التفسير الأثري الجامع - ج ٤

الشيخ محمّد هادي معرفة

التفسير الأثري الجامع - ج ٤

المؤلف:

الشيخ محمّد هادي معرفة


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة التمهيد ـ قم
المطبعة: ستاره
الطبعة: ١
ISBN: 978-600-5079-05-0
ISBN الدورة:
978-600-5079-08-1

الصفحات: ٥٦٠

أقضي في ذا ، قل لها : فلتأكل معها وليظلّها وإيّاها سقف بيت ، ولا تمشي ، ولا تعتق ، ولتتق الله ربّها ، ولا تعود إلى ذلك ، فإنّ هذا من خطوات الشيطان» (١).

[٢ / ٤٢٦٤] وروى أحمد بن محمّد ، عن ابن بكير بن أعين قال إنّ : أخت عبد الله بن حمدان المختار ، دخلت على أخت لها وهي مريضة ، فقالت لها أختها : أفطري فأبت ، فقالت أختها : جاريتي حرّة إن لم تفطري ، إن كلّمتك أبدا ، فقالت : فجاريتي حرّة إن أفطرت ، فقالت الأخرى : فعليّ المشي إلى بيت الله ، وكلّ مالي في المساكين إن لم تفطري ، فقالت : عليّ مثل ذلك إن أفطرت ، فسئل أبو جعفر عليه‌السلام ، عن ذلك فقال : «فلتكلّمها ، إنّ هذا كلّه ليس بشيء ، وإنّما هو من خطوات الشيطان» (٢).

[٢ / ٤٢٦٥] وأخرج ابن أبي حاتم بالإسناد إلى أبي رافع : أنّه غضب على امرأته فقال : كلّ مملوك لها حرّ إن لم أطلّقها ، فأتى زينب بنت أمّ سلمة ـ وهي يومئذ أفقه امرأة في المدينة ـ وسألها عن ذلك ، فقالت : إنّما هذه من خطوات الشيطان (٣).

[٢ / ٤٢٦٦] وأخرج عبد بن حميد عن عثمان بن غياث قال : سألت جابر بن زيد عن رجل نذر أن يجعل في أنفه حلقة من ذهب. فقال : هي من خطوات الشيطان ، ولا يزال عاصيا لله فليكفّر عن يمينه (٤).

[٢ / ٤٢٦٧] وأخرج عبد الرزّاق وسعيد بن منصور وعبد بن حميد وابن أبي حاتم والطبراني والحاكم وصحّحه عن ابن مسعود ، أنّه أتي بضرع وملح فجعل يأكل ، فاعتزل رجل من القوم فقال ابن مسعود : ناولوا صاحبكم. فقال : لا أريد. فقال : أصائم أنت؟ قال : لا. قال : فما شأنك؟ قال : حرّمت أن آكل ضرعا أبدا. فقال ابن مسعود : هذا من خطوات الشيطان ، فاطعم وكفّر عن

__________________

(١) العيّاشيّ ١ : ٩٢ / ١٤٨ ؛ البرهان ١ : ٣٧٦ ؛ البحار ١٠١ : ٢٢٣ / ٣٠ ؛ الكافي ٧ : ٤٤٠ ـ ٤٤١ / ٨ ؛ النوادر : ٢٧ ـ ٢٨ / ١٩ ، باب ٣.

(٢) مستدرك الوسائل ١٦ : ٤٣ ، النوادر : ٢٩ و ٣٠ / ٢٢ ، باب ٣ (ما لا يلزم من النذر والأيمان ...) ؛ البحار ١٠١ : ٢٣٣ / ٨٣.

(٣) راجع : ابن أبي حاتم ١ : ٢٨٠ / ١٥٠٢ ؛ وابن كثير ١ : ٢١٠. والحديث كان مشوّشا ، أخذنا المتلخّص منه.

(٤) الدرّ ١ : ٤٠٤.

٣٤١

يمينك (١).

[٢ / ٤٢٦٨] وأخرج عبد بن حميد عن عيسى بن عبد الرحمان السلمي قال : جاء رجل إلى الحسن فسأله وأنا عنده فقال له : حلفت إن لم أفعل كذا وكذا أن أحجّ حبوا. فقال : هذا من خطوات الشيطان ، فحجّ واركب وكفّر عن يمينك (٢).

قوله تعالى : (إِنَّما يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشاءِ وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ)

أمّا أمره بالسوء ، فهي وسوسته بارتكاب المآثم. وأمّا الفحشاء ، فهي المعاصي ذوات آثار فاحشة ، بحيث يحيق سيّؤها بالجمع بعد محق الفرد ، فيكدر زلال الفضاء ويعكر المحيط ، فضلا عن سحق شخصيّة الآثم بالذات.

نعم ، إنّ المعاصي على نمطين ، منها ما يزلّ بالنفس ويحطّ من شأنها فحسب ، ومنها ما يتجاوز النفس وتتسرّب آثاره السيّئة إلى الغير ، ويلوّث المجتمع الّذي يعيش فيه الآثم.

ملحوظة

(ثلاث نقاط ، هي أخطر ما يهدّد حياة المؤمن الفرديّة والاجتماعيّة ، ليجعله على مشارف الانهيار).

قوله تعالى : (إِنَّما يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشاءِ وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ) ، في هذه الآية الكريمة إشارة إلى أهمّ ركائز يستغلها الشيطان لإضلال العباد وإفساد الحياة عليهم ، واستبدال

__________________

(١) الدرّ ١ : ٤٠٤ ؛ عبد الرزّاق ١ : ٣٣ / ٧٥٥ ، سورة المائدة ، الآية ٨٧ ؛ سنن سعيد بن منصور ٤ : ١٥١٩ / ٧٧٢ ، بتفاوت ؛ ابن أبي حاتم ١ : ٢٨٠ / ١٥٠٣ ؛ الكبير ٩ : ١٨٤ ؛ الحاكم ٢ : ٣١٣ ـ ٣١٤ ، كتاب التفسير ، سورة المائدة ؛ المصنّف لعبد الرزّاق ٨ : ٤٩٨ / ١٦٠٤٢ ، كتاب الأيمان والنذور ، باب من حلف على يمين فرأى غيرها خيرا منها بلفظ : ... عن مسروق قال : كنّا عند ابن مسعود فأتى بضرع ، فتنحّى رجل ، فقال عبد الله : أدن ، فقال : إنّي حرّمت الضرع ، قال : فتلا : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّباتِ ما أَحَلَّ اللهُ لَكُمْ) كل وكفّر ، سورة المائدة ٥ : ٨٧ ؛ ابن كثير ١ : ٢٠٩ ـ ٢١٠ ؛ مجمع الزوائد ٤ : ١٩٠ ، كتاب الأيمان والنذور ، باب فيمن حرّم على نفسه شيئا ، قال الهيثمي : رواه الطبراني في الكبير ورجاله رجال الصحيح.

(٢) الدرّ ١ : ٤٠٤.

٣٤٢

السعادة عليهم شقاء :

١ ـ ترغيبهم في هتك حريم المعاصي والتشويق على ارتكاب الإثم ، يأمرهم بالسوء ، والسوء :

كلّ إثم يعود وباله على مرتكبه بالذات فيسيء حاله ويجعله في غيهب الضلال وهذا قد ظلم نفسه بالابتعاد عن ساحة ربّه.

وهذا في كلّ معصية توجب زلّة الإنسان عن مقام كرامته العليا وحطّ شأنه عند خالقه الكريم.

٢ ـ حثّهم على ارتكاب الفواحش ، وهي المعاصي الّتي تعود وباله على المجتمع ، ولا تخصّ مرتكبها بالذات ، بل تتعدّاه إلى غيره ممّن يعيش معه في الحياة العامّة ليكون تهديدا للحياة العامّة وخطرا عليها ، وكان ظلما للناس ، فضلا عن ظلم نفسه وظلم ربّه.

وهذا في كلّ معصية أوجبت هتك حريم المآثم لدى العامّة ، وهدّدت أركان المجتمع دون صيانتها عن التضعضع والانهيار.

