التفسير الأثري الجامع - ج ٤

الشيخ محمّد هادي معرفة

التفسير الأثري الجامع - ج ٤

المؤلف:

الشيخ محمّد هادي معرفة


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة التمهيد ـ قم
المطبعة: ستاره
الطبعة: ١
ISBN: 978-600-5079-05-0
ISBN الدورة:
978-600-5079-08-1

الصفحات: ٥٦٠

وإن جاء على فرس مطوّق بالفضّة (١).

[٢ / ٤٤٢٣] وأخرج سعيد بن منصور وابن سعد من طريق عمرو بن معاذ الأنصاري عن جدّته حوّاء قالت : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول : «ردّوا السائل ولو بظلف محرّق» (٢).

[٢ / ٤٤٢٤] وأخرج ابن أبي شيبة عن حميد بن عبد الرحمان قال : كان يقال : ردّوا السائل ولو بمثل رأس القطاة (٣).

[٢ / ٤٤٢٥] وأخرج أبو نعيم والثعلبي والديلمي والخطيب عن ابن عمر مرفوعا : «هدية الله للمؤمن ، السائل على بابه» (٤).

[٢ / ٤٤٢٦] وأخرج ابن شاهين وابن النجّار في تاريخه عن أبيّ بن كعب قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «ألا أدلّكم على هدايا الله عزوجل إلى خلقه؟ قلنا : بلى! قال : الفقير هو هدية الله ، قبل ذلك أو ترك» (٥).

[٢ / ٤٤٢٧] وأخرج ابن سعد والترمذي وصحّحه وابن خزيمة وابن حبّان من طريق عبد الرحمان بن بجيد عن جدّته أمّ بجيد وكانت ممّن تابع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، أنّها قالت : «يا رسول الله إنّ المسكين ليقوم على بابي فما أجد شيئا أعطيه إيّاه؟! فقال لها : إن لم تجدي إلّا ظلفا محرّقا فادفعيه إليه». ولفظ ابن خزيمة : «ولا تردّي سائلك ولو بظلف» (٦).

[٢ / ٤٤٢٨] وقال الإمام أمير المؤمنين عليه‌السلام : «ما أحسن تواضع الأغنياء للفقراء طلبا لما عند الله ، وأحسن منه ثيه الفقراء على الأغنياء اتكالا على الله» (٧).

__________________

(١) الدرّ ١ : ٤١٥ ؛ المصنّف ٣ : ٧ / ٢٣.

(٢) الدرّ ١ : ٤١٦ ؛ الطبقات ٨ : ٤٦٠ ، وفيه «محترق» بدل قوله «محرّق» ؛ ابن كثير ٤ : ٥٧٧ ، سورة الزلزلة ، الآية ٧ ـ ٨.

(٣) الدرّ ١ : ٤١٦ ؛ المصنّف ٣ : ٥٦ / ٣.

(٤) الدرّ ١ : ٤١٦ ؛ الثعلبي ٢ : ٥٢ ؛ الفردوس بمأثور الخطاب ٤ : ٣٢٤ / ٦٩٤٤ ؛ كنز العمّال ٦ : ٣٦٣ / ١٦٠٧٨.

(٥) الدرّ ١ : ٤١٦ ؛ كنز العمّال ٦ : ٣٩١ و ٦١٥ / ١٦٢٠٣ و ١٧١٠٨.

(٦) الدرّ ١ : ٤١٥ ـ ٤١٦ ؛ الطبقات ٨ : ٤٥٩ ، بتفاوت ؛ الترمذي ٢ : ٨٧ ـ ٨٨ / ٦٦٠ ، باب ٢٩ ؛ ابن خزيمة ٤ : ١١١ ؛ ابن حبّان ٨ : ١٦٦ ـ ١٦٧ / ٣٣٧٣ ؛ النسائي ٢ : ٤٥ / ٢٣٥٥ ، كتاب الزكاة ، باب ٧٨ (تفسير المسكين) ؛ الحاكم ١ : ٤١٧ ؛ أبو الفتوح ٢ : ٣١٥.

(٧) نهج البلاغة ٤ : ٩٥ ، الحكمة ٤٠٦ ؛ البحار ٧٢ : ١٢٣ / ٢١ ، باب ٥١.

٤٠١

[٢ / ٤٤٢٩] وأخرج البخاري ومسلم عن أبي هريرة أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : «ليس المسكين الّذي يطوف على الناس ، تردّه اللقمة واللقمتان والتمرة والتمرتان ، ولكنّ المسكين ، الّذي لا يجد غنى يغنيه ولا يفطن به فيتصدّق عليه ولا يقوم فيسأل الناس!» (١)

[٢ / ٤٤٣٠] وأخرج ابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير (وَفِي الرِّقابِ) يعني فكاك الرقاب (٢).

قوله تعالى : (وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذا عاهَدُوا)

[٢ / ٤٤٣١] أخرج ابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير في قوله : (وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذا عاهَدُوا) يعني فيما بينهم وبين الناس (٣).

[٢ / ٤٤٣٢] وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن أبي العالية في قوله : (وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذا عاهَدُوا) قال : فمن أعطى عهد الله ثمّ نقضه فالله ينتقم منه ، ومن أعطى ذمّة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ثمّ غدر بها فرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم خصمه يوم القيامة (٤).

قوله تعالى : (وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْساءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ)

[٢ / ٤٤٣٣] روي عن عبد الله بن مسعود قال : البأساء ، الفقر. والضرّاء ، السقم. وحين البأس ، حين القتال.

وروي ذلك أيضا عن ابن عبّاس وأبي العالية ومرّة وأبي مالك والحسن ومجاهد والربيع ومقاتل بن حيّان والضحّاك وسعيد بن جبير والسدّي وغيرهم (٥).

[٢ / ٤٤٣٤] وأخرج عبد بن حميد وابن جرير عن قتادة قال : كنّا نحدّث أنّ البأساء ، البؤس

__________________

(١) البخاري ٢ : ١٣٢ ؛ مسلم ٣ : ٩٥ ـ ٩٦ ؛ ابن كثير ١ : ٢١٤ ؛ أبو الفتوح ٢ : ٣١٤ ؛ كنز العمّال ٦ : ٤٦٢ / ١٦٥٥٣.

(٢) الدرّ ١ : ٤١٦ ؛ ابن أبي حاتم ١ : ٢٩٠ / ١٥٥٨.

(٣) الدرّ ١ : ٤١٧ ؛ ابن أبي حاتم ١ : ٢٩١ / ١٥٦٢.

(٤) الدرّ ١ : ٤١٧ ؛ الطبري ٢ : ١٣٤ / ٢٠٩٤ ، نقلا عن الربيع بن أنس ؛ ابن أبي حاتم ١ : ٢٩١ / ١٥٦١ ، وزاد : وروي عن الربيع بن أنس نحو ذلك.

(٥) ابن أبي حاتم ١ : ٢٩١ ـ ٢٩٢ ؛ الطبري ٢ : ١٣٤ ـ ١٣٥ ؛ الحاكم ٢ : ٢٧٢.

٤٠٢

والفقر. وأنّ الضرّاء ، السقم والوجع. وحين البأس ، عند مواطن القتال (١).

[٢ / ٤٤٣٥] وأخرج عبد الرزّاق عن معمر في قوله : (وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْساءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ). قال : البأساء : البؤس. والضرّاء : الزمانة في الجسد. وحين البأس قال : حين القتال (٢).

