحة وشيء من الدّلجة» (٢).

[٢ / ٤٨٦٩] وأخرج مسلم بالإسناد إلى أبي موسى عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : «يسّروا ولا تعسّروا ، وبشّروا ولا تنفّروا» (٣).

[٢ / ٤٨٧٠] وبالإسناد إلى أنس عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : «يسّروا ولا تعسّروا وسكّنوا ولا تنفّروا» (٤).

[٢ / ٤٨٧١] وأخرج البيهقي عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة ، كانت عندها امرأة من بني أسد ، فدخل النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقال : من هذه؟ قالت : فلانة ، لا تنام الليل! فذكرت من صلاتها وقيامها.

فقال النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «مه ، عليكم بما تطيقون ، فو الله لا يملّ الله حتّى تملّوا. ثمّ قال : أحبّ الدين إلى الله ، الّذي يدوم عليه صاحبه». (٥) أي لا يجهد نفسه حتّى ينقطع عن العمل رأسا ، فلا يمكنه التداوم عليه!

[٢ / ٤٨٧٢] وأخرج عن أنس بن مالك قال : دخل النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم المسجد ، فإذا حبل ممدود بين ساريتين! فقال : ما هذا؟ فقالوا : هذا الحبل لزينب تصلّي ، فاذا فترت (أي كسلت) تعلّقت به. فقال النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «حلّوه. ليصلّ أحدكم بنشاطه ، فإذا فتر فليقعد» (٦). قال البيهقي : ورواه البخاري ومسلم في الصحيح.

__________________

(١) فتح الباري ١ : ٨٨.

(٢) البخاري ١ : ١٦ ، باب الدين يسر ، وقول رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : أحبّ الدين إلى الله الحنيفيّة السمحة. وراجع : عوالي اللئالي لأبن أبي جمهور ١ : ٣٨١ / ٤.

(٣) مسلم ٥ : ١٤١ ، كتاب الجهاد والسير ، باب في الأمر بالتيسير وترك التنفير.

(٤) المصدر.

(٥) البيهقي ٣ : ١٧.

(٦) المصدر : ١٨.

٥٣٢

[٢ / ٤٨٧٣] وفي رواية أخرى : أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم دخل المسجد فرأى حبلا ممدودا بين ساريتين ، فقال : ما هذا الحبل؟ قالوا : لفلانة تصلّي فإذا غلبت تعلّقت به! فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «لتصلّي ما عقلت ، فإذا خشيت أن تغلب فلتنم (١)».

[٢ / ٤٨٧٤] ومن هذا القبيل ما أخرجه أحمد بالإسناد إلى عبد الله بن سقيق عن رجاء بن أبي رجاء الباهلي عن محجن بن الأدرع قال : قال رجاء : أقبلت مع محجن ذات يوم حتّى انتهينا إلى مسجد البصرة فوجدنا بريدة الأسلمي على باب من أبواب المسجد جالسا. قال : وكان في المسجد رجل يقال له : سكبة ، يطيل الصلاة. فلمّا انتهينا إلى باب المسجد وعليه بريدة قال ـ وكان صاحب مزاحات ـ : يا محجن ، ألا تصلّي كما يصلّي سكبة! قال رجاء : فلم يردّ عليه محجن شيئا ورجع. قال : وقال لي محجن : إنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أخذ بيدي فانطلق يمشي حتّى صعد أحدا ، فأشرف على المدينة فقال : ويل أمّها من قرية يتركها أهلها كأعمر ما تكون ... ثمّ انحدر حتّى إذا كنّا بسدّة المسجد ، رأى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم رجلا يصلّي في المسجد ، ويسجد ويركع ، ويسجد ويركع! قال : فقال لي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ : من هذا؟ قال : فأخذت أطريه له. قال : قلت : يا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم هذا فلان ، وهذا وهذا!! قال : اسكت ، لا تسمعه فتهلكه. قال : ثمّ انطلق يمشي حتّى إذا كنّا عند حجرة ، لكنّه رفض يدي ثمّ قال : «إنّ خير دينكم أيسره ، إنّ خير دينكم أيسره ، إنّ خير دينكم أيسره» (٢).