والفحشاء : ما عظم قبحه وفشى سيّئه وكان خرقا لحريم الجماعة في صيانتها العامّة. ولذلك ورد التأكيد على قبحها وتقبيح مرتكبها.

قال تعالى : (قُلْ إِنَّما حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَواحِشَ ما ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ)(١). أي ما عمّ أثره السيّء ، سواء المعلن به ، كالغيبة والتهمة والوقوع في أعراض الناس. أم الإخفاء به ، كالزنا وما كان من نمطه ، والنميمة والدسائس الخفيّة.

قال تعالى : (وَلا تَقْرَبُوا الْفَواحِشَ ما ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ)(٢).

وقال في مدح المتورّعين المتعهدين. (الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَواحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ)(٣).

واللمم : الوقوع في أمر من غير اعتياد ولا إصرار ، بل ربما لا عن قصد سابق.

وقال تعالى : (وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَواحِشَ)(٤).

وسيأتي في مجاله المناسب ، الكلام عن الفاحشة ، وهو كلّ إثم عدّ كبيرة موبقة وعظيمة خارقة للحرمات.

وجاء في الروايات تفسير الفحشاء بمختلف الكبائر والآثام :

__________________

(١) الأعراف ٧ : ٣٣.

(٢) الأنعام ٦ : ١٥١.

(٣) النجم ٥٣ : ٣٢.

(٤) الشورى ٤٢ : ٣٧.

٣٤٣

[٢ / ٤٢٦٩] فعن ابن عبّاس قال : الفحشاء من المعاصي ، ما يجب فيه الحدّ. والسوء من الذنوب ، ما لا حدّ له (١).

[٢ / ٤٢٧٠] وعن طاووس عنه قال : الفحشاء ، البخل (٢).

[٢ / ٤٢٧١] وأيضا عنه عن ابن عبّاس قال : الفحشاء ، فهو ما لا يعرف في شريعة ولا سنّة (٣)

[٢ / ٤٢٧٢] وأخرج ابن جرير عن السدّي قال : أمّا السوء فالمعصية ، وأمّا الفحشاء فالزنا (٤).

[٢ / ٤٢٧٣] وقال مقاتل : إنّ كلّ ما في القرآن من ذكر الفحشاء فإنّه الزنا ، إلّا قوله : (الشَّيْطانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشاءِ)(٥) فإنّه منع الزكاة (٦).

٣ ـ والثالثة : البدع الّتي تحوّر من وجه شريعة الله الغرّاء ، وربّما تمسخه إلى ظاهرة شكليّة جوفاء ، عديمة الأثر ، لا تضرّ ولا تنفع.

والبدعة إذا تسرّبت في الحياة الدينيّة ، فإنّها لا تبقي ولا تذر ، وهي من أخطر ما يهدّد سلامة الحياة الدينيّة ويجعلها على أفول وخمول.

والنهي اللاذع عن الابتداع في الدين ، لعلّه من ضروريات الدين والمتواتر من أحاديث السلف (نذكرها في مجاله المناسب) ولنقتطف منها نماذج :

[٢ / ٤٢٧٤] روى أبو جعفر الطوسى بإسناده إلى الإمام أمير المؤمنين عليه‌السلام قال : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول : «عمل قليل في سنّة ، خير من عمل كثير في بدعة» (٧).

قلت : والتفصيل غير مراد هنا ، ومعناه : أنّ في العمل القليل في سنّة خيرا ، ولا خير في عمل كثير في بدعة. فهو نظير قوله تعالى : (قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُها أَذىً)(٨). إذ الصدقة الّتي فيها المنّ والأذى باطلة من أساس. قال تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُبْطِلُوا صَدَقاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذى كَالَّذِي يُنْفِقُ مالَهُ رِئاءَ النَّاسِ وَلا يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوانٍ عَلَيْهِ تُرابٌ فَأَصابَهُ

__________________

(١) الثعلبي ٢ : ٣٩ ؛ البغوي ١ : ١٩٨ ؛ مجمع البيان ١ : ٤٦٩.

(٢) الثعلبي ٢ : ٣٩ ؛ الوسيط ١ : ٢٥٣ ، بلفظ : «السوء : عصيان الله ، والفحشاء : البخل».

(٣) الثعلبي ٢ : ٣٩.

(٤) الطبري ٢ : ١٠٦ / ٢٠٢٤.

(٥) البقرة ٢ : ٢٦٨.

(٦) القرطبي ٢ : ٢١٠ ؛ أبو الفتوح ٢ : ٢٨٨ ؛ الثعلبي ٢ : ٣٩.

(٧) أمالي الطوسي : ٣٨٥ / ٨٣٨ ـ ٨٩ ؛ البحار ٢ : ٢٦١.

(٨) البقرة ٢ : ٢٦٣.

٣٤٤

وابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْداً لا يَقْدِرُونَ عَلى شَيْءٍ مِمَّا كَسَبُوا)(١).

[٢ / ٤٢٧٥] وروى أبو عبد الله المفيد بإسناده إلى منصور بن أبي يحيى قال : سمعت أبا عبد الله الصادق عليه‌السلام يقول : صعد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم المنبر وقد التمع لونه (٢) وتغيّرت وجنتاه ، فقال : «يا معشر المسلمين ، إنّما بعثت أنا والساعة كهاتين (٣). وقد ضمّ سبّاحتيه (٤) ، ثمّ قال : يا معشر المسلمين ، إنّ أفضل الهدى هدى محمّد ، وخير الحديث كتاب الله ، وشرّ الأمور محدثاتها. ألا وكلّ بدعة ضلالة ، ألا وكلّ ضلالة في النار ...» (٥).

قال العلّامة المجلسي : البدعة كلّ رأي أو دين أو حكم أو عبادة لم يرد من الشارع بخصوصها ولا في ضمن حكم عامّ.

قال : ومن ثمّ يظهر بطلان ما ذهب إليه البعض من انقسام البدعة بانقسام الأحكام الخمسة (٦).

[٢ / ٤٢٧٦] وقال الإمام أمير المؤمنين ـ عليه صلوات المصلّين ـ : «ما أحدثت بدعة إلّا ترك بها سنّة ، فاتّقوا البدع وألزموا المهيع. إنّ عوازم الأمور أفضلها ، وإنّ محدثاتها شرارها» (٧).

[٢ / ٤٢٧٧] وقال عليه‌السلام : «إنّما الناس رجلان : متّبع شرعة ، ومبتدع بدعة ، ليس معه من الله ـ سبحانه ـ برهان سنّة ولا ضياء حجّة» (٨).

قوله عليه‌السلام : «ليس معه من الله برهان ...» تفسير للبدعة ، كما بيّنه المجلسيّ العظيم.

[٢ / ٤٢٧٨] وقال عليه‌السلام في ذمّ أهل البدع : «إنّ شرّ الناس عند الله إمام جائر ، ضلّ وضلّ به ، فأمات سنّة مأخوذة ، وأحيا بدعة متروكة» (٩).

[٢ / ٤٢٧٩] وقال عليه‌السلام ـ في تعداد الخصال الموجبة للهلاك ـ : «أن يشرك بالله ... أو يستنجح حاجة

__________________

(١) البقرة ٢ : ٢٦٤.

(٢) أي برق لونه وتوهّج.

(٣) كناية عن امتداد دينه حتّى قيام الساعة.

(٤) الإصبع السبّاحة هى الإصبع السبّابة. أى ضم سبّابتيه من كلتا اليدين جنبا إلى جنب.

(٥) مجالس المفيد : ١٨٧ ـ ١٨٨ / ١٤ ، المجلس ٢٣.

(٦) البحار ٢ : ٢٦٤.

(٧) نهج البلاغة ٢ : ٢٨ ، الخطبة : ١٤٥. والمهيع : الطريق اللائح والمحجّة الواضحة. وعوازم الأمور : ثوابتها ، ذوات المنبت الوثيق.

