التفسير الأثري الجامع - ج ٤

الشيخ محمّد هادي معرفة

التفسير الأثري الجامع - ج ٤

المؤلف:

الشيخ محمّد هادي معرفة


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة التمهيد ـ قم
المطبعة: ستاره
الطبعة: ١
ISBN: 978-600-5079-05-0
ISBN الدورة:
978-600-5079-08-1

الصفحات: ٥٦٠

المصيبة ، وصبر على الطاعة ، وصبر عن المعصية ، فمن صبر على المصيبة حتّى يردّها بحسن عزائها كتب الله له ثلاثمائة درجة ، ما بين الدرّجة إلى الدرّجة كما بين السماء إلى الأرض ، ومن صبر على الطاعة كتب الله له ستّمائة درجة ما بين الدرّجة إلى الدرجة كما بين تخوم الأرض إلى العرش ، ومن صبر عن المعصية كتب الله له تسعمائة درجة ، ما بين الدّرجة إلى الدرجة كما بين تخوم الأرض إلى منتهى العرش».

[٢ / ٣٨٢٧] وعن عليّ بن الحكم ، عن يونس بن يعقوب قال : أمرني أبو عبد الله عليه‌السلام أن آتي المفضّل (١) وأعزّيه بإسماعيل ، وقال : «اقرأ المفضّل السّلام وقل له : إنّا قد أصبنا بإسماعيل فصبرنا ، فاصبر كما صبرنا ، إنّا أردنا أمرا وأراد الله عزوجل أمرا ، فسلّمنا لأمر الله ـ عزوجل ـ».

[٢ / ٣٨٢٨] وعن عليّ بن إبراهيم ، عن أبيه ، عن ابن أبي عمير ، عن سيف بن عميرة ، عن أبي حمزة الثمالي قال : قال أبو عبد الله عليه‌السلام : «من ابتلي من المؤمنين ببلاء فصبر عليه ، كان له مثل أجر ألف شهيد».

[٢ / ٣٨٢٩] وعن محمّد بن يحيى ، عن أحمد بن محمّد بن عيسى ، عن محمّد بن سنان ، عن عمّار بن مروان ، عن سماعة ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : «إنّ الله ـ عزوجل ـ أنعم على قوم ، فلم يشكروا ، فصارت عليهم وبالا ؛ وابتلى قوما بالمصائب فصبروا ، فصارت عليهم نعمة».

[٢ / ٣٨٣٠] وعن عليّ بن إبراهيم ، عن أبيه ، ومحمّد بن إسماعيل ، عن الفضل بن شاذان ، جميعا ، عن ابن أبي عمير ، عن إبراهيم بن عبد الحميد ، عن أبان بن أبي مسافر ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام في قول الله ـ عزوجل ـ : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصابِرُوا)(٢) قال : «اصبروا على المصائب».

[٢ / ٣٨٣١] وفي رواية ابن أبي يعفور ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : «صابروا على المصائب».

[٢ / ٣٨٣٢] وعن أحمد بن محمّد بن خالد ، عن محمّد بن عيسى ، عن عليّ بن محمّد بن أبي جميلة ، عن جدّه أبي جميلة ، عن بعض أصحابه قال : لو لا أنّ الصبر خلق قبل البلاء لتفطّر المؤمن كما تتفطّر البيضة على الصفا (٣).

[٢ / ٣٨٣٣] وعن محمّد بن عبد الجبّار ، عن صفوان ، عن إسحاق ابن عمّار وعبد الله بن سنان ، عن

__________________

(١) الظاهر أنّه مفضّل بن عمر. (٢) آل عمران ٣ : ٢٠٠.

(٣) الفطر : الشقّ ، يقال : فطره فانفطر وتفطّر. والصفا : جمع الصفاة وهي الصلد الضخم.

٢٠١

أبي عبد الله عليه‌السلام قال : «قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : قال الله ـ عزوجل ـ : إنّي جعلت الدنيا بين عبادي قرضا ، فمن أقرضني منها قرضا أعطيته بكلّ واحدة عشرا إلى سبعمائة ضعف وما شئت من ذلك ؛ ومن لم يقرضني منها قرضا فأخذت منه شيئا قسرا [فصبر] أعطيته ثلاث خصال لو أعطيت واحدة منهنّ ملائكتي لرضوا بها منّي ، قال : ثمّ تلا أبو عبد الله عليه‌السلام قول الله ـ عزوجل ـ : (الَّذِينَ إِذا أَصابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ. أُولئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَواتٌ مِنْ رَبِّهِمْ) (فهذه واحدة من ثلاث خصال) (وَرَحْمَةٌ) (اثنتان) (١)(وَأُولئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ)(٢) ثلاث (٣) ثمّ قال أبو عبد الله عليه‌السلام : هذا لمن أخذ الله منه شيئا قسرا».

[٢ / ٣٨٣٤] وعن عليّ بن إبراهيم ، عن أبيه ؛ وعليّ بن محمّد القاساني ، عن القاسم بن محمّد ، عن سليمان بن داوود ، عن يحيى بن آدم ، عن شريك ، عن جابر بن يزيد ، عن أبي جعفر عليه‌السلام قال : «مروّة الصبر (٤) في حال الحاجة والفاقة والتعفّف والغنا (٥) أكثر من مروّة الإعطاء».

[٢ / ٣٨٣٥] وعن محمّد بن عبد الجبّار ، عن أحمد بن النضر ، عن عمرو بن شمر ، عن جابر قال : «قلت لأبي جعفر عليه‌السلام يرحمك الله ما الصبر الجميل؟ قال : ذلك صبر ليس فيه شكوى إلى الناس».

[٢ / ٣٨٣٦] وعن حميد بن زياد ، عن الحسن بن محمّد بن سماعة ، عن بعض أصحابه ، عن أبان ، عن عبد الرحمان بن سيّابة ، عن أبي النعمان ، عن أبي عبد الله أو أبي جعفر عليهما‌السلام قال : «من لا يعدّ الصبر لنوائب الدّهر يعجز».

[٢ / ٣٨٣٧] وعن معلّى بن محمّد ، عن الوشّاء ، عن بعض أصحابه عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : «إنّا صبّر (٦) وشيعتنا أصبر منّا ، قلت : جعلت فداك كيف صار شيعتكم أصبر منكم؟ قال : لأنّا نصبر على ما نعلم وشيعتنا يصبرون على ما لا يعلمون. (٧)» (٨).

__________________

(١) أي هذه الثانية.

(٢) البقرة ٢ : ١٧٥.

(٣) أي هذه الثالثة.

(٤) في بعض النسخ : «مرارة» في الموضعين.

(٥) في بعض النسخ : «العناء» بالمهملة.

(٦) بضم الصاد وتشديد الباء المفتوحة جمع الصابر.

(٧) أي لا علم لهم بمصالح الأمور الكامنة وراء الظواهر.

(٨) الكافي ٢ : ٨٨ ـ ٩٣ ، باب الصبر.

٢٠٢

كلام عن الصبر

بتحقيق الإمام أبي حامد الغزالي (م : ٥٠٥) في إحياء علوم الدين. وتهذيب المولى المحقّق الفيض الكاشاني (م : ١٠٩١) في المحجّة البيضاء.

قال أبو حامد : قد وصف الله تعالى الصابرين بأوصاف وذكر الصبر في القرآن في نيف وسبعين موضعا ، وأضاف أكثر الدرجات والخيرات إلى الصبر وجعلها ثمرة له فقال عزّ من قائل : (وَجَعَلْنا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنا لَمَّا صَبَرُوا)(١) وقال تعالى : (وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنى عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ بِما صَبَرُوا)(٢) وقال تعالى : (وَلَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُوا أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ ما كانُوا يَعْمَلُونَ)(٣) وقال تعالى : (أُولئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ بِما صَبَرُوا)(٤) وقال تعالى : (إِنَّما يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسابٍ)(٥) فما من قربة إلّا وأجرها بتقدير وحساب إلّا الصبر ، ولأجل كون الصوم من الصبر وأنّه نصف الصبر قال الله تعالى : «الصوم لي وأنا أجزي به» (٦) فأضاف إلى نفسه من بين سائر العبادات ووعد الصابرين بأنّه معهم فقال تعالى : (وَاصْبِرُوا إِنَّ اللهَ مَعَ الصَّابِرِينَ)(٧) وعلّق النصرة على الصبر فقال تعالى : (بَلى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هذا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُسَوِّمِينَ)(٨) وجمع للصابرين بين أمور لم يجمعها لغيرهم فقال تعالى : (أُولئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَواتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ)(٩) فالهدى والرحمة والصلوات مجموعة للصابرين. واستقصاء جميع الآيات في مقام الصبر يطول.