[٢ / ٤٨٧٥] وفي رواية أخرى : قال محجن : قلت : يا نبيّ الله ، هذا فلان وهذا من أحسن أهل المدينة ، أو قال : أكثر أهل المدينة صلاة! قال : لا تسمعه فتهلكه ، ثمّ قال ـ مرّتين أو ثلاثا ـ : «إنّكم أمّة أريد بكم اليسر» (٣).

[٢ / ٤٨٧٦] وأخرج عن أبي أمامة قال : خرجنا مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم سريّة من سراياه ، فمرّ رجل بغار فيه شيء من ماء ، فحدّث نفسه بأن يقيم في ذلك الغار فيقوته ما كان فيه من ماء ويصيب ما حوله من البقل ، ويتخلّى من الدنيا! ثمّ قال : لو أتيت نبيّ الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فذكرت ذلك له ، فإن أذن لي فعلت وإلّا لم أفعل ، فأتاه فقال : يا نبيّ الله ، إنّي مررت بغار فيه ما يقوتني من الماء والبقل ، فحدّثتني نفسي بأن أقيم فيه وأتخلّى من الدنيا!

__________________

(١) المصدر : ١٩.

(٢) مسند أحمد ٥ : ٣٢.

(٣) المصدر.

٥٣٣

فقال النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «إنّي لم أبعث باليهوديّة ولا بالنصرانيّة (١) ، ولكنّي بعثت بالحنيفيّة السمحة ، والّذي نفس محمّد بيده ، لغدوة أو روحة في سبيل الله خير من الدنيا وما فيها. ولمقام أحدكم في الصفّ خير من صلاته ستّين سنة» (٢).

[٢ / ٤٨٧٧] وأخرج بالإسناد إلى عكرمة عن ابن عبّاس قال : «قيل لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : أيّ الأديان أحبّ إلى الله؟ قال : الحنيفيّة السمحة» (٣).

[٢ / ٤٨٧٨] وأخرج عن أبي قتادة عن الأعرابي الّذي سمع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول : «إنّ خير دينكم أيسره ، إنّ خير دينكم أيسره» (٤).

ملحوظة

المستفاد من حديث الاستعانة بالغدوة والرّوحة والدلجة (الآنف) (٥) ، جواز العبادة بل الحثّ عليها في هذه الأوقات ، لأنّها أوقات منشّطة ـ كما قال ابن حجر ـ فليختارها المتطوّع بالعبادة ، فإنّها أروح له وأرغب وأنشط.

وهذا هو الموافق لنصّ القرآن الكريم : (وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَأَدْبارَ السُّجُودِ)(٦). (وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعاً وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ وَلا تَكُنْ مِنَ الْغافِلِينَ)(٧).

(وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ)(٨).

(فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيها بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ. رِجالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللهِ وَإِقامِ الصَّلاةِ وَإِيتاءِ الزَّكاةِ يَخافُونَ يَوْماً تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصارُ)(٩).

__________________

(١) أي الحاضرتين وفيهما العزلة والرهبانيّة!

(٢) مسند أحمد ٥ : ٢٦٦.

(٣) المصدر ١ : ٢٣٦.

(٤) المصدر ٣ : ٤٧٩.

(٥) فيما نقلناه عن البخاري ١ : ١٦. وشرحه ابن حجر في الشرح (فتح الباري ١ : ٨٧ ـ ٨٨).

(٦) سورة ق ٥٠ : ٣٩ ـ ٤٠.

(٧) الأعراف ٧ : ٢٠٥.

(٨) الكهف ١٨ : ٢٨.

(٩) النور ٢٤ : ٣٦ ـ ٣٧.

٥٣٤

(وَاذْكُرْ رَبَّكَ كَثِيراً وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكارِ)(١).

(إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْراقِ)(٢).

(وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكارِ)(٣).

(فَأَوْحى إِلَيْهِمْ أَنْ سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيًّا)(٤).

وقد عرفت معنى الغداة (باكورة النهار) الشاملة لما بعد صلاة الفجر حتّى طلوع الشمس ، وحين إشراقها بعد الطلوع.

والآصال جمع أصيل : الوقت بين العصر والمغرب.

والعشيّ : أوّل الظلام ، أو آخر النهار. وعن مجاهد : العشيّ ـ هنا ـ من حين زوال الشمس إلى غروبها. كما قال الشاعر :

فلا الظلّ من برد الضّحى يستطيعه

ولا الفيء من برد العشيّ يذوق (٥)

وكذا يقال : العشيّ للوقت من المغرب إلى العتمة. ومن ثمّ يقال : عشاءان ، غير أنّ المراد في الآية هو المعنى الأوّل ، حسب السياق.