(٨) المصدر : ٩٥ ، الخطبة ١٧٦.

(٩) المصدر : ٦٩ ، الخطبة ١٦٤.

٣٤٥

إلى الناس ، بإظهار بدعة في دينه» (١).

[٢ / ٤٢٨٠] وقال الإمام الصادق عليه‌السلام : «إيّاك وخصلتين ، ففيهما هلك من هلك : إيّاك أن تفتي الناس برأيك ، أو تدين بما لا تعلم» (٢).

[٢ / ٤٢٨١] وعن الإمام الباقر عليه‌السلام : أنّه «سئل عن حقّ الله تعالى على العباد؟ قال : أن يقولوا ما يعلمون ، ويقفوا عند ما لا يعلمون» (٣).

[٢ / ٤٢٨٢] وقال ابن عبّاس في قوله تعالى : (وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ) في رواية عطاء : يريد المشركين وكفّار أهل الكتاب ، يعني في نسبتهم أشياء ـ ممّا شرّعوها ـ إلى الله تعالى ، كما ذكر الله عنهم في قوله : (وَإِذا فَعَلُوا فاحِشَةً قالُوا وَجَدْنا عَلَيْها آباءَنا وَاللهُ أَمَرَنا بِها)(٤)(٥).

[٢ / ٤٢٨٣] وعنه برواية أبي صالح في قوله تعالى : (وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ) قال : هو تحريم الحرث والأنعام (٦).

[٢ / ٤٢٨٤] وروي عن عبد الله بن عمر قال : إنّ إبليس موثق في الأرض السفلى ، فإذا تحرّك فإنّ كلّ شرّ في الأرض بين اثنين فصاعدا من تحركّه (٧).

قوله تعالى : (وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا ما أَنْزَلَ اللهُ قالُوا بَلْ نَتَّبِعُ ما أَلْفَيْنا عَلَيْهِ آباءَنا ...)

[٢ / ٤٢٨٥] أخرج ابن إسحاق وابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عبّاس قال : «دعا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم اليهود إلى الإسلام ورغّبهم فيه وحذّرهم عذاب الله ونقمته. فقال له أبو رافع بن

__________________

(١) المصدر : ٤٣ ، الخطبة ١٥٣. وهذا يستميل العامّة لاستدرار ما بأيديهم ، بابتداع سنن تعجبهم وتستميح جانبهم ، وإن كان فيه خلاف ما يرتضيه الله سبحانه.

(٢) الصافي ١ : ٣١٨ ؛ الخصال : ٥٢ / ٦٦ ، باب الاثنين ، بإسناده إلى عبد الرحمان بن الحجّاج قال : قال لي أبو عبد الله عليه‌السلام ... ؛ الكافي ١ : ٤٢ / ٢ ، كتاب فضل العلم ، باب النهي عن القول بغير علم ؛ البحار ٢ : ١١٤ / ٦ ، باب ١٦ ؛ نور الثقلين ٢ : ٢٦ ـ ٢٧ / ٩٦.

(٣) الكافي ١ : ٤٣ / ٧ ، كتاب فضل العلم ، باب النهي عن القول بغير علم ، بإسناده إلى زرارة بن أعين قال : سألت أبا جعفر عليه‌السلام ما حقّ الله على العباد؟ ... ؛ الأمالي للصدوق : ٥٠٦ / ٧٠١ ـ ١٤ ، المجلس ٦٥ ؛ البحار ٢ : ١١٣ / ٢ ، باب ١٦.

(٤) الأعراف ٧ : ٢٨.

(٥) الوسيط ١ : ٢٥٤.

(٦) المصدر.

(٧) القرطبي ٢ : ٢٠٩.

٣٤٦

خارجة ، ومالك بن عوف : بل نتّبع يا محمّد! ما وجدنا عليه آباءنا ، فهم كانوا أعلم وخيرا منّا ، فأنزل الله في ذلك : (وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا ما أَنْزَلَ اللهُ قالُوا بَلْ نَتَّبِعُ ما أَلْفَيْنا عَلَيْهِ آباءَنا) الآية» (١).

[٢ / ٤٢٨٦] وأخرج الثعلبي عن الضحّاك عن ابن عبّاس قال : يعني هم كفّار قريش من بني عبد الدار ، قالوا : بل نتّبع ما ألفينا عليه آباءنا من عبادة الأصنام! (٢)

[٢ / ٤٢٨٧] وقال الكلبي : يعني الّذين حرّموا على أنفسهم من الحرث والأنعام. وإذا قيل لهم : اعملوا بما أنزل الله في القرآن قالوا ... (٣).

[٢ / ٤٢٨٨] وأخرج الطستيّ عن ابن عبّاس : أنّ نافع بن الأزرق سأله عن قوله : (ما أَلْفَيْنا) قال : يعني وجدناهم عليه من الدين. قال : وهل تعرف العرب ذلك؟ قال : نعم ، أما سمعت قول نابغة بن ذبيان :

فحسّبوه فألفوه كما زعمت

تسعا وتسعين لم ينقص ولم يزد (٤)

[٢ / ٤٢٨٩] وأخرج ابن جرير عن الربيع وقتادة في قوله : (أَلْفَيْنا) قالا : وجدنا (٥).

قوله تعالى : (وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِما لا يَسْمَعُ إِلَّا دُعاءً وَنِداءً)

[٢ / ٤٢٩٠] أخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عبّاس في قوله : (وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِما لا يَسْمَعُ) قال : كمثل البقر والحمار والشاة ؛ إن قلت لبعضهم كلاما لم يعلم ما تقول ، غير أنّه يسمع صوتك ، وكذلك الكافر إن أمرته بخير أو نهيته عن شرّ أو وعظته ، لم يعقل ما تقول ، غير أنّه يسمع صوتك! (٦)

__________________

(١) الدرّ ١ : ٤٠٥ ؛ الطبري ٢ : ١٠٧ ـ ١٠٨ / ٢٠٢٥ ؛ ابن أبي حاتم ١ : ٢٨١ / ١٥١١ ؛ الثعلبي ٢ : ٣٩ ؛ البغوي ١ : ١٩٨ / ١٢٠ ؛ التبيان ٢ : ٧٦ ؛ أبو الفتوح ٢ : ٢٨٨ ، نقلا عن الضحّاك.

(٢) الثعلبي ٢ : ٤٠ ؛ الوسيط ١ : ٢٥٤.

(٣) الوسيط ١ : ٢٥٤.

(٤) الدرّ ١ : ٤٠٥ ؛ الوسيط ١ : ٢٥٤.

(٥) الدرّ ١ : ٤٠٥ ؛ الطبري ٢ : ١٠٨ / ٢٠٢٦ ـ ٢٠٢٧ ؛ ابن أبي حاتم ١ : ٢٨١ / ١٥١٢ ؛ التبيان ٢ : ٧٦.

(٦)الدرّ ١ : ٤٠٥ ؛ الطبري ٢ : ١٠٩ / ٢٠٣٠ ؛ ابن أبي حاتم ١ : ٢٨٢ / ١٥١٣ ، وزاد : وروي عن أبي العالية ومجاهد ـ وعكرمة وعطاء بن أبي رباح والحسن وقتادة وعطاء الخراساني والربيع بن أنس نحو ذلك ؛ مجمع البيان ١ : ٤٧١ ؛ الثعلبي ٢ : ٤١ ، نقلا عن ابن عبّاس وعكرمة ومجاهد وقتادة وعطاء والربيع والسدّي وأكثر المفسرين. وعن الحسن بلفظ : مثلهم فيها قبلوا من آباءهم وفيما آتيتهم به حيث لا يسمعونه ولا يعقلونه كمثل راعي الغنم الّذي نعق بها فإذا سمعت الصوت رفعت رؤوسها فاستمعت إلى الصوت والدعاء ولا تعقل منه شيئا.