[٢ / ٤٤٣٦] وروى عليّ بن إبراهيم في قوله تعالى : (وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْساءِ وَالضَّرَّاءِ) قال : في الجوع والخوف والعطش والمرض (وَحِينَ الْبَأْسِ) قال : عند القتال (٣).

[٢ / ٤٤٣٧] وأخرج الطستي عن ابن عبّاس ، أنّ نافع بن الأزرق سأله عن (الْبَأْساءِ وَالضَّرَّاءِ) قال : البأساء الخصب ، والضرّاء الجدب. قال : وهل تعرف العرب ذلك؟ قال : نعم ، أما سمعت قول زيد بن عمرو :

إنّ الإله عزيز واسع حكم

بكفّه الضرّ والبأساء والنعم (٤)

قلت : لم يعهد تفسير البأساء بالخصب. قالت عائشة بنت الشاطىء : أمّا تفسير البأساء بالخصب ، كما في الإتقان (٥) من قول ابن عبّاس ، فلا ندري ما وجهه! فإن يكن نظر فيه إلى فتنة الخصب ، كما في آيات : (وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً)(٦). (إِنَّما أَمْوالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ)(٧) فإنّ سياق آيات البأساء الأربع (٨) لا يعيّن عليه ، مع الأخذ والتضرّع في آيتي الأنعام والأعراف ، ومع الصبر والمسّ في آيتي البقرة. كما لا أجد فيما بين يديّ من كتب اللغة ما يؤنس إلى معنى الخصب في البأساء ، من قريب أو بعيد ، على الحقيقة أو المجاز. بل تدور في الاستعمال على الشدّة والعذاب والداهية والحزن. ومن مادّتها : البؤس والبأس والبؤسى والابتئاس.

__________________

(١) الدرّ ١ : ٤١٧ ؛ الطبري ٢ : ١٣٥ / ٢٠٩٦ ، بلفظ : عن قتادة : قال كنّا نحدّث أنّ البأساء : البؤس والفقر وأنّ الضرّاء : السقم. وقد قال النبيّ أيّوب عليه‌السلام : (أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ). ورقم ٢٠٩٨ بلفظ : البأساء البؤس والضرّاء : الزمانة في الجسد. ورقم ٢١٠٤ بلفظ : حين البأس : أي عند مواطن القتال.

(٢) عبد الرزّاق ١ : ٣٠٣ / ١٦٢.

(٣) نور الثقلين ١ : ١٥٦ ؛ القمي ١ : ٦٤ ؛ البرهان ١ : ٣٨٥ / ٦ ؛ كنز الدقائق ٢ : ٢٢٦.

(٤) الدرّ ١ : ٤١٧.

(٥) الإتقان ٢ ، ٦٥.

(٦) الأنبياء ٢١ : ٣٥.

(٧) التغابن ٦٤ : ١٥.

(٨) الأنعام ٦ : ٤٢. والأعراف ٧ : ٩٤.

٤٠٣

وبيت زيد بن عمرو لا يتعيّن شاهدا على الخصب ، بل يحتمل من قرب أن تكون البأساء فيه مع الضرّ ، ثمّ قال : «والنعم» ناظرا إلى نقيض الضرّ والباساء (١).

قوله تعالى : (أُولئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ)

[٢ / ٤٤٣٨] أخرج ابن جرير عن الربيع في قوله : (أُولئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا) قال : تكلّموا بكلام الإيمان ، فكانت حقيقته العمل ، صدقوا الله. قال : وكان الحسن يقول : هذا كلام الإيمان وحقيقته العمل ، فإن لم يكن مع القول عمل فلا شيء (٢).

[٢ / ٤٤٣٩] وأخرج ابن أبي حاتم عن الربيع عن أبي العاليه في قوله : (أُولئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا) يقول : تكلّموا بكلام الإيمان وحققوا بالعمل. قال الربيع : فكان الحسن يقول : الإيمان كلام ، فحقيقته العمل ، فإن لم يحقّق القول بالعمل لم ينفعه القول. وروي عن الربيع بن أنس نحو ذلك (٣).

[٢ / ٤٤٤٠] وأخرج الحكيم الترمذي عن أبي عامر الأشعريّ قال : قلت : يا رسول الله ما تمام البرّ؟ قال : «تعمل في السرّ عمل العلانية» (٤).

__________________

(١) الإعجاز البياني للقرآن ، مسائل ابن الأزرق رقم ٥٢ : ٣٣٨ ـ ٣٣٩.

(٢) الطبري ٢ : ١٣٩ / ٢١٠٧ ؛ الدرّ ١ : ٤١٧.

(٣) ابن أبي حاتم ١ : ٢٩٢ / ١٥٧٠.

(٤) الدرّ ١ : ٤١٨ ؛ نوادر الأصول ٢ : ٢٧٠ / ١٧٣ ؛ الكبير ٢٢ : ٣١٧ ؛ كنز العمّال ٣ : ٢٤ / ٥٢٦٥ ؛ مجمع الزوائد ١٠ : ٢٩٠.

٤٠٤

قال تعالى :

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصاصُ فِي الْقَتْلى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثى بِالْأُنْثى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّباعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَداءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسانٍ ذلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ فَمَنِ اعْتَدى بَعْدَ ذلِكَ فَلَهُ عَذابٌ أَلِيمٌ (١٧٨) وَلَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ يا أُولِي الْأَلْبابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (١٧٩))

هذا الدرس جانب من التنظيمات الاجتماعيّة للمجتمع المسلم ، منذ نشأته الأولى في المدينة. جاءت منظّمة إلى تكاليف عباديّة ومعامليّة ، ومتعقّبة لآية البرّ الّتي استوعبت قواعد التصوّر الإيماني وقواعد السلوك العملي في محاوريها السداسيّة الآنفة.

وفي هذا الدرس حديث عن القصاص في القتلى وتشريعاته وفيها ضمان للحفاظ على الحياة في وجه عامّ.

تبدأ الآية بالنداء للذين آمنوا ، بهذه الصفة الّتي تستدعي التلقّي من الله الّذي آمنوا به ، فلا ينبغي التهاون بشأنه ما دام الإيمان راسخا في القلوب وينتهي النداء ببيان حكمة هذا التشريع ، ويوقظ فيهم التعقّل والتدبّر لهذه الحكمة ، كما يستجيش في قلوبهم شعور التقوى ، وهو صمّام الأمن في مجال القتلى والقصاص.

* * *

وهذا التشريع الّذي بيّنته الآية بشأن القصاص في القتلى ـ في حالة العمد ـ أنّه يقتل الحرّ بالحرّ ، والعبد بالعبد ، والأنثى بالأنثى ، هو الّذي يقتضيه العدل في رعاية الحقوق وحفظ الدماء.

لكن هناك ظاهرة إنسانيّة نبيلة ، ظاهرة العفو والسماح ، في مجال الفضل والإحسان ، قد تؤثّر في أريحيّة كلّ إنسان شعر بالتعالي عن خسائس النفس ومتطلّباتها الوقتيّة المحدودة.

إذن فليشعر الإنسان ـ مهما أغذّته ثورة الغضب ودعته إلى الانتقام ، وهو حقّ وعدل ـ فليشعر من وراء هذا الغبار الغليظ ، أنّ الّذي ظلمه وتعدّى الحدود المضروبة دونه ، أخوه ومن بني جلدته

٤٠٥

وقد يستوجب السماح عنه رجاء إصلاحه والتعاضد معه في مسيرة الحياة ، فهناك مجال العفو والإغماض عمّا جنى.