وأمّا وقت السحر فناهيك قوله تعالى : (الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ وَالْقانِتِينَ وَالْمُنْفِقِينَ وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحارِ)(٦).

وقوله : (وَبِالْأَسْحارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ)(٧).

* * *

فتلك أوقات ثلاثة جاء المدح والترغيب فيها للعبادة والصلاة والاستغفار والاجتهاد في التقرّب إليه سبحانه.

فيا ترى كيف يرى لفيف من الفقهاء المنع من التنفّل بالصلاة والعبادة ، بعد صلاة الفجر قبل الطلوع ، وحين إشراق الشمس ، وعند الأصيل؟ يرون أنّ الشمس تطلع بين قرني الشيطان ، كما

__________________

(١) آل عمران ٣ : ٤١.

(٢) سورة ص ٣٨ : ١٨.

(٣) غافر ٤٠ : ٥٥.

(٤) مريم ١٩ : ١١.

(٥) مجمع البيان ٢ : ٤٣٩ ـ ٤٤٠.

(٦) آل عمران ٣ : ١٧.

(٧) الذاريات ٥١ : ١٨.

٥٣٥

تغرب بين قرنيه! ومن ثمّ فالصلاة إبّان طلوعها وبعد الطلوع ، وكذا إبّان غروبها وبعد الغروب ، قد تتراءى سجودا للشيطان ، كما كان يفعله عبدة الشمس عند الطلوع وعند الغروب!! يا لها من سذاجة رأي؟ فضلا عن غرابة تلكم الأحاديث ونكارتها؟!

[٢ / ٤٨٧٩] رووا عن ابن عبّاس أنّه قال : شهد عندي رجال مرضيّون فيهم عمر ، وأرضاهم عندي عمر ، أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم نهى عن الصلاة ، أو قال : لا صلاة بعد الصبح حتّى تشرق الشمس أو تطلع وبعد العصر حتّى تغرب الشمس. رواه البخاري في الصحيح وأخرجه مسلم وغيرهما (١).

[٢ / ٤٨٨٠] ورووا عن عمرو بن عبسة (صحابيّ نزل الشام) عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : «صلّ صلاة الصبح ، ثمّ اقصر عن الصلاة حتّى تطلع الشمس حتّى ترتفع ، فإنّها تطلع حين تطلع بين قرني شيطان ، وحينئذ يسجد لها الكفّار. ثمّ صلّ حتّى يستقلّ الظلّ بالرمح ، ثمّ اقصر عن الصلاة ، فإنّ جهنم حينئذ تسجر ، فإذا أقبل الفيء فصلّ حتّى تصلّي العصر ، ثمّ اقصر عن الصلاة حتّى تغرب الشمس ، فإنّها تغرب بين قرني شيطان ، وحينئذ تسجد لها الكفّار» (٢). ورواه مسلم في الصحيح (٣).

[٢ / ٤٨٨١] ورووا عن أبي عبد الله الصنابحي (٤) أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : «إنّ الشمس تطلع ومعها قرن الشيطان ، فإذا ارتفعت فارقها ، ثمّ إذا استوت قارنها ، فإذا زالت فارقها ، فإذا دنت للغروب فارقها ، فإذا غربت فارقها. ونهى عن الصلاة في تلك الساعات» (٥).

ومن الغريب تأكيد مثل معاوية على المنع من الصلاة حينذاك :

[٢ / ٤٨٨٢] روى البيهقي بالإسناد إلى أبي التياح قال : سمعت حمران بن أبان يحدّث عن معاوية قال : إنّكم لتصلّون صلاة ، لقد صحبنا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فما رأيناه يصلّيها ، ولقد نهى عنهما ، يعني الركعتين بعد العصر (٦). ورواه البخاري في الصحيح (٧).

__________________

(١) راجع : البيهقي ٢ : ٤٥١ ـ ٤٥٥. (جماع أبواب الساعات الّتي تكره فيها صلاة التطوّع) ، والبخاري ١ : ١٤٥ ومسلم ٢ : ٢٠٨ والمصنّف لابن أبي شيبة ٢ : ٢٤٥ / ١٠.

