التفسير الأثري الجامع - ج ٤

الشيخ محمّد هادي معرفة

التفسير الأثري الجامع - ج ٤

المؤلف:

الشيخ محمّد هادي معرفة


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة التمهيد ـ قم
المطبعة: ستاره
الطبعة: ١
ISBN: 978-600-5079-05-0
ISBN الدورة:
978-600-5079-08-1

الصفحات: ٥٦٠

[٢ / ٣٣١٦] وقال مقاتل بن سليمان : (وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هذا بَلَداً آمِناً) يعني مكّة فقال الله ـ عزوجل ـ : نعم ، فحرّمه من الخوف. (وَارْزُقْ أَهْلَهُ) من المقيمين بمكّة (مِنَ الثَّمَراتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللهِ) يعني من صدّق منهم بالله (وَالْيَوْمِ الْآخِرِ) وصدّق بالله أنّه واحد لا شريك له ، وصدّق بالبعث الذي فيه جزاء الأعمال ، فأمّا مكّة فجعلها الله أمنا. وأمّا الرزق فإنّ إبراهيم اختصّ بمسائلته الرزق للمؤمنين. (قالَ وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ) أي قال الله ـ عزوجل ـ : والّذين كفروا أرزقهم أيضا مع الّذين آمنوا ، ولكنّها لهم متعة من الدنيا (قَلِيلاً ثُمَّ أَضْطَرُّهُ) ألجئه إن مات على كفره (إِلى عَذابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ). (١)

قوله تعالى : (وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْراهِيمُ الْقَواعِدَ مِنَ الْبَيْتِ)

[٢ / ٣٣١٧] أخرج الأزرقي عن قتادة في قوله : (وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْراهِيمُ الْقَواعِدَ مِنَ الْبَيْتِ) قال : ذكر لنا أنّه بناه من خمسة أجبل. من طور سينا ، وطور زيتا ، ولبنان ، والجوديّ ، وحراء ، وذكر لنا أنّ قواعده من حراء. (٢)

[٢ / ٣٣١٨] وأخرج الأزرقي عن عثمان بن ساج قال : بلغنا ـ والله أعلم ـ أنّ إبراهيم عرج به إلى السماء ، فنظر إلى الأرض مشارقها ومغاربها فاختار موضع الكعبة ، فقالت له الملائكة : يا خليل الله اخترت حرم الله في الأرض؟ فبناه من حجارة سبعة أجبل ويقولون خمسة ، فكانت الملائكة تأتي بالحجارة إلى إبراهيم من تلك الجبال. (٣)

[٢ / ٣٣١٩] وأخرج الأزرقي وأبو الشيخ في العظمة وابن عساكر عن ابن عبّاس قال : لمّا أهبط الله آدم إلى الأرض من الجنّة كان رأسه في السماء ، ورجلاه في الأرض ، وهو مثل الفلك من رعدته ، فطأطأ الله منه إلى ستّين ذراعا فقال : يا ربّ ما لي لا أسمع أصوات الملائكة ولا أحسّهم؟ قال : خطيئتك يا آدم ، ولكن اذهب فابن لي بيتا فطف به ، واذكرني حوله كنحو ما رأيت الملائكة تصنع حول عرشي ، فأقبل آدم يتخطّى فطويت له الأرض ، وقبض الله له المفاوز فصارت كلّ مفازة يمرّ بها خطوة ، وقبض الله ما كان فيها من مخاض أو بحر ، فجعله له خطوة ، ولم يقع قدمه في شيء من

__________________

(١) تفسير مقاتل ١ : ١٣٨.

(٢) الدرّ ١ : ٣٢٣.

(٣) المصدر : ٣٢٢.

٨١

الأرض إلّا صار عمرانا وبركة ، حتّى انتهى إلى مكّة فبنى البيت الحرام ، وإنّ جبريل عليه‌السلام ضرب بجناحه الأرض ، فأبرز عن أسّ ثابت على الأرض السابعة ، فقذفت فيه الملائكة الصخر ، ما يطيق الصخرة منها ثلاثون رجلا ، وإنّه بناه من خمسة أجبل. من لبنان ، وطور زيتا ، وطور سينا ، والجوديّ ، وحراء ، حتّى استوى على وجه الأرض ، فكان أوّل من أسّس البيت وصلّى فيه وطاف به آدم عليه‌السلام ، حتّى بعث الله الطوفان فكان غضبا ورجسا ، فحيثما انتهى الطوفان ذهب ريح آدم عليه‌السلام ، ولم يقرب الطوفان أرض السند والهند ، فدرس موضع البيت في الطوفان حتّى بعث الله إبراهيم وإسماعيل عليهما‌السلام ، فرفعا قواعده وأعلامه ، ثمّ بنته قريش بعد ذلك وهو بحذاء البيت المعمور ، لو سقط ما سقط إلّا عليه. (١)

[٢ / ٣٣٢٠] وأخرج أبو الشيخ في العظمة عن ابن عبّاس ، أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : «إنّ البيت الذي بوّأه الله لآدم كان من ياقوتة حمراء لها بابان أحدهما شرقي والآخر غربيّ ، فكان فيها قناديل من نور الجنّة ، آنيتها الذهب منظومة بنجوم من ياقوت أبيض ، والركن يومئذ نجم من نجومه ، ووضع لها صفّا من الملائكة على أطراف الحرم ، فهم اليوم يذبّون عنه لأنّه شيء من الجنّة ، لا ينبغي أن ينظر إليه إلّا من وجبت له الجنّة ومن نظر إليها دخلها ، وإنّما سمّي الحرم لأنّهم لا يجاوزونه ، وإنّ الله وضع البيت لآدم حيث وضعه والأرض يومئذ طاهرة لم يعمل عليها شيء من المعاصي ، وليس لها أهل ينجّسونها ، وكان سكّانها الجنّ». (٢)

[٢ / ٣٣٢١] وأخرج الطبراني عن ابن عمر قال : نزل الركن الأسود من السماء فوضع على أبي قبيس كأنّه مهاة بيضاء ، فمكث أربعين سنة ثمّ وضع على قواعد إبراهيم. (٣)

[٢ / ٣٣٢٢] وأخرج الجندي عن معمر قال : إنّ سفينة نوح طافت بالبيت سبعا حتّى إذا أغرق الله قوم نوح ، رفعه وبقي أساسه ، فبوّأه الله لإبراهيم فبناه بعد ذلك. وذلك قوله تعالى : (وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْراهِيمُ الْقَواعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْماعِيلُ) واستودع الركن أبا قبيس حتّى إذا كان بناء إبراهيم نادى أبو قبيس

__________________

(١) الدرّ ١ : ٣١٣ ؛ العظمة ٥ : ١٥٤٨ / ١٠٠٩ ـ ٨ ؛ ابن عساكر ٧ : ٤٢١.

(٢) الدرّ ١ : ٣٢٤ ؛ العظمة ٥ : ١٥٨٥ / ١٠٥٠.

(٣) الدرّ ١ : ٣٢٥ ؛ مجمع الزوائد ٣ : ٢٤٣ ، باب فضل الحجر الأسود ، قال الهيثمي : رواه الطبراني في الكبير ورجاله ثقات.

٨٢

إبراهيم فقال : يا إبراهيم! هذا الركن! فجاء فحفر عنه فجعله في البيت حين بناه إبراهيم عليه‌السلام. (١)

[٢ / ٣٣٢٣] وأخرج الأزرقي والجندي عن ابن عبّاس قال : إنّ هذا الركن الأسود يمين الله في الأرض يصافح به عباده. (٢)

[٢ / ٣٣٢٤] وأخرج البزّار عن أنس عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : «الحجر الأسود من حجارة الجنّة». (٣)

[٢ / ٣٣٢٥] وأخرج الطبراني عن ابن عبّاس قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «الحجر الأسود من حجارة الجنّة ، وما في الأرض من الجنّة غيره ، وكان أبيض كالمها ، ولو لا ما مسّه من رجس الجاهلية ما مسّه ذو عاهة إلّا برىء». (٤)

[٢ / ٣٣٢٦] وأخرج الأزرقي عن ابن عبّاس قال : لو لا أنّ الحجر تمسّه الحائض وهي لا تشعر والجنب وهو لا يشعر ، ما مسّه أجذم ولا أبرص إلّا برىء. (٥)

[٢ / ٣٣٢٧] وأخرج الطبراني في الأوسط عن جابر قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «إنّ للكعبة لسانا وشفتين ، وقد اشتكت فقالت : يا ربّ قلّ عوّادي وقلّ زوّاري. فأوحى الله : إنّي خالق بشرا خشّعا سجّدا ، يحنّون إليك كما تحنّ الحمامة إلى بيضها». (٦)

[٢ / ٣٣٢٨] وأخرج الجندي عن وهيب بن الورد قال : كنت أطوف أنا وسفيان بن سعيد الثوري ليلا ، فانقلب سفيان وبقيت في الطواف ، فدخلت الحجر فصلّيت تحت الميزاب ، فبينا أنا ساجد إذ سمعت كلاما بين أستار الكعبة والحجارة ، وهي تقول : يا جبريل أشكو إلى الله ثمّ إليك ما يفعل هؤلاء الطائفون حولي ، تفكّههم في الحديث ولغطهم وشؤمهم. قال وهيب : فأوّلت أنّ البيت يشكو إلى جبريل عليه‌السلام. (٧)

__________________

(١) الدرّ ١ : ٣١٦.