وهكذا فليشعر الّذي جنى ـ مهما سفه وحمق في عمله هذا البغيض ـ أنّ وليّ الدم الّذي هتك حريمه ، هو أخوه الّذي تفرّط بشأنه ، وعليه فليرعو ويجدّد العهد بشأنه ويحفظ حريمه أكثر وأوفر.

إذن (فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّباعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَداءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسانٍ) وهذا العفو يكون ـ أكثريّا ـ بقبول الدية من أولياء الدم بدلا من قتل الجاني. ومتى قبل وليّ الدم هذا ورضيه ، فينبغي إذن أن يطالبه بالمعروف والرضا والمودّة ولا يشدّد عليه بما يوجب حرجا عليه. كما ويجب على الجاني أو وليّه أن يقوم بوظيفته بوجه حسن ، فيؤدّي المال بإحسان وإجمال وإكمال ، تحقيقا لصفاء القلوب ، وشفاء لجراح النفوس ، وتقوية لأواصر الأخوّة بين البقيّة الأحياء.

وقد امتنّ الله على المؤمنين بتشريع الدية هذه بما فيها من تخفيف ورحمة : (ذلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ فَمَنِ اعْتَدى بَعْدَ ذلِكَ فَلَهُ عَذابٌ أَلِيمٌ). إذ قد تمرّد عن قانون الفضل والإحسان ، إضافة على تمرّده عن قانون العدل والانصاف ومن ثمّ فإنّ له فوق العذاب ـ يتوعده به ـ في الآخرة ، تعيّن قتله وأن لا تقبل منه الدية البتّة. لأنّ الاعتداء بعد التراضي والقبول ، نكث للعهد ، وإهدار للتراضي ، وإثارة للشحناء بعد صفاء القلوب. ومتى قبل وليّ الدم الدية ، فلا يحقّ له أن يعود فينتقم ويعتدي.

قال سيّد قطب : ومن ثمّ ندرك سعة آفاق الإسلام ، وبصره بحوافز النفس البشريّة عند التشريع لها ، ومعرفته بما فطرت عليه من النوازع .. إنّ الغضب للدم فطرة وطبيعة ، فالإسلام يلبّيها بتقرير شريعة القصاص. فالعدل الجازم هو الّذي يكسر شرة النفوس ، ويفثأ حنق الصدور. ويردع الجاني كذلك عن التمادي. ولكن الإسلام في الوقت ذاته يحبّب في العفو ، ويفتح له الطريق ، ويرسم له الحدود ؛ فتكون الدعوة إليه بعد تقرير القصاص ، دعوة إلى التسامي في حدود التطوّع ، لا فرضا يكبت فطرة الإنسان ويحملها على ما لا تطيق! (١)

وفي الرواية عن ابن عبّاس ـ كما يأتي ـ أنّ شريعة التصالح على الدية ، تخفيف على هذه الأمّة ، لم تكن في شرائع سالفة (٢) ، سوى القود أو التعذيب إمّا بنفي البلد أو الحبس في السجون

__________________

(١) في ظلال القرآن ١ : ٢٣٣.

(٢) الطبري ٢ : ١٥١.

٤٠٦

ونحو ذلك ، على ما ورد في التلمود (١).

* * *

ثمّ يكمل السياق الحديث عن شريعة القصاص بما يكشف عن حكمتها العميقة وأهدافها المبتغاة : (وَلَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ يا أُولِي الْأَلْبابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ).

إنّه ليس الانتقام وليس إرواء الأحقاد ، إنّما هو أجلّ من ذلك وأعلا ، إنّه للحياة وفي سبيل الحياة ، بل هو في ذاته حياة ، ثمّ إنّه للتعقّل والتدبّر في حكمة هذا التشريع ولاستحياء القلوب واستجاشتها لتقوى الله.

والحياة الّتي في القصاص تنبثق من كفّ الجناة عن الاعتداء ساعة الابتداء. فالذي يوقن أنّه يدفع حياته ثمنا لحياة من يقتل ، جدير به أن يتروّى ويفكّر ويتردّد كما تنبثق من شفاء صدور أولياء الدم عند وقوع القتل بالفعل ، شفائها من الحقد والرغبة في الثأر. الثأر الّذي لم يكن يقف عند حدّ في القبائل ، حتّى لتدوم معاركه المتناوبة طيلة أحقاب.

ثمّ ـ وهو الأهمّ والعامل المؤثّر الأوّل في حفظ الحياة ـ استجاشة شعور التدبّر لحكمة الله ، ولتقواه : (لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ). هذا هو الرابط الّذي يعقل النفوس عن الاعتداء ؛ الاعتداء في القتل ابتداء ، والاعتداء في الثأر أخيرا. التقوى ، حسّاسيّة القلب وشعوره بالخوف من الله ، وتحرّجه من غضبه ، وتطلّبه لرضاه.

إنّه بغير هذا الترابط لا تقوم شريعة ، ولا يفلح قانون ، ولا يتحرّج متحرّج ، ولا تكفي التنظيمات الخاوية من الروح والحسّاسيّة والخوف ، والطمع في قوّة أكبر من قوّة الإنسان!

وبعد ، فالآية هنا بصدد بيان تكافؤ الدم بشأن الأصناف الثلاثة ، فيقاد من أحدهما للآخر من غير تفاضل ، فالحرّ يقتل بالحرّ سواء. والعبد بالعبد سواء. والمرأة بالمرأة سواء ، وهذا لا يستدعي عدم القود من أحد الأصناف لصنف آخر مطلقا ، بأن لا يقتل الرجل بالمرأة ، حيث عدم التكافؤ!؟ نعم لا يقتصّ منه بلا ردّ فاضل الديّة. فلو طلب أولياء المرأة أن يقتصّوا من الرجل الّذي قتلها ، فعليهم أن يدفعوا فاضل ديته إلى أوليائه فيقتصّوا منه ، كما ورد به النصّ ، وتفصيل الكلام فيه موكول

__________________

(١) راجع تلخيص التلمود للدكتور «كهن» بترجمة أمير فريدون گرگاني : ٣١٩ ـ ٣٢٢.

٤٠٧

إلى مجاله في الفقه.

ومن ثمّ فلا نسخ هنا ، لعدم المنافاة بينه وبين تفاصيل قانون القصاص.

* * *

وتذكر الروايات أنّ آية القصاص هنا ـ باعتبار ـ معادلة الحرّ بالحرّ والعبد بالعبد والأنثى بالأنثى ـ نزلت بشأن حيّين من العرب اقتتلوا في الجاهليّة ـ قبل الإسلام بقليل ـ فكان بينهم قتل وجراحات ، حتّى قتلوا العبيد والنساء ، فلم يأخذ بعضهم من بعض حتّى أسلموا ، فكان أحد الحيّين يتطاول على الآخر في العدّة والأموال ، فحلفوا أن لا يرضوا حتّى يقتلوا بالعبد منّا الحرّ منهم ، وبالمرأة منّا الرجل منهم ، فنزل فيهم : (الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثى بِالْأُنْثى) منهما. ثمّ نسخت ، نسختها : (النَّفْسَ بِالنَّفْسِ)(١).