وأمّا الأخبار :

[٢ / ٣٨٣٨] فقد قال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «الصبر نصف الإيمان» (١٠) على ما سيأتي وجه كونه نصفا.

__________________

(١) السجدة ٣٢ : ٢٤. (٢) الأعراف ٧ : ١٣٧.

(٣) النحل ١٦ : ٩٦. (٤) القصص ٢٨ : ٥٤.

(٥) الزمر ٣٩ : ١٠.

(٦) البحار ٩٣ : ٢٤٩ / ١٤ ؛ الفقيه ٢ : ٧٥ / ١٧٧٣ ؛ مسند أحمد ١ : ٤٤٦ ؛ البخاري ٢ : ٢٢٦ ، وفيه بلفظ : «الصيام» ؛ مسلم ٣ : ١٥٧ ، من حديث أبي هريرة وأبي سعيد.

(٧) الأنفال ٨ : ٤٦.

(٨) آل عمران ٣ : ١٢٥.

(٩) البقرة ٢ : ١٥٧.

(١٠) الدرّ ١ : ١٦٠ ؛ شعب الإيمان ٧ : ١٢٣ / ٩٧١٦ و ٩٧١٧ ؛ الكبير ٩ : ١٠٤ ؛ مجمع الزوائد ١ : ٥٧ ، قال الهيثمي : رجاله رجال الصحيح ؛ كنز العمّال ٣ : ٢٧١ / ٦٤٩٨ ؛ الترغيب والترهيب ٤ : ٢٧٧ ، روى عن ابن مسعود موقوفا ومرفوعا.

٢٠٣

[٢ / ٣٨٣٩] وقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «من أقلّ ما أوتيتم اليقين وعزيمة الصبر ومن أعطى حظّه منهما لم يبال بما فاته من قيام الليل وصيام النهار ، ولأن تصبروا على ما أنتم عليه أحبّ إليّ من أن يوافيني كلّ امرئ منكم بمثل عمل جميعكم ولكنّي أخاف أن تفتح عليكم الدنيا بعدي فينكر بعضكم بعضا وينكركم أهل السماء عند ذلك. فمن صبر واحتسب ظفر بكمال ثوابه ، ثمّ قرأ قوله تعالى : (ما عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَما عِنْدَ اللهِ باقٍ وَلَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُوا أَجْرَهُمْ) الآية (١)» (٢).

[٢ / ٣٨٤٠] وروى جابر أنّه سئل النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن الإيمان فقال : «الصبر والسماحة» (٣).

[٢ / ٣٨٤١] وقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أيضا : «الصبر كنز من كنوز الجنّة» (٤).

[٢ / ٣٨٤٢] وسئل مرّة : ما الإيمان؟ فقال : «الصبر» (٥).

[٢ / ٣٨٤٣] وهذا يشبه قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «الحجّ عرفة» (٦) معناه معظم الحجّ عرفة.

[٢ / ٣٨٤٤] وقال أيضا صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «أفضل الأعمال ما أكرهت عليه النفوس» (٧). وقيل : أوحى الله تعالى إلى داوود عليه‌السلام : تخلّق بأخلاقي ، وإنّ من أخلاقي أنّي أنا الصبور.

[٢ / ٣٨٤٥] وقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «في الصبر على ما تكره خير كثير» (٨).

[٢ / ٣٨٤٦] وقال المسيح عليه‌السلام : إنّكم لا تدركون ما تحبّون إلّا بصبركم على ما تكرهون (٩).

[٢ / ٣٨٤٧] وقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «لو كان الصبر رجلا لكان كريما والله يحبّ الصابرين» (١٠) والأخبار في هذا لا تحصى.

[٢ / ٣٨٤٨] قال المولى الكاشاني : قال عليّ عليه‌السلام : «بني الإيمان على أربع دعائم اليقين والصبر والجهاد والعدل».

__________________

(١) النحل ١٦ : ٩٦. (٢) البحار ٧٩ : ١٣٧ / ٢٢.

(٣) أبو يعلى ٣ : ٣٨٠ ؛ مكارم الأخلاق ، ابن أبي الدنيا : ٣١ / ٦١.

(٤) مسكن الفؤاد (الشهيد الثاني) : ٤٧ ؛ البحار ٧٩ : ١٣٧. (٥) لم أجده.

(٦) الترمذي ٥ : ٤١٦ / ٤١٠٥ ؛ النسائي ٥ : ٢٥٦.

(٧) هذا الحديث لا أصل له ، وإنّما هو من قول عمر بن عبد العزيز. هكذا رواه ابن أبي الدنيا في كتاب محاسبة النفس.

(٨) كنز العمّال ١ : ١٣٤ / ٦٣١ ؛ مسكن الفؤاد : ٤٨ ؛ البحار ٧٩ : ١٣٧.

(٩) مسكن الفؤاد : ٤٨ ؛ البحار ٧٩ : ١٣٧.

(١٠) مسكن الفؤاد : ٤٨ ؛ كنز العمّال ٣ : ٢٧١ / ٦٥٠٤.

٢٠٤

[٢ / ٣٨٤٩] وقال أيضا : «الصبر من الإيمان بمنزلة الرّأس من الجسد ولا جسد لمن لا رأس له ، ولا إيمان لمن لا صبر له» (١).

وزاد : أقول : وهذا المعنى الأخير مرويّ من طريق أهل البيت عليهم‌السلام عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأمير المؤمنين عليه‌السلام وعليّ بن الحسين وأبي عبد الله عليهم‌السلام بغير واحد من الإسناد رواه في الكافي.

[٢ / ٣٨٥٠] وفيه عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : «إذا دخل المؤمن قبره كانت الصلاة عن يمينه والزكاة عن يساره والبرّ مطلّ عليه ويتنحّى الصبر ناحية فإذا دخل عليه الملكان الّلذان يليان مساءلته قال الصبر للصلاة والزكاة والبرّ : دونكم صاحبكم فإن عجزتم عنه فأنا دونه» (٢).

[٢ / ٣٨٥١] وعنه عليه‌السلام «من ابتلي من المؤمنين ببلاء فصبر عليه كان له مثل أجر ألف شهيد» (٣).

[٢ / ٣٨٥٢] وعنه عليه‌السلام قال : «إنّ الله تعالى أنعم على قوم فلم يشكروا فصارت عليهم وبالا ، وابتلي قوما بالمصائب فصبروا فصارت عليهم نعمة» (٤).

[٢ / ٣٨٥٣] وعنه أو عن أبي جعفر عليهما‌السلام قال : «من لا يعدّ الصبر لنوائب الدهر يعجز» (٥).

[٢ / ٣٨٥٤] وعن أبي جعفر عليه‌السلام قال : «الجنّة محفوفة بالمكاره والصبر ، فمن صبر على المكاره في الدنيا دخل الجنّة ، وجهنّم محفوفة باللّذات والشهوات فمن أعطى نفسه لذّتها وشهوتها دخل النار» (٦).

قال أبو حامد : هذا بيان فضيلة الصبر من حيث النقل ، وأمّا من حيث النظر بعين الاعتبار فلا تفهمه إلّا بعد فهم حقيقة الصبر ومعناه ، إذ معرفة الفضيلة والرتبة ، معرفة صفة ، فلا تحصل قبل الموصوف ، فلنذكر حقيقته ومعناه وبالله التوفيق :

حقيقة الصبر ومعناه

اعلم أنّ الصبر مقام من مقامات الدين ومنزل من منازل السالكين ، وجميع مقامات الدين إنّما

__________________

(١) أورده الشريف الرضي في النهج ، باب الحكم ، تحت رقم ٨٢ (نهج البلاغة ٤ : ١٨).