(٢) المصدر : ٣٢٤.

(٣) الدرّ ١ : ٣٢٣ ؛ مختصر زوائد مسند البزّار ١ : ٤٥٣ ـ ٤٥٤ / ٧٦٩ ؛ كنز العمّال ١٢ : ٢١٤ / ٣٤٧٢٥.

(٤) الدرّ ١ : ٣٢٥ ؛ الكبير ١١ : ١١٨ / ١١٣١٤ ؛ مجمع الزوائد ٣ : ٢٤٢ ، باب فضل الحجر الأسود.

(٥) الدرّ ١ : ٣٢٦.

(٦) الدرّ ١ : ٣٢٠ ؛ الأوسط ٦ : ١٥٤ ـ ١٥٥ / ٦٠٦٦ ؛ مجمع الزوائد ٣ : ٢٠٨.

(٧) الدرّ ١ : ٣٣٠.

٨٣

[٢ / ٣٣٢٩] وأخرج الأزرقي عن ابن المرتفع قال : كنّا مع ابن الزبير في الحجر ، فأوّل حجر من المنجنيق وقع في الكعبة سمعنا لها أنينا كأنين المريض : آه آه. (١)

[٢ / ٣٣٣٠] وروى الكليني بإسناده إلى معاوية بن عمّار قال : سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن الحجر أمن البيت هو أو فيه شيء من البيت؟ فقال : لا ولا قلامة ظفر ، ولكن إسماعيل دفن أمّه فيه ، فكره أن توطأ فحجر عليه حجرا وفيه قبور أنبياء. (٢)

[٢ / ٣٣٣١] وأخرج الجندي في فضائل مكّة عن وهب بن منبّه قال : ما بعث الله ملكا قطّ ولا سحابة ، فيمرّ حيث بعث حتّى يطوف بالبيت ثمّ يمضي حيث أمر. (٣)

[٢ / ٣٣٣٢] وأخرج الأزرقي عن ابن عبّاس ، أنّ جبريل وقف على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وعليه عصابة خضراء قد علاها الغبار ، فقال له رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : ما هذا الغبار الذي أرى على عصابتك؟ قال : إنّي زرت البيت فازدحمت الملائكة على الركن ، فهذا الغبار الذي ترى ممّا تثير بأجنحتها!! (٤)

[٢ / ٣٣٣٣] وأخرج الأزرقي عن مجاهد قال : حجّ موسى عليه‌السلام على جمل أحمر ، فمرّ بالروحاء عليه عباءتان قطوانيّتان ، متّزر بإحداهما مرتد بالأخرى ، فطاف بالبيت ثمّ طاف بين الصفا والمروة ، فبينما هو يطوف ويلبّي بين الصفا والمروة إذ سمع صوتا من السماء ، وهو يقول : لبيّك عبدي أنا معك ، فخّر موسى ساجدا. (٥)

[٢ / ٣٣٣٤] وأخرج أحمد في الزهد عن مجاهد قال : حجّ البيت سبعون نبيّا ، منهم موسى بن عمران عليه عباءتان قطوانيّتان ، ومنهم يونس يقول : لبّيك كاشف الكرب لبّيك. (٦)

قوله تعالى : (رَبَّنا وَاجْعَلْنا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ)

[٢ / ٣٣٣٥] أخرج ابن أبي حاتم عن عبد الكريم في قوله تعالى : (رَبَّنا وَاجْعَلْنا مُسْلِمَيْنِ) قال : مخلصين (٧).

__________________

(١) المصدر.

(٢) الكافي ٤ : ٢١٠ / ١٥ ؛ البحار ١٢ : ١١٧ / ٥٥ ، باب ٥.

(٣) الدرّ ١ : ٣١٢.

(٤) الدرّ ١ : ٣٢٠.

(٥) المصدر : ٣٢٧ ـ ٣٢٨.

(٦) الدرّ ١ : ٣١٣ ؛ الزهد : ٧٤ / ١٨١.

(٧) الدرّ ١ : ٣٣١ ؛ ابن أبي حاتم ١ : ٢٣٤ / ١٢٤٥.

٨٤

[٢ / ٣٣٣٦] وأخرج ابن أبي حاتم عن سلّام بن أبي مطيع في هذه الآية قال : كانا مسلمين ولكن سألاه الثبات (١).

[٢ / ٣٣٣٧] وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن السدّي في قوله : (وَمِنْ ذُرِّيَّتِنا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ :) يعنيان العرب! (٢)

قوله تعالى : (وَأَرِنا مَناسِكَنا)

[٢ / ٣٣٣٨] أخرج ابن أبي شيبة عن أبي مجلز في قوله : (وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْراهِيمُ الْقَواعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْماعِيلُ) قال : لمّا فرغ إبراهيم من البيت جاءه جبريل أراه الطواف بالبيت والصفا والمروة ، ثمّ انطلقا إلى العقبة فعرض لهما الشيطان ، فأخذ جبريل سبع حصيات وأعطى إبراهيم سبع حصيات ، فرمى وكبّر وقال لإبراهيم : إرم وكبّر فرميا وكبّرا مع كلّ رمية حتّى أفل الشيطان ، ثمّ انطلقا إلى الجمرة الوسطى فعرض لهما الشيطان ، فأخذ جبريل سبع حصيات وأعطى إبراهيم سبع حصيات فرميا وكبّرا مع كلّ رمية حتّى أفل الشيطان ، ثمّ أتيا الجمرة القصوى فعرض لهما الشيطان ، فأخذ جبريل سبع حصيات وأعطى إبراهيم سبع حصيات ، وقال : ارم وكبّر. فرميا وكبّرا مع كلّ رمية حتّى أفل ، ثمّ أتى به إلى منى فقال : هاهنا يحلق الناس رؤوسهم ، ثمّ أتى به جمعا فقال : هاهنا يجمع الناس الصلاة ، ثمّ أتى به عرفات فقال : عرفت؟ قال : نعم. فمن ثمّ سمّيت عرفات! (٣)

[٢ / ٣٣٣٩] وأخرج الأزرقي عن مجاهد في قوله : (وَأَرِنا مَناسِكَنا) قال : مذابحنا (٤).

__________________

(١) ابن أبي حاتم ١ : ٢٣٤ / ١٢٤٣.

(٢) الطبري ١ : ٧٦٩ / ١٦٩٩ ، وزاد الطبري : «وهذا قول يدلّ ظاهر الكتاب على خلافه ، لأنّ ظاهره يدلّ على أنّهما دعوا الله أن يجعل من ذرّيّتهما أهل طاعته وولايته والمستجيبين لأمره ، وقد كان في ولد إبراهيم العرب وغير العرب ، والمستجيب لأمر الله والخاضع له بالطاعة من الفريقين» ؛ ابن أبي حاتم ١ : ٢٣٤ / ١٢٤٦ ؛ التبيان ١ : ٤٦٤ ؛ مجمع البيان ١ : ٣٩٢ ، وقال الطبرسي : والصحيح : أنّ المراد من الأمّة ، الأولاد.

(٣) الدرّ ١ : ٣٣٢ ؛ ابن أبي حاتم ١ : ٢٣٥ / ١٢٥٢ ؛ المصنّف ٤ : ٤٢١ / ٨ ، باب ٣١٣.

(٤) الدرّ ١ : ٣٣٣ ؛ الطبري ١ : ٧٧٠ / ١٧٠٤ ، عن مجاهد بطريقين ، ابن أبي حاتم ١ : ٢٣٥ / ١٢٥١ ، وكذا عن عطاء وقتادة ؛ عبد الرزّاق ١ : ٢٩٣ / ١٣٠ ؛ الثعلبي ١ : ٢٧٥.

٨٥

[٢ / ٣٣٤٠] وأخرج عبد بن حميد عن قتادة في قوله : (وَأَرِنا مَناسِكَنا) قال : أراهما الله مناسكهما : الموقف بعرفات ، والإفاضة من جمع ، ورمي الجمار والطواف بالبيت ، والسعي بين الصفا والمروة (١).