٣٤٧

[٢ / ٤٢٩١] وأخرج الطستيّ عن ابن عبّاس : أنّ نافع بن الأزرق قال له : أخبرني عن قوله عزوجل : (كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِما لا يَسْمَعُ) قال : شبّه الله أصوات المنافقين والكفّار بأصوات البهم ، أي بأنّهم لا يعقلون. قال : وهل تعرف العرب ذلك؟ قال : نعم ، أما سمعت بشر بن أبي حازم وهو يقول :

هضيم الكشح لم يغمز ببؤس

ولم ينعق بناحية الرباق (١)

[٢ / ٤٢٩٢] وقال عليّ بن إبراهيم في الآية : فإنّ البهائم إذا زجرها صاحبها فإنّها تسمع الصوت ولا تدري ما يريد ، وكذلك الكفّار إذا قرأت عليهم وعرضت عليهم الإيمان لا يعلمون ، مثل البهائم (٢).

[٢ / ٤٢٩٣] وأخرج عبد الرزّاق عن معمر عن قتادة قال : هذا مثل ضربه الله تعالى للكافر ، يقول : مثل هذا الكافر كمثل البهيمة الّتي تسمع الصوت ولا تدري ما يقال لها ، فكذلك الكافر ، يقال له ولا ينتفع بما يقال له (٣).

[٢ / ٤٢٩٤] وأخرج ابن جرير عن قتادة في قوله تعالى : (صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ) يقول : صمّ عن الحقّ فلا يسمعونه ولا ينتفعون به ولا يعقلونه ، عمي عن الحقّ والهدى فلا يبصرونه ، بكم عن الحقّ فلا ينطقون به (٤).

[٢ / ٤٢٩٥] وأخرج عن ابن عبّاس في قوله : (صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ) يقول : لا يسمعون الهدى ولا يبصرونه ولا يعقلونه (٥).

__________________

(١) الدرّ ١ : ٤٠٥. والرباق : جمع الربقة ، بكسر الراء وفتحها ، وهي الحبل والحلقة تشدّ بها البهائم.

(٢) القمي ١ : ٦٤ ؛ البرهان ١ : ٣٧٧ ؛ البحار ٩ : ١٨٧ / ١٧ ، باب ١.

(٣) عبد الرزاق ١ : ٣٠٠ / ١٥٤ ؛ مجمع البيان ١ : ٤٧١ ، بمعناه ؛ الثعلبي ٢ : ٤١ ، بمعناه ؛ الطبري ٢ : بعد رقم ٢٠٣٢.

(٤) الطبري ٢ : ٢٠٣٨.

(٥) المصدر / ٢٠٤٠.

٣٤٨

[٢ / ٤٢٩٦] ومن كلام لمولانا أمير المؤمنين عليه‌السلام عند ما دخل على العلاء (١) بن زياد الحارثي ، وهو من أصحابه يعوده. فلمّا رأى سعة داره قال :

«ما كنت تصنع بسعة هذه الدار في الدنيا ، أما أنت إليها في الآخرة كنت أحوج! بلى إن شئت بلغت بها الآخرة : تقري فيها الضيف ، وتصل فيها الرحم ، وتطلع منها الحقوق مطالعها. فإذن أنت قد بلغت بها الآخرة!».

فقال له العلاء : يا أمير المؤمنين ، أشكو إليك أخي عاصم بن زياد! قال : وماله؟ قال : لبس العباء وتخلّى من الدنيا!

قال : عليّ به ، فلمّا جاء ، قال :

«يا عديّ (٢) نفسه! لقد استهام بك الخبيث (٣)! أمّا رحمت أهلك وولد لك! أترى الله أحلّ لك الطيّبات ، وهو يكره أن تأخذها! أنت أهون على الله من ذلك!

قال عاصم : يا أمير المؤمنين ، هذا أنت في خشونة ملبسك وجشوبة مأكلك!

قال عليه‌السلام : «ويحك ، إنّي لست كأنت ، إنّ الله تعالى فرض على أئمّة الحقّ أن يقدّروا أنفسهم بضعفة الناس ، كي لا يتبيّغ بالفقير فقره!» (٤)

* * *

ولابن أبي الحديد كلام عن مقامات العارفين نذكره بنصّه :

[٢ / ٤٢٩٧] قال : وروي أنّ قوما من المتصوّفة (وهم أصحاب التقشّف في الحياة) دخلوا على الإمام عليّ بن موسى الرضا عليه‌السلام وهو بخراسان ، فقالوا له : إنّ أمير المؤمنين ـ يعنون مأمون العباسيّ ـ فكّر فيما ولّاه الله من الأمور ، فرآكم ـ أهل البيت ـ أولى الناس أن تؤمّوا الناس. فنظر فيك من أهل البيت ، فرآك أولى الناس بالناس ، فرأى أن يردّ هذا الأمر إليك. والإمامة تحتاج إلى من يأكل الجشب ويلبس الخشن ويركب الحمار ويعود المريض!

__________________

(١) ولعلّ الصحيح : الربيع بن زياد. على ما ذكره ابن أبي الحديد ١١ : ٣٧. إذ لم يعرف العلاء بن زياد ، هذا.

(٢) عديّ : مصغّر عدوّ.

(٣) أي استحوذ عليك الشيطان فجعلك تهيم في ضلال.

(٤) شرح النهج ١١ : ٣٢ / ٢٠٢. والتبيّغ : الهياج. يقال : تبيّغ الدم بصاحبه إذا هاج به.

٣٤٩

فقال لهم الإمام : «إنّ يوسف كان نبيّا ، يلبس أقبية الديباج المزرّرة بالذهب (١) ويجلس على متّكآت آل فرعون! ويحكم ؛ إنّما يراد من الإمام قسطه وعدله ؛ إذا قال صدق ، وإذا حكم عدل ، وإذا وعد أنجز. إنّ الله لم يحرّم لبوسا ولا مطعما. ثمّ قرأ : (قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبادِهِ وَالطَّيِّباتِ مِنَ الرِّزْقِ»)(٢).

قال ابن أبي الحديد : وهذا الّذي ذكره الرضا عليه‌السلام مخالف ـ في ظاهره ـ للقانون الّذي أشار إليه أمير المؤمنين ـ عليه صلوات المصلّين ـ!

لكنّه ، نظرا لاختلاف الظروف والأحوال ، حاول الجمع بين الكلامين ، قال : وللفلاسفة في هذا الباب كلام لا بأس به ، وقد أشار إليه أبو عليّ بن سينا في كتاب «الإشارات». وعليه يتخرّج قولا أمير المؤمنين وعليّ بن موسى الرضا عليهما‌السلام :

قال أبو عليّ ـ في مقامات العارفين ـ : العارفون قد يختلفون في الهمم بحسب ما يختلف فيهم الخواطر ، على حسب ما يختلف عندهم من دواعي العبر. فربما استوى عند العارف القشف والترف ، بل ربما آثر القشف. وكذلك ربما سوّى عنده التّفل والعطر ، بل ربما آثر التفل. وذلك عند ما يكون الهاجس بباله ، استحقار ما عدا الحقّ ، وربما صغا إلى الزينة وأحبّ من كلّ شيء عقيلته (٣) وكره الخداج والسّقط ، وذلك عند ما يعتبر عادته من صحبة الأحوال الظاهرة ، فهو يرتاد إليها في كلّ شيء ، لأنّه مزيّة خطوة من العناية الأولى ، وأقرب أن يكون من قبيل ما عكف عليه بهواه. وقد يختلف هذا في عارفين ، وقد يختلف في عارف بحسب وقتين (٤).

* * *

ثمّ ذكر ابن أبي الحديد نسخة أخرى لكلام الإمام أمير المؤمنين الآنف ، قال :

[٢ / ٤٢٩٨] «واعلم أنّ الّذي رويته عن الشيوخ ورأيته بخطّ عبد الله بن أحمد بن الخشّاب : أنّ الربيع بن زياد الحارثي أصابته نشّابة في جبينه فكانت تنتقض عليه في كلّ عام ، فأتاه علي عليه‌السلام عائدا ، فقال : كيف تجدك أبا عبد الرحمان؟ قال : أجدني ـ يا أمير المؤمنين ـ لو كان لا يذهب ما بي إلّا بذهاب بصري لتمنّيت ذهابه. قال : وما قيمة بصرك عندك؟ قال : لو كانت لي الدنيا لفديته بها!

