التفسير الأثري الجامع - ج ٤

الشيخ محمّد هادي معرفة

التفسير الأثري الجامع - ج ٤

المؤلف:

الشيخ محمّد هادي معرفة


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة التمهيد ـ قم
المطبعة: ستاره
الطبعة: ١
ISBN: 978-600-5079-05-0
ISBN الدورة:
978-600-5079-08-1

الصفحات: ٥٦٠

[٢ / ٣٤٩٦] وأخرج ابن جرير عن الربيع قال : أهل الكتاب كتموا الإسلام وهم يعلمون أنّه دين الله ، وهم يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل (١).

[٢ / ٣٤٩٧] وأخرج ابن جرير عن الحسن قال : كان عند القوم من الله شهادة أنّ أنبياءه براء من اليهوديّة والنصرانيّة (٢).

قوله تعالى : (تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَها ما كَسَبَتْ وَلَكُمْ ما كَسَبْتُمْ وَلا تُسْئَلُونَ عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ)

[٢ / ٣٤٩٨] أخرج ابن أبي حاتم عن ابن عبّاس قال : قال عبد الله بن صوريا لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : ما الهدى إلّا ما نحن عليه فاتّبعنا يا محمّد تهتدي! وقالت النصارى مثل ذلك! فأنزل الله : (تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَها ما كَسَبَتْ وَلَكُمْ ما كَسَبْتُمْ وَلا تُسْئَلُونَ عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ)(٣).

[٢ / ٣٤٩٩] وقال مقاتل بن سليمان : فلمّا قالوا : إنّ إبراهيم وبنيه ويعقوب وبنيه كانوا على ديننا ، قال الله ـ تعالى ـ (تِلْكَ أُمَّةٌ) يعني عصبة يعني إبراهيم وبنيه ويعقوب وبنيه (قَدْ خَلَتْ) قد مضت (لَها ما كَسَبَتْ) من العمل يعني من الدين (وَلَكُمْ) معشر اليهود والنصارى (ما كَسَبْتُمْ) من العمل يعني من الدين (وَلا تُسْئَلُونَ عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ) أي يعمل أولئك (٤).

[٢ / ٣٥٠٠] وأخرج ابن أبي حاتم وابن مردويه عن أبي المليح قال : الأمّة ما بين الأربعين إلى المائة فصاعدا (٥).

__________________

(١) الطبري ١ : ٧٩٨ / ١٧٦١ ؛ ابن أبي حاتم ١ : ٢٤٦ / ١٣١٩.

(٢) الدرّ ١ : ٣٤١ ؛ الطبري ١ : ٧٩٧ ـ ٧٩٨ / ١٧٦٠ ؛ ابن أبي حاتم ١ : ٢٤٦ / ١٣٢٠.

(٣) ابن أبي حاتم ١ : ٢٤٧ / ١٣٢٢.

(٤) تفسير مقاتل ١ : ١٤٣.

(٥) الدرّ ١ : ٣٤٢ ؛ ابن أبي حاتم ١ : ٢٤٦ / ١٣٢١ ؛ التاريخ الكبير ٥ : ١١٣ ، ذيل رقم ٣٣٨.

١٢١

قال تعالى :

(سَيَقُولُ السُّفَهاءُ مِنَ النَّاسِ ما وَلاَّهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كانُوا عَلَيْها قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (١٤٢) وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً وَما جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْها إِلاَّ لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلى عَقِبَيْهِ وَإِنْ كانَتْ لَكَبِيرَةً إِلاَّ عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللهُ وَما كانَ اللهُ لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ إِنَّ اللهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ (١٤٣) قَدْ نَرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّماءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضاها فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَحَيْثُ ما كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَمَا اللهُ بِغافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ (١٤٤) وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ بِكُلِّ آيَةٍ ما تَبِعُوا قِبْلَتَكَ وَما أَنْتَ بِتابِعٍ قِبْلَتَهُمْ وَما بَعْضُهُمْ بِتابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ مِنْ بَعْدِ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّكَ إِذاً لَمِنَ الظَّالِمِينَ (١٤٥) الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْرِفُونَهُ كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقاً مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (١٤٦) الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (١٤٧) وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيها فَاسْتَبِقُوا الْخَيْراتِ أَيْنَ ما تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللهُ جَمِيعاً إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (١٤٨) وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَإِنَّهُ لَلْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وَمَا اللهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (١٤٩) وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَحَيْثُ ما كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلاَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ فَلا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي وَلِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (١٥٠) كَما أَرْسَلْنا فِيكُمْ رَسُولاً مِنْكُمْ يَتْلُوا عَلَيْكُمْ آياتِنا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ ما لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ (١٥١) فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلا تَكْفُرُونِ (١٥٢))

١٢٢

الحديث في هذا المقطع من الآيات يكاد يدور حول حادث تحويل القبلة ، والملابسات الّتي أحاطت به ، والدسائس الّتي حاولها اليهود لغرض الوهن في الصفّ المسلم المتراصّ ، محاولة بالمناسبة. وأقاويل أطلقوها من غير هوادة. فجاءت الآيات علاجا لآثار تلك الأقاويل والدسائس ، وطردها عن هواجس نفوس بعض المسلمين ، ولتثبيت اليقين في الصفّ المسلم عموما.

كان المسلمون في مكّة يتّجهون إلى بيت المقدس اتّجاها يجعل الكعبة حيالهم حين التوجّه إلى القدس. لكنّهم بعد الهجرة كان الاتّجاه نحو القدس يحول دون مواجهة الكعبة. ودام ذلك حوالي ستّة عشر أو سبعة عشر شهرا بعد الهجرة. وكان ذلك صعبا على العرب وعلى المسلمين ، حيث مفارقة البيت العتيق!

وقد كان التوجّه إلى بيت المقدس وهو قبلة أهل الكتاب كاد يحزّ من نفوس المسلمين ، كما كان يستفزّ استكبار أهل الكتاب ليروا في ذلك اعتلاء شريعتهم وليتّخذوه ذريعة لرفض الإسلام.

نعم كان الأمر شاقّا على المسلمين العرب ، الّذين ألفوا أن يعظّموا البيت الحرام وأن يجعلوه قبلتهم ، وزاد الأمر مشقّة ذاك التبجّج من اليهود واتّخاذهم ذلك حجّة عليهم.

كما كان الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقلّب وجهه في السماء متّجها إلى ربّه ، دون أن ينطق لسانه بشيء ، تأدّبا مع الله ، وانتظارا للفرج والخروج من هذه العسرة ، بما يرضاه ويرتضيه ربّ العالمين.

ثمّ نزل القرآن يستجيب لما يعتمل في صدر الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : (قَدْ نَرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّماءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضاها فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَحَيْثُ ما كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ).

وحينما سمع المسلمون بهذا التحويل ازداد فرحهم وعاد الأمل في نفوسهم ، وكان بعضهم في منتصف الصلاة فحوّلوا وجوههم شطر المسجد الحرام في أثناء صلاتهم ، وأكملوا الصلاة تجاه القبلة الجديدة.

عندئذ انطلقت أبواق اليهود ـ وقد عزّ عليهم هذا التحوّل المفاجئ ـ كما فقدوا حجّتهم الّتي كانوا يركنون إليها في تعاظم شريعتهم والتهوين بموضع المسلمين. انطلقت تلقي في صفوف المسلمين وقلوبهم ، بذور القلق والشكّ في ثبات العقيدة. كانوا يقولون لهم : إن كان التوجّه ـ فيما مضى ـ إلى بيت المقدس باطلا فقد ضاعت صلواتكم طوال هذه الفترة. وإن كان حقّا فالتوجّه

١٢٣

الجديد باطل وتضيع صلاتكم. وعلى أيّة حال فإنّ هذا النسخ والتغيير في الشريعة ، يتنافى وثبات شريعة الله!