[٢ / ٣٣٤١] وقال مقاتل بن سليمان : ثمّ قالا : (رَبَّنا وَاجْعَلْنا مُسْلِمَيْنِ لَكَ) يعني مخلصين لك (وَمِنْ ذُرِّيَّتِنا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنا مَناسِكَنا) يعني علّمنا مناسكنا. نظيرها : (بِما أَراكَ اللهُ)(٢) يعني بما علّمك الله. ونظيرها : (وَلَمَّا يَعْلَمِ اللهُ)(٣) يعني يرى الله. ونظيرها أيضا : (وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ)(٤) يعنى ويعلم. ونظيرها : (فَلَيَعْلَمَنَّ اللهُ الَّذِينَ صَدَقُوا) يعني وليرى الله (وَلَيَعْلَمَنَّ الْكاذِبِينَ)(٥) يعني ويرى.

(وَأَرِنا مَناسِكَنا) فنصلّي لك (وَتُبْ عَلَيْنا) يعني إبراهيم وإسماعيل أنفسهما (إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ) ففعل الله ـ عزوجل ـ ذلك به فنزل جبريل فانطلق بإبراهيم إلى عرفات وإلى المشاعر ليريه ويعلّمه كيف يسأل ربّه (٦).

[٢ / ٣٣٤٢] وأخرج الطيالسي وأحمد وابن أبي حاتم والبيهقي في شعب الإيمان عن ابن عبّاس قال : إنّ إبراهيم لمّا اري المناسك عرض له الشيطان عند المسعى ، فسابق إبراهيم فسبقه إبراهيم ، ثمّ انطلق به جبريل حتّى أراه منى فقال : هذا مناخ الناس. فلمّا انتهى إلى جمرة العقبة فعرض له الشيطان ، فرماه بسبع حصيات حتّى ذهب ، ثمّ أتى به جمرة الوسطى فعرض له الشيطان ، فرماه بسبع حصيات حتّى ذهب ، ثمّ أتى به جمرة القصوى فعرض له الشيطان ، فرماه بسبع حصيات حتّى ذهب ، فأتى به جمعا فقال : هذا المشعر. ثمّ أتى به عرفة فقال : هذه عرفة. فقال له جبريل : أعرفت؟ قال : نعم. ولذلك سمّيت عرفة. أتدري كيف كانت التلبية؟ : إنّ إبراهيم لمّا امر أن يؤذّن في الناس

__________________

(١) الدرّ ١ : ٣٣٤ ؛ الطبري ١ : ٧٦٩ / ١٧٠٠.

(٢) النساء ٤ : ١٠٥. قوله تعالى : (إِنَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِما أَراكَ اللهُ ...).

(٣) آل عمران ٣ : ٤٢. قوله تعالى : (أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللهُ الَّذِينَ جاهَدُوا مِنْكُمْ).

(٤) سبأ ٣٤ : ٦. قوله تعالى : (وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ هُوَ الْحَقَّ وَيَهْدِي إِلى صِراطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ).

(٥) العنكبوت ٢٩ : ٣.

(٦) تفسير مقاتل ١ : ١٣٩.

٨٦

بالحجّ ، امرت الجبال فخفضت رؤوسها ورفعت له القرى ، فأذّن في الناس بالحجّ! (١)

[٢ / ٣٣٤٣] وأخرج ابن خزيمة والطبراني والحاكم وصحّحه والبيهقي في شعب الإيمان عن ابن عبّاس رفعه قال : لمّا أتى إبراهيم خليل الله المناسك عرض له الشيطان عند جمرة العقبة ، فرماه بسبع حصيات حتّى ساخ في الأرض ، ثمّ عرض له عند الجمرة الثانية ، فرماه بسبع حصيات حتّى ساخ في الأرض ، ثمّ عرض له عند الجمرة الثالثة ، فرماه بسبع حصيات حتّى ساخ في الأرض ، قال ابن عبّاس : الشيطان ترجمون ، وملّة أبيكم إبراهيم تتّبعون! (٢)

[٢ / ٣٣٤٤] وأخرج الجندي عن مجاهد قال : قال الله لإبراهيم عليه‌السلام : قم فابن لي بيتا. قال : أي ربّ أين؟ قال : سأخبرك. فبعث الله إليه سحابة لها رأس فقالت : يا إبراهيم إنّ ربّك يأمرك أن تخطّ قدر هذه السحابة! قال : فجعل إبراهيم ينظر إلى السحابة ويخطّ. فقالت : قد فعلت؟ قال : نعم. فارتفعت السحابة. فحفر إبراهيم فأبرز عن أساس نابت من الأرض فبنى إبراهيم ، فلمّا فرغ قال : أي ربّ قد فعلت ، فأرنا مناسكنا. فبعث الله إليه جبريل يحجّ به ، حتّى إذا جاء يوم النحر عرض له إبليس فقال له جبريل : احصب ، فحصب بسبع حصيات ، ثمّ الغد ، ثمّ اليوم الثالث فالرابع ، ثمّ قال : أعل ثبيرا (٣). فعلا ثبيرا فقال : أي عباد الله أجيبوا ، أي عباد الله أطيعوا الله. فسمع دعوته ما بين الأبحر ممّن في قلبه مثقال ذرّة من الإيمان ، قالوا : لبّيك اللهمّ لبّيك ، أطعناك اللهمّ أطعناك ، وهي الّتي أتى الله إبراهيم في المناسك : لبّيك اللهمّ لبّيك ، ولم يزل على الأرض سبعة مسلمون فصاعدا ، لو لا ذلك هلكت الأرض ومن عليها (٤).

__________________

(١) الدرّ ١ : ٣٣٣ ـ ٣٣٤ ؛ مسند الطيالسي : ٣٥١ ـ ٣٥٢ / ٢٦٩٧ ؛ مسند أحمد ١ : ٢٩٧ ـ ٢٩٨ ؛ ابن أبي حاتم ١ : ٢٣٤ ـ ٢٣٥ / ١٢٥٠ ؛ الشعب ٣ : ٤٦٥ ، ضمن الحديث ٤٠٧٧. مجمع الزوائد ٣ : ٢٥٩ ، باب رمي الجمار ، قال الهيثمي : رواه أحمد والطبراني في الكبير ورجاله ثقات.

(٢) الدرّ ١ : ٣٣٣ ؛ صحيح ابن خزيمة ٤ : ٣١٥ ـ ٣١٦ ، وفيه : عن ابن عبّاس : جاء جبريل إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فذهب به ليريه المناسك ... ، الكبير ١١ : ٣٦٠ ـ ٣٦١ / ٤٠٧٨ ، بخلاف في اللفظ ، وفيه : عن ابن عبّاس أنّ جبريل عليه‌السلام ذهب بالنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى الجمرة ... ؛ الحاكم ١ : ٤٦٦ ، كتاب المناسك ؛ الشعب ٣ : ٤٦٦ ، ذيل الحديث ٤٠٧٧ ، باب في المناسك ، فضل الوقوف بعرفات ؛ كنز العمّال ٥ : ٨١ / ١٢١٤٤.

(٣) جبل معروف بمكّة.

(٤) الدرّ ١ : ٣٣٣.

٨٧

[٢ / ٣٣٤٣] وأخرج مسلم عن عبد الله بن الزبير قال : حدّثتني خالتي (عائشة) قالت : قال النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «يا عائشة لو لا أنّ قومك حديثو عهد بشرك لهدّمت الكعبة فألزقتها بالأرض وجعلت لها بابين بابا شرقيّا وبابا غربيّا وزدت فيها ستّة أذرع من الحجر فإنّ قريشا اقتصرتها حيث بنت الكعبة» (١).

قلت : حديث غريب جدّا

[٢ / ٣٣٤٤] وأخرج مالك والشافعي والبخاري ومسلم والنسائي عن عائشة : أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : «ألم تر إلى قومك حين بنوا الكعبة أقصروا عن قواعد إبراهيم؟ فقلت : يا رسول الله ألا تردّها على قواعد إبراهيم؟ قال : لو لا حدثان قومك بالكفر! فقال ابن عمر : ما أرى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ترك استلام الركنين اللّذين يليان الحجر إلّا أنّ البيت لم يتمّم على قواعد إبراهيم» (٢).

[٢ / ٣٣٤٥] وأخرج مسلم عن عائشة قالت : سألت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن الجدر (٣) أمن البيت هو؟

قال : «نعم» قلت : فلم لم يدخلوه [في البيت]؟ قال : «إنّ قومك قصرت بهم النفقة». قلت : فما شأن بابه مرتفعا؟ قال : «فعل ذلك قومك ليدخلوا من شاؤوا ويمنعوا من شاؤوا. ولو لا أنّ قومك حديث عهدهم في الجاهليّة فأخاف أن تنكر قلوبهم لنظرت أن ادخل الجدر في البيت وأن ألزق بابه بالأرض» (٤).

