التفسير الأثري الجامع - ج ٤

الشيخ محمّد هادي معرفة

التفسير الأثري الجامع - ج ٤

المؤلف:

الشيخ محمّد هادي معرفة


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة التمهيد ـ قم
المطبعة: ستاره
الطبعة: ١
ISBN: 978-600-5079-05-0
ISBN الدورة:
978-600-5079-08-1

الصفحات: ٥٦٠

عنه أنّه فعل. وجائز أن تكون تلك الكلمات جميع ما ذكروه في تأويل الكلمات ، وجائز أن تكون بعضه ، لأنّ إبراهيم ـ صلوات الله عليه ـ قد كان امتحن فيما بلغنا بكلّ ذلك ، فعمل به وقام فيه بطاعة الله وأمره الواجب عليه فيه. وإذ كان ذلك كذلك ، فغير جائز لأحد أن يقول : عنى الله بالكلمات التي ابتلي بهنّ إبراهيم شيئا من ذلك بعينه دون شيء ، ولا عنى به كلّ ذلك إلّا بحجّة ، يجب التسليم لها من خبر عن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، أو إجماع من الحجّة ، ولم يصحّ في شيء من ذلك خبر عن الرسول بنقل الواحد ، ولا بنقل الجماعة التي يجب التسليم لما نقلته. غير أنّه روي عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في نظير معنى ذلك خبران لو ثبتا ، أو أحدهما ، كان القول به في تأويل ذلك هو الصواب. أحدهما ما :

[٢ / ٣١٨٦] رواه أبو كريب ، بالإسناد إلى سهل بن معاذ ، عن أبيه ، قال : كان النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، يقول : ألا أخبركم لم سمّى الله إبراهيم خليله الذي وفّى؟ لأنّه كان يقول كلّما أصبح وكلّما أمسى : (فَسُبْحانَ اللهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ ...) حتّى يختم الآية.

والآخر منهما ما :

[٢ / ٣١٨٧] رواه بالإسناد إلى أبي أمامة ، قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «(وَإِبْراهِيمَ الَّذِي وَفَّى) قال : أتدرون ما وفّى؟ قالوا : الله ورسوله أعلم ، قال : وفّى عمل يومه أربع ركعات في النهار».

قال أبو جعفر : فلو كان خبر سهل بن معاذ عن أبيه صحيحا سنده ، كان بيّنّا أنّ الكلمات التي ابتلي بهنّ إبراهيم فقام بهنّ هو قوله كلّما أصبح وأمسى : (فَسُبْحانَ اللهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَعَشِيًّا وَحِينَ تُظْهِرُونَ). أو كان خبر أبي أمامة عدولا نقلته ، كان معلوما أنّ الكلمات التي أوحي إلى إبراهيم فابتلي بالعمل بهنّ أن يصلّي كلّ يوم أربع ركعات. غير أنّهما خبران في أسانيدهما نظر.

والصواب من القول في معنى الكلمات التي أخبر الله أنّه ابتلي بهنّ إبراهيم ما بيّنّا آنفا.

ولو قال قائل في ذلك : إنّ الذي قاله مجاهد وأبو صالح والربيع بن أنس أولى بالصواب من القول الذي قاله وغيرهم ، كان مذهبا ، لأنّ قوله : (إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً) وقوله : (وَعَهِدْنا إِلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ أَنْ طَهِّرا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ) وسائر الآيات التي هي نظير ذلك كالبيان عن الكلمات التي ذكر الله أنّه ابتلي بهنّ إبراهيم. (١)

__________________

(١) الطبري ١ : ٧٢٩ ـ ٧٣٦.

٤١

قال الحافظ ابن كثير : وهو كما قال ابن جرير ، فإنّه لا يجوز روايتهما إلّا ببيان ضعفهما ، وضعفهما من وجوه عديدة ، فإنّ كلّا من السندين مشتمل على غير واحد من الضعفاء ، مع ما في متن الحديث ما يدلّ على ضعفه. (١)

وقال ابن أبي حاتم : اختلف أهل التفسير في ذلك على أقوال ، فمنها :

[٢ / ٣١٨٨] ما حدّثنا الحسن بن أبي الربيع عن عبد الرزّاق عن معمر عن ابن طاووس عن أبيه عن ابن عبّاس : (وَإِذِ ابْتَلى إِبْراهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِماتٍ) قال : ابتلاه الله بالطهارة ، خمس في الرأس وخمس في الجسد. في الرأس : قصّ الشارب والمضمضة والاستنشاق والسواك وفرق الرأس ، وفي الجسد : تقليم الأظافر وحلق العانة ونتف الإبط وغسل أثر الغائط والبول بالماء. وروى عن أبي صالح وأبي الجلد ومجاهد وسعيد بن المسيب والنخعي والشعبي نحو ذلك. وروي عن ابن عبّاس قول آخر (٢) وجعل يرد سائر الأقوال حتّى أنهاها إلى سبعة كما ذكره الطبري.