(٢) الكافي ٢ : ٩٠ / ٨ ، باب الصبر.

(٣) المصدر : ٩٢ / ١٨.

(٤) المصدر : ٩٢ / ١٨.

(٥) المصدر : ٩٣ / ٢٤.

(٦) المصدر : ٨٩ / ٧.

٢٠٥

تنتظم من ثلاثة أمور : معارف ، وأحوال ، وأعمال. فالمعارف هي الأصول ، وهي تورث الأحوال ، والأحوال تثمر الأعمال! فالمعارف كالأشجار ، والأحوال كالأغصان ، والأعمال كالثمار. وهذا مطّرد في جميع منازل السالكين إلى الله تعالى. واسم الإيمان تارة يختصّ بالمعارف ، وتارة يطلق على الكلّ. وكذلك الصبر لا يتمّ بمعرفة سابقة وبحالة قائمة. فالصبر على التحقيق عبارة عنها ، والعمل هو كالثمرة يصدر عنها ، ولا يعرف هذا إلّا بمعرفة كيفيّة الترتيب بين الملائكة والإنس والبهائم. فإنّ الصبر خاصّيّة الإنس ، ولا يتصوّر ذلك في البهائم والملائكة ، أمّا في البهائم فلنقصانها ، وأمّا في الملائكة فلكمالها.

وبيانه : أنّ البهائم سلّطت عليها الشهوات وصارت مسخّرة لها فلا باعث لها على الحركة والسكون إلّا الشهوة ، وليس فيها قوّة تصادم الشهوة وتردّها عن مقتضاها حتّى يسمّى ثبات تلك القوّة في مقابلة مقتضى الشهوة صبرا.

وأمّا الملائكة عليهم‌السلام فإنّهم جرّدوا للشوق إلى حضرة الربوبيّة والابتهاج بدرجة القرب منها ولم تسلّط عليهم شهوة صارفة صادّة عنها حتّى يحتاج إلى مصادمة ما يصرفها عن حضرة الجلال بجند آخر يغلب الصوارف.

وأمّا الإنسان فإنّه خلق في ابتداء الصبا ناقصا مثل البهيمة لم يخلق فيه إلّا شهوة الغذاء الّذي هو محتاج إليه ، ثمّ تظهر فيه شهوة اللعب والزينة ، ثمّ شهوة النكاح ، على الترتيب ، وليس له قوّة الصبر البتّة ؛ إذ الصبر عبارة عن ثبات جند في مقابلة جند آخر قام القتال بينهما لتضادّ مقتضياتهما ومطالبهما ، وليس في الصبّي إلّا جند الهوى كما في البهائم ، ولكنّ الله تعالى بفضله وسعة جوده أكرم بني آدم ورفع درجتهم عن درجة البهائم فوكّل به عند كمال شخصه بمقاربة البلوغ ملكين ؛ أحدهما يهديه ، والآخر يقويه ، فتميّز بمعونة الملكين عن البهائم. واختصّ بصفتين : إحداهما معرفة الله تعالى ومعرفة رسوله ، ومعرفة المصالح المتعلّقة بالعواقب. وكلّ ذلك حاصل من الملك الّذي إليه الهداية والتعريف. فالبهيمة لا معرفة لها ولا هداية إلى مصلحة العواقب بل إلى مقتضى شهواتها في الحال فقط ، فلذلك لا تطلب إلّا اللذيذ. وأمّا الدواء النافع مع كونه مضرّا في الحال فلا تطلبه ولا تعرفه ، فصار الإنسان بنور الهداية يعرف أنّ اتّباع الشهوات له مغبّات مكروهة في العاقبة ، ولكن لم تكن هذه الهداية كافية ما لم تكن له قدرة على ترك ما هو مضرّ ، فكم من مضرّ

٢٠٦

يعرفه الإنسان كالمرض النازل به مثلا ، ولكن لا قدرة له على دفعه! فافتقر إلى قدرة وقوّة يدفع بها في نحر الشهوات فيجاهدها بتلك القوّة حتّى يقطع عداوتها عن نفسه ، فوكّل الله تعالى به ملكا آخر يسدّده ويؤيّده ويقويه بجنود لم تروها ، وأمر هذا الجند بقتال جند الشهوة ، فتارة يضعف هذا الجند وتارة يقوى ذلك بحسب إمداد الله تعالى عبده بالتأييد ، كما أنّ نور الهداية أيضا يختلف في الخلق اختلافا لا ينحصر.

فلنسمّ هذه الصفة الّتي بها فارق الإنسان البهائم في قمع الشهوات وقهرها : باعثا دينيّا ، ولنسمّ مطالبة الشهوات بمقتضياتها : باعث الهوى. وليفهم أنّ القتال قائم بين باعث الدين وباعث الهوى ، والحرب بينهما سجال ، ومعركة هذا القتال قلب العبد. ومدد باعث الدين من الملائكة الناصرين لحزب الله ، ومدد باعث الشهوة من الشياطين الناصرين لأعداء الله. فالصبر عبارة عن ثبات الدين في مقابلة باعث الشهوة. فإن ثبت حتّى قهره واستمرّ على مخالفة الشهوة فقد نصر حزب الله والتحق بالصابرين ، وإن تخاذل وضعف حتّى غلبته الشهوة ولم يصبر في دفعها التحق بأتباع الشياطين.

فإنّ ترك الأفعال المشتهاة عمل يثمره حال يسمّى : الصبر ، وهو ثبات باعث الدين الّذي هو في مقابلة باعث الشهوة. وثبات باعث الدين حال تثمرها المعرفة بعداوة الشهوات ومضادّتها لأسباب السعادات في الدنيا والآخرة. فإذا قوي يقينه ـ أعني المعرفة الّتي تسمّى إيمانا وهو اليقين بكون الشهوة عدوّا قاطعا لطريق الله تعالى ـ قوي ثبات باعث الدين ، وإذا قوي ثباته تمّت الأفعال على خلاف ما تتقاضاه الشهوة ، فلا يتمّ ترك الشهوة إلّا بقوّة باعث الدين المضادّ لباعث الشهوة. وقوّة المعرفة والإيمان تقبح مغبّة الشهوات وسوء عاقبتها. وهذا الملكان هما المتكفّلان بهذين الجندين بإذن الله تعالى وتسخيره إيّاهما وهما من الكرام الكاتبين ، وهما الملكان الموكّلان بكلّ شخص من الآدميين. وإذا عرفت أنّ رتبة الملك الهادي أعلى من رتبة الملك المقوّي لم يخف عليك أنّ جانب اليمين هو أشرف الجانبين من جنبتي الدست ، الّذي ينبغي أن يكون مسلما له. فهو إذن صاحب اليمين والآخر صاحب الشمال.

وللعبد طوران في الغفلة والفكر وفي الاسترسال والمجاهدة. فهو بالغفلة معرض عن صاحب اليمين ومسيء إليه فيكتب إعراضه سيّئة ، وبالفكر مقبل عليه ليستفيد منه الهداية فهو به محسن

٢٠٧

فيكتب إقباله له حسنة. وكذا بالاسترسال هو معرض عن صاحب اليسار تارك للاستمداد منه فهو به مسيء إليه فيثبت عليه سيّئة ، وبالمجاهدة مستمدّ من جنوده فيثبت له به حسنة. وإنّما ثبتت هذه الحسنات والسيّئات بإثباتهما فلذلك سميّا كراما كاتبين. أمّا الكرام فلانتفاع العبد بكرمهما ولأنّ الملائكة كلّهم كرام بررة ، وأمّا الكاتبون فلإثباتهما الحسنات والسيّئات وإنّما يكتبان في صحائف مطويّة في سرّ القلب ، ومطويّة عن سرّ القلب حتّى لا يطلع عليه في هذا العالم ، فإنّهما وكتبتهما وخطّهما وصحائفهما وجملة ما تعلّق بهما من جملة عالم الغيب والملكوت لا من عالم الشهادة ، وكلّ شيء من عالم الملكوت لا تدركه الأبصار في هذا العالم ، ثمّ تنشر هذه الصحائف المطويّة عنه مرّتين : مرّة في القيامة الصغرى ، ومرّة في القيامة الكبرى ، وأعني بالقيامة الصغرى حالة الموت.