(٢) البيهقي ٢ : ٤٥٤ ـ ٤٥٥.

(٣) مسلم ٢ : ٢٠٨ ـ ٢٠٩.

(٤) هو عبد الرحمان بن عسيلة. رحل إلى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فوجده قد مات قبله بخمس ليال أو ستّ. ثمّ نزل الشام. روى عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مرسلا. (تهذيب التهذيب ٦ : ٢٢٩).

(٥) البيهقي ٢ : ٤٥٤.

(٦) المصدر : ٤٥٢ ـ ٤٥٣.

(٧) البخاري ١ : ١٤٥.

٥٣٦

[٢ / ٤٨٨٣] وعنه عن معبد الجهني قال : خطب معاوية فقال : ألا ، ما بال أقوام يصلّون صلاة ، لقد صحبت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فما رأيناه يصلّيها ، وقد سمعناه ينهى عنها يعني الركعتين بعد العصر (١).

[٢ / ٤٨٨٤] ورووا عن ابن عبّاس أنّه قال : كنت أضرب الناس مع عمر بن الخطّاب على الركعتين بعد العصر (٢).

[٢ / ٤٨٨٥] ورووا عنه أيضا أنّه قال : لقد رأيت عمر بن الخطّاب يضرب الناس على الصلاة بعد العصر ، ثمّ قال ابن عبّاس : صلّ إن شئت ما بينك وبين أن تغيب الشمس (٣).

قال ابن حزم الأندلسي : هم يقولون في الصاحب يروي الحديث ثمّ يخالفه : لو لا أنّه كان عنده علم بنسخه ، ما خالفه ، فيلزمهم أن يقولوا هاهنا : لو لا أنّه كان عند ابن عبّاس علم أثبت من فعل عمر ، ما خالف ما كان عليه عمر.

[٢ / ٤٨٨٦] قال : وروينا بالإسناد إلى شعبة عن أبي شعيب عن طاووس قال : سئل ابن عمر عن الركعتين بعد العصر؟ فرخّص فيهما! (٤)

قال : هلّا قالوا : إنّ ابن عمر لم يكن ليخالف أباه لو لا فضل علم كان عنده أثبت من فعل أبيه! (٥)

قال : وقالوا : قد كان عمر يضرب الناس على الصلاة بعد العصر ، وابن عبّاس معه .. قلنا : لا حجّة في أحد دون رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، لا في عمر ولا في غيره ، بل هو صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الحجّة على عمر وغيره.

قال : وقد خالف عمر في ذلك طوائف من الصحابة.

[٢ / ٤٨٨٧] روى بالإسناد إلى عروة بن الزبير عن تميم الداري أنّه ركع ركعتين بعد العصر ، فأتاه عمر فضربه بالدرّة! فأشار إليه تميم : أن اجلس فجلس عمر حتّى فرغ تميم ، فقال لعمر : لم ضربتني؟ فقال له عمر : لأنّك ركعت هاتين الركعتين وقد نهيت عنهما! فقال له تميم : إنّي قد صلّيتهما مع من هو خير منك : رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم! فاعتذر إليه عمر في كلام رقيق.

[٢ / ٤٨٨٨] وعن زيد بن خالد الجهني : أنّ عمر رآه يصلّي بعد العصر ركعتين ـ وعمر خليفة ـ فضربه بالدرّة وهو يصلّي كما هو! فلمّا انصرف قال له زيد : يا أمير المؤمنين ، فو الله لا أدعهما أبدا

__________________

(١) البيهقي ٢ : ٤٥٣.

(٢) المصدر : ٤٥٧.

(٣) المحلّى لابن حزم ٢ : ٢٧٥.

(٤) المصدر.

(٥) المصدر ٣ : ٢.

٥٣٧

بعد إذ رأيت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يصلّيهما! فجلس إليه عمر واعتذر له كما اعتذر لتميم الداري (١).

[٢ / ٤٨٨٩] قال ابن حزم : وروينا عن عبد الرزّاق عن ابن جريج عن عطاء بن أبي رباح : أنّ عائشة وأمّ سلمة كانتا تركعان ركعتين بعد العصر.