[٢ / ٣١٨٩] وأخرج ابن إسحاق وابن أبي حاتم عن ابن عبّاس قال : الكلمات التي ابتلي بهنّ إبراهيم فأتمّهنّ : فراق قومه في الله حين أمر بمفارقتهم ، ومحاجّته نمرود في الله حين وقفه على ما وقفه عليه من خطر الأمر الذي فيه خلافهم ، وصبره على قذفهم إيّاه في النار ليحرقوه في الله ، والهجرة بعد ذلك من وطنه وبلاده حين أمره بالخروج عنهم ، وما أمره به من الضيافة والصبر عليها ، وما ابتلي به من ذبح ولده. فلمّا مضى على ذلك كلّه وأخلصه البلاء قال الله له : (أَسْلِمْ قالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ)(٣). (٤)

* * *

وهناك من المفسّرين من أرجع الضمير ـ المرفوع ـ في «أتمّهنّ» إلى الله ، ليكون تعالى هو الذي ابتلى إبراهيم بكلمات ألقاهنّ إليه ، ليسأل الله تعالى بها ـ كما في قصّة آدم عليه‌السلام (فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِماتٍ فَتابَ عَلَيْهِ)(٥) ـ فيكون معنى «أتمّهنّ» أكملهنّ بالإجابة والتأثير في رفع الدرجات والإستئهال لنيل مقام الإمامة.

__________________

(١) ابن كثير ١ : ١٧٠.

(٢) ابن أبي حاتم ١ : ٢١٩ ـ ٢٢٢.

(٣) البقرة ٢ : ١٣١.

(٤) الدرّ ١ : ٢٧٣ ؛ ابن أبي حاتم ١ : ٢٢٠ / ١١٦٧.

(٥) البقرة ٢ : ٣٧.

٤٢

قال البلخي : الضمير في «أتمّهنّ» راجع إلى الله. قال الشيخ : وهو اختيار الحسين بن عليّ المغربيّ. (١)

الأمر الذي يتناسب مع قول مجاهد : والكلمات التي ابتلاه بهنّ هي الآيات التي بعدها وهي : (إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً قالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قالَ لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ) وهذا القول رجّحه البلخي قائلا : لأنّ الكلام متّصل ، ولم يفصل بين قوله : (إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً) وبين ما تقدّمه بواو .. قال : فأتمّهنّ الله بأن أوجب بها الإمامة له بطاعته واضطلاعه. ومنع أن ينال العهد الظالمين من ذرّيّته ، وأخبره بأنّ منهم ظالما! فرضي إبراهيم بذلك وأطاعه أي استسلم وأسلم وجهه لله. وكلّ ذلك ابتلاء واختبار. (٢)

* * *

[٢ / ٣١٩٠] وأمّا مقاتل بن سليمان فيرى من الكلمات هي مسائل سألها إبراهيم ربّه [ومتلقّيا لها منه]. قال : يعني بذلك كلّ مسألة في القرآن ممّا سأل إبراهيم :

من قوله : (رَبِّ اجْعَلْ هذا بَلَداً آمِناً وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَراتِ)(٣).

ومن قوله : (رَبَّنا وَاجْعَلْنا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنا مَناسِكَنا وَتُبْ عَلَيْنا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ)(٤).

وحين قال : (رَبَّنا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِكَ)(٥).

وحين قال لقومه حين حاجّوه : (إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ)(٦).

وحين قال : (إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفاً)(٧).

وحين ألقي في النار ، وحين أراد ذبح ابنه ، وحين قال : ربّ هب لي من الصالحين حين سأل الولد.

__________________

(١) التبيان ١ : ٤٤٦ ؛ مجمع البيان ١ : ٢٠١.

(٢) التبيان ١ : ٤٤٦.

(٣) البقرة ٢ : ١٢٦.

(٤) البقرة ٢ : ١٢٨.

(٥) البقرة ٢ : ١٢٩.

(٦) الأنعام ٦ : ٧٨ وتمامها : (فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بازِغَةً قالَ هذا رَبِّي هذا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قالَ يا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ).

(٧) الأنعام ٦ : ٧٩.

٤٣

وحين قال : (وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنامَ)(١).

وحين قال : (فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ)(٢).

وحين قال : (رَبَّنا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ)(٣).

وما كان نحو هذا في القرآن ، وما سأل إبراهيم فاستجاب له. (فَأَتَمَّهُنَ) ثمّ زاده الله ممّا لم يكن في مسألته : (قالَ : إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً) في الدين يقتدى بسنّتك (قالَ) إبراهيم : يا ربّ (وَمِنْ ذُرِّيَّتِي) فاجعلهم أئمة (قالَ) الله : إنّ في ذرّيتك الظلمة (لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ) يعني المشركين من ذرّيّتك. قال : لا ينال طاعتي الظلمة من ذرّيّتك ولا أجعلهم أئمة : أنحلها أوليائي وأجنّبها أعدائي (٤).