وقد كان قوله تعالى : (ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِها نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْها أَوْ مِثْلِها)(١) جوابا قاطعا على هذا التشكيك ـ على ما سلف ـ.

أمّا الآن فجاء دور تبيين حكمة هذا التحويل بشأن قبلة المسلمين بالذات.

لقد كان الاتّجاه إلى بيت المقدس أوّلا ، لحكمة تربويّة أشارت إليها الآية : (وَما جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْها إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلى عَقِبَيْهِ). كان صعبا على العرب وهم ما زالوا يعظّمون الكعبة بالذات ويعدّوه عنوان مجدهم القوميّ. غير أنّ الإسلام يريد استخلاص القلوب لله ، وتجريدها من التعلّق بغيره ، وتخليصها من كلّ نعرة ومن كلّ عصبيّة لغير المنهج الإسلامي المرتبط بالله ـ عزّت آلاؤه ـ ارتباطا مباشرا ، ومتجرّدا عن كلّ ملابسة عنصريّة أو تاريخيّة أو أرضيّة على العموم .. ولذلك فقد نزعهم نزعا من الاتّجاه إلى الكعبة ، واختار لهم الاتّجاه ـ فترة ـ إلى المسجد الأقصى ، ليخلص نفوسهم من رواسب الجاهليّة (العنصريّة والقوميّة) وليظهر ويلتمع نفوس طيّبة ممّن يتّبع الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم اتّباعا مجرّدا من أيّ إيحاء آخر.

فلم تكن القبلة القديمة إلّا ليتميّز المتّبع الصادق ممّن ينقلب على عقبيه اعتزازا بنعرة جاهليّة تتعلّق بالجنس والقوم والأرض والتاريخ ، أو تتلبّس بها في خفايا المشاعر وحنايا الضمير ، أيّ تلبّس من قريب أو من بعيد.

وبعد هذا كلّه فيجيء دور التعرّض لأقاويل أهل السفاسف من الكلام ، وهم السفهاء من الناس ، يقولون : (ما وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كانُوا عَلَيْها) وهل هو تحوّل من باطل إلى حقّ أم من حقّ إلى باطل؟!

فكان الجواب : أن لا هذا ولا ذاك. بل الأمر اعتبار محض. وقد كانت الحكمة في ذات الاتّجاه الواحد ، فلا يتفرّق المتعبّدون في اتّجاه عباداتهم ، بل الجميع وفي صفّ واحد يتّجهون إلى جهة واحدة. أمّا كون نقطة الاتّجاه كذا أو كذا فهذا لا مساس له في أصل التكليف. فقد يعتبر نقطة مّا ، لمصلحة تقتضيها شرائط الزمان. ويجوز التحويل عنها إلى نقطة اخرى إذا تغيّرت المصالح. شأن

__________________

(١) البقرة ٢ : ١٠٦.

١٢٤

كلّ أمر اعتباري كانت المصلحة تنوط بذات الاعتبار محضا.

وإذ كان الأمر على ذلك فالاتّجاه إلى أيّ جهة ، اتّجاه إلى الله ، حيث لا يحجزه مكان ولا يخلو منه مكان.

ومن ثمّ (قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) فالعمدة اتّباع الأمر والانصياع للتكليف الموظّف والطاعة والاستسلام لأوامره تعالى ، والكلّ هادية إلى سبيل الرشاد.

فالجهات والأماكن لافضل لها ذاتيّا ، إنّما يفضّلها ويخصّصها اختيار الله وتوجيهه. والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم.

* * *

ثمّ ينتقل الحديث إلى بيان حقيقة هي أفخم وأضخم ، وهي ما تحمله هذه الأمّة من رسالة خالدة إلى سائر الأمم جميعا ومع الأبد. وهذه هي الفضيلة الكبرى الّتي منح الله لهذه الأمّة تكريما لها وتعزيزا لجانبها. وهي وظيفتها الضخمة في هذه الأرض ، ومكانتها العظيمة في ركب البشريّة السائرة إلى الأمام ، ومن ثمّ فهي تلعب دورها الأساسي في حياة الناس!

(وَكَذلِكَ) أي بهذا النمط من الاستعداد الذاتي والاستقلال في العقيدة والسلوك (جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ) عرفاء يتحمّلون مسؤوليّة إقامة العدل بين الناس (وَيَكُونَ الرَّسُولُ) بدوره (عَلَيْكُمْ شَهِيداً) مسؤولا عنكم في أداء رسالة الله إليكم بتمام وكمال.

نعم إنّها الأمّة الوسط الّتي تشهد على الأمم جميعا ، فتقيم بينهم العدل والقسط ، وتضع لهم معايير وقيما ، وتبدي فيهم رأيها ، ليكون هو الرأي المعتمد عند الناس جميعا. فتزن بها قيمهم وتصوّراتهم وتقاليدهم وشعاراتهم ، فتفصل في أمرها ، وتقول : هذا حقّ وهذا باطل. لا الّتي تتلقّى من الناس تصوّراتها وقيمها وموازينها. فهي شهيدة على الناس ومسؤولة بالقيام ببسط العدل بينهم.

وبينما هي تشهد على الناس وتتحمّل مسؤوليّة العدل بينهم ، إذاهم في مرأى ومسمع نبيّهم وخلفائه المرضيّين ، فيشهدون مواضع الأمّة في أداء رسالة الله في الأرض.

نعم إنّها الأمّة الوسط بكلّ معاني الكلمة : وسط لإقامة العدل بين الناس. ووسط في التصوّر والاعتقاد. لا تغلو في التجرّد الروحي ولا تبالغ في الارتكاس المادي. ووسط في التفكير والشعور. لا تجمد على ظاهر التعبير لتغلق منافذ المعرفة. ولا تتّبع كلّ ناعق أو تقلّد تقليد القردة.

١٢٥

إنّها تأخذ بصلب الدين في إمعان وتعمّق وتفكير. كما أنّها وسط في التنظيم والتدبير وفي كلّ ما يرتبط وعلاقته بالحياة.

وبذلك جاءت الإشارة في سورة الحجّ : (وَجاهِدُوا فِي اللهِ حَقَّ جِهادِهِ هُوَ اجْتَباكُمْ وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْراهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هذا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيداً عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ)(١) فالأمّة برمّتها مسؤولة تجاه الرسول ، في أداء رسالة الله في الأرض.

وعليه فتمتاز هذه الأمّة باستقلالها الذاتيّ في جميع مجالات الحياة معنويّاتها ومادّياتها.

نعم كان الاتّجاه الأوّل ـ نحو بيت المقدس ـ لغرض الاختبار (وَما جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْها إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلى عَقِبَيْهِ).

(وَإِنْ كانَتْ لَكَبِيرَةً) «إن» مخفّفة عن المثقّلة ، أي وبحقّ كان تكليفا اختباريّا شاقّا. أمّا الّذين تجرّدت نفوسهم طوع إرادة الله. فلم يكن ذلك صعبا عليهم : (إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللهُ) هدى الله قلوبهم فتفتّحت منافذها لتلقّي إشعاعات رحمته تعالى الخاصّة بالمؤمنين.

(وَما كانَ اللهُ لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ) حيث لا تشبه عليه خلجات الصدور (إِنَّ اللهَ بِالنَّاسِ) عموما (لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ). ذو رحمة شاملة وعطف عامّ.

وبهذا يفيض على قلوب المسلمين الطمأنينة ، ويذهب عنها القلق ، ويجعلهم على رضى وثقة ويقين.

وبعد ذلك يعلن استجابة الله لرسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في أمر القبلة : (قَدْ نَرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّماءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضاها فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَحَيْثُ ما كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ).

إنّ هذا التعبير يصوّر حالة النبيّ وضراعته إلى الله كي يجعل له مخرجا من ذلك المأزق.