إذ قال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «من مات فقد قامت قيامته» (١) وفي هذه القيامة يكون العبد وحده وعندها يقال : (وَلَقَدْ جِئْتُمُونا فُرادى كَما خَلَقْناكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ)(٢) وفيها يقال : (كَفى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً)(٣) أمّا في القيامة الكبرى الجامعة لكافّة الخلائق فلا يكون وحده بل ربما يحاسب على ملأ من الخلق ، وفيها يساق المتّقون إلى الجنّة والمجرمون إلى النار زمرا لا آحادا. والهول الأوّل هو هول القيامة الصغرى. ولجميع أهوال القيامة الكبرى نظير في القيامة الصغرى ، مثل زلزلة الأرض مثلا ، فإنّ أرضك الخاصّة بك تزلزل في الموت ، فإنّك تعلم أنّ الزلزلة إذا نزلت ببلدة صدق أن يقال قد زلزلت أرضهم وإن لم تزلزل البلاد المحيطة بها ، بل لو زلزل مسكن لإنسان وحده فقد حصلت الزلزلة في حقّه ؛ لأنّه إنّما يتضرّر عند زلزلة جميع الأرض بزلزلة مسكنه لا بزلزلة مسكن غيره ، فحصّته من الزلزلة قد توفّرت من غير نقصان.

واعلم أنّك أرضى مخلوق من التراب ، وحظّك الخاصّ من التراب بدنك فقط ، فأمّا بدن غيرك

__________________

(١) حديث : «من مات فقد قامت قيامته» أخرجه ابن أبي الدنيا في كتاب الموت من حديث أنس انظر : كنز العمّال ١٥ : ٦٨٦ / ٤٢٧٤٨. قال صاحب المقاصد الحسنة (١١٨٣) : له ذكر في : «أكثروا ذكر هادم اللذّات». ورواه الديلمي عن أنس مرفوعا ولفظه : «إذا مات أحدكم فقد قامت قيامته» ، وللطبراني من حديث زيادة بن علاقة عن المغيرة بن شعبة قال : «يقولون : القيامة القيامة وإنّما قيامة المرء موته» ، ومن رواية سفيان بن أبي قيس قال : شهدت جنازة فيها علقمة فلمّا دفن قال : «أما هذا فقد قامت قيامته». انظر : كنز العمّال ١٥ : ٥٤٨ / ٤٢١٢٣ ؛ وكشف الخفاء ، العجلوني ٢ : ٢٧٩ / ٢٦١٨.

(٢) الأنعام ٦ : ٩٤.

(٣) الإسراء ١٧ : ١٤.

٢٠٨

فليس بحظّك. والأرض الّتي أنت جالس عليها بالإضافة إلى بدنك ظرف ومكان تخاف من تزلزله أن يتزلزل بدنك بسببه ، وإلّا فالهواء أبدا متزلزل وأنت لا تخشاه إذ ليس يتزلزل به بدنك ، فحظّك من زلزلة الأرض كلّها زلزلة بدنك فقط ، فهي أرضك وترابك الخاصّ بك ، وعظامك جبال أرضك ، ورأسك سماء أرضك ، وقلبك شمس أرضك ، وسمعك وبصرك وسائر خواصّك نجوم سمائك ، ومفيض العرق من بدنك بحر أرضك ، وشعورك نبات أرضك ، وأطرافك أشجار أرضك ، وهكذا إلى جميع أجزائك ، فإذا انهدم بالموت أركان فقد زلزلت الأرض زلزالها ، فإذا انفصلت العظام من اللحوم فقد حملت الأرض والجبال فدكّتا دكّة واحدة ، فإذا رمت العظام فقد نسفت الجبال نسفا ، فإذا أظلم قلبك عند الموت فقد كوّرت الشمس تكويرا ، فإذا بطل سمعك وبصرك وسائر حواسّك فقد انكدرت النجوم انكدارا ، فإذا انشقّ دماغك فقد انشقّت السماء انشقاقا ، فإذا انفجرت من هول الموت عرق جبينك فقد فجّرت البحار تفجيرا ، فإذا التفّت إحدى ساقيك بالأخرى وهما مطيّتاك فقد عطّلت العشار تعطيلا ، فإذا فارقت الروح الجسد فقد حملت الأرض فمدّت حتّى ألقت ما فيها وتخلّت.

ولست أطوّل بجميع موازنة الأحوال والأهوال ، ولكنّي أقول : بمجرّد الموت تقوم عليك هذه القيامة الصغرى ، ولا يفوتك من القيامة الكبرى شيء ممّا يخصّك ، بل ما يخصّ غيرك ؛ فإنّ بقاء الكواكب في حقّ غيرك ما ذا ينفعك ، وقد انتشرت حواسّك الّتي بها تنتفع بالنظر إلى الكواكب ، والأعمى يستوي عنده اللّيل والنهار ، وكسوف الشمس وانجلاؤها ، لأنّها قد كسفت في حقّه دفعة واحدة ، وهو حصّته منها ، فالانجلاء بعد ذلك حصّة غيره ، ومن انشقّ رأسه فقد انشقّت سماؤه ، إذ السماء عبارة عمّا يلي جهة الرأس ، فمن لا رأس له لا سماء له ، فمن أين ينفعه بقاء السماء لغيره؟ فهذه هي القيامة الصغرى. والخوف بعد أسفل ، والهول بعد مؤخّر ، وذلك إذا جاءت الطامّة الكبرى وارتفع الخصوص ، وبطلت السماوات والأرض ، ونسفت الجبال وتمّت الأهوال.

واعلم أنّ هذه الصغرى (١) وإن طوّلنا في وصفها فإنّا لم نذكر عشير أوصافها ، وهي بالنسبة إلى القيامة الكبرى كالولادة الصغرى بالنسبة إلى الولادة الكبرى ؛ فإنّ للإنسان ولادتين ، إحداهما : الخروج من الصلب والترائب إلى مستودع الأرحام ، فهو في الرحم في قرار مكين إلى قدر معلوم ،

__________________

(١) أي القيامة الصغرى.

٢٠٩

وله في سلوكه إلى الكمال منازل وأطوار من نطفة وعلقة ومضغة وغيرها إلى أن يخرج من مضيق الرحم إلى فضاء العالم. فنسبة عموم القيامة الكبرى إلى خصوص القيامة الصغرى كنسبة سعة فضاء العالم إلى سعة فضاء الرحم ، ونسبة سعة العالم الّذي يقدم عليه العبد بالموت إلى سعة فضاء الدنيا كنسبة فضاء الدنيا أيضا إلى الرحم ، بل أوسع وأعظم. فقس الآخرة بالأولى فما خلقكم ولا بعثكم إلّا كنفس واحدة. وما النشأة الثانية إلّا على قياس النشأة الأولى بل أعداد النشآت ليست محصورة في اثنتين. وإليه الإشارة بقوله تعالى : (وَنُنْشِئَكُمْ فِي ما لا تَعْلَمُونَ)(١) فالمقرّ بالقيامتين مؤمن بعالم الغيب والشهادة ، وموقن بالملك والملكوت. والمقرّ بالقيامة الصغرى دون الكبرى ناظر بالعين العوراء إلى أحد العالمين ، وذلك هو الجهل والضلال ، والاقتداء بالأعور الدجّال.