* * *

قد يحسب البعض أنّ ما ذهب إليه مقاتل ، مسايرة مع قراءة أبي الشعثاء (جابر بن زيد) : إبراهيم ـ رفعا ـ وربّه ـ نصبا. ليكون المعنى : سأل ودعا إبراهيم ربّه. (٥)

قال الدكتور شحاتة : جرى مقاتل في تفسيره على أنّ الابتلاء كان من إبراهيم لربّه ، وهي قراءة في الآية. على أنّه دعا ربّه بكلمات ، مثل (أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتى. اجْعَلْ هذا بَلَداً آمِناً) ، ليرى هل يجيبه على ما سأل؟ وعلى هذه القراءة فمعنى (فَأَتَمَّهُنَ) أي أعطاه الله جميع ما سأل. (٦)

لكنّها قراءة شاذّة منبوذة أنكرتها الأئمّة منذ أوّل يومها .. إذ لا موضع لعبد مثل إبراهيم الخليل عليه‌السلام أن يقوم باختبار مولاه الجليل. وهل لا يكون قاطعا باستجابة ربّه الكريم لمثل عبده الصالح المستكين؟! وهو القائل ـ وقوله الحقّ ووعده الصدق ـ : (ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ)(٧). وهل هناك داع أعزّ على الله من مثل إبراهيم ، ذلك العبد الأوّاه المنيب؟! أو ليس إبراهيم هو القائل : (إِنَّهُ

__________________

(١) إبراهيم ١٤ : ٣٥.

(٢) إبراهيم ١٤ : ٣٧.

(٣) البقرة ٢ : ١٢٧.

(٤) تفسير مقاتل ١ : ١٣٦ ـ ١٣٧.

(٥) الثعلبي ١ : ٢٦٧. قال الثعلبي : قيل له : ومن أين لك هذا؟ فقال : أقرأنيه ابن عبّاس! قال الثعلبي : وهذا غير قويّ لأجل الباء في قوله : بِكَلِماتٍ وقرأ الباقون بالنصب وجعلوا معنى الابتلاء الاختبار والامتحان في الأمر ، وهو الصحيح.

(٦) هامش تفسير مقاتل ١ : ١٣٧.

(٧) غافر ٤٠ : ٦٠.

٤٤

ربّي (كانَ بِي حَفِيًّا)(١)؟!

إذن فكيف يا ترى يحاول اختبار ربّه ، وهو يصفه بتلك السمات الكريمة ، والتي تنبؤك عن كمال انقطاعه إليه وحسن يقينه بعناية ربّه ، وكانت مشهودة له طول حياته التي قضاها مستسلما لله ربّ العالمين.

ثمّ ، إنّ ممّا استشهد به مقاتل من أسئلة إبراهيم قوله في المحاججة مع قومه : (إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ)(٢). وقوله : (وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفاً وَما أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ)(٣). وغير ذلك ممّا هو إبداء لموضع عبوديّته محضا ولا مجال فيه لاختبار مولاه وإنّما هو اختبار مولاه إيّاه صرفا.

فالصحيح أنّ مقاتل لم يستند قراءة منبوذة .. وإنّما هي قراءة حفص المعروفة لتكون الكلمات هي التي تلقّاها من ربّه ، وصاغها في صيغ الدعاء والمسألة ، كما صنع آدم عليه‌السلام من قبل ومن ثمّ أضفنا بين معقوفتين [ومتلقّيا لها منه] إيضاحا لموضع مقاتل من التفسير على القراءة المشهورة.

وإليك بعض ما جاء بشأن إبراهيم ، ذلك الرجل العظيم :

[٢ / ٣١٩١] أخرج ابن أبي شيبة وأبو داوود والترمذي والنسائي عن أنس قال : «جاء رجل إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقال : يا خير البريّة! قال : ذاك إبراهيم». (٤)

[٢ / ٣١٩٢] وأخرج أحمد في الزهد عن مطرف قال : أوّل من راغم ، إبراهيم عليه‌السلام حين راغم قومه إلى الله بالدعاء. (٥)

[٢ / ٣١٩٣] وأخرج أحمد وأبو نعيم عن نوف البكالي قال : قال إبراهيم عليه‌السلام : يا ربّ إنّه ليس في الأرض أحد يعبدك غيري! فأنزل الله ـ عزوجل ـ ثلاثة آلاف ملك فأمّهم ثلاثة أيّام. (٦)

__________________

(١) مريم ١٩ : ٤٨.

(٢) الأنعام ٦ : ٧٨.

(٣) الأنعام ٦ : ٧٩.

(٤) الدرّ ١ : ٢٨٥ ؛ المصنّف ٧ : ٤٤٧ / ٤ ، باب ٢ ؛ أبو داوود ٢ : ٤٠٧ / ٤٦٧٢ ، باب ١٤ ؛ الترمذي ٥ : ١١٦ / ٣٤٠١ ؛ النسائي ٦ : ٥٢٠ / ١١٦٩٢ ، كتاب التفسير ، سورة البيّنة ؛ أبو يعلى ٧ : ٣٩ / ٣٩٤٩.

(٥) الدرّ ١ : ٢٨٥.