[٢ / ٣٣٤٦] وأخرج الأزرقي عن ابن إسحاق قال : بنى إبراهيم عليه‌السلام البيت وجعل طوله في السماء تسعة أذرع ، وعرضه في الأرض اثنين وثلاثين ذراعا ، من الركن الأسود إلى الركن الشامي الّذي عند الحجر من وجهه ، وجعل عرض ما بين الركن الشامي إلى الركن الغربي الّذي فيه الحجر اثنين

__________________

(١) مسلم ٤ : ٩٨ ؛ القرطبي ٢ : ١٢٤ ؛ ابن كثير ١ : ١٨٥.

(٢) الدرّ ١ : ٣٣٠ ؛ كتاب الأمّ ٢ : ١٩٢ ، باب كمال الطواف ؛ كتاب المسند للشافعي : ١٢٩ ؛ البخاري ٢ : ١٥٦ ، كتاب الحجّ ، باب ٤٢ و ٤ : ١١٨ ، كتاب الأنبياء ، باب ١٠ ، و ٥ : ١٥٠ ، كتاب التفسير ، باب ١٠ ، سورة البقرة ؛ مسلم ٤ : ٩٧ ، كتاب الحجّ ، باب نقض الكعبة وبناءها ؛ النسائي ٢ : ٣٩١ / ٣٨٨٣ ، باب بناء الكعبة ؛ مسند أحمد ٦ : ١١٣ ؛ ابن كثير ١ : ١٨٥.

(٣) الجدر : المسنّاة وهو ما ارتفع حول المزرعة. وهنا يريد به الحجر ، لما فيه من اصول حائط البيت كما قيل. ابن الأثير ، النهاية ١ : ٢٤٦.

(٤) مسلم ٤ : ١٠٠ ، كتاب الحجّ ، باب جدر الكعبة وبابها ؛ ابن ماجة ٢ : ٩٨٥ / ٢٩٥٥ ، باب ٣١ ؛ القرطبي ٢ : ١٢٣ ـ ١٢٤.

٨٨

وعشرين ذراعا ، وجعل طول ظهرها من الركن الغربي إلى الركن اليماني أحدا وثلاثين ذراعا ، وجعل عرض شقّها اليماني من الركن الأسود إلى الركن اليماني عشرين ذراعا. قال : فلذلك سمّيت الكعبة لأنّها على خلقة الكعب.

قال : وكذلك بنيان أساس آدم ، وجعل بابها بالأرض غير مبوّب حتّى كان تبّع بن أسعد الحميريّ ، وهو الّذي جعل لها بابا وجعل لها غلقا فارسيّا ، وكساها كسوة تامّة ، ونحر عندها ، وجعل إبراهيم الحجر إلى جنب البيت عريشا من أراك تقتحمه العنز ، فكان زربا لغنم إسماعيل ، وحفر إبراهيم جبّا (١) في بطن البيت على يمين من دخله ، يكون خزانة للبيت يلقى فيه ما يهدى للكعبة ، وكان الله استودع الركن أبا قبيس حين أغرق الله الأرض زمن نوح ، وقال : إذا رأيت خليلي يبني بيتي ، فأخرجه له ، فجاء به جبريل فوضعه في مكانه وبنى عليه إبراهيم ، وهو حينئذ يتلألأ نورا من شدّة بياضه ، وكان نوره يضيء إلى منتهى أنصاب الحرم من كلّ ناحية. قال : وإنّما شدّة سواده لأنّه أصابه الحريق مرّة بعد مرّة في الجاهليّة والإسلام! (٢)

* * *

[٢ / ٣٣٤٩] وأخرج عبد بن حميد عن ابن عبّاس قال : كان البيت على أربعة أركان في الماء قبل أن يخلق السماوات والأرض ، فدحيت الأرض من تحته (٣).

[٢ / ٣٣٥٠] وأخرج ابن جرير وأبو الشيخ في العظمة عن ابن عبّاس قال : وضع البيت على أركان الماء على أربعة أركان قبل أن تخلق الدنيا بألفي عام ، ثمّ دحيت الأرض من تحت البيت (٤).

[٢ / ٣٣٥١] وأخرج ابن جرير عن مجاهد ، قال : كان موضع البيت على الماء قبل أن يخلق الله السماوات والأرض ، مثل الزبدة البيضاء ، ومن تحته دحيت الأرض (٥).

[٢ / ٣٣٥٢] وأخرج أبو الوليد الأزرقي في تاريخ مكّة عن سعيد بن المسيّب قال : قال كعب الأحبار : كانت الكعبة غثاء على الماء قبل أن يخلق الله السماوات والأرض بأربعين سنة ، ومنها

__________________

(١) الجبّ : الحفرة.

(٢) الدرّ ١ : ٣٢٩ ـ ٣٣٠.

(٣) المصدر : ٣١٠.

(٤) الدرّ ١ : ٣٠٨ ؛ الطبري ١ : ٧٦١ / ١٦٨٥ ؛ العظمة ٤ : ١٣٨١ / ٨٩٨ ؛ القرطبي ٢ : ١٢٠ ؛ ابن كثير ١ : ١٨٤.

(٥) الطبري ١ : ٧٦١ / ١٦٨٣.

٨٩

دحيت الأرض (١).

[٢ / ٣٣٥٣] وأخرج عبد الرزّاق والأزرقي في تاريخ مكّة والجندي عن مجاهد قال : خلق الله موضع البيت الحرام من قبل أن يخلق شيئا من الأرض بألفي سنة ، وأركانه في الأرض السابعة (٢).

[٢ / ٣٣٥٤] وأخرج ابن جرير عن ابن جريج ، قال : قال عطاء وعمرو بن دينار : بعث الله رياحا فصفّقت (٣) الماء ، فأبرزت في موضع البيت عن حشفة (٤) كأنّها القبّة ، فهذا البيت منها فلذلك هي أمّ القرى. قال ابن جريج : قال عطاء : ثمّ وتدها بالجبال كي لا تكفأ بميد (٥) ، فكان أوّل جبل «أبو قبيس» (٦).

[٢ / ٣٣٥٥] وأخرج الأزرقي عن ابن عبّاس قال : لمّا كان العرش على الماء قبل أن يخلق الله السماوات والأرض ، بعث الله تعالى ريحا هفّافة فصفّقت الريح الماء ، فأبرزت عن حشفة في موضع البيت كأنّها قبّة ، فدحا الله تعالى الأرض من تحتها ، فمادت ثمّ مادت فأوتدها الله بالجبال ، فكان أوّل جبل وضع فيها أبو قبيس ، فلذلك سمّيت أمّ القرى (٧).

[٢ / ٣٣٥٦] وأخرج أحمد وعبد بن حميد والبخاري وابن جرير وابن أبي حاتم والجندي وابن مردويه والحاكم والبيهقي في الدلائل عن سعيد بن جبير ، أنّه قال : سلوني يا معشر الشباب ، فإنّي قد أوشكت أن أذهب من بين أظهركم ؛ فأكثر الناس مسألته. فقال له رجل : أصلحك الله أرايت المقام أهو كما نتحدّث؟ قال : وماذا كنت تتحدّث؟ قال : كنّا نقول : إنّ إبراهيم حين جاء عرضت عليه امرأة إسماعيل النزول فأبى أن ينزل ، فجاءت بهذا الحجر! فقال : ليس كذلك. فقال سعيد بن جبير : قال ابن عبّاس : إنّ أوّل من اتّخذ المناطق من النساء أمّ إسماعيل ، اتّخذت منطقا لتعفّي أثرها على سارة ، ثمّ جاء بها إبراهيم وبابنها إسماعيل وهي ترضعه حتّى وضعها عند البيت عند دوحة

__________________

(١) الدرّ ١ : ٣١٠ ؛ الطبري ١ : ٧٦٢ / ١٦٨٩ ؛ ابن أبي حاتم ١ : ٢٣٢ / ١٢٣٥ ؛ ابن كثير ١ : ١٨٤.

(٢) الدرّ ١ : ٣٠٨ ؛ المصنّف ٥ : ٩٤ ـ ٩٥ / ٩٠٩٧ ؛ الطبري ١ : ٧٦٢ / ١٦٨٨ ؛ ابن أبي حاتم ١ : ٢٣١ / ١٢٣٠ ؛ ابن كثير ١ : ١٨٥.

(٣) صفّقت الريح الماء : ضربته وقلبته يمينا وشمالا.