وجاءت الاستجابة في تعبير قاطع ، تكليفا له ولأمّته حيثما كانوا من أنحاء الأرض وعلى امتداد الزمان. قبلة واحدة تجمع هذه الأمّة وتوحّد صفوفها على اختلاف مواطنها واختلاف أجناسها ومآربها ، فتحسّ أنّها جسم واحد وكيان واحد ، تتّجه إلى هدف واحد ، وتسعى لتحقيق منهج واحد ، منهج ينبثق من كونها جميعا تعبد إلها واحدا ، وتؤمن برسول واحد ، وتتّجه إلى قبلة واحدة ، في صفّ متراصّ حيث شرق الأرض وغربها.

__________________

(١) الحجّ ٢٢ : ٧٨.

١٢٦

ثمّ ما شأن أهل الكتاب وهذه القبلة الجديدة؟

(وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ) : يعلمون أنّ الكعبة هو أوّل بيت وضع للناس (١). وكان إبراهيم ـ أبو الأنبياء ـ هو الّذي رفع قواعده.

وهو جدّ هذه الأمّة الوارثة ، ويعلمون أنّه الأحقّ بالتوجّه إليه. ولكنّهم مع هذا ، يتلهّجون بغير ما يوحيه هذا العلم الرشيد. إذن فما على المسلمين أن لا يبالوا بسفاسفهم المهرّجة ، وهي لا تلوي على شيء. فالله هو الوكيل الكفيل بردّ مكرهم وكيدهم :

(وَمَا اللهُ بِغافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ).

إنّهم ليسوا بمن يقتنع بدليل ولا تخضعهم حجّة. حيث الّذي يعوزهم ليس هو الدليل. إنّما يعوزهم الإخلاص والتجرّد عن الهوى. ولم يكونوا على استعداد للتسليم للحقّ مهما كان واضحا لائحا :

(وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ بِكُلِّ آيَةٍ) حجّة أو برهان قاطع (ما تَبِعُوا قِبْلَتَكَ) فهم في عناد ولجاج يقوده الهوى ويحدوه الغرض وتؤرثه المطامع (٢). الأمر الّذي ليس يعالجه برهان ولا تفيده إقامة دليل!

(وَما أَنْتَ بِتابِعٍ قِبْلَتَهُمْ) بعد وضوح البرهان.

(وَما بَعْضُهُمْ بِتابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ)(٣) حيث العداء والمنافسة قائمة بينهم على أوار.

ومن كان هذا شأنهم لا يحتشمون قريبا ولا بعيدا وهم على اختلاف دائم. فلا صلاحيّة لهم ليكونوا قدوة لغيرهم من الهادفين إلى السّلام. إذن فليس ينبغي لمسلم مستسلم للحقّ الصّراح أن يتّبع آثار من وجدهم على مثل هذا التنافر والشقاق.

(وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ) خطاب لمن استمع هذا المقال (أَهْواءَهُمْ مِنْ بَعْدِ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ ، إِنَّكَ إِذاً لَمِنَ الظَّالِمِينَ) الّذين انحرفت بهم الأهواء فتاهوا في غياهب الضلال.

فليس للمسلم الواعي أن يدع العلم المستيقن إلى الهوى المتقلّب. وماذا بعد الحقّ إلّا الضلال.

ومن شدّة هذا اللحن الصارم نلمح أنّه كانت هناك حالة واقعة من بعض المسلمين ؛ غمرتهم

__________________

(١) آل عمران ٣ : ٩٦.

(٢) أي توقد لهبه المطامع.

(٣) حيث النصارى تتّجه إلى المشرق واليهود إلى بيت المقدس. (آلاء الرحمان ١ : ١٣٧).

١٢٧

دسائس يهوديّة ، فحاولوا الركض وراء السراب ، ومن ثمّ هذه الحدّة في التحذير وهذا الجزم في التعبير.

نعم ليس الحقّ بالّذي يخفى ، وإن حاول إخفاءه الزائفون :

(الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْرِفُونَهُ) يعرفون الحقّ فيما جاء به القرآن معرفة لا مرية فيها (كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقاً مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ).

ومعرفة الناس بأبنائهم هي قمّة المعرفة ، وهي مثل يضرب في لغة العرب لليقين الّذي لا شبهة فيه. إذن فلا وقع لتشكيكاتهم بعد عرفان الكتمان منهم.

ومن هنا صحّ البيان الصريح : (الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ).

ولم يكن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ليشكّ ، ولكنّ الخطاب يحمل إيحاء قويّا إلى من وراءه من المسلمين ، سواء منهم من كان في ذلك الحين وكاد يتأثّر بأباطيل اليهود وأحابيلهم ، ومن يأتي بعدهم ، فلا يتأثّروا بمكايد أهل الكتاب. ولا غيرهم من أصحاب المذاهب والآراء الكاسدة. فلا يغترّ مسلم ـ وعنده الرصيد الأفخم ـ ببضائع مزجاة يعرضها أهل الأهواء.

وعلى المسلم النابه أن يختار الأفضل والأمثل طريقة في الحياة. من غير أن يذهب به الأهواء يمنة ويسرة كريشة في الهواء.

(وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ) حسب اختياره (هُوَ مُوَلِّيها فَاسْتَبِقُوا) أيّها المسلمون (الْخَيْراتِ) والتمسوا أفضلها وأقومها وأبقاها (أَيْنَ ما تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللهُ جَمِيعاً) في نهاية المطاف (إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ).

وبذلك يصرف الله المسلمين عن الانشغال بأباطيل لا محصّل لها وتأويلات لا مستند لها. يصرفهم إلى العمل الجادّ والاستباق في فعل الخيرات ، وليكونوا منشأ بثّ البركات في الأرض. والعاقبة لله.

* * *

ثمّ يعود فيؤكّد الأمر بالاتّجاه نحو القبلة الجديدة المختارة : (وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَإِنَّهُ لَلْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وَمَا اللهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ).

ثمّ توكيد للمرّة الثالثة ممّا يشي بأنّه كانت هناك حالة واقعة وراءه في قلوب بعض المسلمين ،

١٢٨

هي حالة ترديد وشكّ عن جدّ الأمر. ومن ثمّ هذا التوكيد المكرّر وهذا التحذير الشديد :

(وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَحَيْثُ ما كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ فَلا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي وَلِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ).

نعم هذا التأكيد في التوجّه إلى القبلة الجديدة ، لئلا يكون لسفهاء والناس عليكم حجّة ، ليحسبوا من شريعتهم هي المتّبعة المفضّلة. لكنّها قولة ظالمة ، إذ لا تستند إلى برهان. ومن ثمّ فلا تخشوهم ، ولديكم سلطان من الله!

بل اخشوا الله الّذي أيّدكم بنصره وفضّلكم ببرهانه. وغمركم بنعمته. كلّ ذلك لغرض هدايتكم إلى سبيل الرشاد. وليجعلكم قدوة للناس وأسوة لامعة.

(كَما أَرْسَلْنا فِيكُمْ رَسُولاً مِنْكُمْ) من أنفسكم (يَتْلُوا عَلَيْكُمْ آياتِنا) يتابع البيان في الدلائل والبرهان (وَيُزَكِّيكُمْ) يطهّركم من الأدناس والأرجاس ، ويرفع بكم إلى مستوى الفكر الرشيد والعقل السديد.

(وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ). المراد بالكتاب : ما كتب عليهم من أحكام الشريعة وفرائضها. أمّا الحكمة فهي البصيرة في الدين.

(وَيُعَلِّمُكُمُ) من حقائق راقية ومعارف سامية (ما لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ) لو تركتم على حالتكم الأولى القاحلة.

إذن (فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلا تَكْفُرُونِ).