(٦) الدرّ ١ : ٢٨٤ ؛ الزهد لأحمد : ١٤٠ ـ ١٤١ / ٤١٥ ؛ الحلية ٦ : ٥٠ ، برقم ٣٢٦ ، نوف البكالي.

٤٥

[٢ / ٣١٩٤] وأخرج ابن سعد عن الكلبيّ قال : إبراهيم عليه‌السلام أوّل من أضاف الضيف ، وأوّل من ثرد الثريد ، وأوّل من رأى الشيب ، وكان قد وسّع عليه في المال والخدم. (١)

[٢ / ٣١٩٥] وأخرج ابن أبي الدنيا والبيهقي في شعب الإيمان عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «كان أوّل من ضيّف الضيف إبراهيم عليه‌السلام». (٢)

[٢ / ٣١٩٦] وأخرج ابن سعد وابن أبي الدنيا وأبو نعيم في الحلية والبيهقي في شعب الإيمان عن عكرمة قال : كان إبراهيم خليل الرحمان يكنّى أبا الضيفان ، وكان لقصره أربعة أبواب لكي لا يفوته أحد. (٣)

[٢ / ٣١٩٧] وأخرج البيهقي عن عطاء قال : كان إبراهيم خليل الله عليه‌السلام ، إذا أراد أن يتغدّى طلب من يتغدّى معه إلى ميل! (٤)

[٢ / ٣١٩٨] وأخرج ابن أبي شيبة عن السدّي قال : أوّل من ثرد الثريد إبراهيم عليه‌السلام. (٥)

__________________

(١) الدرّ ١ : ٢٨٤ ؛ الطبقات ١ : ٤٦ ـ ٤٧ ، رواه عن ابن عبّاس ، بلفظ : لمّا هرب إبراهيم من كوثي وخرج من النار ولسانه يومئذ سرياني فلمّا عبر الفرات من حرّان غيّر الله لسانه ، فقيل عبراني حيث عبر الفرات. وبعث نمرود في أثره وقال : لا تدعوا أحدا يتكلّم بالسريانية إلّا جئتموني به ، فلقوا إبراهيم فتكلّم بالعبرانية فتركوه ولم يعرفوا لغته. قال هشام بن محمّد عن أبيه : فهاجر إبراهيم من بابل إلى الشام فجاءته سارة فوهبت له نفسها فتزوّجها وخرجت معه وهو يومئذ ابن سبع وثلاثين سنة فأتى حرّان فأقام بها زمانا ثمّ أتى الأردن فأقام بها زمانا ، ثمّ خرج إلى مصر فأقام بها زمانا ، ثمّ رجع إلى الشام فنزل السبع أرضا بين إيليا وفلسطين ، فاحتفر بئرا وبنى مسجدا ، ثمّ إنّ بعض أهل البلد آذوه فتحوّل من عندهم فنزل منزلا بين الرملة وإيليا ، فاحتفر به بئرا وأقام به وكان قد وسّع عليه في المال والخدم وهو أوّل من أضاف الضيف وأوّل من ثرد الثريد وأوّل من رأى الشيب.

(٢) الدرّ ١ : ٢٨٣ ؛ الشعب ٧ : ٩٧ / ٩٦١٥ ، باب ٦٨ ؛ كتاب الأوائل ، لابن أبي عاصم : ٦٣.

(٣) الدرّ ١ : ٢٨٣ ؛ الطبقات ١ : ٤٧ ، باب ذكر إبراهيم عليه‌السلام ؛ الحلية ٣ : ٣٣٦ ، باب ٢٤٥ ؛ الشعب ٧ : ٩٨ / ٩٦١٧ و ٩٦١٨ ؛ ابن عساكر ٦ : ١٧٣ ، ترجمة ٣٥١ ، إبراهيم بن آزر.

(٤) الدرّ ١ : ٢٨٣ ؛ الشعب ٧ : ٩٨ / ٩٦١٩ ، باب ٦٨ ؛ ابن عساكر ٦ : ٢٣٩ ، وفيه : طلب من يتغذّى معه ميلا في ميل.

(٥) الدرّ ١ : ٢٨٤ ؛ المصنّف ٨ : ٣٣٥ / ٨٥ ، كتاب الأوائل ؛ القرطبي ٢ : ٩٨ ، بلفظ : وقال غيره : وأوّل من ثرد الثريد ، وأوّل من ضرب بالسيف وأوّل من استاك وأوّل من استنجى بالماء وأوّل من لبس السراويل ؛ ابن كثير ١ : ١٧١ ، بنحو ما رواه القرطبي ، إلّا أنّ فيه : «أوّل من برد البريد» بدل : «ثرد الثريد».