(٤) الحشفة : صخرة رخوة في سهل الأرض ، ويقال للجزيرة في البحر لا يعلوها الماء : حشفة ، وجمعها حشاف.

(٥) تكفأ : تقلب. والميد : من ماد يميد ميدا : إذا تحرّك ومال.

(٦) الطبري ١ : ٧٦١ / ١٦٨٤.

(٧) الدرّ ١ : ٣١٠.

٩٠

فوق زمزم في أعلى المسجد ، وليس بمكّة يومئذ أحد وليس بها ماء ، فوضعهما هنالك ووضع عندهما جرابا فيه تمر وسقاء فيه ماء ، ثمّ قفّى إبراهيم منطلقا فتبعته أمّ إسماعيل فقالت : يا إبراهيم أين تذهب وتتركنا بهذا الوادي الّذي ليس فيه إنس ولا شيء؟ قالت له ذلك مرارا وجعل لا يلتفت إليهما. قالت له : الله أمرك بهذا؟ قال : نعم. قالت : إذا لا يضيّعنا ، ثمّ رجعت. فانطلق إبراهيم حتّى إذا كان عند الثنيّة حيث لا يرونه ، استقبل بوجهه البيت ثمّ دعا بهؤلاء الدعوات ورفع يديه قال : (رَبَّنا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَراتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ)(١).

وجعلت أمّ إسماعيل ترضع إسماعيل وتشرب من ذلك الماء ، حتّى إذا نفد ما في السقاء عطشت وعطش ابنها ، وجعلت تنظر إليه يتلوّى أو قال : يتلبّط. فانطلقت كراهيّة أن تنظر إليه ، فوجدت الصفا أقرب جبل في الأرض يليها ، فقامت عليه ثمّ استقبلت الوادي تنظر هل ترى أحدا فلم تر أحدا ، فهبطت من الصفا حتّى إذا بلغت الوادي رفعت طرف درعها ، ثمّ سعت سعي الإنسان المجهود حتّى جاوزت الوادي ، ثمّ أتت المروة فقامت عليها ونظرت هل ترى أحدا فلم تر أحدا ، ففعلت ذلك سبع مرّات. قال ابن عبّاس : قال النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «فلذلك سعى الناس بينهما».

فلمّا أشرفت على المروة سمعت صوتا فقالت : صه ، تريد نفسها ، ثمّ تسمّعت فسمعت صوتا أيضا فقالت : قد أسمعت إن كان عندك غواث ، فإذا هي بالملك عند موضع زمزم ، فنجث (٢) بعقبه ـ أو قال بجناحه ـ حتّى ظهر الماء ، فجعلت تخوضه بيدها وتغرف من الماء في سقائها وهي تفور بعد ما تغرف. قال ابن عبّاس : قال النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «يرحم الله أمّ إسماعيل لو تركت زمزم ـ أو قال ـ : لو لم تغرف من الماء لكانت زمزم عينا معينا». فشربت وأرضعت ولدها.

فقال لها الملك : لا تخافي الضيعة فإنّ هاهنا بيتا لله ـ عزوجل ـ يبنيه هذا الغلام وأبوه ، وإنّ الله لا يضيع أهله ، وكان البيت مرتفعا من الأرض كالرابية تأتيه السيول فتأخذ عن يمينه وعن شماله ، فكانت كذلك حتّى مرّت بهم رفقة من جرهم أو أهل بيت من جرهم مقبلين من طريق كداء ، فنزلوا في أسفل مكّة فرأوا طائرا عائفا (٣) فقالوا : إنّ هذا الطائر ليدور على الماء ، لعهدنا بهذا الوادي وما

__________________

(١) إبراهيم ١٤ : ٣٧.

(٢) نجث عن الأمر بحث عنه. نجث الشيء : استخرجه.

(٣) عاف الطير : حام على الشيء أو الماء أو الجيف ، يريد الوقوع عليه.

٩١

فيه ماء! فأرسلوا جريّا أو جريّين (١) فإذا هم بالماء ، فرجعوا فأخبروهم بالماء فأقبلوا. قال : وأمّ إسماعيل عند الماء! فقالوا : أتاذنين لنا أن ننزل عندك؟ قالت : نعم ، ولكن لا حقّ لكم في الماء ، قالوا : نعم. قال ابن عبّاس قال النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «فألفى ذلك أمّ إسماعيل وهي تحبّ الأنس» (٢).

فنزلوا وأرسلوا إلى أهليهم فنزلوا معهم حتّى إذا كان بها أهل أبيات منهم ، وشبّ الغلام وتعلّم العربيّة منهم وأنفسهم وأعجبهم حين شبّ ، فلمّا أدرك زوّجوه امرأة منهم وماتت أمّ إسماعيل ، فجاء إبراهيم بعد ما تزوّج إسماعيل يطالع تركته فلم يجد إسماعيل ، فسأل زوجته عنه! فقالت : خرج يبتغي لنا. ثمّ سألها عن عيشهم وهيئتهم؟ فقالت : نحن بشرّ نحن في ضيق وشدّة وشكت إليه. قال : إذا جاء زوجك فاقرئي عليه‌السلام وقولي له : يغيّر عتبة بابه!

فلمّا جاء إسماعيل كأنّه آنس شيئا! فقال : هل جاءكم من أحد؟ قالت : نعم ، جاءنا شيخ كذا وكذا ، فسألني عنك فأخبرته ، وسألني كيف عيشنا؟ فأخبرته أنّا في جهد وشدّة. قال : فهل أوصاك بشيء؟ قالت : نعم ، أمرني أن أقرأ عليك السّلام ، ويقول : غيّر عتبة بابك! قال : ذاك أبي وأمرني أن افارقك فالحقي بأهلك ، فطلّقها وتزوّج منهم اخرى ، فلبث عنهم إبراهيم ما شاء الله ، ثمّ أتاهم بعد ذلك فلم يجده ، فدخل على امرأته فسألها عنه فقالت : خرج يبتغي لنا. قال : كيف أنتم؟ وسألها عن عيشهم وهيئتهم فقالت : نحن بخير وسعة وأثنت على الله! فقال : ما طعامكم؟ قالت : اللحم. قال : فما شرابكم؟ قالت : الماء. قال : اللهمّ بارك لهم في اللحم والماء. قال النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «ولم يكن لهم يومئذ حبّ ، ولو كان لهم حبّ لدعا لهم فيه». قال : فهما لا يخلو عليهما أحد بغير مكّة إلّا لم يوافقاه (٣). قال : فإذا جاء زوجك فاقرئي عليه‌السلام ومريه يثبّت عتبة بابه!

فلمّا جاء إسماعيل قال : هل أتاكم من أحد؟ قالت : نعم ، أتانا شيخ حسن الهيئة وأثنت عليه ، فسألني عنك فأخبرته ، وسألني كيف عيشنا؟ فأخبرته أنّا بخير. قال : أما أوصاك بشيء؟ قالت : نعم ، هو يقرأ عليك السّلام ويأمرك أن تثبّت عتبة بابك ، قال : ذاك أبي وأنت العتبة فأمرني أن أمسكك!

ثمّ لبث عنهم ما شاء الله ، ثمّ جاء بعد ذلك وإسماعيل يبري نبلا تحت دوحة قريبا من زمزم ،

__________________

(١) الجريّ : الرسول ، المستخبر.

(٢) أي وجد هؤلاء أمّ إسماعيل. (فتح الباري ابن حجر ٦ : ٢٨٦).

(٣) أي لم يتذوّقهما بغير مكّة إلّا آذاه ولم يوافقاه. أي اشتكى بطنه. (الفتح ٦ : ٢٨٨).

٩٢

فلمّا رآه قام إليه فصنعا كما يصنع الولد بالوالد والوالد بالولد ، ثمّ قال : يا إسماعيل إنّ الله أمرني بأمر.

قال : فاصنع ما أمرك. قال : وتعينني؟ قال : وأعينك! قال : فإنّ الله أمرني أن أبني هاهنا بيتا ، وأشار إلى أكمة مرتفعة على ما حولها قال : فعند ذلك رفع القواعد من البيت ، فجعل إسماعيل يأتي بالحجارة وإبراهيم يبني ، حتّى إذا ارتفع البناء جاء بهذا الحجر فوضعه له ، فقام عليه وهو يبني وإسماعيل يناوله الحجارة وهما يقولان : (رَبَّنا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ).

قال معمر : وسمعت رجلا يقول : كان إبراهيم يأتيهم على البراق. قال معمر : وسمعت رجلا يذكر أنّهما حين التقيا بكيا حتّى أجابتهما الطير (١).