* * *

وبعد فإليكم من أحاديث السلف بشأن حادث تحويل القبلة :

قوله تعالى : (سَيَقُولُ السُّفَهاءُ مِنَ النَّاسِ ما وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كانُوا عَلَيْها)

[٢ / ٣٥٠١] أخرج ابن إسحاق وعبد بن حميد وابن أبي حاتم عن البراء قال : كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يصلّي نحو بيت المقدس ويكثر النظر إلى السماء ينتظر أمر الله ، فأنزل الله : (قَدْ نَرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي

١٢٩

السَّماءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضاها فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ)(١) فقال رجال من المسلمين : وددنا لو علمنا من مات منّا قبل أن نصرف إلى القبلة؟ وكيف بصلاتنا نحو بيت المقدس؟ فأنزل الله : (وَما كانَ اللهُ لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ)(٢). وقال السفهاء من الناس ـ وهم أهل الكتاب ـ : ما ولّاهم عن قبلتهم الّتي كانوا عليها؟ فأنزل الله : (سَيَقُولُ السُّفَهاءُ مِنَ النَّاسِ) إلى آخر الآية (٣).

[٢ / ٣٥٠٢] وأخرج ابن إسحاق وابن جرير وابن أبي حاتم والبيهقي في الدلائل عن ابن عبّاس قال : صرفت القبلة عن الشام إلى الكعبة في رجب ، على رأس سبعة عشر شهرا من مقدم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم المدينة ، فأتى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم رفاعة بن قيس وقردم بن عمرو وكعب بن الأشرف ونافع بن أبي نافع والحجّاج بن عمرو ، حليف كعب بن الأشرف ، والربيع بن أبي الحقيق (٤) ، وكنانة بن أبي الحقيق ، فقالوا له : يا محمّد ، ما ولّاك عن قبلتك الّتي كنت عليها ، وأنت تزعم أنّك على ملّة إبراهيم ودينه؟ ارجع إلى قبلتك الّتي كنت عليها ، نتّبعك ونصدّقك ؛ وإنّما يريدون فتنته عن دينه! فأنزل الله : (سَيَقُولُ السُّفَهاءُ مِنَ النَّاسِ) إلى قوله (إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلى عَقِبَيْهِ) أي ابتلاء واختبارا (وَإِنْ كانَتْ لَكَبِيرَةً إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللهُ)(٥) أي الّذين ثبّت الله. (وَما كانَ اللهُ لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ) يقول : صلاتكم بالقبلة الأولى ، وتصديقكم نبيّكم واتّباعكم إيّاه إلى القبلة الآخرة ، أي ليعطينّكم أجرهما جميعا ، (إِنَّ اللهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ) إلى قوله (فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ)(٦).

[٢ / ٣٥٠٣] وأخرج البيهقي في الدلائل عن الزهري قال : صرفت القبلة نحو المسجد الحرام في رجب على رأس ستة عشر شهرا من مخرج رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من مكّة ، وكان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقلّب وجهه في السماء وهو يصلّي نحو بيت المقدس ، فأنزل الله حين وجّهه إلى البيت الحرام : (سَيَقُولُ السُّفَهاءُ مِنَ النَّاسِ) وما بعدها من الآيات ، فأنشأت اليهود تقول : قد اشتاق الرجل إلى بلده وبيت

__________________

(١) البقرة ٢ : ١٤٤.

(٢) البقرة ٢ : ١٤٣.

(٣) الدرّ ١ : ٣٤٢ ؛ ابن أبي حاتم ١ : ٢٤٨ / ١٣٢٨ ؛ ابن كثير ١ : ١٩٥.

(٤) في الدلائل : الربيع بن الربيع بن أبي الحقيق.

(٥) البقرة ٢ : ١٤٣.

(٦) الدرّ ١ : ٣٤٤ ؛ الطبري ٢ : ٥ / ١٧٧٣ ؛ ابن أبي حاتم ١ : ٢٤٧ ـ ٢٤٨ / ١٣٢٧. وفيه : إنّ يهود قالوا للنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : ... إلى قوله : «فأنزل الله سَيَقُولُ ...» وعزّاه أيضا إلى سعيد بن جبير وقتادة والسدّي والربيع بن أنس ؛ الدلائل ٢ : ٥٧٥ ، باب تحويل القبلة إلى الكعبة ؛ التبيان ٢ : ٤ ؛ مجمع البيان ١ : ٤١٤.

١٣٠

أبيه ، وما لهم حتّى تركوا قبلتهم يصلّون مرّة وجها ومرّة وجها آخر؟ وقال رجال من الصحابة : فكيف بمن مات منّا وهو يصلّي قبل بيت المقدس ، وفرح المشركون وقالوا : إنّ محمّدا قد التبس عليه أمره ، ويوشك أن يكون على دينكم ، فأنزل الله في ذلك هؤلاء الآيات (١).

[٢ / ٣٥٠٤] وأخرج ابن جرير عن السدّي قال : لمّا وجّه النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قبل المسجد الحرام اختلف الناس فيها ، فكانوا أصنافا ؛ فقال المنافقون : ما بالهم كانوا على قبلة زمانا ثمّ تركوها وتوجّهوا غيرها؟ وقال المسلمون : ليت شعرنا عن إخواننا الّذين ماتوا وهم يصلّون قبل بيت المقدس هل يقبل الله منّا ومنهم أم لا؟ وقالت اليهود : إنّ محمّدا اشتاق إلى بلد أبيه ومولده ، ولو ثبت على قبلتنا لكنّا نرجو أن يكون هو صاحبنا الّذي ننتظر ، وقال المشركون من أهل مكّة : تحيّر على محمّد دينه ، فتوجّه بقبلته إليكم وعلم أنّكم كنتم أهدى منه ، ويوشك أن يدخل في دينكم ، فأنزل الله في المنافقين : (سَيَقُولُ السُّفَهاءُ مِنَ النَّاسِ) إلى قوله (إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللهُ ،) وأنزل في الآخرين الآيات بعدها (٢).

[٢ / ٣٥٠٥] وأخرج الزبير بن بكّار في أخبار المدينة عن عثمان بن عبد الرحمان قال : كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إذا قام يصلّي انتظر أمر الله في القبلة ، وكان يفعل أشياء لم يؤمر بها ولم ينه عنها ، من فعل أهل الكتاب ، فبينا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يصلّي الظهر في مسجده ، قد صلّى ركعتين ، إذ نزل عليه جبريل ، فأشار له أن صلّ إلى البيت وصلّى جبريل إلى البيت ، وأنزل الله : (قَدْ نَرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّماءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضاها فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَحَيْثُ ما كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَمَا اللهُ بِغافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ)(٣) قال : فقال المنافقون : حنّ محمّد إلى أرضه وقومه ، وقال المشركون : أراد محمّد أن يجعلنا له قبلة ويجعلنا له وسيلة ، وعرف أنّ ديننا أهدى من دينه. وقال اليهود للمؤمنين : ما صرفكم إلى مكّة وترككم به القبلة ، قبلة موسى ويعقوب والأنبياء؟ والله إن أنتم إلّا تفتنون. وقال المؤمنون : لقد ذهب منّا قوم ماتوا ما ندري أكنّا نحن وهم على قبلة أو لا؟ قال : فأنزل الله عزوجل في ذلك : (سَيَقُولُ السُّفَهاءُ مِنَ النَّاسِ ما وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كانُوا عَلَيْها) إلى قوله : (إِنَّ اللهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ)(٤).

__________________

(١) الدرّ ١ : ٣٤٥ ؛ الدلائل ٢ : ٥٧٤ ـ ٥٧٥.

(٢) الدرّ ١ : ٣٤٥ ؛ الطبري ٢ : ٩ و ١٨ ـ ١٩ / ١٧٨٨ و ١٨٢١.

(٣) البقرة ٢ : ١٤٤.

(٤) الدرّ ١ : ٣٤٦ ـ ٣٤٧.