٤٦

[٢ / ٣١٩٩] وأخرج الديلمي عن نبيط بن شريط قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «أوّل من اتّخذ الخبز المبلقس (١) إبراهيم عليه‌السلام». (٢)

[٢ / ٣٢٠٠] وأخرج ابن أبي شيبة وأحمد في الزهد وأبو نعيم في الحلية عن كعب قال : قال إبراهيم عليه‌السلام : يا ربّ إنّني ليحزنني أن لا أرى أحدا في الأرض يعبدك غيري ، فأنزل الله إليه ملائكة يصلّون معه ويكونون معه. (٣)

[٢ / ٣٢٠١] وروى الطبرسي أنّه كان سعيد بن المسيب يقول : كان إبراهيم أوّل الناس أضاف الضيف ، وأوّل الناس اختتن ، وأوّل الناس قصّ شاربه ، واستحدّ (٤) ، وأوّل الناس رأى الشيب ، فلمّا رآه قال : يا ربّ ما هذا؟ قال : هذا الوقار! قال : يا ربّ فزدني وقارا. وهذا أيضا قد رواه السكوني ، عن أبي عبد الله ، ولم يذكر : أوّل من قصّ شاربه واستحدّ ، وزاد فيه : وأوّل من قاتل في سبيل الله إبراهيم ، وأوّل من أخرج الخمس إبراهيم ، وأوّل من اتّخذ النعلين إبراهيم ، وأوّل من اتّخذ الرايات إبراهيم. (٥)

[٢ / ٣٢٠٢] وأخرج أحمد في الزهد وأبو نعيم في الحلية عن كعب قال : كان إبراهيم عليه‌السلام يقري الضيف ويرحم المسكين وابن السبيل ، فأبطأت عليه الأضياف حتّى اشرأبّ لذلك (٦) ، فخرج إلى الطريق يطلب ، فجلس فمرّ ملك الموت في صورة رجل ، فسلّم عليه فردّ عليه‌السلام ، ثمّ سأله من أنت؟ قال : أنا ابن السبيل! قال : إنّما قعدت هاهنا لمثلك ، فأخذ بيده فقال له : انطلق. فذهب إلى منزله ، فلمّا رآه إسحاق عرفه (٧)! فبكى إسحاق؟ فلمّا رأت سارة إسحاق يبكي بكت لبكائه ، فلمّا

__________________

(١) والخبز المبلقس منسوب إلى بلّقس : قرية بشرقيّ مصر. وهي خبزة فيها أربعة أرطال. أوّل من اتّخذها سيّدنا إبراهيم عليه‌السلام كما ورد في الأوّليات. وكما فسّره الديلمي في مسند الفردوس. (تاج العروس ٤ : ١١٢ مادّة بلقس).

(٢) الدرّ ١ : ٢٨٤ ؛ كنز العمّال ١١ : ٤٨٩ / ٣٢٣٠٦.

(٣) الدرّ ١ : ٢٨٤ ؛ المصنّف ٨ : ٢٧٠ / ١٤٥ ، كتاب الزهد ؛ الزهد : ١٣٩ / ٤٠٧ ، في زهد إبراهيم الخليل ؛ الحلية ٦ : ٢٦ ، باب في تكملة كعب الأحبار.

(٤) استحدّ : حدّ شفرته. وفي بعض النسخ : استحذى أي اتّخذ الحذاء. لكن لا يناسب اقترانه مع قصّ الشارب. وأيضا لزم التكرار مع قوله : اتّخذ النعلين.

(٥) مجمع البيان ١ : ٣٧٤ ـ ٣٧٥ ؛ كنز الدقائق ٢ : ١٣٤ ؛ البحار ١٢ : ٥٧ ، باب ٣.

(٦) اشرأبّ للشيء وإلى الشيء : مدّ عنقه لينظره.

(٧) كيف عرفه إسحاق ولم يعرفه أبوه إبراهيم؟!

٤٧

رأى إبراهيم سارة تبكي فبكى لبكائها؟ فلمّا رأى ملك الموت إبراهيم يبكي بكى لبكائه. ثمّ صعد ملك الموت ؛ فلمّا ارتقى غضب إبراهيم ، فقال : بكيتم في وجه ضيفي حتّى ذهب. فقال إسحاق : لا تلمني يا أبت فإنّي رأيت ملك الموت معك ، لا أرى أجلك إلّا قد حضر فأرث في أهلك. أي : أوصه ، وكان لإبراهيم بيت يتعبّد فيه فإذا خرج أغلقه لا يدخله غيره ، فجاء إبراهيم ففتح بيته الذي يتعبّد فيه فإذا هو برجل جالس ، فقال إبراهيم : من أدخلك ، بإذن من دخلت؟! قال : بإذن ربّ البيت! قال : ربّ البيت أحقّ به ، ثمّ تنحّى في ناحية البيت فصلّى ودعا كما كان يصنع ، وصعد ملك الموت ، فقيل له : ما رأيت؟ قال : يا ربّ جئتك من عند عبدك ليس بعده في الأرض خير. قيل له : ما رأيت منه؟ قال : ما ترك خلقا من خلقك إلّا قد دعا له بخير في دينه وفي معيشته.