__________________

(١) أي المطليّة أزرارها بالذهب.

(٢) الأعراف ٧ : ٣٢.

(٣) العقيلة من كلّ شيء أكرمه وأغلاه.

(٤) شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ١١ : ٣٤ ـ ٣٥.

٣٥٠

قال : لا جرم ليعطينّك الله على قدر ذلك ؛ إنّ الله يعطي على قدر الألم والمصيبة ، وعنده تضعيف كثير. قال الربيع : يا أمير المؤمنين ، ألا أشكو إليك عاصم بن زياد أخي؟ قال : ما له؟ قال : لبس العباء وترك الملاء (١) وغمّ أهله وحزن ولده! فقال عليه‌السلام : أدعوا لي عاصما ، فلمّا أتاه عبس في وجهه ، وقال : ويحك ـ يا عاصم ـ أترى الله أباح لك اللذّات وهو يكره ما أخذت منها؟ لأنت أهون على الله من ذلك ، أو ما سمعته يقول : (مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيانِ)(٢) ثمّ قال : (يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجانُ)(٣) وقال : (وَمِنْ كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْماً طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَها)(٤). أما والله ، إنّ ابتذال نعم الله بالفعال أحبّ إليه من ابتذالها بالمقال ، وقد سمعتم الله يقول : (وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ)(٥) ، وقوله : (قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبادِهِ وَالطَّيِّباتِ مِنَ الرِّزْقِ)(٦). إنّ الله خاطب المؤمنين بما خاطب به المرسلين ، فقال : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ)(٧) ، وقال : (يا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّباتِ وَاعْمَلُوا صالِحاً)(٨). وقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لبعض نسائه : «مالي أراك شعثاء ومرهاء سلتاء! (٩).

قال عاصم : فلم اقتصرت يا أمير المؤمنين على لبس الخشن وأكل الجشب؟ قال : إنّ الله تعالى افترض على أئمّة العدل أن يقدّروا لأنفسهم بالقوام ، كي لا يتبيّغ بالفقير فقره».

فما قام عليّ عليه‌السلام حتّى نزع عاصم العباء ولبس ملاءة.

* * *

قال ابن أبي الحديد : والربيع بن زياد هو الّذي افتتح بعض خراسان ، على عهد عمر ، وكان خيّرا متواضعا متقشّفا في ملبسه ومأكله.

وكان على عهد معاوية على قطعة من خراسان ، فكتب إليه زياد بن أبيه : أنّ معاوية كتب إليّ يأمرك أن تحرز الصفراء والبيضاء ، وتقسّم الخرثيّ (١٠) وما أشبهه على أهل الحرب! فأجابه الربيع :

__________________

(١) الملاء : ثوب ضفضاف ، يلبسه ذوو الشرف.

(٢) الرحمان ٥٥ : ١٩.

(٣) الرحمان ٥٥ : ٢٢.

(٤) فاطر ٣٥ : ١٢.

(٥) الضحى ٩٣ : ١١.

(٦) الأعراف ٧ : ٣٢.

(٧) البقرة ٢ : ١٧٢.

(٨) المؤمنون ٢٣ : ٥١.

(٩) الشعثاء : المغبرّة الشعر ، لا تمتشط ، والمرهاء : التي لا تكتحل. والسلتاء : الّتي لا تختضب.

(١٠) الخرثيّ : أردأ المتاع وسقطه.

٣٥١

إنّي وجدت كتاب الله قبل كتاب معاوية .. ثمّ نادى في الناس : أن اغدوا على غنائمكم ، فأخذ الخمس وقسّم الباقي على المسلمين ، ثمّ دعا الله أن يميته ، فما جمع حتّى مات ـ رحمة الله عليه ـ (١).

قلت : ولعلّك ـ أيّها القارىء النبيه في غنى عن مقايسة موضع معاوية هذا الهابط ، مع موضع الإمام أمير المؤمنين عليه‌السلام المتصاعد إلى قمّة الكمال! نعم ، وكلّ إناء بالذي فيه ينضح!

هناك من الأئمّة ، أئمّة هدى يهدون بأمره تعالى (٢). وأئمّة ضلال يدعون إلى النار (٣). (قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلى شاكِلَتِهِ فَرَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أَهْدى سَبِيلاً)(٤).

موضع العقل من الشريعة الغرّاء

هناك عقد ثقة الإسلام محمّد بن يعقوب الكلينى بابا (٥) ـ في الكافي الشريف ـ جمع فيه غررا ودررا من كلام أئمّة أهل البيت عليهم‌السلام تنبؤك عن شرف العقل ومنزلته الرفيعة في الشريعة الغرّاء ، نذكر منها :

[٢ / ٤٢٩٩] روى بإسناده إلى محمّد بن مسلم عن الإمام أبي جعفر الباقر عليه‌السلام قال : «لمّا خلق الله العقل استنطقه ثمّ قال له : أقبل فأقبل ثمّ قال له : أدبر فأدبر ، ثمّ قال : وعزّتي وجلالي ما خلقت خلقا هو أحبّ إليّ منك ، ولا أكملتك إلّا فيمن أحبّ ، أما إنّي إيّاك آمر وإيّاك أنهى وإيّاك أعاقب وإيّاك أثيب».

تلك مسرحيّة تبدّى فيها موضع العقل من حياة الإنسان الدينيّة الكريمة ، وقد كان العقل (القدرة على التفكير والاستنتاج والإبداع) هي ميزة الإنسان الّتي فصلته عن سائر الحيوان ، وكانت هي ملاك التكليف والاعتبار والاختبار في حياة الإنسان الرفيعة أو الوضيعة. (وَنَفْسٍ وَما سَوَّاها. فَأَلْهَمَها فُجُورَها وَتَقْواها. قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاها. وَقَدْ خابَ مَنْ دَسَّاها)(٦).

__________________

(١) شرح النهج لابن أبي الحديد ١١ : ٣٢ ـ ٣٧.

(٢) الأنبياء ٢٢ : ٧٣.

(٣) القصص ٢٨ : ٤١.

(٤) الإسراء ١٧ : ٨٤.

(٥) كتاب العقل والجهل من الكافي ١ : ١٠ ـ ٢٩.

(٦) الشمس ٩١ : ٧ ـ ١٠.

٣٥٢

[٢ / ٤٣٠٠] وعن الأصبغ بن نباتة ، عن عليّ عليه‌السلام قال : «هبط جبرئيل على آدم عليه‌السلام فقال : يا آدم إنّي امرت أن أخيّرك واحدة من ثلاث فاخترها ودع اثنتين ، فقال له آدم : يا جبرئيل وما الثلاث؟ فقال : العقل والحياء والدين ، فقال آدم : إنّي قد اخترت العقل ، فقال جبرئيل للحياء والدين : انصرفا ودعاه فقالا : يا جبرئيل إنّا امرنا أن نكون مع العقل حيث كان ، قال : فشأنكما وعرج».

[٢ / ٤٣٠١] وعن محمّد بن عبد الجبّار ، عن بعض أصحابنا رفعه إلى أبي عبد الله عليه‌السلام قال : «قلت له : ما العقل؟ قال : ما عبد به الرحمان واكتسب به الجنان. قال : قلت : فالّذي كان في معاوية؟ فقال : تلك النكراء! تلك الشيطنة ، وهي شبيهة بالعقل ، وليست بالعقل».

[٢ / ٤٣٠٢] وعن ابن فضّال ، عن الحسن بن الجهم قال : سمعت الرضا عليه‌السلام يقول : «صديق كلّ امرء عقله ، وعدوّه جهله».