وقال أبو عليّ الطبرسي : هذه الآية نزلت في حيّين من العرب لأحدهما طول على الآخر ، وكانوا يتزوّجون نساء بغير مهور ، وأقسموا لنقتلنّ بالعبد منّا الحرّ منهم ، وبالمرأة منّا الرجل منهم ، وبالرجل منّا الرجلين منهم. وجعلوا جراحاتهم على الضعف من جراح أولئك ، حتّى جاء الإسلام ، فأنزل الله هذه الآية (٢).

* * *

قلت : لا يمكننا الموافقة على هذا الرأي ، باعتباره الآية نازلة لتعديل عادة جاهليّة ، ولكن تعديلا لا يتناسب ومنهج العدل الّذي يسير عليه الإسلام ، إذ كانت العرب تقتل من قبيلة القاتل أيّا كان من غير أن يعمدوا إلى القاتل خاصّة ، وهكذا كانوا يأخذون ثأرهم بغير هوادة ، ولا تزال العادة جارية حتّى اليوم ، ممّا سبّب مشكلة عويصة في أوساط عربيّة قاحلة إلى حدّ بعيد.

نعم كانت العادة أسوأ ـ في الجاهليّة الأولى ـ حيث كانوا يقتلون بالواحد عشرات وبالعبيد الأحرار ، وبالأناثي الذكور ، من غير رعاية قانون القصاص ، بل مجرّد انتقام والأخذ بالثأر في شكل فظيع.

__________________

(١) المائدة ٥ : ٤٥. راجع : ابن أبي حاتم ١ : ٢٩٣ ـ ٢٩٤.

(٢) مجمع البيان ٢ : ٢٦٤ ـ ٢٦٥.

٤٠٨

فلو كانت الآية نازلة لتعديل هذا النظام الجاهل ، فمعناه : الترخيص في قتل البريء ـ إرواء لحسّ الانتقام ـ على شرط الاقتصار بالمماثلة في العدد والجنس (١) ، الأمر الّذي ترفضه شريعة العقل ومنهج العدل الإسلاميّ الحكيم.

هذا المعنى غير معقول ، فكيف القول بأنّه شرّع ثمّ فسخ. إذ لا يمكن القول بتشريع قانون إلهيّ يخالف شريعة العقل ، ولو للحظة!؟

ومن ثمّ فمن المستغرب ما فهمه سيّد قطب من هذه الآية ، بأنّ مجالها مجال الاعتداء الجماعي ـ كحالة ذينك الحيّين من العرب ـ حيث تعدّى أسرة على أسرة ، أو قبيلة على قبيلة ، أو جماعة على جماعة. فتصيب منها من الأحرار والعبيد والنساء. فإذا أقيم ميزان القصاص ، كان الحرّ من هذه بالحرّ من تلك ، والعبد من هذه بالعبد من تلك ، والأنثى من هذه بالأنثى من تلك. (٢) أي إذا قتل منهم عبد فليقتلوا عبدا من عبيدهم ، ولو كان غير القاتل!؟ هذا رأي غريب جدّا ، ويتنافى مع روح الإسلام العادلة.

قال الشيخ محمّد عبده : تعني الآية أنّ الحرّ إذا قتل حرّا يقتل هو به لا غيره من سادات القبيلة ولا أكثر من واحد. وإذا قتل عبد عبدا يقتل هو به لا سيّده ، ولا أحد الأحرار من قبيلته. وكذلك المرأة إذا قتلت تقتل هي ، ولا يقتل أحد فداء عنها. خلافا لما كانت عليه الجاهليّة في ذلك كلّه. فالقصاص على القاتل نفسه أيّا كان لا على أحد من قبيلته. فما كانت عليه العرب في الثأر يبيّن هذا المعنى من الآية (٣).

* * *

بقي هنا شيء لا بدّ من التنبّه له ، وهو أنّ ظاهر سياق الآية في مقابلة الأصناف بالأصناف أن لا يقتل فريق بفريق آخر ، فلا يقتل رجل بامرأة ولا حرّ بعبد ، فلا يجري القصاص لو تخالف الصنفان.

وهذا غير مراد البتّة ، لأنّه من الأخذ بمفهوم الخطاب لا بمنطوقه ، ولا حجيّة في الدلالة

__________________

(١) بأن يقتلوا إزاء العبد عبدا ، وإزاء الأنثى أنثى ، حتّى ولو كان غير القاتل ... وهذا غير معقول ولا مقبول البتّة.

(٢) في ظلال القرآن ٢ : ٢٣٤.

(٣) المنار ٢ : ١٢٦.

٤٠٩

بالمفهوم في مقابلة النصّ ، ولا سيّما إذا كان من مفهوم التفصيل ، الّذي هو من قبيل مفهوم الوصف ، ولا حجيّة فيه عند الأصوليّين.

هذا وقد ورد النصّ بخلافه ، فالرجل يقتل بالمرأة ـ وإن كان على أولياء المرأة أن يدفعوا فاضل الدية إلى أولياء القاتل (١) ـ. وكذا الحرّ يقتل بالعبد ، فيما رواه الترمذي بالإسناد إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله.

[٢ / ٤٤٤١] قال صلى‌الله‌عليه‌وآله : «من قتل عبده قتلناه ، ومن جدع عبده جدعناه».

[٢ / ٤٤٤٢] وعن سفيان الثوري : من قتل عبد غيره قتل به. (٢)

[٢ / ٤٤٤٣] وعن إبراهيم النخعي قال : أقتل الحرّ بالعبد ، سواء أكان عبده أم عبد غيره (٣).

[٢ / ٤٤٤٤] وهكذا روى الشيخ أبو جعفر الطوسي بإسناد فيه وثاقة عن الإمام الصادق عن آبائه عليهم‌السلام عن الإمام أمير المؤمنين عليه‌السلام أنّه قتل حرّا بعبد قتله عمدا (٤).

وقد استوفينا الكلام هنا في مجاله في الفقه ، وفيه الغنى إن شاء الله.

وعلى أيّ تقدير ، فلا موضع للقول بالنسخ في الآية ، بعد عدم منافاتها لآية (النَّفْسَ بِالنَّفْسِ!) قال الشيخ : والّذي أقوله : أنّ هذه الآية ليست منسوخة ، لأنّ ما تضمّنته معمول عليه.

ولا ينافي قوله تعالى : (النَّفْسَ بِالنَّفْسِ)(٥) لأنّ تلك عامّة ، ويمكن بناء تلك على هذه ، ولا تناقض ولا يحتاج إلى أن تنسخ إحداهما بالأخرى (٦).

ومع ذلك فقد أخرج أبو جعفر الطبري وغيره عن ابن عبّاس. قال : نسختها آية (النَّفْسَ بِالنَّفْسِ)(٧).

__________________

(١) راجع : كتاب الجنايات من كتاب الخلاف للشيخ أبي جعفر الطوسي ٥ : ١٤٥. والجواهر ٤٢ / ٨٢.

(٢) الترمذي ٤ : ٢٦ ، باب ١٨ ، كتاب الديات.

(٣) الخلاف للطوسي ٥ : ١٤٨ ـ ٤٢.

(٤) التهذيب ١٠ : ١٩٢ / ٧٥٧ ـ ٤٥ ؛ الاستبصار ٤ : ٢٧٣ / ٧ ؛ الوسائل ٢٩ : ٩٨ / ٣٥٢٤٨ ـ ٩.

(٥) المائدة ٥ : ٤٥.

(٦) التبيان ٢ : ١٠٢.