ثمّ مكث إبراهيم عليه‌السلام ما شاء الله ، ثمّ جاء ففتح بابه فإذا هو برجل جالس ، قال له : من أنت؟ قال : إنّما أنا ملك الموت! قال إبراهيم : إن كنت صادقا فأرني آية أعرف أنّك ملك الموت! قال : أعرض بوجهك يا إبراهيم. قال : ثمّ أقبل فأراه الصورة التي يقبض بها المؤمنين ، فرأى شيئا من النور والبهاء لا يعلمه إلّا الله ، ثمّ قال : أعرض بوجهك. ثمّ قال : انظر فأراه الصورة التي يقبض فيها الكفّار والفجّار ، فرعب إبراهيم رعبا حتّى ألصق بطنه بالأرض ، كادت نفس إبراهيم تخرج ، فقال : أعرف ، فانظر الذي أمرت به فامض له.

فصعد ملك الموت فقيل له : تلطّف بإبراهيم ، فأتاه وهو في عنب له (١) وهو في صورة شيخ كبير لم يبق منه شيء ، فلمّا رآه إبراهيم رحمه فأخذ مكتلا ثمّ دخل عنبه فقطف من العنب في مكتله ، ثمّ جاء فوضعه بين يديه فقال : كل. فجعل يمضغ ويريه أنّه يأكل ويمجّه على لحيته وعلى صدره ، فعجب إبراهيم فقال : ما أبقت السنّ منك شيئا كم أتى لك؟ فحسب مدّة إبراهيم ، فقال : أمالي كذا وكذا؟! فقال إبراهيم : قد أتي لي هذا ، إنّما أنتظر أن أكون مثلك. اللهمّ اقبضني إليك ، فطابت نفس إبراهيم على نفسه وقبض ملك الموت نفسه تلك الحال. (٢)

[٢ / ٣٢٠٣] وأخرج ابن أبي الدنيا في كتاب الإخوان والخطيب في تاريخه والديلمي في مسند الفردوس والغسولي في جزئه المشهور ، واللفظ له ، عن تميم الداري : أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم سئل عن

__________________

(١) أي كرم وهو بستان العنب.

(٢) الدرّ ١ : ٢٨٦ ـ ٢٨٧ ؛ الحلية ٦ : ٢٧ ـ ٢٩ ؛ ابن عساكر ٦ : ٢٥٣ ـ ٢٥٥.

٤٨

معانقة الرجل الرجل إذا هو لقيه؟ قال : «كانت تحيّة الأمم. وفي لفظ : كانت تحيّة أهل الإيمان وخالص ودّهم ، وإنّ أوّل من عانق خليل الرحمان ، فإنّه خرج يوما يرتاد لماشيته في جبل من جبال بيت المقدس ، إذ سمع صوت مقدّس يقدّس الله تعالى ، فذهل عمّا كان يطلب ، فقصد قصد الصوت ، فإذا هو بشيخ طوله ثمانية عشر ذراعا أهلب (١) يوحّد الله ـ عزوجل ـ فقال له إبراهيم : يا شيخ من ربّك؟ قال : الذي في السماء! قال : من ربّ الأرض؟ قال : الذي في السماء! قال : فيها ربّ غيره؟! قال : ما فيها ربّ غيره ، لا إله إلّا هو وحده.

قال إبراهيم : فأين قبلتك؟ قال : إلى الكعبة! فسأله عن طعامه فقال : أجمع من هذه الثمرة في الصيف فآكله في الشتاء! قال : هل بقي معك أحد من قومك؟ قال : لا. قال : أين منزلك؟ قال : تلك المغارة. قال : اعبر بنا إلى بيتك. قال : بيني وبينها واد لا يخاض. قال : فكيف تعبره؟ فقال : أمشي عليه ذاهبا وأمشي عليه عائدا. قال : انطلق بنا فلعلّ الذي ذلّله لك يذلّله لي!

فانطلقا حتّى انتهيا ، فمشيا جميعا عليه ، كلّ واحد منهما يعجب من صاحبه ، فلمّا دخلا المغارة فإذا بقبلته قبلة إبراهيم! قال له ابراهيم : أيّ يوم خلق الله أشدّ؟ قال الشيخ : ذلك اليوم الذي يضع كرسيّه للحساب ؛ يوم تسعّر جهنّم لا يبقى ملك مقرّب ولا نبيّ مرسل إلّا خرّ يهمّه نفسه. قال له إبراهيم : ادع الله يا شيخ أن يؤمّنّي وإيّاك من هول ذلك اليوم! قال الشيخ : وما تصنع بدعائي ولي في السماء دعوة محبوسة منذ ثلاث سنين؟ قال إبراهيم : ألا أخبرك ما حبس دعاءك؟ قال : بلى! قال : إنّ الله ـ عزوجل ـ إذا أحبّ عبدا احتبس مسألته ، يحبّ صوته ، ثمّ جعل له على كلّ مسألة ذخرا لا يخطر على قلب بشر ، وإذا أبغض الله عبدا عجّل له حاجته أو ألقى الأياس في صدره ليقبض صوته ، فما دعوتك التي هي في السماء محبوسة؟

قال : مرّ بي هاهنا شابّ في رأسه ذؤابة منذ ثلاث سنين ومعه غنم ، قلت : لمن هذه؟ قال : لخليل الله إبراهيم. قلت : اللهمّ إن كان لك في الأرض خليل فأرنيه قبل خروجي من الدنيا! قال له إبراهيم عليه‌السلام : قد أجيبت دعوتك ، ثمّ اعتنقا ؛ فيومئذ كان أصل المعانقة ، وكان قبل ذلك السجود ، هذا

__________________

(١) كثير الشعر.