[٢ / ٤٣٠٣] وعن ابن فضّال وعن الحسن بن الجهم أيضا قال : قلت لأبي الحسن عليه‌السلام : «إنّ عندنا قوما لهم محبّة ، وليست لهم تلك العزيمة يقولون بهذا القول؟ فقال : ليس أولئك ممّن عاتب الله ، إنّما قال الله : فاعتبروا يا اولي الأبصار».

[٢ / ٤٣٠٤] وعن إسحاق بن عمّار قال : قال أبو عبد الله عليه‌السلام : «من كان عاقلا كان له دين ، ومن كان له دين دخل الجنّة».

[٢ / ٤٣٠٥] وعن أبي الجارود ، عن أبي جعفر عليه‌السلام قال : «إنّما يداقّ الله العباد في الحساب يوم القيامة على قدر ما آتاهم من العقول في الدنيا».

[٢ / ٤٣٠٦] وعن محمّد بن سليمان الديلمي ، عن أبيه قال : قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام : فلان من عبادته ودينه وفضله؟ فقال : كيف عقله؟ قلت : لا أدري ، فقال : «إنّ الثواب على قدر العقل ، إنّ رجلا من بني إسرائيل كان يعبد الله في جزيرة من جزائر البحر ، خضراء نضرة ، كثيرة الشجر ظاهرة الماء وإن ملكا من الملائكة مرّ به فقال : يا ربّ أرني ثواب عبدك هذا ، فأراه الله ذلك ، فاستقلّه الملك ، فأوحى الله إليه : أن اصحبه! فأتاه الملك في صورة إنسيّ فقال له : من أنت؟ قال : أنا رجل عابد بلغني مكانك وعبادتك في هذا المكان فأتيتك لأعبد الله معك ، فكان معه يومه ذلك فلمّا أصبح قال له الملك : إنّ مكانك لنزه وما يصلح إلّا للعبادة ، فقال له العابد : إنّ لمكاننا هذا عيبا ، فقال له : وما هو؟ قال : ليس لربّنا بهيمة فلو كان له حمار رعيناه في هذا الموضع ، فإنّ هذا الحشيش يضيع ، فقال له الملك : وما

٣٥٣

لربّك حمار؟ فقال : لو كان له حمار ما كان يضيع مثل هذا الحشيش ، فأوحى الله إلى الملك : إنّما أثيبه على قدر عقله».

[٢ / ٤٣٠٧] وعن النوفليّ ، عن السكونيّ ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «إذا بلغكم عن رجل حسن حال فانظروا في حسن عقله ، فإنّما يجازى بعقله».

[٢ / ٤٣٠٨] وعن عبد الله بن سنان قال : ذكرت لأبي عبد الله عليه‌السلام رجلا مبتلى بالوضوء والصلاة (١) وقلت : هو رجل عاقل ، فقال : أبو عبد الله وأيّ عقل له وهو يطيع الشيطان؟ فقلت له : وكيف يطيع الشيطان؟ فقال سله : هذا الّذي يأتيه من أيّ شيء هو؟ فإنّه يقول لك من عمل الشيطان (٢).

[٢ / ٤٣٠٩] وعن أحمد بن محمّد بن خالد ، عن بعض أصحابه ، رفعه قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «ما قسّم الله للعباد شيئا أفضل من العقل ، فنوم العاقل أفضل من سهر الجاهل ، وإقامة العاقل أفضل من شخوص الجاهل (٣) ولا بعث الله نبيّا ولا رسولا حتّى يستكمل العقل ، ويكون عقله أفضل من جميع عقول أمّته ، وما يضمر النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في نفسه أفضل من اجتهاد المجتهدين ، وما أدّى العبد فرائض الله حتّى عقل عنه ، ولا بلغ جميع العابدين في فضل عبادتهم ما بلغ العاقل ، والعقلاء هم اولو الألباب ، الّذين قال الله تعالى : (وَما يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُوا الْأَلْبابِ»)(٤).

[٢ / ٤٣١٠] وعن هشام بن الحكم قال : قال لي أبو الحسن موسى بن جعفر عليهما‌السلام : «يا هشام إنّ الله تبارك وتعالى بشّر أهل العقل والفهم في كتابه فقال : (فَبَشِّرْ عِبادِ الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولئِكَ الَّذِينَ هَداهُمُ اللهُ وَأُولئِكَ هُمْ أُولُوا الْأَلْبابِ)(٥).

يا هشام إنّ الله تبارك وتعالى أكمل للناس الحجج بالعقول ، ونصر النبيّين بالبيان ، ودلّهم على ربوبيّته بالأدلّة ، فقال : (وَإِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمنُ الرَّحِيمُ. إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِما يَنْفَعُ النَّاسَ وَما أَنْزَلَ اللهُ مِنَ السَّماءِ مِنْ

__________________

(١) أي بالوسواس في نيّتهما أو أفعالهما أو شرائطهما ، وسببه فساد العقل أو الجهل بالشرع.

(٢) فهو يعلم أنّ الوسوسة من عمل الشيطان لما في قوله تعالى (مِنْ شَرِّ الْوَسْواسِ الْخَنَّاسِ. الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ) ولكنّه لا يتمكّن من طرده حين العمل.

(٣) أي خروجه من بلده طلبا للخير والثواب كالحجّ والجهاد أو تحصيل العلم ونحو ذلك.

(٤) البقرة ٢ : ٢٦٩.

(٥) الزمر ٣٩ : ١٧ ـ ١٨.

٣٥٤

ماءٍ فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها وَبَثَّ فِيها مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّياحِ وَالسَّحابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ)(١).

يا هشام قد جعل الله ذلك دليلا على معرفته بأنّ لهم مدبّرا ، فقال : (وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومُ مُسَخَّراتٌ بِأَمْرِهِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ)(٢). وقال : (هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلاً ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ ثُمَّ لِتَكُونُوا شُيُوخاً وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى مِنْ قَبْلُ وَلِتَبْلُغُوا أَجَلاً مُسَمًّى وَلَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ)(٣) وقال : (إِنَّ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لَآياتٍ لِلْمُؤْمِنِينَ. وَفِي خَلْقِكُمْ وَما يَبُثُّ مِنْ دابَّةٍ آياتٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ. وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَما أَنْزَلَ اللهُ مِنَ السَّماءِ مِنْ رِزْقٍ فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها وَتَصْرِيفِ الرِّياحِ آياتٌ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ)(٤). وقال : (يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ)(٥). وقال : (وَجَنَّاتٌ مِنْ أَعْنابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوانٌ وَغَيْرُ صِنْوانٍ يُسْقى بِماءٍ واحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَها عَلى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ)(٦). وقال : (وَمِنْ آياتِهِ يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفاً وَطَمَعاً وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّماءِ ماءً فَيُحْيِي بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها. إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ)(٧). وقال : (قُلْ تَعالَوْا أَتْلُ ما حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ مِنْ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلا تَقْرَبُوا الْفَواحِشَ ما ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ إِلَّا بِالْحَقِّ ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ)(٨). وقال : (هَلْ لَكُمْ مِنْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ مِنْ شُرَكاءَ فِي ما رَزَقْناكُمْ فَأَنْتُمْ فِيهِ سَواءٌ تَخافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ كَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ)(٩).

يا هشام ثمّ وعظ أهل العقل ورغّبهم في الآخرة فقال : (وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلَّا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَلَلدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلا تَعْقِلُونَ)(١٠).

يا هشام ثمّ خوّف الّذين لا يعقلون عقابه فقال تعالى : (ثُمَّ دَمَّرْنَا الْآخَرِينَ. وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ

__________________

(١) البقرة ٢ : ١٦٣ ـ ١٦٤.

(٢) النحل ١٦ : ١٢.

(٣) المؤمن ٤٠ : ٦٧.

(٤) الجاثية ٤٥ : ٢ ـ ٥.

(٥) الحديد ٥٧ : ١٧.

(٦) الرعد ١٣ : ٤.

(٧) الروم ٣٠ : ٢٤.

(٨) الأنعام ٦ : ١٥١.

(٩) الروم ٣٠ : ٢٨.

(١٠) الأنعام ٦ : ٣٢.