(٧) الطبري ٢ : ١٤٢ / ٢١١٣.

٤١٠

ولأبي جعفر الطبري هنا كلام ضاف يشتمل على فوائد وفرائد نذكره بنصّه :

قال : يعني تعالى ذكره بقوله : (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصاصُ فِي الْقَتْلى) فرض عليكم!

فإن قال قائل : أفرض على وليّ القتيل القصاص من قاتل وليّه؟ قيل : لا ؛ ولكنّه مباح له ذلك ، والعفو ، وأخذ الدية!

فإن قال قائل : وكيف قال : (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصاصُ) قيل : إنّ معنى ذلك على خلاف ما ذهبت إليه ، وإنّما معناه : يا أيها الّذين آمنوا كتب عليكم القصاص في القتلى ، الحرّ بالحرّ ، والعبد بالعبد ، والأنثى بالأنثى. أي أن الحرّ إذا قتل الحرّ ، فدم القاتل كفء لدم القتيل ، والقصاص منه دون غيره من الناس ، فلا تجاوزوا بالقتل إلى غيره ممّن لم يقتل ، فإنّه حرام عليكم أن تقتلوا بقتيلكم غير قاتله! والفرض الّذي فرض الله علينا في القصاص هو ما وصفت من ترك المجاوزة بالقصاص قتل القاتل بقتيله إلى غيره ، لا أنّه وجب علينا القصاص فرضا وجوب فرض الصلاة والصيام ، حتّى لا يكون لنا تركه. ولو كان ذلك فرضا لا يجوز لنا تركه لم يكن لقوله : (فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ) معنى مفهوم ، لأنّه لا عفو بعد القصاص ؛ فيقال : فمن عفي له من أخيه شيء!

وقد قيل : إنّ معنى القصاص في هذه الآية مقاصّة ديات بعض القتلى بديات بعض ؛ وذلك أنّ الآية عندهم نزلت في حزبين تحاربوا على عهد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فقتل بعضهم بعضا ، فأمر النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يصلح بينهم ، بأن تسقط ديات نساء أحد الحزبين بديات نساء الآخرين ، وديات رجالهم بديات رجالهم ، وديات عبيدهم بديات عبيدهم قصاصا ، فذلك عندهم معنى القصاص في هذه الآية.

فإن قال قائل : فإنّه ـ تعالى ـ ذكره قال : (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصاصُ فِي الْقَتْلى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثى بِالْأُنْثى) فما لنا أن نقتصّ للحرّ إلّا من الحرّ ، ولا للأنثي إلّا من الأنثى؟ قيل : بل لنا أن نقتصّ للحرّ من العبد وللأنثى من الذكر ، بقول الله تعالى ذكره : (وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنا لِوَلِيِّهِ سُلْطاناً)(١) و

__________________

(١) الإسراء ١٧ : ٣٣.

٤١١

بالنقل المستفيض عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه قال : «المسلمون تتكافأ دماؤهم» (١).

فإن قال : فإذ كان ذلك ، فما وجه تأويل هذه الآية؟

قيل : اختلف أهل التأويل في ذلك ، فقال بعضهم : نزلت هذه الآية في قوم كانوا إذا قتل الرجل منهم عبد قوم آخرين لم يرضوا من قتيلهم بدم قاتله من أجل أنّه عبد ، حتّى يقتلوا به سيّده ، وإذا قتلت المرأة من غيرهم رجلا لم يرضوا من دم صاحبهم بالمرأة القاتلة ، حتّى يقتلوا رجلا من رهط المرأة وعشيرتها ، فأنزل الله هذه الآية ، فأعلمهم أنّ الّذي فرض لهم من القصاص أن يقتلوا بالرجل الرجل القاتل دون غيره ، وبالأنثى الأنثى القاتلة دون غيرها من الرجال ، وبالعبد العبد القاتل دون غيره من الأحرار ، فنهاهم أن يتعدّوا القاتل إلى غيره في القصاص. ذكر من قال ذلك :

[٢ / ٤٤٤٥] فقد روي بالإسناد إلى الشعبي قال : نزلت في قبيلتين من قبائل العرب اقتتلتا قتال عمّيّة (٢) ، فقالوا : نقتل بعبدنا فلان ابن فلان ، وبفلانة فلان ابن فلان ، فأنزل الله : (الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثى بِالْأُنْثى).

[٢ / ٤٤٤٦] وعن قتادة قال : كان أهل الجاهليّة فيهم بغي وطاعة للشيطان ، فكان الحيّ إذا كان

__________________

(١) رواه هنا معلقا دون إسناد. والحديث رواه أبو داوود في الجهاد باب ١٤٧ من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جدّه قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «المسلمون تتكافأ دماؤهم يسعى بذمّتهم أدناهم ويجير عليهم أقصاهم ، وهم يد على من سواهم ، يردّ مشدّهم على مضعفهم ومتسرّيهم على قاعدهم. لا يقتل مؤمن بكافر ولا ذو عهد في عهده». ورواه بنحوه مطوّلا أو مختصرا من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص : ابن ماجة في الديات باب ٣١. وأحمد في المسند (٢ : ٢١٥) ورواه أبو داوود في الديات باب ١١ من حديث عليّ ، وفيه : «... فأخرج كتابا من قراب سيفه فإذا فيه : المؤمنون تتكافأ دماؤهم وهم يد على من سواهم ويسعى بذمّتهم أدناهم ...». ورواه بنحوه مطوّلا أو مختصرا والنسائي في القسامة باب ١٠ و ١٣. وأحمد في المسند (١ : ١١٩).

(٢) العمّيّة (بضم العين وتكسر وتشديد الميم والياء) : هي الأمر الأعمى لا يستبين وجهه ؛ كذا قاله أحمد بن حنبل والجمهور ، قال إسحاق بن راهوية : هذا كتقاتل القوم للعصبيّة. وروى مسلم في صحيحه (كتاب الإمارة حديث ٥٣) عن أبي هريرة عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه قال : «من خرج من الطاعة وفارق الجماعة فمات مات ميتة جاهلية. ومن قاتل تحت راية عمّية يغضب لعصبة أو يدعو إلى عصبيّة أو ينصر عصبة فقتل فقتلة جاهليّة ...» ورواه غير أيضا. قال ابن الأثير : وفي الحديث «من قتل تحت راية عمّيّة فقتلته جاهليّة». قيل : هو فعّيلة من العماء : الضلالة ، كالقتال في العصبيّة والأهواء. وحكي عن بعضهم فيها ضمّ العين. (النهاية ٣ : ٣٠٤).

٤١٢

فيهم عدّة ومنعة ، فقتل عبد قوم آخرين عبدا لهم ، قالوا : لا نقتل به إلّا حرا ؛ تعزّزا لفضلهم على غيرهم في أنفسهم ، وإذا قتلت لهم امرأة قتلتها امرأة قوم آخرين ، قالوا : لا نقتل بها إلّا رجلا! فأنزل الله هذه الآية يخبرهم أنّ العبد بالعبد والأنثى بالأنثى ، فنهاهم عن البغي. ثمّ أنزل الله تعالى ذكره في سورة المائدة بعد ذلك فقال : (وَكَتَبْنا عَلَيْهِمْ فِيها أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصاصٌ)(١).