١٣١

[٢ / ٣٥٠٦] وقال مقاتل بن سليمان : (سَيَقُولُ السُّفَهاءُ مِنَ النَّاسِ) وذلك أنّ النبيّ وأصحابه كانوا بمكّة يصلّون ركعتين بالغداة وركعتين بالعشيّ ، فلمّا عرج بالنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى السماء ليلا أمر بالصلوات الخمس ، فصارت الركعتان للمسافر ، وللمقيم أربع ركعات ، فلمّا هاجر إلى المدينة لليلتين خلتا من ربيع الأوّل أمر أن يصلّي نحو بيت المقدس لئلا يكذّب به أهل الكتاب إذا صلّى إلى غير قبلتهم مع ما يجدون من نعته في التوراة ، فصلّى النبيّ وأصحابه قبل بيت المقدس من أوّل مقدمه المدينة سبعة عشر شهرا وصلّت الأنصار قبل بيت المقدس سنتين قبل هجرة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وكانت الكعبة أحبّ القبلتين إلى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم. فقال لجبريل عليه‌السلام : «وددت أنّ ربّي صرفني عن قبلة اليهود إلى غيرها!» فقال جبريل عليه‌السلام : إنّما أنا عبد مثلك لا أملك شيئا ، فاسأل ربّك ذلك ، وصعد جبريل إلى السماء ، وجعل النبيّ يديم النظر إلى السماء رجاء أن يأتيه جبريل بما سأل. فأنزل الله ـ عزوجل ـ في رجب عند الصلاة الأولى قبل قتال بدر بشهرين : (قَدْ نَرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّماءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضاها فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَحَيْثُ ما كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ). ولمّا صرفت القبلة إلى الكعبة قال مشركو مكّة : قد تردّد على أمره واشتاق إلى مولد آبائه ، وقد توجّه إليكم وهو راجع إلى دينكم ، فكان قولهم هذا سفها منهم ، فأنزل الله : (سَيَقُولُ السُّفَهاءُ مِنَ النَّاسِ) يعني مشركي مكّة (ما وَلَّاهُمْ) يقول ما صرفهم (عَنْ قِبْلَتِهِمُ) الأولى (الَّتِي كانُوا عَلَيْها قُلْ) يا محمّد (لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) يعني دين الإسلام يهدي الله نبيّه والمؤمنين لدينه (١).

وقد اختلفوا في المراد من السفهاء ـ هنا ـ :

[٢ / ٣٥٠٧] فقد أخرج ابن جرير عن السدّي أنّهم المنافقون (٢).

[٢ / ٣٥٠٨] وعن مجاهد : أنّهم اليهود (٣). وكذا عن ابن عبّاس (٤).

[٢ / ٣٥٠٩] وروى بعضهم عن الحسن أنّهم مشركو العرب (٥).

[٢ / ٣٥١٠] وقال أبو محمّد عليه‌السلام : «وجاء قوم من اليهود إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فقالوا : يا محمّد هذه القبلة (بيت المقدس) قد صلّيت إليها أربع عشرة سنة ، ثمّ تركتها الآن ، أفحقّا كان ما كنت عليه ، فقد

__________________

(١) تفسير مقاتل ١ : ١٤٣ ـ ١٤٤.

(٢) الطبري ٢ : ٤ / ١٧٧٢.

(٣) المصدر ٣ / ١٧٦٨.

(٤) المصدر.

(٥) أبو الفتوح ٢ : ١٩٥ ؛ تفسير مقاتل ١ : ١٤٤.

١٣٢

تركته إلى باطل ، فإنّما يخالف الحقّ الباطل ، أو باطلا كان ذلك. فقد كنت عليه طول هذه المدّة ، فما يؤمننا أن تكون الآن على باطل!؟ فقال رسول الله : بل ذلك كان حقّا وهذا حقّ ، يقول الله : (قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) إذا عرف صلاحكم يا أيّها العباد في استقبال المشرق أمركم به ، وإذا عرف صلاحكم في استقبال المغرب أمركم به ، وإن عرف صلاحكم في غيرهما أمركم به ، فلا تنكروا تدبير الله في عباده ، وقصده إلى مصالحكم ، ثمّ قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : قد تركتم العمل يوم السبت ، ثمّ عملتم بعده سائر الأيّام ، ثمّ تركتموه في السبت ثمّ عملتم بعده ، أفتركتم الحقّ إلى الباطل والباطل إلى حقّ أو الباطل إلى باطل أو الحقّ إلى حقّ؟ قولوا كيف شئتم ، فهو قول محمّد وجوابه لكم. قالوا : بل ترك العمل في السبت حقّ ، والعمل بعده حقّ ، فقال رسول الله : فكذلك قبلة بيت المقدس في وقته حقّ ، ثمّ قبلة الكعبة في وقته حقّ. فقالوا : يا محمّد ، أفبدا لربّك فيما كان أمرك به بزعمك من الصلاة إلى بيت المقدس ، حين نقلك إلى الكعبة؟ فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : ما بدا له عن ذلك ، فإنّه العالم بالعواقب ، والقادر على المصالح ، لا يستدرك على نفسه غلطا ، ولا يستحدث رأيا يخالف المتقدّم ، جلّ عن ذلك ، ولا يقع أيضا عليه مانع يمنعه عن مراده ، وليس يبدو إلّا لمن كان هذا وصفه ، وهو عزوجل متعال عن هذه الصفات علوّا كبيرا. ثمّ قال لهم رسول الله : أيّها اليهود ، أخبروني عن الله ، أليس يمرض ثمّ يصحّ؟ ويصحّ ثمّ يمرض؟ أبدا له في ذلك؟ أليس يحيى ويميت؟ أليس يأتي بالليل في أثر النهار ثمّ بالنهار في أثر الليل؟ أبدا له في كلّ واحد من ذلك؟ قالوا : لا ، قال : فكذلك الله تعبّد نبيّه محمّدا بالصلاة إلى الكعبة ، بعد أن تعبّده بالصلاة إلى بيت المقدس ، وما بدا له في الأوّل. فكذلك تعبّدكم في وقت لصلاح يعلمه بشيء ، ثمّ بعده في وقت آخر لصلاح آخر يعلمه بشيء آخر ، فإذا أطعتم الله في الحالين استحققتم ثوابه ، وأنزل الله : (وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللهِ)(١) أي إذا توجّهتم بأمره ، فثمّ الوجه الّذي تقصدون منه الله وتأملون ثوابه. ثمّ قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : يا عباد الله ، أنتم كالمرضى والله ربّ العالمين كالطبيب ، فصلاح المرضى فيما يعلمه الطبيب ويدبّره به ، لا فيما يشتهيه المريض ويقترحه ، ألا فسلّموا لله أمره تكونوا من الفائزين. فقيل ـ خطابا لأبي محمّد عليه‌السلام ـ : يا ابن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فلم أمر بالقبلة الأولى؟ فقال : لما قال الله عزوجل : (وَما جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْها) وهي بيت المقدس (إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ

__________________

(١) البقرة ٢ : ١١٥.

١٣٣

الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلى عَقِبَيْهِ) إلّا لنعلم ذلك منه موجودا ، بعد أن علمناه سيوجد ذلك ، أنّ هوى أهل مكّة كان في الكعبة ، فأراد الله أن يبيّن متّبع محمّد من مخالفه ، باتّباع القبلة الّتي كرهها ، ومحمّد يأمر بها ، ولمّا كان هوى أهل المدينة في بيت المقدس ، أمرهم مخالفتها والتوجّه إلى الكعبة ، ليتبيّن من يوافق محمّدا فيما يكرهه ، فهو مصدّقه وموافقه. ثمّ قال : (وَإِنْ كانَتْ لَكَبِيرَةً إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللهُ) إنّما كان التوجّه إلى بيت المقدس في ذلك الوقت كبيرة ، إلّا على من يهدي الله ، فعرف أنّ الله يتعبّد بخلاف ما يريده المرء ، ليبتلي طاعته في مخالفته هواه» (١).

[٢ / ٣٥١١] وأخرج ابن أبي شيبة وأبو داوود في ناسخه والنحّاس والبيهقي في سننه عن ابن عبّاس : أنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان يصلّي وهو بمكّة نحو بيت المقدس والكعبة بين يديه ، وبعد ما تحوّل إلى المدينة ستّة عشر شهرا ، ثمّ صرفه الله إلى الكعبة (٢).