[٢ / ٣٣٥٧] وأخرج ابن سعد عن أبي جهم بن حذيفة بن غانم قال : أوحى الله ـ عزوجل ـ إلى إبراهيم يأمره بالمسير إلى بلده الحرام ، فركب إبراهيم البراق وجعل إسماعيل أمامه وهو ابن سنتين وهاجر خلفه ، ومعه جبريل يدلّه على موضع البيت حتّى قدم به مكّة ، فأنزل إسماعيل وأمّه إلى جانب البيت ، ثمّ انصرف إبراهيم إلى الشام. ثمّ أوحى الله إلى إبراهيم أن يبني البيت ، وهو يومئذ ابن مائة سنة وإسماعيل يومئذ ابن ثلاثين سنة فبناه معه ، وتوفّي إسماعيل بعد أبيه فدفن داخل الحجر ممّا يلي الكعبة مع أمّه هاجر ، وولي ثابت بن إسماعيل البيت بعد أبيه مع أخواله جرهم (٢).

[٢ / ٣٣٥٨] وأخرج الديلمي عن عليّ عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في قوله : (وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْراهِيمُ الْقَواعِدَ مِنَ الْبَيْتِ) الآية : قال : «جاءت سحابة على تربيع البيت لها رأس تتكلّم : ارتفاع البيت على تربيعي! فرفعاه على تربيعها» (٣).

[٢ / ٣٣٥٩] وقال مقاتل بن سليمان : (وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْراهِيمُ الْقَواعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْماعِيلُ) يعني أساس البيت الحرام الّذي كان رفع أيّام الطوفان على عهد نوح فبناه إبراهيم وإسماعيل على ذلك الأصل وأعانهم الله ـ عزوجل ـ بسبعة أملاك على البناء. ملك إبراهيم. وملك إسماعيل. وملك هاجر.

__________________

(١) الدرّ ١ : ٣٠٤ ـ ٣٠٦ ؛ مسند أحمد ١ : ٣٤٧ ، إلى قوله : «سبع مرّات» ؛ البخاري ٤ : ١١٣ ـ ١١٦ ، كتاب الأنبياء ؛ الطبري ٨ : ٣٠٠ ـ ٣٠٢ / ١٥٧٦١ ، سورة إبراهيم ، الآية ٣٧ ؛ الدلائل ٢ : ٤٦ ـ ٥٢ ؛ النسائي ٥ : ١٠١ / ٨٣٧٩ ؛ المصنّف ، لعبد الرزّاق ٥ : ١٠٥ ـ ١١١ / ٩١٠٧ ؛ فضائل الصحابة لأحمد بن حنبل : ٨٢ ـ ٨٤ ؛ ابن كثير ١ : ١٨١ ـ ١٨٢.

(٢) الدرّ ١ : ٣٠٦ ـ ٣٠٧ ؛ الطبقات ١ : ٥٠ و ٥٢.

(٣) الدرّ ١ : ٣٠٧ ؛ الفردوس بمأثور الخطاب ٤ : ٤٠٣ / ٧١٧١ ؛ كنز العمّال ٢ : ٣٥٨ / ٤٢٣٦.

٩٣

والملك الموكّل بالبيت. وملك الشمس. وملك القمر. وملك آخر. فلمّا فرغا من بناء البيت قالا : (رَبَّنا تَقَبَّلْ مِنَّا) يعني بناء هذا البيت الحرام (إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) لدعائهما ربّنا تقبّل منّا (١).

[٢ / ٣٣٦٠] وأخرج ابن جرير عن السدّي في قوله : (وَعَهِدْنا إِلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ أَنْ طَهِّرا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعاكِفِينَ) قال : فانطلق إبراهيم حتّى أتى مكّة ، فقام هو وإسماعيل وأخذا المعاول لا يدريان أين البيت ، فبعث الله ريحا يقال لها ريح الخجوج (٢) ، لها جناحان ورأس في صورة حيّة. فكنست لهما ما حول الكعبة ، وعن أساس البيت الأوّل ، واتّبعاها بالمعاول يحفران حتّى وضعا الأساس ؛ فذلك حين يقول : (وَإِذْ بَوَّأْنا لِإِبْراهِيمَ مَكانَ الْبَيْتِ)(٣) فلمّا بنيا القواعد فبلغا مكان الركن قال إبراهيم لإسماعيل : يا بنيّ اطلب لي حجرا حسنا أضعه هاهنا! قال : يا أبت إنّي كسلان تعب! قال : عليّ بذلك! فانطلق فطلب له حجرا فجاءه بحجر ، فلم يرضه ، فقال : اثنتي بحجر أحسن من هذا! فانطلق يطلب له حجرا ؛ وجاءه جبريل بالحجر الأسود من الهند ، وكان أبيض ياقوتة بيضاء مثل الثّغامة (٤) ، وكان آدم هبط به من الجنّة فاسودّ من خطايا الناس ، فجاءه إسماعيل بحجر فوجده عند الركن ، فقال : يا أبت من جاء بهذا؟ فقال : من هو أنشط منك. فبنياه (٥).

[٢ / ٣٣٦١] وأخرج الثعلبي قال : سمعت أبا القاسم الحسن بن محمّد بن حبيب يقول : سمعت أبا بكر محمّد بن محمّد بن أحمد القطان البلخي وكان عالما بالقرآن يقول : كان إبراهيم يتكلّم بالسّريانيّة ، وإسماعيل يتكلّم بالعربيّة ، وكلّ واحد منهما يعرف ما يقول صاحبه ولا يمكنه التفوّه به ، فكان إبراهيم يقول لإسماعيل : هل لي كثيبا ـ يعني ناولني حجرا ـ ويقول له إسماعيل : هاك الحجر فخذه. قال : فبقي موضع حجر فذهب إسماعيل يبغيه ، فجاء جبريل بحجر من السماء ، فأتى إسماعيل وقد ركّب إبراهيم الحجر في موضعه فقال : يا أبت من أتاك بهذا في موضعه؟! قال : أتاني

__________________

(١) تفسير مقاتل ١ : ١٣٨.

(٢) الريح الخجوج : الشديدة المرّ الّتي تلتوي في هبوبها وتشقّ شقّا بشدّة عصفها.

(٣) الحج ٢٢ : ٢٦.

(٤) الثغام : شجرة بيضاء الثمر والزهر تنبت في قنّة الجبل ، وإذا يبست اشتدّ بياضها. واحدتها ثغامة.

(٥) الطبري ١ : ٧٦٤ / ١٦٩٢ ؛ ابن أبي حاتم ١ : ٢٣٢ ـ ٢٣٣ / ١٢٣٧ ، وزاد : «وهما يدعوان الكلمات الّتي ابتلى إبراهيم ربّه فقال : (رَبَّنا تَقَبَّلْ مِنَّا ...).» : ابن كثير ١ : ١٨٤.

٩٤

به من لم يتّكل على بنائك ، فأتمّا البيت. فذلك قوله عزوجل : (وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْراهِيمُ الْقَواعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْماعِيلُ)(١).

[٢ / ٣٣٦٢] وأخرج الأزرقي عن ليث بن معاذ قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «هذا البيت خامس خمسة عشر بيتا ، سبعة منها في السماء وسبعة منها إلى تخوم الأرض السفلى ، وأعلاها الّذي يلي العرش ، البيت المعمور ، لكلّ بيت منها حرم كحرم هذا البيت ، لو سقط منها بيت لسقط بعضها على بعض إلى تخوم الأرض السفلى ، ولكلّ بيت من أهل السماء ومن أهل الأرض من يعمره كما يعمر هذا البيت» (٢).

* * *

[٢ / ٣٣٦٣] أخرج الأزرقي عن يوسف بن ماهك قال : إنّ الله جعل الركن عيد أهل هذه القبلة كما كانت المائدة عيدا لبني إسرائيل ، وإنّكم لن تزالوا بخير ما دام بين ظهرانيّكم ، وإنّ جبريل عليه‌السلام وضعه في مكانه (٣).

[٢ / ٣٣٦٤] وأخرج الأزرقي عن عبد الله بن عمرو أنّ جبريل هو الّذي نزل بالحجر من الجنّة ، وأنّه وضعه حيث رأيتم ، وإنّكم لا تزالون بخير ما دام بين ظهرانيّكم ، فتمسّكوا به ما استطعتم فإنّه يوشك أن يجيء فيرجع به إلى حيث جاء به (٤).

[٢ / ٣٣٦٥] وأخرج الأزرقي عن عثمان بن ساج قال : بلغني أنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : «أوّل ما يرفع الركن والقرآن ورؤيا النبيّ في المنام» (٥).

[٢ / ٣٣٦٦] وأخرج الجندي عن ابن عبّاس قال : الحجر الأسود يمين الله في الأرض ، فمن لم يدرك بيعة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فاستلم الحجر فقد بايع الله ورسوله (٦).