فما أعظم غفلتك يا مسكين ـ وكلّنا ذلك المسكين ـ وبين يديك هذه الأهوال فإن كنت لا تؤمن بالقيامة الكبرى بالجهل والضلال أفلا تكفيك دلالة القيامة الصغرى؟ أو ما سمعت قول سيّد الأنبياء صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «كفى بالموت واعظا» (٢) أو ما سمعت بكربه عليه‌السلام عند الموت حتّى قال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «اللهمّ هوّن على محمّد سكرات الموت» (٣). أو ما تستحي من استبطائك هجوم الموت اقتداء برعاع الغافلين ، الّذين لا ينظرون إلّا صيحة واحدة تأخذهم وهم يخصّمون ، فلا يستطيعون توصية ولا إلى أهلهم يرجعون؟ فيأتيهم المرض نذيرا من الموت فلا ينزجرون ويأتيهم الشيب رسولا منه فما يعتبرون ، فيا حسرة على العباد ما يأتيهم من رسول إلّا كانوا به يستهزئون ، أفيظنّون أنّهم في الدنيا خالدون؟ (أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ لا يَرْجِعُونَ)(٤) أم يحسبون أنّ الموتى سافروا من عندهم فهم معدومون كلّا : (وَإِنْ كُلٌّ لَمَّا جَمِيعٌ لَدَيْنا مُحْضَرُونَ)(٥) ولكن : (وَما تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آياتِ رَبِّهِمْ إِلَّا كانُوا عَنْها مُعْرِضِينَ)(٦) وذلك لأنّا : (وَجَعَلْنا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا

__________________

(١) الواقعة ٥٦ : ٦٠.

(٢) أخرجه البيهقي في الشعب من حديث عائشة والطبراني من حديث عقبة بن عامر من قول الفضيل بن عياض والبيهقي في الزهد الكبير (ص ٢١٦). انظر : مجمع الزوائد ١٠ : ٣٠٨ ؛ وكشف الخفاء ٢ : ١١٢ / ١٩٣٣.

(٣) أخرجه ابن ماجة (١ : ٥١٩ / ١٦٢٣) والنسائي (٤ : ٢٥٩ / ٧١٠١) وأبو يعلى (٨ : ٩ / ٤٥١٠) كلّهم بلفظ : اللهمّ أعنّي على سكرات الموت.

(٤) يس ٣٦ : ٣١.

(٥) يس ٣٦ : ٣٢.

(٦) يس ٣٦ : ٤٦.

٢١٠

فَأَغْشَيْناهُمْ فَهُمْ لا يُبْصِرُونَ. وَسَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ)(١).

ولنرجع إلى الغرض فإنّ هذه تلويحات تشير إلى أمور هي أعلى من علوم المعاملة. فنقول : ظهر أنّ الصبر عبارة عن «ثبات باعث الدين في مقاومة باعث الهوى» وهذه المقاومة من خاصّة الآدميين ، لما وكّل بهم من الكرام الكاتبين ، ولا يكتبان شيئا عن الصبيان والمجانين ، إذ قد ذكرنا أنّ الحسنة في الإقبال على الاستفادة منهما ، والسيّئة في الإعراض عنهما ، وما للصبيان والمجانين سبيل إلى الاستفادة ، فلا يتصوّر منهما إقبال وإعراض ، وهما لا يكتبان إلّا الإقبال والإعراض من القادرين على الإقبال والإعراض. ولعمري إنّه قد تظهر مبادئ إشراق نور الهداية عند سنّ التمييز وتنمو على التدريج إلى سنّ البلوغ ، كما يبدو نور الصبح إلى أن يطلع قرص الشمس ، ولكنّها هداية قاصرة لا ترشد إلى مضارّ الآخرة ، بل إلى مضارّ الدنيا ، فلذلك يضرب على ترك الصلوات ناجزا ، ولا يعاقب على تركها في الآخرة ، ولا يكتب عليه من الصحائف ما ينشره في الآخرة ، بل على القيّم العدل والوليّ البرّ الشفيق ـ إن كان من الأبرار وكان على سمت الكرام الكاتبين البررة الأخيار ـ أن يكتب على الصبيّ سيّئته وحسنته على صحيفة قلبه ، فيكتبه عليه بالحفظ ، ثمّ ينشره عليه بالتعريف ، ثمّ يعذّبه عليه بالضرب. فكلّ وليّ هذا سمته في حقّ الصبيّ فقد ورث أخلاق الملائكة واستعملها في حقّ الصبيّ. فينال بها درجة القرب من ربّ العالمين ، كما نالته الملائكة ، فيكون مع النبيّين والمقرّبين والصدّيقين. وإليه الإشارة بقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «أنا وكافل اليتيم كهاتين في الجنّة» (٢) وأشار بأصبعيه الكريمتين يعني السبّابة والوسطى.

الصبر نصف الإيمان

اعلم أنّ الإيمان تارة يختصّ في إطلاقه بالتصديقات بأصول الدين ، وتارة يختصّ بالأعمال الصالحة الصادرة منها ، وتارة يطلق عليهما جميعا. وللمعارف أبواب ، وللأعمال أبواب. ولاشتمال لفظ الإيمان على جميعها كان الإيمان نيفا وسبعين بابا. (٣) أمّا كون الصبر نصف الإيمان فباعتبارين

__________________

(١) يس ٣٦ : ٩ ـ ١٠.

(٢) الترمذي ٣ : ٢١٥ / ١٩٨٣ ؛ البيهقي ٦ : ٢٨٣.

(٣) روى مسلم في الصحيح عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «الإيمان بضع وسبعون أو بضع وستّون شعبة» ؛ (مسلم ١ : ٤٦).

٢١١

وعلى مقتضى إطلاقين :

أحدهما : أن يطلق على التصديقات والأعمال جميعا ، فيكون للإيمان ركنان : أحدهما اليقين ، والآخر الصبر. والمراد باليقين : المعارف القطعيّة الحاصلة بهداية الله تعالى عبده إلى أصول الدين. والمراد بالصبر : العمل بمقتضى اليقين. إذ اليقين يعرّفه أنّ المعصية ضارّة والطاعة نافعة ، ولا يمكن ترك المعصية والمواظبة على الطاعة إلّا بالصبر ، وهو استعمال باعث الدين في قهر باعث الهوى والكسل. فيكون الصبر نصف الإيمان بهذا الاعتبار. ولهذا جمع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : بينهما فقال : «من أقلّ ما أوتيتم اليقين وعزيمة الصبر» (١).

الاعتبار الثاني : أن يطلق على الأحوال المثمرة للأعمال لا على المعارف ، وعند ذلك ينقسم جميع ما يلاقيه العبد إلى ما ينفعه في الدنيا والآخرة أو يضرّه فيهما ، وله بالإضافة إلى ما يضرّه حال الصبر ، وبالإضافة إلى ما ينفعه حال الشكر. فيكون الشكر أحد شطري الإيمان بهذا الاعتبار ، كما أنّ اليقين أحد الشطرين بالاعتبار الأوّل. وبهذا النظر قال ابن مسعود رضي الله عنه : «الإيمان نصفان ، نصف صبر ونصف شكر». وقد يرفع أيضا إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (٢).

ولمّا كان الصبر صبرا عن باعث الهوى بثبات باعث الدين ، وكان باعث الهوى قسمين ، باعث من جهة الشهوة ، وباعث من جهة الغضب ؛ فالشهوة لطلب اللذيذ والغضب للهرب من المؤلم ، وكان الصوم صبرا عن مقتضى الشهوة فقط وهي شهوة البطن والفرج دون مقتضى الغضب ، قال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بهذا الاعتبار : «الصوم نصف الصبر» (٣).

لأنّ كمال الصبر بالصبر عن دواعي الشهوة ودواعي الغضب جميعا ، فيكون الصوم بهذا الاعتبار ربع الإيمان. فهكذا ينبغي أن تفهم تقديرات الشرع بحدود الأعمال والأحوال ونسبتها إلى الإيمان ؛ والأصل فيه أن تعرف كثرة أبواب الإيمان ، فإنّ اسم الإيمان يطلق على وجوه مختلفة.

الأسامي الّتي تتجدّد للصبر بالإضافة إلى ما عنه الصبر

اعلم أنّ الصبر ضربان ؛ أحدهما : بدنيّ ، كتحمّل المشاقّ بالبدن والثبات عليها. وهو إمّا بالفعل

__________________

(١) مسكن الفؤاد : ٤٧ ؛ البحار ٧٩ : ١٣٧ / ٢٢.

(٢) كنز العمّال ١ : ٣٦ / ٦١ ؛ البحار ٧٤ : ١٥١ / ٩٩.

(٣) ابن ماجة ١ : ٥٥٥ / ١٧٤٥ ، بلفظ : «الصيام نصف الصبر».