٤٩

لهذا وهذا لهذا ، ثمّ جاء الصفاح (١) مع الإسلام ، فلم يسجد ولم يعانق ، ولن تفترق الأصابع حتّى يغفر لكلّ مصافح». (٢)

[٢ / ٣٢٠٤] وأخرج الحاكم عن أبي أمامة قال : طلعت كفّ من السماء بين إصبعين من أصابعها شعرة بيضاء ، فجعلت تدنو من رأس إبراهيم ثمّ تدنو ، فألقتها في رأسه وقالت : اشعل وقارا ، ثمّ أوحى الله إليها أن تطهّر ، وكان أوّل من شاب واختتن ، وأنزل الله على إبراهيم ممّا أنزل على محمّد : (التَّائِبُونَ الْعابِدُونَ الْحامِدُونَ) إلى قوله : (وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ)(٣). و (قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ) إلى قوله : (هُمْ فِيها خالِدُونَ)(٤). و (إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِماتِ ...)(٥) الآية. والتي في سأل ، و (الَّذِينَ هُمْ عَلى صَلاتِهِمْ دائِمُونَ.) إلى قوله : (قائِمُونَ)(٦) فلم يف بهذه السهام إلّا إبراهيم ومحمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم. (٧)

قوله تعالى : (وَمِنْ ذُرِّيَّتِي)

[٢ / ٣٢٠٥] جاء في حديث جابر عن الإمام أبي جعفر الباقر عليه‌السلام : أنّه تعالى لمّا قال لإبراهيم عليه‌السلام : (إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً) فمن عظمها في عين إبراهيم قال : يا ربّ ومن ذرّيّتي؟ (٨)

وهذا ليس طلبا من الله أن يجعل من ذرّيّته أئمّة .. بل سأل ربّه أن يعرّفه : هل في ذرّيّته من يصلح لأن يجعله إماما مثله يقتدى به؟

هذا قول الجبّائي في تفسير الآية ، ذكره عنه الشيخ في التبيان ، ولم يرتضه ورجّح أن يكون

__________________

(١) المصافحة.

(٢) الدرّ ١ : ٢٨٣ ـ ٢٨٤ ؛ كتاب الإخوان : ١٨٤ ـ ١٨٥ / ١٢٥ ؛ الخطيب ٩ : ٤٢ / ٤٦٢٦ ؛ الفردوس بمأثور الخطاب ١ : ٢٨ ـ ٢٩ / ٤٥.

(٣) التوبة ٩ : ١١٢.

(٤) المؤمنون ٢٣ : ٩.

(٥) الأحزاب ٣٣ : ٣٥.

(٦) المعارج ٧٠ : ٣٤.

(٧) الدرّ ١ : ٢٨١ ـ ٢٨٢ ؛ الحاكم ٢ : ٥٥٠ ـ ٥٥١ ، كتاب تواريخ المتقدمين ، باختلاف يسير.

(٨) الكافي ١ : ١٧٥ / ٤ ؛ البحار ١٢ : ١٢ ـ ١٣ / ٣٧ و ٢٥ ؛ ٢٠٦ / ١٩.

٥٠

ذلك طلبا منه أن يجعل من ذرّيّته أئمّة ، كما طلب أن يجنّبهم عبادة الأصنام : (وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنامَ)(١). قال : وهذا الذي قاله الجبّائي ليس في الكلام ما يدلّ عليه ، بل الظاهر خلافه. (٢)

قلت : وما ذكره الجبّائي أقرب إلى أدب الأنبياء ، لا يسألون الله إلحافا ولا يحمّلون في مسألتهم لله فلا يسأل الله نبيّ أن يجعل من ولده نبيّا أو إماما ، وهو منصب إلهي ، والله أعلم حيث يجعل رسالته.

ملحوظة

قد يتأيّد كون سؤال إبراهيم طلبا لا مجرّد استعلام ، بأنّ طلب الذرّيّة وكونهم صالحين من خير آمال أهل الإيمان والصلاح ، وجري مع سنّة الله الحكيمة في الخلق. وقد جاء مدحه في القرآن الكريم : (وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنا هَبْ لَنا مِنْ أَزْواجِنا وَذُرِّيَّاتِنا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنا لِلْمُتَّقِينَ إِماماً)(٣).

غير أنّ الإمامة هنا بمعنى الأسوة ، ليشتمل الذراري على جماع أوصاف الكمال ، وليتّخذهم المتّقون ـ وهم المتعهّدون في حياتهم الإنسانيّة الكريمة ـ أسوة يسيرون على منهجهم في مسيرة الصلاح والفلاح.