[٢ / ٤٤٤٧] وعنه أيضا قال : لم يكن لمن قبلنا دية ، إنّما هو القتل أو العفو إلى أهله ، فنزلت هذه الآية في قوم كانوا أكثر من غيرهم ، فكانوا إذا قتل من الحي الكثير عبد ، قالوا : لا نقتل به إلّا حرّا ، وإذا قتلت منهم امرأة قالوا : لا نقتل بها إلّا رجلا ، فأنزل الله : (الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثى بِالْأُنْثى).

[٢ / ٤٤٤٨] وبالإسناد إلى عامر قال : إنّما ذلك في قتال عمّيّة إذا أصيب من هؤلاء عبد ومن هؤلاء عبد تكافآ ، وفي المرأتين كذلك ، وفي الحرّين كذلك ، هذا معناه إن شاء الله.

[٢ / ٤٤٤٩] وعن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قال : دخل في قول الله تعالى ذكره : (الْحُرُّ بِالْحُرِّ) الرجل بالمرأة ، والمرأة بالرجل. وقال عطاء : ليس بينهما فضل.

وقال آخرون : بل نزلت هذه الآية في فريقين كان بينهم قتال على عهد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقتل من كلا الفريقين جماعة من الرجال والنساء ، فأمر النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يصلح بينهم بأن يجعل ديات النساء من كلّ واحد من الفريقين قصاصا بديات النساء من الفريق الآخر ، وديات الرجال بالرجال ، وديات العبيد بالعبيد ؛ فذلك معنى قوله : (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصاصُ فِي الْقَتْلى). ذكر من قال ذلك :

[٢ / ٤٤٥٠] فقد روى بالإسناد إلى أسباط ، عن السدّي قال : اقتتل أهل ملّتين من العرب أحدهما مسلم والآخر معاهد في بعض ما يكون بين العرب من الأمر ، فأصلح بينهم النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وقد كانوا قتلوا الأحرار والعبيد والنساء على أن يؤدى الحرّ دية الحرّ ، والعبد دية العبد ، والأنثى دية الأنثى ، فقاصّهم بعضهم من بعض.

__________________

(١) المائدة ٥ : ٤٥.

٤١٣

[٢ / ٤٤٥١] وبالإسناد إلى سفيان عن السدّي عن أبي مالك قال : كان بين حيّين من الأنصار قتال ، كان لأحدهما على الآخر الطّول (١) ، فكأنّهم طلبوا الفضل ، فجاء النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ليصلح بينهم ، فنزلت هذه الآية : (الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثى بِالْأُنْثى) فجعل النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الحرّ بالحرّ والعبد بالعبد ، والأنثى بالأنثى.

[٢ / ٤٤٥٢] وبالإسناد إلى أبي بشر ، قال : سمعت الشعبي يقول : نزلت في قتال عمّيّة ـ قال شعبة : كأنّه في صلح ـ قال : اصطلحوا على هذا.

* * *

وقال آخرون : بل ذلك أمر من الله تعالى ذكره بمقاصّة دية الحرّ ودية العبد ودية الذكر ودية الأنثى في قتل العمد إن اقتصّ للقتيل من القاتل ، والراجع بالفضل والزيادة بين ديتي القتيل والمقتصّ منه. ذكر من قال ذلك :

[٢ / ٤٤٥٣] فقد روى بالإسناد إلى ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع قال : حدّثنا عن عليّ بن أبي طالب عليه‌السلام أنّه كان يقول : «أيّما حرّ قتل عبدا فهو قود به ، فإن شاء موالي العبد أن يقتلوا الحرّ قتلوه ، وقاصّوهم بثمن العبد من دية الحرّ ، وأدّوا إلى أولياء الحرّ بقيّة ديته. وأيّ عبد قتل حرّا فهو به قود ، فإن شاء أولياء الحرّ قتلوا العبد ، وقاصّوهم بثمن العبد وأخذوا بقيّة دية الحرّ (٢) ، وإن شاؤوا أخذوا الدية كلّها واستحيوا العبد. وأيّ حرّ قتل امرأة فهو بها قود ، فإن شاء أولياء المرأة قتلوه وأدّوا نصف الدية إلى أولياء الحرّ. وإن امرأة قتلت حرّا فهي به قود ، فإن شاء أولياء الحرّ قتلوها ، وأخذوا نصف الدية (٣) ، وإن شاؤوا أخذوا الدية كلّها واستحيوها وإن شاؤوا عفوا».

[٢ / ٤٤٥٤] وعن حمّاد بن سلمة ، عن قتادة ، عن الحسن أنّ عليا عليه‌السلام قال في رجل قتل امرأته : «إن شاؤوا قتلوه وغرموا نصف الدية».

__________________

(١) الطول : الفضل والعلوّ.

(٢) هذا خلاف ما ذهب إليه أصحابنا الإماميّة من عدم الردّ هنا. وبه وردت رواياتهم عن أئمّة أهل البيت عليهم‌السلام ، إذ لا يجني الجاني أكثر من نفسه. راجع : الجواهر ٤٢ : ١٠٠.

(٣) هذا أيضا مخالف لمذهب أهل البيت وأن لا ردّ بعد قتلها قصاصا. الجواهر ٤٢ : ٨٣. ومن ثمّ فالرواية عندنا غير مقبولة.

٤١٤

[٢ / ٤٤٥٥] وعن سعيد عن عوف عن الحسن ، قال : لا يقتل الرجل بالمرأة حتّى يعطوا نصف الدية.

[٢ / ٤٤٥٦] وعن سماك عن الشعبي ، قال في رجل قتل امرأته عمدا ، فأتوا به عليّا ، فقال : «إن شئتم فاقتلوه ، وردّوا فضل دية الرجل على دية المرأة».

وقال آخرون : بل نزلت هذه الآية في حال ما نزلت والقوم لا يقتلون الرجل بالمرأة ، ولكنّهم كانوا يقتلون الرجل بالرجل والمرأة بالمرأة ، حتّى سوّى الله بين حكم جميعهم بقوله : (وَكَتَبْنا عَلَيْهِمْ فِيها أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ)(١) فجعل جميعهم قود بعضهم ببعض. ذكر من قال ذلك :

[٢ / ٤٤٥٧] فقد روى أبو صالح ، عن معاوية بن صالح ، عن عليّ بن أبي طلحة ، عن ابن عبّاس قوله : (وَالْأُنْثى بِالْأُنْثى) وذلك أنّهم كانوا لا يقتلون الرجل بالمرأة ، ولكن يقتلون الرجل بالرجل والمرأة بالمرأة ، فأنزل الله تعالى : (النَّفْسَ بِالنَّفْسِ)(٢) فجعل الأحرار في القصاص ، سواء فيما بينهم في العمد رجالهم ونساؤهم في النفس وما دون النفس ، وجعل العبيد مستوين فيما بينهم في العمد في النفس وما دون النفس ، رجالهم ونساؤهم.