٢١٢

كتعاطي الأعمال الشاقّة ، وإمّا من العبادات أو من غيرها. وإمّا بالاحتمال كالصبر على الضرب الشديد والمرض العظيم والجراحات الهائلة. وذلك قد يكون محمودا إذا وافق الشرع.

ولكنّ المحمود التامّ هو الضرب الآخر : وهو الصبر النفسي عن مشتهيات الطبع ومقتضيات الهوى.

ثمّ هذا الضرب إن كان صبرا على شهوة البطن والفرج سمّي عفّة ، وإن كان على احتمال مكروه ، واختلف أساميه عند الناس باختلاف المكروه الّذي غلب عليه الصبر ، فإن كان في مصيبة اقتصر على اسم الصبر ، وتضادّه حالة تسمّى الجزع والهلع ، وهو إطلاق داعي الهوى ليسترسل في رفع الصوت وضرب الخدود وشقّ الجيوب وغيرها.

وإن كان في احتمال الغنى سمّي ضبط النفس ، وتضادّه حالة تسمّى البطر.

وإن كان في حرب ومقاتلة سمّي شجاعة ويضادّه الجبن.

وإن كان في كظم الغيظ والغضب سمّي حلما ويضادّه التّذمّر.

وإن كان في نائبة من نوائب الزمان مضجرة سمّي سعة الصدر ويضادّه الضجر والتبرّم وضيق الصدر.

وإن كان في إخفاء كلام سمّي كتمان السرّ وسمّي صاحبه كتوما.

وإن كان عن فضول العيش سمّي زهدا ويضادّه الحرص.

وإن كان صبرا على قدر يسير من الحظوظ سمّي قناعة ويضادة الشّره.

ومن ثمّ فأكثر أخلاق الإيمان داخل في الصبر. ولذلك لما سئل عليه‌السلام مرّة عن الإيمان ، قال : «هو الصبر» لأنّه أكثر أعماله وأعزّها كما قال : «الحجّ عرفة» (١) وقد جمع الله تعالى أقسام ذلك وسمّى الكلّ صبرا فقال تعالى : (وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْساءِ) أي المصيبة (وَالضَّرَّاءِ) أي الفقر (وَحِينَ الْبَأْسِ) أي المحاربة (أُولئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ)(٢). فإذن هذه أقسام الصبر باختلاف متعلّقاتها ، ومن يأخذ المعاني من الأسامي يظنّ أنّ هذه الأحوال مختلفة في ذواتها وحقائقها ، ثمّ يلاحظ الأسامي فإنّها وضعت دالة على المعاني ، فالمعاني هي الأصول والألفاظ هي التوابع. ومن يطلب الأصول من التوابع لا بدّ أن يزلّ.

__________________

(١) الترمذي ٥ : ٤١٦ / ٤١٠٥.

(٢) البقرة ٢ : ١٧٧.

٢١٣

وإلى الفريقين الإشارة بقوله تعالى : (أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبًّا عَلى وَجْهِهِ أَهْدى أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيًّا عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ)(١) فإنّ الكفّار لم يغلطوا فيما غلطوا فيه إلّا بمثل هذه الانعكاسات ، نسأل الله حسن التوفيق بكرمه ولطفه.

مراتب الصبر

اعلم أنّ باعث الدين بالإضافة إلى باعث الهوى له ثلاثة أحوال :

أحدها : أن يقهر داعي الهوى فلا تبقى له قوّة المنازعة ويتوصّل إليه بدوام الصبر ، وعند هذا يقال من صبر ظفر. والواصلون إلى هذه الرتبة هم الأقلّون ، فلا جرم هم الصدّيقون المقرّبون :

(الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا)(٢). فهؤلاء لازموا الطريق المستقيم واستووا على الصراط القويم واطمأنّت نفوسهم على مقتضى باعث الدين. وإيّاهم ينادي المنادي : (يا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ. ارْجِعِي إِلى رَبِّكِ راضِيَةً مَرْضِيَّةً)(٣).

الحالة الثانية : أن تغلب دواعي الهوى وتسقط بالكلّيّة منازعة باعث الدين فيسلم نفسه إلى جند الشياطين ولا يجاهد ، لبأسه من المجاهدة ، وهؤلاء هم الغافلون وهم الأكثرون ، وهم الّذين استرقّتهم شهواتهم وغلبت عليهم شقوتهم فحكّموا أعداء الله في قلوبهم الّتي هي سرّ من أسرار الله تعالى وأمر من أمور الله. وإليهم الإشارة بقوله تعالى : (وَلَوْ شِئْنا لَآتَيْنا كُلَّ نَفْسٍ هُداها وَلكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ)(٤). وهؤلاء هم الّذين اشتروا الحياة الدنيا بالآخرة فخسرت صفقتهم ، وقيل لمن قصد إرشادهم : (فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنا وَلَمْ يُرِدْ إِلَّا الْحَياةَ الدُّنْيا. ذلِكَ مَبْلَغُهُمْ مِنَ الْعِلْمِ)(٥).

وهذه الحالة علامتها اليأس والقنوط والغرور بالأماني ، وهو غاية الحمق كما :

[٢ / ٣٨٥٥] قال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «الكيّس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت ، والأحمق من اتّبع نفسه هواها

__________________

(١) الملك ٦٧ : ٢٢.

(٢) فصّلت ٤١ : ٣٠.

(٣) الفجر ٨٩ : ٢٧ ـ ٢٨.

(٤) السجدة ٣٢ : ١٣.

(٥) النجم ٥٣ : ٢٩ ـ ٣٠.

٢١٤

وتمنّى على الله» (١).

وصاحب هذه الحالة إذا وعظ قال : أنا مشتاق إلى التوبة ولكنّها قد تعذّرت عليّ ، فلست أطمع فيها ، أو لم يكن مشتاقا إلى التوبة ولكن قال : إنّ الله غفور رحيم كريم ، فلا حاجة به إلى توبتي. وهذا المسكين قد صار عقله رقيقا (٢) لشهوته ، فلا يستعمل عقله إلّا في استنباط دقائق الحيل الّتي بها يتوصّل إلى قضاء شهوته ، فقد صار عقله في يد شهواته كمسلم أسير في أيدي الكفّار ، فهم يستسخرونه في رعاية الخنازير وحفظ الخمور وحملها ، ومحلّه عند الله تعالى محلّ من يقهر مسلما ويسلّمه إلى الكفّار ويجعله أسيرا عندهم ؛ لأنّه بفاحش جنايته يشبه أنّه سخر ما كان حقّه أن لا يستسخر ، وسلّط ما حقّه أن لا يتسلّط عليه ، وإنّما استحقّ المسلم أن يكون متسلّطا لما فيه من معرفة الله وباعث الدين ، وإنّما استحقّ الكافر أن يكون مسلّطا عليه لما فيه من الجهل بالدين وباعث الشياطين ، وحقّ المسلم على نفسه أوجب من حقّ غيره عليه. فمهما سخّر المعنى الشريف الّذي هو من حزب الله وجند الملائكة للمعنى الخسيس الّذي هو من حزب الشياطين المبعدين عن الله تعالى ، كان كمن أرقّ مسلما لكافر ، بل هو كمن قصد الملك المنعم عليه فأخذ أعزّ أولاده وسلّمه إلى أبغض أعدائه ، فانظر كيف يكون كفرانه لنعمته واستيجابه (٣) لنقمته ؛ لأنّ الهوى أبغض إله عبد في الأرض عند الله تعالى ، والعقل أعزّ موجود خلق على وجه الأرض!

الحالة الثالثة : أن يكون الحرب سجالا بين الجندين فتارة له اليد عليها. وتارة لها عليه ، وهذا من المجاهدين ، يعدّ مثله لا من الظافرين ، وأهل هذه الحالة هم الّذين : (خَلَطُوا عَمَلاً صالِحاً وَآخَرَ سَيِّئاً عَسَى اللهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ)(٤).