[٢ / ٣٣٦٧] وأخرج الأزرقي عن ابن عبّاس قال : الركن يمين الله في الأرض يصافح بها خلقه ، والّذي نفسي بيده ما من امرئ مسلم يسأل الله عنده شيئا إلّا أعطاه إيّاه (٧).

__________________

(١) الدرّ ١ : ٣٠٩ ؛ الثعلبي ١ : ٢٧٤.

(٢) الدرّ ١ : ٣١١.

(٣) المصدر : ٣٢٤.

(٤) المصدر : ٣٢٣.

(٥) الدرّ ١ : ٣٢٥ ؛ كنز العمّال ١٤ : ٢١١ / ٣٨٤٣١.

(٦) الدرّ ١ : ٣٢٤.

(٧) المصدر : ٣٢٦ ـ ٣٢٧.

٩٥

[٢ / ٣٣٦٨] وأخرج ابن ماجة عن عطاء بن أبي رباح أنّه سئل عن الركن الأسود فقال : حدّثني أبو هريرة أنّه سمع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول : «من فاوضه فإنّما يفاوض يد الرحمان» (١).

* * *

وهناك أحاديث معزوّة إلى أئمّة أهل البيت عليهم‌السلام ذات أسانيد ضعيفة ، قد تشبه أحاديث سلفت ، في ظاهر مشكل ولعلّ لها تأويلا زوي عنّا ، والله العالم!

[٢ / ٣٣٦٩] من ذلك ما رواه العيّاشي : أنّ أمّة محمّد هم بنو هاشم. حيث قول إبراهيم : (وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنامَ)(٢).

[٢ / ٣٣٧٠] وما رواه عليّ بن إبراهيم : أنّ الله أمر إبراهيم أن يبني البيت في موضع القبّة الّتي نزلت على آدم ، ثمّ ارتفعت أيّام نوح (٣).

[٢ / ٣٣٧١] وما رواه الكليني : أنّ الأمّة في دعاء إبراهيم ، هم ذرّيّة إبراهيم وإسماعيل من سكنة الحرم ممّن لم يعبدوا غير الله (٤).

[٢ / ٣٣٧٢] وما رواه أيضا : أنّ آدم وحوّاء لمّا اهبطا إلى الأرض ضربت لهما خيمة في موضع البيت. ثمّ نحّيا منه وأوحى الله إلى جبرئيل أن يرفع قواعد البيت ، بحجر من الصفا وحجر من المروة وحجر من طور سيناء وحجر من ظهر الكوفة وأتمّ بناءها من حجارة أبي قبيس ، وجعل لها بابين ، فجعلت الملائكة تطوف بها. فلمّا نظر آدم وحوّاء إلى طواف الملائكة قاما فطافا حولها سبعة أشواط ، ثمّ خرجا يطلبان الكلأ (٥).

[٢ / ٣٣٧٣] وما رواه : أنّ الله أمر إبراهيم أن يحجّ بإسماعيل ويسكنه الحرم. وكانت العرب تحجّ البيت وكانت قواعده ردما ، فجمع إسماعيل الصخور وكوّمها في جوف الكعبة. فلمّا امر ببناء البيت كشف عن الصخور وإذا هي صخرة حمراء ، فجعلا بناء البيت عليها ، وأنزل الله أربعة أملاك

__________________

(١) الدرّ ١ : ٣٢٧ ؛ ابن ماجة ٢ : ٩٨٥ ـ ٩٨٦ / ٢٩٥٧ ، باب ٣٢.

(٢) العيّاشي ١ : ٧٩ ـ ٨٠ / ١٠١ ؛ البحار ٢٤ : ١٥٤ / ٧.

(٣) القمي ١ : ٦١ ـ ٦٢ ؛ البحار ١٢ : ٩٧ ـ ١٠٠ / ٦.

(٤) الكافي ٥ : ١٣ ـ ١٤ / ١ ؛ التهذيب ٦ : ١٢٧ ـ ١٢٨ / ٢٢٤ / ٣.

(٥) الكافي ٤ : ١٩٥ ـ ١٩٧ ؛ العيّاشي ١ : ٥٣ ـ ٥٧ / ٢١ ؛ البحار ١١ : ٢٠٨ ـ ٢٠٩.

٩٦

يجمعون إليه الحجارة. فكان إبراهيم وإسماعيل يبنيان والملائك تناولهما حتّى تمّت اثني عشر ذراعا (١).

[٢ / ٣٣٧٤] وما رواه : أنّ قريشا لمّا هدموا الكعبة وجدوا في قواعدها صخرة مكتوبا عليها : أنا الله ذو بكّة ، حرّمتها يوم خلقت السماوات والأرض ، ووضعتها بين هذين الجبلين ، وحففتها بسبعة أملاك حفّا (٢).

[٢ / ٣٣٧٥] وما رواه : أنّ الحجّاج لمّا هدم الكعبة وأراد الناس بناءها خرجت عليهم حيّة منعتهم. فلجأ الحجّاج إلى أعتاب الإمام زين العابدين عليه‌السلام فأمره أن يسترجع من الناس ما نهبوه من تراب البيت ، فليبنوا منه! ففعلوا (٣).

[٢ / ٣٣٧٦] وما رواه : أنّ السكينة ريح تخرج من الجنّة ، لها صورة كوجه الإنسان ورائحة طيّبة. وهي الّتي نزلت على إبراهيم ، فأقبلت تدور حول البيت وهو يضع الأساطين (٤).

[٢ / ٣٣٧٧] وما رواه : أنّ الكعبة بناها إبراهيم تسعة أذرع. ثمّ بناها ابن الزبير ثمانية عشر ذراعا. ثمّ بناها الحجّاج سبعة وعشرين ذراعا (٥).

[٢ / ٣٣٧٨] وأيضا : كان طول الكعبة يومئذ تسعة أذرع ، ولم يكن لها سقف فسقّفها قريش ثمانية عشر ذراعا (٦).

[٢ / ٣٣٧٩] وما رواه : أنّ إبراهيم كان يبني البيت كلّ يوم ساقا حتّى انتهى إلى موضع الحجر ، فناداه أبو قبيس : إبراهيم ، إنّ لك عندي وديعة ، فأعطاه الحجر فوضعه موضعه (٧).

[٢ / ٣٣٨٠] وما رواه : أنّ قريشا في الجاهليّة هدموا الكعبة ، فجعلوا يبنونها بأطيب أموالهم الّتي اكتسبوها. حتّى انتهوا إلى موضع الحجر ، فتحاكموا إلى أوّل من يدخل ، وإذا برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم جاءهم وأمر ببسط ثوب فوضع الحجر فيه ، ثمّ أمرهم أن يأخذوا بأطراف الثوب ، وجاء صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فأخذه ووضعه في موضعه (٨).

__________________

(١) الكافي ٤ : ٢٠٢ ـ ٢٠٣ ؛ البحار ١٢ : ٩٤ ـ ٩٥.

(٢) الكافي ٤ : ٢٢٥ / ١.

(٣) الكافي ٤ : ٢٢٢ / ٨ ؛ البحار ٩٦ : ٥٢ ـ ٥٣.

(٤) الكافي ٣ : ٤٧١ ـ ٤٧٢ / ٥ ؛ البحار ١٢ : ١٠٣ / ١٠.

(٥) الكافي ٤ : ٢٠٧ / ٧.

(٦) المصدر / ٨.

(٧) المصدر : ٢٠٥ / ٤.

(٨) المصدر : ٢١٧ / ٣.

٩٧

وروى الطبرسي : أنّ إسماعيل شقّ لسانه بالعربيّة ، فكان أبوه إبراهيم يقول له : هابي ابن (١). أي ناولني حجرا. فيقول له إسماعيل : يا أبة هاك (٢).

وإلى أمثالها من حكايات هي مشكلة المفاد.

قوله تعالى : (رَبَّنا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ)

[٢ / ٣٣٨١] أخرج أحمد وابن جرير وابن أبي حاتم والحاكم وابن مردويه والبيهقي في الدلائل عن العرباض بن سارية قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «إنّي عند الله في أمّ الكتاب لخاتم النبيّين وإنّ آدم لمنجدل في طينته ، وسأنبّئكم بتأويل ذلك : أنا دعوة أبي إبراهيم ، وبشارة عيسى بي ، ورؤيا أمّي الّتي رأت ، وكذلك أمّهات النبيّين يرين» (٣).

[٢ / ٣٣٨٢] وأخرج أحمد وابن سعد والطبراني وابن مردويه والبيهقي عن أبي أمامة قال : قلت : يا رسول الله ما كان بدء أمرك؟ قال : «دعوة إبراهيم ، وبشرى عيسى ، ورأت أمّي أنّه يخرج منها نور أضاءت له قصور الشام» (٤).