وقال أبو جعفر : فإذ كان مختلفا الاختلاف الّذي وصفت فيما نزلت فيه هذه الآية ، فالواجب علينا استعمالها فيما دلّت عليه من الحكم ، بالخبر القاطع العذر. وقد تظاهرت الأخبار عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالنقل العامّ أنّ نفس الرجل الحرّ قود قصاصا بنفس المرأة الحرّة ، فإذ كان ذلك كذلك ، وكانت الأمّة مختلفة في التراجع بفضل ما بين دية الرجل والمرأة على ما قد بيّنّا من قول عليّ وغيره ، وكان واضحا فساد قول من قال بالقصاص في ذلك ، والتراجع بفضل ما بين الديتين ، بإجماع جميع أهل الإسلام ، على أنّ حراما على الرجل أن يتلف من جسده عضوا بعوض يأخذه على إتلافه ، فدع جميعه ، وعلى أنّ حراما على غيره إتلاف شيء منه مثل الّذي حرم من ذلك بعوض يعطيه عليه ، فالواجب أن تكون نفس الرجل الحرّ بنفس المرأة الحرّة قودا ، وإذا كان ذلك كذلك كان بيّنا بذلك أنّه لم يرد بقوله تعالى ذكره : (الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثى بِالْأُنْثى) أن لا يقاد العبد بالحرّ ، وأن لا تقتل الأنثى بالذكر ، ولا الذكر بالأنثى. وإذا كان ذلك كذلك كان بيّنا أنّ الآية معنيّ بها أحد المعنيين الآخرين : إمّا قولنا من أن لا يتعدّى بالقصاص إلى غير القاتل والجاني ،

__________________

(١) المائدة ٥ : ٤٥.

(٢) المائدة ٥ : ٤٥.

٤١٥

فيؤخذ بالأنثى الذكر ، وبالعبد الحرّ. وإمّا القول الآخر ، وهو أن تكون الآية نزلت في قوم بأعيانهم خاصّة ، أمر النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يجعل ديات قتلاهم قصاصا بعضها من بعض ، كما قاله السدّي ومن ذكرنا قوله ، وقد أجمع الجميع لا خلاف بينهم على أنّ المقاصّة في الحقوق غير واجبة ، وأجمعوا على أنّ الله لم يقض في ذلك قضاء ثمّ نسخه ، وإذا كان كذلك وكان قوله تعالى ذكره : (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصاصُ) ينبىء عن أنّه فرض كان معلوما أنّ القول خلاف ما قاله قائل هذه المقالة ، لأنّ ما كان فرضا على أهل الحقوق أن يفعلوه ، فلا خيار لهم فيه والجميع مجمعون على أنّ لأهل الحقوق الخيار في مقاصّتهم حقوقهم ، بعضها من بعض. فإذا تبيّن فساد هذا الوجه الّذي ذكرنا ، فالصحيح من القول في ذلك هو ما قلنا!

فإن قال قائل ـ إذ ذكرت أنّ معنى قوله : (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصاصُ) بمعنى : فرض عليكم القصاص ـ : لا يعرف لقول القائل «كتب» معنى إلّا معنى خط ذلك فرسم خطا وكتابا ، فما برهانك على أنّ معنى قوله : «كتب» فرض؟ قيل : إنّ ذلك في كلام العرب موجود ، وفي أشعارهم مستفيض ، ومنه قول الشاعر (١) :

كتب القتل والقتال علينا

وعلى المحصنات جرّ الذيول (٢)

وقول نابغة بني جعدة :

يا بنت عمّي كتاب الله أخرجني

عنكم فهل أمنعنّ الله ما فعلا (٣)

وذلك أكثر في أشعارهم وكلامهم من أن يحصى. غير أنّ ذلك وإن كان بمعنى فرض ، فإنّه

__________________

(١) هو عمر بن أبي ربيعة ، والبيت في ديوانه (ص ٤٦٤ ـ طبع القاهرة ، السعادة) من ثلاثة أبيات هي :

إنّ من أعظم الكبائر عندي

قتل حسناء غادة عطبول

قتلت باطلا على غير ذنب

إنّ لله درّها من قتيل

كتب القتل والقتال علينا

وعلى المحصنات جرّ الذيول

(٢) المحصنات : النساء المتزوّجات.

(٣) البيت في اللسان (مادّة كتب) أورده شاهدا على أنّ الكتاب بمعنى الفرض ، كما استشهد به المؤلّف. وفيه «يا ابنة» مكان «يا بنت».

٤١٦

عندي مأخوذ من الكتاب الّذي هو رسم وخطّ ، وذلك أنّ الله تعالى ذكره قد كتب جميع ما فرض على عباده وما هم عاملوه في اللوح المحفوظ ، فقال تعالى ذكره في القرآن : (بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ. فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ)(١) وقال : (إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ. فِي كِتابٍ مَكْنُونٍ)(٢) فقد تبيّن بذلك أنّ كلّ ما فرضه علينا ففي اللوح المحفوظ مكتوب.

فمعنى قوله ـ إذ كان ذلك كذلك ـ : (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصاصُ :) كتب عليكم في اللوح المحفوظ القصاص في القتلى فرضا أن لا تقتلوا بالمقتول غير قاتله.

وأمّا القصاص فإنّه من قول القائل : قاصصت فلانا حقيّ قبله من حقّه قبلي ، قصاصا ومقاصّة فقتل القاتل بالذي قتله قصاص ، لأنّه مفعول به ، مثل الّذي فعل بمن قتله ، وإن كان أحد الفعلين عدوانا والآخر حقّا ، فهما وإن اختلفا من هذا الوجه ، فهما متّفقان في أنّ كلّ واحد قد فعل بصاحبه مثل الّذي فعل صاحبه به ، وجعل فعل وليّ القتيل الأوّل إذا قتل قاتل وليّه قصاصا ، إذ كان بسبب قتله استحقّ قتل من قتله ، فكأنّ وليّه المقتول هو الّذي ولّي قتل قاتله فاقتصّ منه.

وأمّا القتلى ، فإنّها جمع قتيل ، كما الصرعى جمع صريع ، والجرحى جمع جريح. وإنّما يجمع الفعيل على الفعلى ، إذا كان صفة للموصوف به بمعنى الزمانة والضرر الّذي لا يقدر معه صاحبه على البراح من موضعه ومصرعه ، نحو القتلى في معاركهم ، والصرعى في مواضعهم ، والجرحى وما أشبه ذلك.

فتأويل الكلام إذن : فرض عليكم أيّها المؤمنون القصاص في القتلى أن يقتصّ الحرّ بالحرّ ، والعبد بالعبد ، والأنثى بالأنثى. ثمّ ترك ذكر «أن يقتصّ» اكتفاء بدلالة قوله : (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصاصُ) عليه.

* * *

وقال في تأويل قوله تعالى : (فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّباعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَداءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسانٍ :) اختلف أهل التأويل في ذلك ، فقال بعضهم : تأويله : فمن ترك له من القتل ظلما من الواجب كان لأخيه عليه من القصاص ، وهو الشيء الّذي قال الله : (فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّباعٌ) من العافي

__________________

(١) البروج ٨٥ : ٢١ ، ٢٢.

(٢) الواقعة ٥٦ : ٧٧ و ٧٨.

٤١٧

للقاتل بالواجب له قبله من الدية ، وأداء من المعفوّ عنه ذلك إليه بإحسان. ذكر من قال ذلك :

[٢ / ٤٤٥٨] فقد روى أحمد بن حمّاد الدولابي ، قال : حدّثنا سفيان بن عيينة عن عمرو عن مجاهد عن ابن عبّاس : (فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ) فالعفو أن يقبل الدية في العمد ، واتّباع بالمعروف أن يطلب هذا بمعروف ويؤدّي هذا بإحسان.

[٢ / ٤٤٥٩] وبالإسناد إلى جابر بن زيد ، عن ابن عبّاس أنّه قال في قوله : (فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّباعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَداءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسانٍ :) هو العمد يرضى أهله بالدية (فَاتِّباعٌ بِالْمَعْرُوفِ) أمر به الطالب (وَأَداءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسانٍ) من المطلوب.