٣٥٥

مُصْبِحِينَ. وَبِاللَّيْلِ أَفَلا تَعْقِلُونَ)(١). وقال : (إِنَّا مُنْزِلُونَ عَلى أَهْلِ هذِهِ الْقَرْيَةِ رِجْزاً مِنَ السَّماءِ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ. وَلَقَدْ تَرَكْنا مِنْها آيَةً بَيِّنَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ)(٢).

يا هشام إنّ العقل مع العلم فقال : (وَتِلْكَ الْأَمْثالُ نَضْرِبُها لِلنَّاسِ وَما يَعْقِلُها إِلَّا الْعالِمُونَ)(٣). يا هشام ثمّ ذمّ الّذين لا يعقلون فقال : (وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا ما أَنْزَلَ اللهُ قالُوا بَلْ نَتَّبِعُ ما أَلْفَيْنا عَلَيْهِ آباءَنا أَوَلَوْ كانَ آباؤُهُمْ لا يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلا يَهْتَدُونَ)(٤). وقال : (مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِما لا يَسْمَعُ إِلَّا دُعاءً وَنِداءً صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَعْقِلُونَ)(٥). وقال : (وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ وَلَوْ كانُوا لا يَعْقِلُونَ)(٦) وقال : (أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً)(٧). وقال : (لا يُقاتِلُونَكُمْ جَمِيعاً إِلَّا فِي قُرىً مُحَصَّنَةٍ أَوْ مِنْ وَراءِ جُدُرٍ بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعاً وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ)(٨). وقال : (وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتابَ أَفَلا تَعْقِلُونَ)(٩).

يا هشام ثمّ ذمّ الله الكثرة فقال : (وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ)(١٠). وقال : (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ)(١١). وقال : (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ نَزَّلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ مَوْتِها لَيَقُولُنَّ اللهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ)(١٢).

يا هشام ثمّ مدح القلّة فقال : (وَقَلِيلٌ مِنْ عِبادِيَ الشَّكُورُ)(١٣). وقال : (وَقَلِيلٌ ما هُمْ)(١٤). وقال : (وَقالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمانَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلاً أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللهُ)(١٥). وقال : (وَمَنْ آمَنَ وَما

__________________

(١) الصافّات ٣٧ : ١٣٦ ـ ١٣٨.

(٢) العنكبوت ٢٩ : ٣٤ ـ ٣٥.

(٣) العنكبوت ٢٩ : ٤٣.

(٤) البقرة ٢ : ١٧٠.

(٥) البقرة ٢ : ١٧١.

(٦) يونس ١٠ : ٤٣.

(٧) الفرقان ٢٥ : ٤٤.

(٨) الحشر ٥٩ : ١٤.

(٩) البقرة ٢ : ٤٤.

(١٠) الأنعام ٦ : ١١٦.

(١١) لقمان ٣١ : ٢٥.

(١٢) العنكبوت ٢٩ : ٦٣.

(١٣) سبأ ٣٤ : ١٣.

(١٤) سورة ص ٣٨ : ٢٤.

(١٥) المؤمن ٤٠ : ٢٨.

٣٥٦

آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ)(١). وقال : (وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ)(٢). وقال : (وَأَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ)(٣).

يا هشام ثمّ ذكر اولي الألباب بأحسن الذكر وحلّاهم بأحسن الحلية ، فقال : (يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً وَما يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُوا الْأَلْبابِ)(٤) وقال : (وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنا وَما يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُوا الْأَلْبابِ)(٥) وقال (إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ لَآياتٍ لِأُولِي الْأَلْبابِ)(٦). وقال : (أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمى إِنَّما يَتَذَكَّرُ أُولُوا الْأَلْبابِ)(٧). وقال : (أَمَّنْ هُوَ قانِتٌ آناءَ اللَّيْلِ ساجِداً وَقائِماً يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُوا رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ إِنَّما يَتَذَكَّرُ أُولُوا الْأَلْبابِ)(٨). وقال : (كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ مُبارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آياتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُوا الْأَلْبابِ)(٩). وقال : (وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْهُدى وَأَوْرَثْنا بَنِي إِسْرائِيلَ الْكِتابَ. هُدىً وَذِكْرى لِأُولِي الْأَلْبابِ)(١٠). وقال : (وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ)(١١).

يا هشام إنّ الله تعالى يقول في كتابه : (إِنَّ فِي ذلِكَ لَذِكْرى لِمَنْ كانَ لَهُ قَلْبٌ)(١٢) يعني : عقل : وقال : (وَلَقَدْ آتَيْنا لُقْمانَ الْحِكْمَةَ)(١٣). قال : الفهم والعقل.

يا هشام إنّ لقمان قال لابنه : تواضع للحقّ تكن أعقل الناس ، وإنّ الكيّس لدى الحقّ يسير ، يا بنيّ إنّ الدنيا بحر عميق ، قد غرق فيها عالم كثير فلتكن سفينتك فيها تقوى الله ، وحشوها الإيمان وشراعها التوكّل ، وقيّمها العقل ، ودليلها العلم ، وسكّانها الصبر.

يا هشام إنّ لكلّ شيء دليلا ودليل العقل التفكّر ، ودليل التفكّر الصمت ، ولكلّ شيء مطيّة ومطيّة العقل التواضع وكفى بك جهلا أن تركب ما نهيت عنه.

يا هشام ما بعث الله أنبياءه ورسله إلى عباده إلّا ليعقلوا عن الله ، فأحسنهم استجابة أحسنهم

__________________

(١) هود ١١ : ٤٠.

(٢) الأنعام ٦ : ٣٧.

(٣) المائدة ٥ : ١٠٣.

(٤) البقرة ٢ : ٢٦٩.

(٥) آل عمران ٣ : ٧.

(٦) آل عمران ٣ : ١٩٠.

(٧) الرعد ١٣ : ١٩.

(٨) الزمر ٣٩ : ٩.

(٩) سورة ص ٣٨ : ٢٩.

(١٠) المؤمن ٤٠ : ٥٣ ـ ٥٤.

(١١) الذاريات ٥١ : ٥٥.

(١٢) سورة ق ٥٠ : ٣٧.

(١٣) لقمان ٣١ : ١٢.

٣٥٧

معرفة ، وأعلمهم بأمر الله أحسنهم عقلا ، وأكملهم عقلا أرفعهم درجة في الدنيا والآخرة.

يا هشام إنّ لله على الناس حجّتين : حجّة ظاهرة وحجّة باطنة ، فأمّا الظاهرة فالرسل والأنبياء والأئمّة عليهم‌السلام وأمّا الباطنة فالعقول.

يا هشام إنّ العاقل الّذي لا يشغل الحلال شكره ، ولا يغلب الحرام صبره.

يا هشام من سلّط ثلاثا على ثلاث فكأنّما أعان على هدم عقله : من أظلم نور تفكّره بطول أمله ، ومحى طرائف حكمته بفضول كلامه ، وأطفأ نور عبرته بشهوات نفسه ، فكأنّما أعان هواه على هدم عقله ، ومن هدم عقله ، أفسد عليه دينه ودنياه.

يا هشام كيف يزكو عند الله عملك ، وأنت قد شغلت قلبك عن أمر ربّك وأطعت هواك على غلبة عقلك.

يا هشام الصبر على الوحدة علامة قوّة العقل ، فمن عقل عن الله اعتزل أهل الدنيا والراغبين فيها ، ورغب فيما عند الله ، وكان الله أنسه في الوحشة ، وصاحبه في الوحدة ، وغناه في العيلة ، ومعزّه من غير عشيرة.

يا هشام نصب الحقّ لطاعة الله ، ولا نجاة إلّا بالطاعة ، والطاعة بالعلم ، والعلم بالتعلّم ، والتعلّم بالعقل يعتقد (١) ، ولا علم إلّا من عالم ربّانيّ ، ومعرفة العلم بالعقل.

يا هشام قليل العمل من العالم مقبول مضاعف ، وكثير العمل من أهل الهوى والجهل مردود.