[٢ / ٣٥١٢] وأخرج ابن عدي والبيهقي في السنن والدلائل من طريق سعيد بن المسيّب ، قال : سمعت سعد بن أبي وقّاص يقول : صلّى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بعد ما قدم المدينة ستّة عشر شهرا نحو بيت المقدس ، ثمّ حوّل بعد ذلك قبل المسجد الحرام قبل بدر بشهرين (٣).

[٢ / ٣٥١٣] وأخرج ابن جرير عن حجّاج قال : قال ابن جريج : صلّى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أوّل ما صلّى إلى الكعبة ، ثمّ صرف إلى بيت المقدس ، فصلّت الأنصار نحو بيت المقدس قبل قدومه ثلاث حجج ، وصلّى بعد قدومه ستّة عشر شهرا ، ثمّ ولّاه الله ـ جلّ ثناؤه ـ إلى الكعبة (٤).

[٢ / ٣٥١٤] وأخرج ابن جرير عن معاذ بن جبل : أنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قدم المدينة فصلّى نحو بيت المقدس ثلاثة عشر شهرا (٥).

__________________

(١) مستدرك الوسائل ٣ : ١٧٥ ؛ الاحتجاج ١ : ٤٤ ؛ البحار ٤ : ١٠٥ ـ ١٠٧.

(٢) الدرّ ١ : ٣٤٣ ؛ البيهقي ٢ : ٣ ، كتاب الصلاة ، باب تحويل القبلة من بيت المقدس إلى الكعبة ؛ مسند أحمد ١ : ٣٢٥ ؛ مجمع الزوائد ٢ : ١٢ ، باب ما جاء في القبلة ، قال الهيثمي : رواه أحمد والطبراني في الكبير والبزّار ورجاله رجال الصحيح.

(٣) الدرّ ١ : ٣٤٥ ؛ البيهقي ٢ : ٣ ؛ الدلائل ٢ : ٥٧٤ ، باب تحويل القبلة إلى الكعبة ؛ الكامل ١ : ١٩١ ، وفيه : تسعة عشر شهرا.

(٤) الطبري ٢ : ٨ / ١٧٨٥.

(٥) الدرّ ١ : ٣٤٦ ؛ الطبري ٢ : ٧ / ١٧٨٠ ؛ التبيان ٢ : ٤ ؛ مجمع البيان ١ : ٤١٤ ؛ أبو الفتوح ٢ : ٢٠٣.

١٣٤

[٢ / ٣٥١٥] وأخرج البزّار وابن جرير عن أنس قال : صلّى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم نحو بيت المقدس تسعة أشهر أو عشرة أشهر ، فبينما هو قائم يصلّي الظهر بالمدينة وقد صلّى ركعتين نحو بيت المقدس انصرف بوجهه إلى الكعبة ، فقال السفهاء : (ما وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كانُوا عَلَيْها؟)(١).

[٢ / ٣٥١٦] وأخرج أبو داوود في ناسخه عن سعيد بن عبد العزيز : أنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم صلّى نحو بيت المقدس من شهر ربيع الأوّل إلى جمادي الآخرة (٢).

[٢ / ٣٥١٧] وأخرج الطبراني عن عثمان بن حنيف قال : كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قبل أن يقدم من مكّة يدعو الناس إلى الإيمان بالله وتصديق به قولا بلا عمل ، والقبلة إلى بيت المقدس ، فلمّا هاجر إلينا نزلت الفرائض ، ونسخت المدينة مكّة والقول فيها ، ونسخ البيت الحرام بيت المقدس ، فصار الإيمان قولا وعملا (٣).

قلت : هذا حديث غريب!

[٢ / ٣٥١٨] وأخرج أبو داوود في ناسخه من طريق مجاهد عن ابن عبّاس قال : أوّل آية نسخت من القرآن القبلة ، ثمّ الصلاة الأولى (٤).

قلت : ليس في القرآن آية بشأن القبلة الأولى حتّى تنسخ ، بل الموجود هي الآية الناسخة. ولعلّ في التعبير مسامحة.

[٢ / ٣٥١٩] وأخرج البخاري عن أنس قال : لم يبق ممن صلّى للقبلتين غيري (٥).

[٢ / ٣٥٢٠] وأخرج أحمد والبيهقي في سننه عن عائشة قالت : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم «إنّهم ـ يعني أهل الكتاب ـ لا يحسدونا على شيء كما يحسدونا على الجمعة الّتي هدانا الله لها وضلّوا عنها ،

__________________

(١) الدرّ ١ : ٣٤٦ ؛ الطبري ٢ : ٦ ـ ٧ / ١٧٧٩.

(٢) الدرّ ١ : ٣٤٥.

(٣) الدرّ ١ : ٣٤٨ ؛ الكبير ٩ : ٣٢ ؛ مجمع الزوائد ١ : ٥٥ ، باب : في الإسلام والإيمان ، قال الهيثمي : رواه الطبراني في الكبير وفي إسناده جماعة لم أعرفهم!

(٤) الدرّ ١ : ٣٤٤ ؛ مجمع البيان ١ : ٤٢٣ ، بلفظ : «إنّ أوّل ما نسخ في القرآن القبلة» ؛ التبيان ٢ : ١٥ ، كما في المجمع ؛ أبو الفتوح ٢ : ٢٠٧.

(٥) الدرّ ١ : ٣٤٦ ؛ البخاري ٥ : ١٥١ ، كتاب التفسير ، باب ١٥ ، وفيه : صلّى القبلتين.

١٣٥

وعلى القبلة الّتي هدانا الله لها وضلّوا عنها ، وعلى قولنا خلف الإمام : آمين» (١).

قلت : ولعلّ الجملة الأخيرة مزيدة. وقد فصّلنا القول في ذلك عند تفسير سورة الحمد. ولا سيّما بعد ملاحظة ضعف الحديث سندا بعليّ بن عاصم ، كما نبّه عليه الهيثمي.

[٢ / ٣٥٢١] وأخرج ابن أبي حاتم عن أبي العالية في قوله : (يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) قال : يهديهم إلى المخرج من الشبهات والضلالات والفتن (٢).

[٢ / ٣٥٢٢] وقال مقاتل بن سليمان في قوله : (يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ :) يعني دين الإسلام يهدي الله نبيّه والمؤمنين لدينه (٣).

قوله تعالى : (وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً)

[٢ / ٣٥٢٣] أخرج ابن جرير وجماعة عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في قوله : (وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً) قال : «عدلا» (٤).

[٢ / ٣٥٢٤] وأخرج ابن جرير عن ابن عبّاس في قوله : (جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً) يقول : جعلكم أمّة عدلا (٥).

[٢ / ٣٥٢٥] وأخرج ابن جرير عن أبي سعيد الخدري في قوله : (أُمَّةً وَسَطاً) قال : «عدولا» (٦).

[٢ / ٣٥٢٦] وأخرج عبد الرزّاق عن قتادة في قوله : (وَسَطاً) قال : عدولا لتكون هذه الأمّة شهداء

__________________

(١) الدرّ ١ : ٣٤٨ ؛ مسند أحمد ٦ : ١٣٥ ؛ البيهقي ٢ : ٥٦ ، باب التأمين ؛ مجمع الزوائد ٢ : ١٥ ، قال الهيثمي : رواه أحمد وفيه عليّ بن عاصم شيخ أحمد وقد تكلّم فيه بسبب كثرة الغلط والخطاء ، كنز العمّال ٧ : ٧١٧ / ٢١٠٧٤ ؛ ابن كثير ١ : ١٩٦ و ٣٣ ـ ٣٤.

(٢) الدرّ ١ : ٣٤٨ ؛ ابن أبي حاتم ١ : ٢٤٨ / ١٣٣٠.

(٣) تفسير مقاتل ١ : ١٤٤.