[٢ / ٤٤٦٠] وعن محمّد بن عليّ بن الحسن بن سفيان بالإسناد إلى مجاهد ، عن ابن عبّاس ، قال : الّذي يقبل الدية ، ذلك منه عفو ، واتّباع بالمعروف ، ويؤدّي إليه الّذي عفي له من أخيه بإحسان.

[٢ / ٤٤٦١] وعن محمّد بن سعد بالإسناد إلى ابن عبّاس قوله : (فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّباعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَداءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسانٍ) وهي الدية أن يحسن الطالب الطلب (وَأَداءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسانٍ) وهو أن يحسن المطلوب الأداء.

[٢ / ٤٤٦٢] وعن محمّد بن عمرو بالإسناد إلى مجاهد : (فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّباعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَداءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسانٍ) والعفوّ الّذي يعفو عن الدم ، ويأخذ الدية.

[٢ / ٤٤٦٣] وعن سفيان عن ابن أبي نجيح عن مجاهد : (فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ) قال : الدية.

[٢ / ٤٤٦٤] وعن ابن وكيع ، بالإسناد إلى الحسن : (وَأَداءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسانٍ) قال : على هذا الطالب أن يطلب بالمعروف ، وعلى هذا المطلوب أن يؤدّي بإحسان.

[٢ / ٤٤٦٥] وعن المثنّى ، بالإسناد إلى مجاهد : (فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّباعٌ بِالْمَعْرُوفِ) والعفوّ : الّذي يعفو عن الدم ، ويأخذ الدية.

[٢ / ٤٤٦٦] وعن حمّاد عن داوود بن أبي هند عن الشعبي في قوله : (فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّباعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَداءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسانٍ) قال : هو العمد يرضى أهله بالدية.

[٢ / ٤٤٦٧] وعن بشر بن معاذ ، عن يزيد ، قال : حدّثنا سعيد عن قتادة قوله : (فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّباعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَداءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسانٍ) يقول : قتل عمدا فعفي عنه ، وقبلت منه الدية ، يقول :

٤١٨

(فَاتِّباعٌ بِالْمَعْرُوفِ) فأمر المتّبع أن يتّبع بالمعروف ، وأمر المؤدّي أن يؤدّي بإحسان ، والعمد قود إليه قصاص ، لا عقل (١) فيه إلّا أن يرضوا بالدية ، فإن رضوا بالدية فمائة خلفة (٢) ، فإن قالوا : لا نرضى إلّا بكذا وكذا ؛ فذاك لهم.

[٢ / ٤٤٦٨] وعن الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزّاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة في قوله : (فَاتِّباعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَداءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسانٍ) قال : يتّبع به الطالب بالمعروف ، ويؤدّي المطلوب بإحسان.

[٢ / ٤٤٦٩] وعن عمّار ، عن ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع في قوله : (فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّباعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَداءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسانٍ) يقول : فمن قتل عمدا فعفي عنه وأخذت منه الدية ، يقول : (فَاتِّباعٌ بِالْمَعْرُوفِ) : أمر صاحب الدية الّتي يأخذها أن يتّبع بالمعروف ، وأمر المؤدّي أن يؤدّي بإحسان.

[٢ / ٤٤٧٠] وعن القاسم ، بالإسناد إلى ابن جريج ، قال : قلت لعطاء قوله : (فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّباعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَداءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسانٍ) قال : ذلك إذا أخذ الدية فهو عفو.

[٢ / ٤٤٧١] وعن الحسن ، قال : حدّثني حجاج ، عن ابن جريج ، قال : أخبرني القاسم بن أبي بزّة ، عن مجاهد قال : إذا قبل الدية فقد عفا عن القصاص ، فذلك قوله : (فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّباعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَداءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسانٍ). قال ابن جريج : وأخبرني الأعرج عن مجاهد مثل ذلك ، وزاد فيه : فإذا قبل الدية فإنّ عليه أن يتّبع بالمعروف ، وعلى الّذي عفي عنه أن يؤدّي بإحسان.

[٢ / ٤٤٧٢] وعن أبي عقيل ؛ قال : قال الحسن : أخذ الدية عفو حسن.

[٢ / ٤٤٧٣] وعن ابن زيد : (وَأَداءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسانٍ) قال : أنت أيّها المعفوّ عنه.

[٢ / ٤٤٧٤] وعن محمّد بن سعد ، بالإسناد إلى ابن عبّاس قوله : (فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّباعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَداءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسانٍ) وقال : وهو الدية أن يحسن الطالب ، وأداء إليه بإحسان : هو أن يحسن المطلوب الأداء.

__________________

(١) العقل : الدية.

(٢) الخلفة : الحامل من النوق.

٤١٩

وقال آخرون : معنى قوله : (فَمَنْ عُفِيَ) فمن فضل له فضل وبقيت له بقيّة. وقالوا : معنى قوله (مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ) من دية أخيه شيء ، أو من أرش (١) جراحته ، فاتّباع من القاتل أو الجارح الّذي بقي ذلك قبله بمعروف ، وأداء من القاتل أو الجارح إليه ما بقي قبله له من ذلك بإحسان.

وهذا قول من زعم أنّ الآية نزلت في الّذين تحاربوا على عهد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فأمر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يصلح بينهم فيقاصّ ديات بعضهم من بعض ، ويردّ بعضهم على بعض بفضل ، إن بقي لهم قبل الآخرين. وأحسب أن قائلي هذا القول وجّهوا تأويل العفو في هذا الموضع إلى الكثرة من قول الله تعالى ذكره : (حَتَّى عَفَوْا)(٢) ، فكان معنى الكلام عندهم : فمن كثر له قبل أخيه القاتل! ذكر من قال ذلك :

[٢ / ٤٤٧٥] فقد روى موسى بن هارون ، عن عمرو بن حمّاد ، عن أسباط ، عن السدّي : (فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ) يقول : بقي له من دية أخيه شيء أو من أرش جراحته ، فليتّبع بمعروف ، وليؤدّ الآخر إليه بإحسان.

* * *

قال أبو جعفر : والواجب على تأويل القول الّذي روينا عن عليّ والحسن ـ في قوله : (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصاصُ) أنّه بمعنى مقاصّة دية النفس الذكر من دية النفس الأنثى ، والعبد من الحرّ ، والتراجع بفضل ما بين ديتي أنفسهما ـ أن يكون معنى قوله : (فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ) : فمن عفي له من الواجب لأخيه عليه من قصاص دية أحدهما بدية نفس الآخر إلى الرضى بدية نفس المقتول ، فاتّباع من الوليّ بالمعروف ، وأداء من القاتل إليه ذلك بإحسان.

وقال : وأولى الأقوال عندي بالصواب في قوله : (فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ) : فمن صفح له من الواجب كان لأخيه عليه من القود عن شيء من الواجب على دية يأخذها منه ، فاتّباع بالمعروف من العافي عن الدم الراضي بالدية من دم وليّه ، وأداء إليه من القاتل ذلك بإحسان ؛ لما قد بيّنّا من العلل فيما مضى قبل من أنّ معنى قول الله تعالى ذكره : (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصاصُ) إنّما هو القصاص من

__________________

(١) الأرش : دية الجنايات والجراحات.

(٢) الأعراف ، ٧ : ٩٥.

٤٢٠