[٢ / ٤٨٩٠] وبالإسناد إلى سعيد بن جبير قال : كانت عائشة تصلّي ركعتين بعد العصر وهي قائمة. وكانت ميمونة تصلّي أربعا وهي قاعدة. فسئلت عن ذلك ، فقالت عن عائشة : إنّها شابّة وأنا عجوز ، فأصلّي أربعا بدل ركعتيها.

[٢ / ٤٨٩١] وروى هشام عن أبيه عروة قال : كان الزبير وعبد الله ابنه يصلّيان بعد العصر ركعتين.

[٢ / ٤٨٩٢] وعن عبد الرزّاق عن معمر عن هشام قال : كنّا نصلّي مع ابن الزبير العصر في المسجد الحرام ، فكان يصلّي بعد العصر ركعتين ، وكنّا نصلّيهما معه.

[٢ / ٤٨٩٣] وعن السائب بن يزيد قال : سبّح المنكدر (٢) بعد العصر فضربه عمر!

قال ابن حزم : السائب والمنكدر صاحبان لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (٣)

[٢ / ٤٨٩٤] وعن طاووس قال : إنّ أبا أيّوب الأنصاري كان يصلّي قبل خلافة عمر ركعتين بعد العصر ، فلمّا استخلف عمر تركهما ، فلمّا توفّي عمر ركعهما! فقيل له : ما هذا؟ فقال : إنّ عمر كان يضرب الناس عليهما!

قال ابن حزم : في هذا الحديث بيان واضح أنّ أبا بكر وعثمان كانا يجيزان الركوع بعد العصر!

[٢ / ٤٨٩٥] وعن عاصم بن ضمرة قال : إنّ عليّ بن أبي طالب عليه‌السلام كان في سفر فصلّى العصر ، ثمّ دخل فسطاطه فصلّى ركعتين.

[٢ / ٤٨٩٦] وعن شعبة عن أبي إسحاق السّبيعي قال : سألت أبا جحيفة (٤) عن الركعتين بعد العصر؟ فقال : إن لم ينفعاك لم يضرّاك!

__________________

(١) المصدر ٢ : ٢٧٤ ـ ٢٧٥.

(٢) هو المنكدرين عبد الله بن الهدير التميمي ذكره الطبراني وغيره في الصحابة. وذكره ابن حجر في القسم الأوّل من حرف الميم ٣ : ٤٦٤ / ٨٢٤٥.

(٣) المحلّى ٣ : ٢ ـ ٣.

(٤) هو وهب بن عبد الله السّوائي ، قدم على النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في أواخر عمره وحفظ عنه ثمّ صحب عليّا عليه‌السلام وولّاه شرطة الكوفة. وكان عليّ عليه‌السلام يسمّيه : وهب الخير. مات سنة ٦٤ (الإصابة ٣ : ٦٤٢ / ٩١٦٦).

٥٣٨

[٢ / ٤٨٩٧] وعن جبير بن نفير قال : كتب عمر إلى عمير بن سعد (١) ينهاه الركعتين بعد العصر ، فقال أبو الدرداء (٢) : أمّا أنا فلا أتركهما ، فمن شاء أن ينحضج فلينحضج!

(يقال : انحضع الرجل : إذا التهب غضبا واتّقد من الغيظ وأيضا ، انحصح : ضرب بنفسه الأرض غيظا)

فقوله : «فمن شاء ينحضج فلينحضج» أي يتّقد من الغيظ وينشقّ انشقاقا! (٣)

[٢ / ٤٨٩٨] وعن أنس بن سيرين قال : خرجت مع أنس بن مالك إلى أرضه ببذق سيرين ، وهي رأس خمسة فراسخ ، فحضرت صلاة العصر ، فأمّنا قاعدا على بساط السفينة ، فصلّى بنا ركعتين ، ثمّ سلّم. ثمّ صلّى ركعتين.

وقد أطال ابن حزم في الردّ على زاعمي المنع من التنفّل بعد العصر ، وعدّد أكابر الصحابة ممّن كانوا يأتون به ، وكذا أمّهات المؤمنين : عائشة وأمّ سلمة وميمونة وهكذا كبار التابعين وعدّدهم ، ومن ثمّ لم يعبه بما رووه في المنع ، لضعف السند ولقصور دلالتها على التحريم ، فيما فصّله من الكلام فيها ، وقال أخيرا : وبه نأخذ (٤) أي بما عمل به هؤلاء الأعلام.