(٤) الدرّ ١ : ٣٤٨ ؛ الطبري ٢ : ١١ / ١٧٩١ ، بلفظ : «عدولا» ؛ أبو الفتوح ٢ : ١٩٧.

(٥) الدرّ ١ : ٣٤٩ ؛ الطبري ٢ : ١٢ / ١٧٩٧ ، بلفظ : «جعلكم أمّة عدولا» ؛ التبيان ١ : ٦ ، وعن قول مجاهد وقتادة والربيع وأكثر المفسرين ؛ أبو الفتوح ٢ : ١٩٧ ، وكذا عن مجاهد وقتادة والربيع وابن زيد.

(٦) الطبري ٢ : ١١ / ١٧٩٠ ، وكذا عن جماعة ، انظر الأحاديث من رقم ١٧٩٢ إلى ١٧٩٩.

١٣٦

على الناس أنّ الرسل قد بلّغتهم ، ويكون الرسول على هذه الأمّة شهيدا أن قد بلّغ ما أرسل به (١).

[٢ / ٣٥٢٧] وأخرج ابن جرير عن ابن زيد في قوله : (وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً) قال : وهم وسط بين النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وبين الأمم (٢).

[٢ / ٣٥٢٨] وقال الكلبي : يعني أهل دين وسط بين الغلوّ والتقصير ، لأنّهما مذمومان في الدّين (٣).

قوله تعالى : (لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ)

[٢ / ٣٥٢٩] أخرج ابن المنذر والحاكم وصحّحه عن جابر قال : «شهد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم جنازة في بني سلمة وكنت إلى جانبه ، فقال بعضهم : والله يا رسول الله لنعم المرء كان ، لقد كان عفيفا مسلما وكان وكان ، وأثنوا عليه خيرا. فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : أنت الّذي تقول؟ فقال : يا رسول الله ذلك بدا لنا ، والله أعلم بالسرائر! فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : وجبت. قال : وكنّا معه في جنازة رجل من بني حارثة أو من بني عبد الأشهل ، فقال رجل : بئس المرء ما علمنا إن كان لفظّا غليظا إن كان. فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : أنت الّذي تقول؟ فقال : يا رسول الله ، الله أعلم بالسرائر ، فأمّا الّذي بدا لنا منه فذاك. فقال : وجبت ، ثمّ تلا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : (وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ)» (٤).

قلت : ذيل الحديث مستنكر ، كالحديث التالي وأمثاله. إذ لا يعذّب الله أحدا بمجرّد شهادة أناس.

[٢ / ٣٥٣٠] وأخرج الطيالسي وأحمد والبخاري ومسلم والنسائي والحكيم الترمذي في نوادر الأصول عن أنس ، قال : «مرّوا بجنازة فأثني عليه خيرا. فقال النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : وجبت وجبت وجبت. ومرّ بجنازة فأثني عليها بشرّ. فقال النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : وجبت وجبت. فسأله عمر فقال : من أثنيتم عليه خيرا وجبت له الجنّة ، ومن أثنيتم عليه شرّا وجبت له النار ، أنتم شهداء الله في الأرض ، أنتم شهداء الله في الأرض ، أنتم شهداء الله في الأرض. وزاد الحكيم الترمذي : ثمّ تلا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : (وَكَذلِكَ

__________________

(١) عبد الرزّاق ١ : ٢٩٥ / ١٣٧.

(٢) الطبري ٢ : ١٢ / ١٨٠٠.

(٣) البغوي ١ : ١٧٤ ـ ١٧٥ ؛ أبو الفتوح ٢ : ١٩٧ ؛ الثعلبي ٢ : ٨ ، بلفظ : «يعني متوسطة أهل دين ...».

(٤) الدرّ ١ : ٣٤٩ ـ ٣٥٠ ؛ الحاكم ٢ : ٢٦٨ ، باختلاف ، كتاب التفسير ، سورة البقرة ؛ ابن كثير ١ : ١٩٦ ، وفيه : «بني مسلمه» بدل «بني سلمة» وزاد بعد نقله : «هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه».

١٣٧

جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ)» (١).

[٢ / ٣٥٣١] وأخرج ابن أبي شيبة وأحمد والبخاري والترمذي والنسائي عن عمر أنّه مرّت به جنازة فأثني على صاحبها خيرا فقال : وجبت وجبت ، ثمّ مرّ بأخرى فأثني عليها شرّا فقال عمر : وجبت. فقال أبو الأسود : وما وجبت؟ قال : قلت كما قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «أيّما مسلم شهد له أربعة بخير أدخله الله الجنّة». فقلنا : وثلاثة؟ فقال : وثلاثة. فقلنا : واثنان؟ فقال : واثنان ، ثمّ لم نسأله عن الواحد (٢).

[٢ / ٣٥٣٢] وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن أبي هريرة قال : «أتي النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بجنازة يصلّي عليها فقال الناس : نعم الرجل. فقال النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : وجبت. وأتي بجنازة أخرى فقال الناس : بئس الرجل. فقال : وجبت. قال أبيّ بن كعب : ما قولك؟ فقال : قال الله تعالى : (لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ»)(٣).

[٢ / ٣٥٣٣] وأخرج أحمد وأبو يعلى وابن حبّان والحاكم وأبو نعيم في الحلية والبيهقي في شعب الإيمان والضياء في المختارة عن أنس : أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : «ما من مسلم يموت فتشهد له أربعة من أهل أبيات جيرانه الأدنين أنّهم لا يعلمون منه إلّا خيرا إلّا قال الله : قد قبلت شهادتكم فيه

__________________

(١) الدرّ ١ : ٣٥٠ ؛ الطيالسي : ٢٧٥ / ٢٠٦٢ ؛ مسند أحمد ٣ : ١٨٦ ، باختصار ؛ البخاري ٢ : ١٠٠ ، كتاب الجنائز ؛ مسلم ٣ : ٥٣ ؛ النسائي ١ : ٦٢٩ / ٢٠٥٩ ؛ نوادر الأصول ٤ : ٨٦ ـ ٨٧ ، بلفظ : عن أنس قال : بينا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قائم إذ مرّت به جنازة فسأل عنها وأثنوا عليها خيرا فقال : وجبت. ثمّ مرّت به أخرى ، فأثنوا عليها شرّا. فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : وجبت. فقلنا يا رسول الله ، قلت : وجبت؟ قال : إنّ المؤمنين شهود الله في الأرض ، إذا شهدوا للعبد بخير أوجب الله له الجنّة وإذا شهدوا للعبد بشرّ أوجب الله له النار. وما من عبد يشهد له أمّة إلّا قبل الله شهادتهم. والأمّة الواحد إلى ما فوقه ؛ قال الله تعالى : (إِنَّ إِبْراهِيمَ كانَ أُمَّةً). وقال : (وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً) الآية ؛ الحاكم ١ : ٣٧٧ ، كتاب الجمعة ؛ ابن ماجة ١ : ٤٧٨ / ١٤٩١ ؛ القرطبي ٢ : ١٥٥.

(٢) الدرّ ١ : ٣٥٠ ؛ المصنّف ٣ : ٢٤٦ / ٤ ، كتاب الجنائز ، باب ١٧١ ؛ مسند أحمد ١ : ٢١ ـ ٢٢ و ٣٠ و ٤٥ ؛ البخاري ٢ : ١٠٠ ـ ١٠١ ، كتاب الجنائز ، باب ٨٦ ؛ الترمذي ٢ : ٢٦١ / ١٠٦٥ ، باب ٦٤ ؛ النسائي ١ : ٦٢٩ ـ ٦٣٠ / ٢٠٦١ ، باب ٥٠.

(٣) الدرّ ١ : ٣٥٠ ؛ الطبري ٢ : ١٣ / ١٨٠٥ ؛ ابن أبي حاتم ١ : ٢٤٩ / ١٣٣٤ ؛ أبو الفتوح ٢ : ٢٠٠ ، عن أبيّ بن كعب عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ؛ التاريخ الكبير للبخاري ٥ : ١٦٩ / ٥٣٥.