[٢ / ٣٣٨٣] وأخرج ابن سعد في طبقاته وابن عساكر من طريق جويبر عن الضحّاك ، أنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : «أنا دعوة إبراهيم. قال وهو يرفع القواعد من البيت : (رَبَّنا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ)» (٥).

__________________

(١) ولعلّه بالسّريانيّة ، كما تقدّم.

(٢) مجمع البيان ١ : ٣٨٨.

(٣) الدرّ ١ : ٣٣٤ ؛ مسند أحمد ٤ : ١٢٧ ؛ الطبري ١ : ٧٧٣ / ١٧٠٩ ؛ ابن أبي حاتم ١ : ٢٣٦ / ١٢٥٤ ؛ الحاكم ٢ : ٦٠٠ ، كتاب تواريخ المتقدّمين ؛ الدلائل ٢ : ٨٣ ، باب ذكر مولد المصطفى صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ؛ الطبقات ١ : ١٤٩ ؛ كنز العمّال ١١ : ٤١٨ / ٣١٩٦٠ ؛ مجمع الزوائد ٨ : ٢٢٣ ، باب قدم نبوّته صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ؛ أبو الفتوح ٢ : ١٧٢ ـ ١٧٣ ؛ الثعلبي ١ : ٢٧٨ ؛ البغوي ١ : ١٦٨ / ٨٨ ، وفيه ـ بعد قوله : «رؤيا أمّي الّتي رأت» ـ : «حين وضعتني وقد خرج منها نور أضاءت لها منه قصور الشام» ؛ ابن كثير ١ : ١٨٩.

(٤) الدرّ ١ : ٣٣٤ ؛ مسند أحمد ٥ : ٢٦٢ ؛ الطبقات ١ : ١٤٩ ؛ الكبير ٨ : ١٧٥ / ٧٧١٩ ؛ مجمع الزوائد ٨ : ٢٢٢ ؛ الخصال للصدوق : ١٧٧ / ٢٣٦ ؛ البحار ١٦ : ٣٢١ / ٩ ، باب ١١.

(٥) الدرّ ١ : ٣٣٤ ؛ الطبقات ١ : ١٤٩ ؛ ابن عساكر ١ : ١٧٣ ؛ ورواه القمّي في تفسيره ١ : ٦٢ ؛ البحار ١٢ : ٩٢ / ١ ، باب ٥.

٩٨

قوله تعالى : (وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ)

[٢ / ٣٣٨٤] أخرج ابن أبي حاتم عن محمّد بن إسحاق في قوله : (وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ) قال : يعلّمهم الخير والشرّ ليعرفوا الخير فيعملوه والشرّ فيتّقوه ، ويخبركم برضائه عنكم إذا أطعتموه لتستكثروا من طاعته ، وتجتنبوا ما سخط منكم من معصيته (١).

[٢ / ٣٣٨٥] وأخرج ابن جرير بإسناده عن ابن زيد في قوله : (وَالْحِكْمَةَ) قال : الحكمة : الدين الّذي لا يعرفونه إلّا به صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يعلّمهم إيّاها. قال : والحكمة : العقل في الدين ؛ وقرأ : (وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً)(٢). وقال لعيسى : (وَيُعَلِّمُهُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ)(٣). قال : وقرأ ابن زيد : (وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْناهُ آياتِنا فَانْسَلَخَ مِنْها)(٤). قال : لم ينتفع بالآيات حيث لم تكن معها حكمة. قال : والحكمة شيء يجعله الله في القلب ينوّر له به (٥).

[٢ / ٣٣٨٦] وأخرج ابن جرير عن ابن وهب إنّه قال : قلت لمالك : ما الحكمة؟ قال : المعرفة بالدين ، والفقه في الدين ، والاتّباع له (٦).

[٢ / ٣٣٨٧] وقال مجاهد : والحكمة فهم القرآن (٧).

[٢ / ٣٣٨٨] وأخرج أبو داوود في مراسيله عن مكحول قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «آتاني الله القرآن ومن الحكمة مثليه» (٨).

__________________

(١) ابن أبي حاتم ١ : ٢٣٧ / ١٢٦١ ؛ ابن كثير ١ : ١٩٠.

(٢) البقرة ٢ : ٢٦٩.

(٣) آل عمران ٣ : ٤٨.

(٤) الأعراف ٧ : ١٧٥.

(٥) الطبري ١ : ٧٧٥ / ١٧١٦ ، وقال الطبري : «والصواب من القول عندنا في الحكمة ، أنّها العلم بأحكام الله الّتي لا يدرك علمها إلّا ببيان الرسول والمعرفة بها» ؛ ابن أبي حاتم ١ : ٢٣٧ / ١٢٦٤ ، عن ابن زيد عن أبيه ، بلفظ : «الحكمة : العقل في الدين».

(٦) الطبري ١ : ٧٧٥ / ١٧١٥ ؛ القرطبي ٢ : ١٣١ ، وزاد : وقاله [أيضا] ابن زيد ؛ التبيان ١ : ٤٦٧ عن قول أنس بن مالك بلفظ : «المعرفة بالدين والفقه في التأويل» ؛ مجمع البيان ١ : ٣٩٤ ، عن مالك بن أنس : بنحو ما في التبيان.

(٧) البغوي ١ : ١٦٨ ؛ الثعلبي ١ : ٢٧٦.

(٨) الدرّ ١ : ٣٣٥ ؛ المراسيل : ٣٥٩ / ٥٣٤ ، باب ١١٣ (في البدع).

٩٩

قوله تعالى : (وَيُزَكِّيهِمْ) [٢ / ٣٣٨٩]

أخرج ابن جرير عن ابن جريح في قوله : (وَيُزَكِّيهِمْ) قال : يطهّرهم من الشرك ويخلّصهم منه (١).

[٢ / ٣٣٩٠] وقال الجبّائي في قوله : (وَيُزَكِّيهِمْ :) معناه يستدعيهم إلى فعل ما يزكّون به ، من الإيمان والصلاح (٢).

قوله تعالى : (إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) [٢ / ٣٣٩١] أخرج ابن أبي حاتم عن أبي العالية في قوله : (الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) قال : عزيز في نقمته إذا انتقم ، حكيم في أمره (٣).

[٢ / ٣٣٩٢] وقال ابن كيسان في قوله تعالى : (الْعَزِيزُ :) معناه الّذي لا يعجزه شيء. دليله : (وَما كانَ اللهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ)(٤)(٥).

[٢ / ٣٣٩٣] وعن ابن عبّاس : (الْعَزِيزُ :) الّذي لا يوجد مثله. وبيانه : (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ)(٦)(٧).

[٢ / ٣٣٩٤] وأخرج ابن أبي حاتم : عن محمّد بن إسحاق : (الْعَزِيزُ) في نصرته ممّن كفر به إذا شاء (الْحَكِيمُ) في عذره ، وحجّته إلى عباده (٨).

[٢ / ٣٣٩٥] وقال الكلبي في قوله : (الْعَزِيزُ) : المنتقم ، قال : بيانه قوله تعالى : (وَاللهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقامٍ)(٩)(١٠).

[٢ / ٣٣٩٦] وقال مقاتل بن سليمان : فلمّا أراه الله المناسك والمشاعر علم أنّ الله ـ عزوجل ـ

__________________

(١) الدرّ ١ : ٣٣٥ ؛ الطبري ١ : ٧٧٦ / ١٧١٨ ؛ القرطبي ٢ : ١٣١ ، بلفظ : «أي يطهّرهم من وضر الشرك» [الوضر : الوسخ] ؛ التبيان ١ : ٤٦٧ ؛ مجمع البيان ١ : ٣٩٤.

(٢) التبيان ١ : ٤٦٧ ؛ مجمع البيان ١ : ٣٩٤.

(٣) الدرّ ١ : ٣٣٥ ؛ ابن أبي حاتم ١ : ٢٣٨ / ١٢٦٦ و ١٢٦٨.

(٤) فاطر ٣٥ : ٤٤.

(٥) القرطبي ٢ : ١٣١ ؛ الثعلبي ١ : ٢٧٧.

(٦) الشورى ٤٢ : ١١.

(٧) البغوي ١ : ١٦٩ ؛ الثعلبي ١ : ٢٧٧.

(٨) ابن أبي حاتم ١ : ٢٣٨ / ١٢٦٧ و ١٢٦٩.

(٩) آل عمران ٣ : ٤.

(١٠) الثعلبي ١ : ٢٧٧ ؛ البغوي ١ : ١٦٩.

١٠٠