هذا باعتبار القوّة والضعف. ويتطرّق إليه أيضا ثلاثة أحوال باعتبار عدد ما يصبر عنه ؛ فإنّه إمّا أن يغلب جميع الشهوات أو لا يغلب شيئا منها ، أو يغلب بعضها دون بعض. وتنزيل قوله تعالى : (خَلَطُوا عَمَلاً صالِحاً وَآخَرَ سَيِّئاً) على من عجز عن بعض الشهوات دون بعض أولى. والتاركون للمجاهدة مع الشهوات مطلقا يشبهون بالأنعام بل هم أضلّ سبيلا ، إذ البهيمة لم تخلق لها المعرفة

__________________

(١) الترمذي ٤ : ٥٤ / ٢٥٧٧ ؛ وفيه : «العاجز» بدل «الأحمق».

(٢) رقيقا : عبدا.

(٣) أي استحقاقه للنقمة والسخط.

(٤) التوبة ٩ : ١٠٢.

٢١٥

والقدرة الّتي بها تجاهد مقتضى الشهوات ، وهذا قد خلق ذلك له وعطّله ، فهو الناقص حقّا المدبر يقينا ، ولذلك قيل :

ولم أر في عيوب الناس عيبا

كنقص القادرين على التمام

وينقسم الصبر أيضا باعتبار اليسر والعسر إلى ما يشقّ على النفس فلا يمكن الدوام عليه إلّا بجهد جهيد وتعب شديد ، ويسمّى ذلك تصبّرا. وإلى ما يكون من غير شدّة تعب بل يحصل بأدنى تحامل على النفس ، ويخصّ ذلك باسم الصبر. وإذا دامت التقوى وقوي التصديق بما في العاقبة من الحسنى تيسّر الصبر ، ولذلك قال تعالى : (فَأَمَّا مَنْ أَعْطى وَاتَّقى. وَصَدَّقَ بِالْحُسْنى. فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرى)(١). ومثال هذه القسمة قدرة المصارع على غيره ، فإنّ الرجل القويّ يقدر على أن يصرع الضعيف بأدنى حملة وأيسر قوّة بحيث لا يلقاه في مصارعته إعياء ولا لغوب ولا تضطرب فيه نفسه ولا ينبهر (٢). ولا يقوى على أن يصرع الشديد إلّا بتعب ومزيد جهد وعرق جبين. فهكذا تكون المصارعة بين باعث الدين وباعث الهوى ، فإنّه على التحقيق صراع بين جنود الملائكة وجنود الشياطين ، ومهما أذعنت الشهوات وانقمعت ، وتسلّط باعث الدين واستولى وتيسّر الصبر بطول المواظبة ، أورث ذلك مقام الرضا فالرضا أعلى من الصبر.

[٢ / ٣٨٥٦] ولذلك قال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «اعبد الله على الرضا فإن لم تستطع ففي الصبر على ما تكره خير كثير» (٣).

وقال بعض العارفين : أهل الصبر على ثلاثة مقامات ، أوّلها : ترك الشهوة ، وهذه درجة التائبين. وثانيها : الرضا بالمقدور ، وهذه درجة الزاهدين. وثالثها : المحبّة لما يصنع به مولاه ، وهذه درجة الصدّيقين.

وليعلم أنّ مقام المحبّة أعلى من الرضا ، كما أنّ مقام الرضا أعلى من مقام الصبر. وكأنّ هذا الانقسام يجري في صبر خاصّ وهو الصبر على المصائب والبلايا.

واعلم أنّ الصبر أيضا ينقسم باعتبار حكمه إلى فرض ونفل ومكروه ومحرّم. فالصبر عن

__________________

(١) الليل ٩٢ : ٥ ـ ٧.

(٢) الانبهار : تتابع النفس على أثر الجهد والإعياء.

(٣) التحفة السنية ، السيّد عبد الله الجزائري : ٤٥. ورواه الحاكم (٣ : ٥٤١) بلفظ : «فإن استطعت أن تعمل بالصبر مع اليقين فافعل فإن لم تستطع فاصبر فإنّ في الصبر على ما تكرهه خيرا كثيرا».

٢١٦

المحظورات فرض. وعلى المكاره نفل. والصبر على الأذى المحظور محظور كمن تقطع يده أو يد ولده وهو يصبر عليه ساكتا. وكمن يقصد حريمه بشهوة محظورة فتهيج غيرته فيصبر عن إظهار الغيرة ويسكت على ما يجري على أهله. فهذا الصبر محرّم. والصبر المكروه هو الصبر على أذى يناله بجهة مكروهة في الشرع فليكن الشرع محكّ الصبر. فكون الصبر نصف الإيمان لا ينبغي أن يخيّل إليك أنّ جميعه محمود ، بل المراد به أنواع من الصبر مخصوصة.

مظانّ الحاجة إلى الصبر

اعلم أنّ جميع ما يلقى العبد في هذه الحياة لا يخلو من نوعين ، أحدهما : هو الّذي يوافق هواه. والآخر : هو الّذي لا يوافقه بل يكرهه. وهو محتاج إلى الصبر في كلّ واحد منهما. وهو في جميع الأحوال لا يخلو عن أحد هذين النوعين أو عن كليهما. فهو إذن لا يستغنى قطّ عن الصبر.

النوع الأوّل : ما يوافق الهوى : وهو الصحّة والسلامة والمال والجاه وكثرة العشيرة واتّساع الأسباب وكثرة الأتباع والأنصار وجميع ملاذّ الدنيا. وما أحوج العبد إلى الصبر على هذه الأمور فإنّه إن لم يضبط نفسه عن الاسترسال والركون إليها والانهماك في ملاذّها المباحة منها ، أخرجه ذلك إلى البطر والطغيان ، فإنّ الإنسان ليطغى أن رآه استغنى ، حتّى قال بعض العارفين : البلاء يصبر عليه المؤمن ، والعوافي لا يصبر عليها إلّا صدّيق. وقال سهل : الصبر على العافية أشدّ من الصبر على البلاء. ولمّا فتحت أبواب الدنيا على الصحابة رضي الله عنهم قالوا : ابتلينا بفتنة الضرّاء فصبرنا وابتلينا بفتنة السرّاء فلم نصبر (١) ، ولذلك حذّر الله عباده من فتنة المال والزوج والولد فقال تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُلْهِكُمْ أَمْوالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللهِ)(٢) وقال عزوجل : (إِنَّ مِنْ أَزْواجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ)(٣).

[٢ / ٣٨٥٧] وقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «الولد مبخلة مجبنة محزنة» (٤). ولمّا نظر صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى ولده الحسن عليه‌السلام يتعثّر في قميصه نزل عن المنبر واحتضنه ، ثمّ قال : «صدق الله : (إِنَّما أَمْوالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ)(٥) إنّي لمّا

__________________

(١) انظر : الترمذي ٤ : ٥٧ ؛ المصنّف ، الصنعاني ١١ : ٤٥٧ / ٢٠٩٩٧.

(٢) المنافقون ٦٣ : ٩.

(٣) التغابن ٦٤ : ١٤.

(٤) أبو يعلى ٢ : ٣٠٥ / ٥٩ ـ ١٠٣٢.

(٥) التغابن ٦٤ : ١٥.

٢١٧

رأيت ابني يتعثّر لم أملك نفسي أن أخذته» (١) ففي ذلك عبرة لأولي الأبصار.

فالرجل كلّ الرجل من يصبر على العافية ، ومعنى الصبر عليها أن لا يركن إليها ويعلم أنّ كلّ ذلك مستودع عنده ، وعسى أن يسترجع على القرب. وأن لا يرسل نفسه في الفرح بها ولا ينهمك في التنعّم واللذّة واللهو واللعب ، وأن يرعى حقوق الله في ماله بالإنفاق ، وفي بدنه ببذل المعونة للخلق ، وفي لسانه ببذل الصدق ، وكذلك في سائر ما أنعم الله به عليه. وهذا الصبر متّصل بالشكر ، فلا يتمّ إلّا بالقيام بحقّ الشكر.

وإنّما كان الصبر على السرّاء أشدّ لأنّه مقرون بالقدرة ، ومن العصمة أن لا تقدر. والصبر على الحجامة والفصد إذا تولّاه غيرك أيسر من الصبر على فصدك نفسك وحجامتك نفسك. والجائع عند غيبة الطعام أقدر على الصبر منه إذا حضرته الأطعمة الطيّبة اللذيذة وقدر عليها ، فلهذا عظمت فتنة السرّاء.