* * *

[٢ / ٤٨٩٩] وزيادة على ما سبق نورد ما أخرجه البخاري ـ في الصحيح ـ عن عبد الرحمان بن الأسود عن أبيه عن عائشة قالت : ركعتان لم يكن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يدعهما سرّا ولا علانية : ركعتان قبل صلاة الصبح وركعتان بعد العصر.

[٢ / ٤٩٠٠] وعن هشام بن عروة عن أبيه عروة بن الزبير قال : قالت عائشة : ابن أختي ، ما ترك النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم السجدتين بعد العصر عندي قطّ.

[٢ / ٤٩٠١] وعن شعبة عن أبي إسحاق قال : رأيت الأسود ومسروقا شهدا على عائشة قالت : ما كان النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يأتيني في يوم بعد العصر إلّا صلّى ركعتين (٥).

__________________

(١) هو عمير بن سعد الأنصاري الأوسي ، صحابي وشهد فتوح الشام واستعمله عمر على حمص ، وكان معجبا به وكان يسمّيه نسيج وحده. وكان عمر يتمنّى أن يكون له رجال مثل عمير يستعين بهم على أمور المسلمين.

(٢) الصحابيّ الكبير نزل الشام وتوفّي بها.

(٣) لسان العرب ٢ : ٢٣٨.

(٤) المحلّى ٣ : ٣ ـ ٧.

(٥) البخاري ١ : ١٤٦ ـ ١٤٧.

٥٣٩

[٢ / ٤٩٠٢] وكذا أخرج مسلم في الصحيح عن عروة عن عائشة قالت : ما ترك رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ركعتين بعد العصر عندي قطّ.

[٢ / ٤٩٠٣] وعن عبد الرحمان بن الأسود عن أبيه عن عائشة قالت : صلاتان ما تركهما رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في بيتي قطّ سرّا ولا علانية : ركعتين قبل الفجر وركعتين بعد العصر.

[٢ / ٤٩٠٤] وعن الأسود ومسروق قالا : نشهد على عائشة أنّها قالت : ما كان يومه الّذي كان يكون عندي إلّا صلّاهما رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في بيتي ، تعني الركعتين بعد العصر.

[٢ / ٤٩٠٥] وذكر عن أنس أنّ عمر كان يضرب الأيدي على صلاة بعد العصر (١).

تعليل عليل

نعم ، يستغرب القول بأنّ الشمس تطلع وتغرب بين قرني شيطان ، لو أريد ظاهر التعبير ولم يكن هناك تأويل معقول! إذ كيف يمكن القول بذلك ، مع العلم بأنّ طلوعها وغروبها أمر نسبيّ ، يحصل في كلّ آنات حركتها الدوريّة الظاهريّة حول الأرض ، وبتعير أدقّ : كانت حركة الأرض الوضعيّة حول محورها المائل ، هي الّتي تجعل الشمس في عين الرائي طالعة وغاربة حسب مختلف الآفاق. فطلوعها عند قوم غروب عند آخرين ، وهكذا على مرّ الآنات والدقائق وعلى استمرار ودوام. وعليه فالشيطان ـ على ضعف مقدرته ـ قد سخر من بني آدم العائشين على وجه البسيطة ، سخريّة تداومت حسب آفات حياتهم على طول الدهر!!

والأغرب نسبة ذلك إلى مثل رسول الإسلام صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وحاشاه من عظيم حكيم!

كما ونسب أيضا إلى الأفذاذ من عترته الطيّبين وحاشاهم من عظماء أعلام!

[٢ / ٤٩٠٦] روي بطريق فيه جهالة أنّ رجلا سأل الإمام أبي عبد الله عليه‌السلام : عن الّذي يروى عن أبيه الإمام أبي جعفر عليه‌السلام بأنّ الشمس تطلع بين قرني شيطان؟ قال : «نعم ، إنّ إبليس اتّخذ عرشا بين السماء والأرض ، فإذا طلعت الشمس وسجد الناس في ذلك الوقت ، قال إبليس لشياطينه : إنّ بني آدم يصلّون لي!!» (٢)

__________________

(١) مسلم ٢ : ٢١١ ـ ٢١٢.

(٢) الكافي ٣ : ٢٩٠ / ٨. والمروي عن أبي جعفر عليه‌السلام في : ١٨٠ / ٢.

٥٤٠