يا هشام إنّ العاقل رضي بالدون من الدنيا مع الحكمة ، ولم يرض بالدون من الحكمة مع الدنيا ، فلذلك ربحت تجارتهم.

يا هشام إنّ العقلاء تركوا فضول الدّنيا فكيف الذنوب ، وترك الدنيا من الفضل ، وترك الذنوب من الفرض.

يا هشام إنّ العاقل نظر إلى الدنيا وإلى أهلها فعلم أنّها لا تنال إلّا بالمشقّة ، ونظر إلى الآخرة فعلم أنّها لا تنال إلّا بالمشقّة ، فطلب بالمشقّة أبقاهما.

يا هشام إنّ العقلاء زهدوا في الدنيا ورغبوا في الآخرة ، لأنّهم علموا أنّ الدنيا طالبة مطلوبة

__________________

(١) أي يشدّ ويستحكم وفي بعض النسخ «يعتقل».

٣٥٨

والآخرة طالبة ومطلوبة ، فمن طلب الآخرة طلبته الدنيا حتّى يستوفي منها رزقه ، ومن طلب الدنيا طلبته الآخرة فيأتيه الموت ، فيفسد عليه دنياه وآخرته.

يا هشام من أراد الغنى بلا مال ، وراحة القلب من الحسد ، والسلامة في الدين فليتضرّع إلى الله ـ عزوجل ـ في مسألته بأن يكمّل عقله ، فمن عقل قنع بما يكفيه ، ومن قنع بما يكفيه استغنى ، ومن لم يقنع بما يكفيه لم يدرك الغنى أبدا :

يا هشام إنّ الله حكى عن قوم صالحين : أنّهم قالوا : (رَبَّنا لا تُزِغْ قُلُوبَنا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنا وَهَبْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ) حين علموا أنّ القلوب تزيغ وتعود إلى عماها ورداها.

إنّه لم يخف الله من لم يعقل عن الله ، ومن لم يعقل عن الله لم يعقد قلبه على معرفة ثابتة يبصرها ويجد حقيقتها في قلبه ، ولا يكون أحد كذلك إلّا من كان قوله لفعله مصدّقا ، وسرّه لعلانيته موافقا ، لأنّ الله تبارك اسمه لم يدلّ على الباطن الخفيّ من العقل إلّا بظاهر منه ، وناطق عنه.

يا هشام كان أمير المؤمنين عليه‌السلام يقول : ما عبد الله بشيء أفضل من العقل ، وما تمّ عقل امرء حتّى يكون فيه خصال شتّى : الكفر والشرّ منه مأمونان ، والرشد والخير منه مأمولان ، وفضل ماله مبذول ، وفضل قوله مكفوف ، ونصيبه من الدنيا القوت ، لا يشبع من العلم دهره. الذلّ أحبّ إليه مع الله من العزّ مع غيره ، والتواضع أحبّ إليه من الشرف ، يستكثر قليل المعروف من غيره ، ويستقلّ كثير المعروف من نفسه ، ويرى الناس كلّهم خيرا منه ، وأنّه شرّهم في نفسه ، وهو تمام الأمر.

يا هشام إنّ العاقل لا يكذب وإن كان فيه هواه.

يا هشام لا دين لمن لا مروّة له ، ولا مروّة لمن لا عقل له ، وإنّ أعظم الناس قدرا الّذي لا يرى الدنيا لنفسه خطرا. أما إنّ أبدانكم ليس لها ثمن إلّا الجنّة فلا تبيعوها بغيرها.

يا هشام إنّ أمير المؤمنين عليه‌السلام كان يقول : إنّ من علامة العاقل أن يكون فيه ثلاث خصال : يجيب إذا سئل ، وينطق إذا عجز القوم عن الكلام ، ويشير بالرأي الّذي يكون فيه صلاح أهله ، فمن لم يكن فيه من هذه الخصال الثلاث شيء فهو أحمق.

إنّ أمير المؤمنين عليه‌السلام قال : لا يجلس في صدر المجلس إلّا رجل فيه هذه الخصال الثلاث أو واحدة منهنّ ، فمن لم يكن فيه شيء منهنّ فجلس فهو أحمق.

وقال الحسن بن عليّ عليه‌السلام : إذا طلبتم الحوائج فاطلبوها من أهلها ، قيل يا ابن رسول الله ومن

٣٥٩

أهلها؟ قال : الّذين قصّ الله في كتابه وذكرهم ، فقال : (إِنَّما يَتَذَكَّرُ أُولُوا الْأَلْبابِ) قال : هم أولو العقول.

وقال عليّ بن الحسين عليه‌السلام : مجالسة الصالحين داعية إلى الصلاح ، وآداب العلماء زيادة في العقل ، وطاعة ولاة العدل تمام العزّ ، واستثمار المال تمام المروّة ، وإرشاد المستشير قضاء لحقّ النعمة ، وكفّ الأذى من كمال العقل ، وفيه راحة البدن عاجلا وآجلا.

يا هشام إنّ العاقل لا يحدّث من يخاف تكذيبه ، ولا يسأل من يخاف منعه ، ولا يعد ما لا يقدر عليه ، ولا يرجو ما يعنّف برجائه ، ولا يقدم على ما يخاف فوته بالعجز عنه».

[٢ / ٤٣١١] وعن سهل بن زياد رفعه قال : قال أمير المؤمنين عليه‌السلام : «العقل غطاء ستير ، والفضل جمال ظاهر ، فاستر خلل خلقك بفضلك وقاتل هواك بعقلك ، تسلم لك المودّة ، وتظهر لك المحبّة».

[٢ / ٤٣١٢] وعن سماعة بن مهران قال : كنت عند أبي عبد الله عليه‌السلام وعنده جماعة من مواليه فجرى ذكر العقل والجهل فقال أبو عبد الله عليه‌السلام : «اعرفوا العقل وجنده والجهل وجنده تهتدوا ، قال سماعة : فقلت : جعلت فداك لا نعرف إلّا ما عرّفتنا ، فقال أبو عبد الله عليه‌السلام : إنّ الله ـ عزوجل ـ خلق العقل وهو أوّل خلق من الروحانيّين (١) عن يمين العرش من نوره فقال له : أدبر فأدبر ؛ ثمّ قال له : أقبل فأقبل ؛ فقال الله تبارك وتعالى : خلقتك خلقا عظيما وكرّمتك على جميع خلقي ، قال : ثمّ خلق الجهل من البحر الاجاج ظلمانيّا فقال له : أدبر فأدبر ؛ ثمّ قال له : أقبل فلم يقبل. فقال له : استكبرت فلعنه ، ثمّ جعل للعقل خمسة وسبعين جندا فلمّا رأى الجهل ما أكرم الله به العقل وما أعطاه ، أضمر له العداوة فقال الجهل : يا ربّ هذا خلق مثلي خلقته وكرّمته وقوّيته وأنا ضدّه ولا قوّة لي به فأعطني من الجند مثل ما أعطيته فقال : نعم فإن عصيت بعد ذلك أخرجتك وجندك من رحمتي قال : قد رضيت فأعطاه خمسة وسبعين جندا فكان ممّا أعطى العقل من الخمسة والسبعين ، والجند (٢) : ىالخير وهو وزير العقل وجعل ضدّه الشرّ وهو وزير الجهل ؛ والايمان وضدّه الكفر ؛ والتصديق وضدّه الجحود ؛ والرجاء وضدّه القنوط ؛ والعدل وضدّه الجور ؛ والرضا وضدّه السخط ؛ والشكر وضدّه الكفران ؛ والطمع وضدّه اليأس ؛ والتوكّل وضدّه الحرص ؛ والرأفة وضدّها القسوة ؛ والرحمة

__________________

(١) يطلق الروحاني على الأجسام اللطيفة وعلى الجواهر المجرّدة إن قيل بها.

(٢) المذكور هنا ثمانية وسبعون جندا ولكن قد تكرّر ذكر بعض الجنود.

٣٦٠