١٣٨

وغفرت له ما لا تعلمون» (١).

[٢ / ٣٥٣٤] وأخرج ابن أبي شيبة وهنّاد وابن جرير والطبراني عن سلمة بن الأكوع قال : «مرّ على النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بجنازة رجل من الأنصار ، فأثني عليها خيرا فقال : وجبت. ثمّ مرّ عليه بجنازة أخرى ، فأثني عليها دون ذلك فقال : وجبت. فقال : يا رسول الله وما وجبت؟ قال : الملائكة شهود الله في السماء وأنتم شهود الله في الأرض» (٢).

[٢ / ٣٥٣٥] وأخرج أحمد وابن ماجة والطبراني والبغوي والحاكم في الكنى والدار قطني في الأفراد والحاكم في المستدرك والبيهقي في سننه عن أبي زهير الثقفي قال : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالنّباوة يقول : «يوشك أن تعلموا خياركم من شراركم. قالوا : بم يا رسول الله؟ قال : بالثناء الحسن والثناء السيّء ، أنتم شهداء الله في الأرض» (٣).

[٢ / ٣٥٣٦] وأخرج الخطيب في تاريخه عن أنس قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «ما من مسلم يموت فيشهد له رجلان من جيرانه الأدنين فيقولان : اللهمّ لا نعلم منه إلّا خيرا ، إلّا قال الله للملائكة : اشهدوا أنّي قد قبلت شهادتهما وغفرت ما لا يعلمان» (٤).

[٢ / ٣٥٣٧] وأخرج ابن المبارك في الزهد وابن جرير عن حبّان بن أبي جبلة يسنده إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : «إذا جمع الله عباده يوم القيامة كان أوّل من يدعى إسرافيل ، فيقول له ربّه : ما فعلت في عهدي ، هل بلّغت عهدي؟ فيقول : نعم ، ربّ قد بلّغته جبريل. فيدعى جبريل فيقال : هل بلّغك إسرافيل عهدي؟ فيقول : نعم. فيخلّى عن إسرافيل ، ويقول لجبريل : هل بلّغت عهدي؟

__________________

(١) الدرّ ١ : ٣٥١ ؛ مسند أحمد ٣ : ٢٤٢ ؛ أبو يعلى ٦ : ١٩٩ ؛ ابن حبّان ٧ : ٢٩٥ / ٣٠٢٦ ؛ الحاكم ١ : ٣٧٨ وصحّحه ؛ الحلية ٩ : ٢٥٢ ؛ الشعب ٧ : ٨٦ / ٩٥٦٨ ، باب ٦٧ (في إكرام الجار) ، فصل في مراعاة حقّ الرفيق ؛ مجمع الزوائد ٣ : ٤ ؛ كنز العمّال ١٥ : ٦٨٥.

(٢) الدرّ ١ : ٣٥١ ؛ المصنّف ٣ : ٢٤٥ / ٢ ، باب ١٧١ ؛ الزهد لهنّاد ١ : ٢٢٢ / ٣٦٧ ، نقلا عن أبي سلمة عن أبي هريرة ، الطبري ٢ : ١٤ / ١٨٠٦ ؛ الكبير ٧ : ٢٢ / ٦٢٥٩.

(٣) الدرّ ١ : ٣٥٠ ؛ مسند أحمد ٣ : ٤١٦ ، وفيه : «بالبناءة أو النباوة» و ٦ : ٤٦٦ ؛ ابن ماجة ٢ : ١٤١١ / ٤٢٢١ ، باب ٢٥ ؛ الكبير ٢٠ : ١٧٩ ، رقم ٣٨٢ ؛ الحاكم في مستدركه ١ : ١٢٠ ، كتاب العلم ، وفيه : «بالنباه أو بالنباوه» ؛ البيهقي ١٠ : ١٢٣ ، كتاب آداب القاضي ، باب اعتماد القاضي.

(٤) الدرّ ١ : ٣٥١ ؛ الخطيب ٧ : ٤٦٦ / ٤٠٢٨ ؛ كنز العمّال ١٥ : ٦٨٥ ـ ٦٨٦ / ٤٢٧٤٤.

١٣٩

فيقول : نعم ، قد بلّغت الرسل ، فتدعى الرسل. فيقال لهم : هل بلّغكم جبريل عهدي؟ فيقولون : نعم. فيخلّى عن جبريل ، ثمّ يقال للرسل : هل بلّغتم عهدي؟ فيقولون : نعم ، بلّغناه الأمم. فتدعى الأمم ، فيقال لهم : هل بلّغتكم الرسل عهدي؟ فمنهم المكذّب ومنهم المصدّق. فتقول الرسل : إنّ لنا عليهم شهداء. فيقول : من؟ فيقولون : أمّة محمّد. فتدعى أمّة محمّد فيقال لهم : أتشهدون أنّ الرسل قد بلّغت الأمم؟ فيقولون : نعم. فتقول الأمم : يا ربّنا كيف يشهد علينا من لم يدركنا؟ فيقول الله : كيف تشهدون عليهم ولم تدركوهم؟ فيقولون : يا ربّنا أرسلت إلينا رسولا ، وأنزلت علينا كتابا ، وقصصت علينا فيه أن قد بلّغوا ، فنشهد بما عهدت إلينا. فيقول الربّ : صدقوا ، فذلك قوله : (وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً) والوسط العدل (لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً)(١).

[٢ / ٣٥٣٨] وأخرج ابن أبي حاتم من طريق أبي العالية عن أبيّ بن كعب في الآية قال : (لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ) يوم القيامة ، كانوا شهداء على قوم نوح ، وعلى قوم هود ، وعلى قوم صالح ، وعلى قوم شعيب ، وغيرهم أنّ رسلهم بلّغتهم وأنّهم كذّبوا رسلهم ، قال أبو العالية : وهي في قراءة أبيّ : «لتكونوا شهداء على الناس يوم القيامة» (٢).

[٢ / ٣٥٣٩] وأخرج ابن جرير عن زيد بن أسلم : أنّ قوم نوح يقولون يوم القيامة : لم يبلّغنا نوح! فيدعى نوح عليه‌السلام فيسأل : هل بلّغتهم؟ فيقول : نعم ، فيقال : من شهودك؟ فيقول : أحمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأمّته. فتدعون فتسألون ، فتقولون : نعم قد بلّغهم. فتقول قوم نوح : كيف تشهدون علينا ولم تدركونا؟ قالوا : قد جاء نبيّ الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فأخبرنا أنّه قد بلّغكم ، وأنزل عليه أنّه قد بلّغكم ، فصدّقناه. قال : فيصدّق نوح عليه‌السلام ويكذّبونهم. قال : (لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً)(٣).

[٢ / ٣٥٤٠] وأخرج سعيد بن منصور وأحمد والنسائي وابن ماجة والبيهقي في البعث والنشور عن أبي سعيد قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «يجيء النبيّ يوم القيامة ومعه الرجل والنبيّ ومعه الرجلان وأكثر من ذلك ، فيدعى قومه فيقال لهم : هل بلّغكم هذا؟ فيقولون : لا. فيقال له : هل بلّغت قومك؟ فيقول : نعم. فيقال له : من يشهد لك؟ فيقول : محمّد وأمّته. فيدعى محمّد وأمّته. فيقال لهم : هل بلّغ

__________________

(١) الدرّ ١ : ٣٥١ ـ ٣٥٢ ؛ الزهد لابن مبارك ١ : ٥٥٧ / ١٥٩٨ ؛ الطبري ٢ : ١٥ / ١٨١٢.

(٢) الدرّ ١ : ٣٥٢ ؛ ابن أبي حاتم ١ : ٢٥٠ / ١٣٣٩.

(٣) الطبري ٢ : ١٥ / ١٨١٠ ؛ عبد الرزّاق ١ : ٢٩٥ / ١٣٨.

١٤٠