النوع الثاني : ما لا يوافق الهوى والطبع ، وذلك لا يخلو إمّا أن يرتبط باختيار العبد كالطاعات والمعاصي ، أو لا يرتبط باختياره كالمصائب والنوائب. أو لا يرتبط باختياره ولكن له اختيار في إزالته كالتشفّي من المؤذي بالانتقام منه ، فهذه ثلاثة أقسام :

القسم الأوّل : ما يرتبط باختياره وهو سائر أفعاله الّتي توصف بكونها طاعة أو معصية وهما ضربان :

الضرب الأوّل : الطاعة والعبد يحتاج إلى الصبر عليها ، فالصبر على الطاعة شديد ، لأنّ النفس بطبعها تنفر عن العبوديّة وتشتهي الربوبيّة ، ولذلك قال بعض العارفين : ما من نفس إلّا وهي مضمرة ما أظهر فرعون من قوله : (أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلى)(٢) ، ولكن فرعون وجد له مجالا وقبولا فأظهره إذ استخفّ قومه فأطاعوه ، وما من أحد إلّا وهو يدّعي ذلك مع عبده وخادمه وأتباعه وكلّ من هو تحت قهره وطاعته ، وإن كان ممتنعا من إظهاره ، فإنّ استشاطته وغيظه عند تقصيرهم في خدمته واستبعاده (٣) ليس يصدر إلّا عن إضمار الكبر ومنازعة الربوبيّة في رداء الكبرياء. فإذن العبوديّة

__________________

(١) الموجود في الخبر : الحسن والحسين عليهما‌السلام وفي البعض : الحسين عليه‌السلام انظر : مسند أحمد ٥ : ٣٥٤ ؛ أبو داوود ١ : ٢٤٨ / ١١٠٩ ؛ الترمذي ٥ : ٣٢٤ / ٣٨٦٣ ؛ النسائي ١ : ٥٣٥ / ١٧٣١ ؛ ابن حبّان ١٣ : ٤٠٣.

(٢) النازعات ٧٩ : ٢٤.

(٣) أي مبالغته في استعظام نفسه.

٢١٨

شاقّة على النفس مطلقا!

ثمّ من العبادات ما يكره بسبب الكسل كالصلاة ، ومنها ما يكره بسبب البخل كالزكاة ، ومنها ما يكره بسببهما جميعا كالحجّ والجهاد. فالصبر على الطاعة صبر على الشدائد.

ويحتاج المطيع إلى الصبر على طاعته في ثلاث أحوال : الأولى قبل الطاعة ، وذلك في تصحيح النيّة والإخلاص ، والصبر عن شوائب الرياء ودواعي الآفات ، وعقد العزم على الإخلاص والوفاء. وذلك من الصبر الشديد عند من يعرف حقيقة النيّة والإخلاص وآفات الرياء ومكايد النفس. وقد نبّه عليه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إذ قال :

[٢ / ٣٨٥٨] «إنّما الأعمال بالنيات وإنّما لكلّ امرئ ما نوى» (١) وقال تعالى : (وَما أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ)(٢). ولهذا قدّم الله تعالى الصبر على العمل فقال تعالى : (إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ)(٣).

الحالة الثانية : حالة العمل ، كي لا يغفل عن الله في أثناء عمله ولا يتكاسل عن تحقيق آدابه وسننه ويدوم على شرط الأدب إلى آخر العمل فيلازم الصبر عن دواعي الفتور إلى الفراغ ، وهذا أيضا من شدائد الصبر ولعلّه المراد بقوله تعالى : (نِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ. الَّذِينَ صَبَرُوا)(٤) أي صبروا إلى تمام العمل.

الحالة الثالثة : بعد الفراغ من العمل ، إذ يحتاج إلى الصبر عن إفشائه والتظاهر به للسمعة والرياء ، والصبر عن النظر إليه بعين العجب ، وعن كلّ ما يبطل عمله ويحبط أثره ، كما قال تعالى : (وَلا تُبْطِلُوا أَعْمالَكُمْ)(٥) وكما قال تعالى : (لا تُبْطِلُوا صَدَقاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذى)(٦) فمن لا يصبر بعد الصدقة عن المنّ والأذى فقد أبطل عمله.

والطاعات تنقسم إلى فرض ونفل ، وهو محتاج إلى الصبر عليهما جميعا ، وقد جمعهما الله تعالى في قوله : (إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ وَإِيتاءِ ذِي الْقُرْبى)(٧) فالعدل هو الفرض ، والإحسان

__________________

(١) البخاري ١ : ٢ ؛ ابن ماجة ٢ : ١٤١٣ / ٤٢٢٧.

(٢) البيّنة ٩٨ : ٥.

(٣) هود ١١ : ١١.

(٤) العنكبوت ٢٩ : ٥٨ ـ ٥٩.

(٥) محمّد ٤٧ : ٣٣.

(٦) البقرة ٢ : ٢٦٤.

(٧) النحل ١٦ : ٩٠.

٢١٩

هو النفل. وإيتاء ذي القربى هو المروءة وصلة الرحم. وكلّ ذلك يحتاج إلى صبر.

الضرب الثاني : المعاصي : فما أحوج العبد إلى الصبر عنها ، وقد جمع الله تعالى أنواع المعاصي في قوله تعالى : (وَيَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ)(١).

[٢ / ٣٨٥٩] وقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «المهاجر من هجر السوء ، والمجاهد من جاهد هواه». (٢) والمعاصي مقتضى باعث الهوى.

وأشدّ أنواع الصبر : الصبر عن المعاصي الّتي صارت مألوفة ، فإنّ العادة طبيعة خامسة ، فإذا انضافت العادة إلى الشهوة تظاهر جندان من جنود الشيطان على جند الله تعالى فلا يقوى باعث الدين على قمعها.

ثمّ إن كان ذلك الفعل ممّا تيسّر فعله كان الصبر عنه أثقل على النفس ، كالصبر عن معاصي اللسان من الغيبة والكذب والمراء والثناء على النفس تعريضا وتصريحا. وأنواع المزاح المؤذي للقلوب ، وضروب الكلمات الّتي يقصد بها الإزراء والاستحقار ، وذكر الموتى والقدح فيهم وفي علومهم وسيرهم ومناصبهم ، فإنّ ذلك في ظاهره غيبة وفي باطنه ثناء على النفس. فللنفس فيه شهوتان : إحداهما نفي الغير ، والأخرى إثبات نفسه. وبها تتمّ له الربوبيّة الّتي هي في طبعه ، وهي ضدّ ما أمر به من العبوديّة. ولاجتماع الشهوتين وتيسّر تحريك اللسان ومصير ذلك معتادا في المحاورات يعسر الصبر عنها ، وهي أكبر الموبقات حتّى بطل استنكارها واستقباحها من القلوب ، لكثرة تكريرها وعموم الأنس بها ، فترى الإنسان يلبس حريرا مثلا فيستبعد غاية الاستبعاد (٣) ويطلق لسانه طول النهار في أعراض الناس ولا يستنكر ذلك ، مع ما ورد في الخبر من أنّ الغيبة أشدّ من الزنا (٤) ومن لم يملك لسانه في المحاورات ولم يقدر على الصبر عن ذلك ، فيجب عليه العزلة

__________________

(١) النحل ١٦ : ٩٠.

(٢) منتخب مسند عبد بن حميد : ١٣٥ / ٣٣٦ ، بلفظ : «أنّ رجلا قال : يا رسول الله ... فمن المهاجر؟ قال : من هجر السيّئات. قال : فمن المجاهد؟ قال : من جاهد نفسه لله ـ عزوجل ـ. وأخرجه الطبراني بالشطر الأوّل في الأوسط ١ : ٨١ وبالشطر الثاني في الكبير ١٨ : ٣٠٩ ، بلفظ : «المجاهد من جاهد نفسه في الله ـ عزوجل ـ». من حديث فضالة بن عبيد الله.

(٣) أي يستعظم نفسه غاية الاستعظام.

(٤) الأوسط ٦ : ٣٤٨ ؛ نور الثقلين ٥ : ٩٥.

٢٢٠