أمّا الإمامة في سؤال إبراهيم فهي بمعنى القدوة ، وليقوموا بقيادة الأمّة إلى حيث الفلاح والنجاح نظير الإمامة التي منحها الله لإبراهيم في لزوم اتّباعه وإطاعته (٤) ، امتدادا لإطاعة الله المفروضة على العباد.

والخلاصة : أنّ الإمامة هنا هي الرئاسة العامّة في شؤون الدين والدنيا ، الأمر الذي يفوق مسألة التأسّي بذوي الصلاح؟!

__________________

(١) البقرة ٢ : ٣٥.

(٢) التبيان ١ : ٤٤٧. وهكذا ذكر الرازي عن بعضهم : أنّه سؤال على سبيل الاستعلام. (التفسير الكبير ٤ : ٤٠)

(٣) الفرقان ٢٥ : ٧٤. وراجع : تفسير التسنيم للآملي ٦ : ٤٦٨.

(٤) قال الجصّاص : فثبت بدلالة الآية بطلان إمامة الفاسق. وأنّ من نصب نفسه لهذا المنصب وهو فاسق ، لم يلزم الناس اتّباعه ولا طاعته. حيث قال النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق». (أحكام القرآن ١ : ٧٠).

٥١

قوله تعالى : (لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ)

والعهد هنا بقرينة المقام هو عهد الإمامة من قبله تعالى ليكون قدوة للناس وقائدا صالحا يقودهم إلى ساحل النجاة وهذا لا يصلح له إلّا من استقامت سريرته ولم تأخذه الأهواء إلى حيث مهاوي الضلال. إذ :

[٢ / ٣٢٠٦] «لا يكون السفيه إمام التقيّ». كما قال الإمام جعفر بن محمّد الصادق عليه‌السلام (١). الأمر الذي تؤكّد عليه الآية الكريمة : (أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لا يَهِدِّي إِلَّا أَنْ يُهْدى فَما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ؟!)(٢).

نعم من لا يرحم نفسه ويظلمها بارتكاب الفجور ، فيا ترى كيف يرحم غيره ولا يقودهم إلى مهاوي الضلال. وهكذا كمثل فرعون : (فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطاعُوهُ)(٣). (وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ وَما هَدى)(٤) وسوف (يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ)(٥).

فمن ضعفت شكيمته عن إلجام نفسه ، فهو عن قدرته على قيادة قومه أعجز.

وها هي قاعدة كلّيّة عرضتها الآية الكريمة لتكون دستورا خالدا لكلّ قيادة حكيمة وكان مبتغاها إعلاء كلمة الله في الأرض ، وما هي إلّا خلافة الله في الأرض يرثها الصالحون من عباده الأمناء.

وهكذا استدلّ الإمام الشافعي على ضرورة كون الإمام عدلا. قال : لأنّه لا ينظر لنفسه فكيف ينظر لغيره؟! (٦) وسيأتي الكلام في ذلك في شيء من التفصيل.

العهد هي الإمامة

قال أبو جعفر الطبري : هذا العهد الذي ابتغاه إبراهيم لذرّيّته ، هو عهد الإمامة. وذلك أنّ إبراهيم لمّا رفع الله منزلته وكرّمه فأعلمه ما هو صانع به من تصييره إماما في الخيرات لمن في عصره ولمن جاء بعده يهتدى بهديه ويقتدى بأفعاله وأخلاقه. قال : يا ربّ ، ومن ذرّيّتى فاجعل أئمّة يقتدى بهم

__________________

(١) الكافي ١ : ١٧٥ / ٢.

(٢) يونس ١٠ : ٣٥.

(٣) الزخرف ٤٣ : ٥٤.

(٤) طه ٢٠ : ٧٩.

(٥) هود ١١ : ٩٨.

(٦) شرح العقائد النسفيّة ، للتفتازاني : ١١٤ (ط : كابل).

٥٢

كالذي جعلتني إماما يؤتمّ بي ويقتدى بي. فهي مسألة إبراهيم سأل ربّه إيّاها.

[٢ / ٣٢٠٧] كما حدّثت عن عمّار ، بالإسناد عن الربيع ، قال : قال إبراهيم : (وَمِنْ ذُرِّيَّتِي ،) يقول : فاجعل من ذرّيّتي من يؤتمّ به ويقتدى به.

قال : وقد زعم بعض الناس أنّ قول إبراهيم : (وَمِنْ ذُرِّيَّتِي) مسألة منه ربّه لعقبه أن يكونوا على عهده ودينه ، كما قال : (وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنامَ) فأخبر الله ـ جلّ ثناؤه ـ أنّ في عقبه الظالم المخالف له في دينه ، بقوله : (لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ) قال : والظاهر من التنزيل يدلّ على غير الذي قاله صاحب هذه المقالة ، لأنّ قول إبراهيم ـ صلوات الله عليه ـ : (وَمِنْ ذُرِّيَّتِي) في إثر قول الله ـ جلّ ثناؤه ـ : (إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً) فمعلوم أنّ الذي سأله إبراهيم لذرّيّته لو كان غير الذي أخبر ربّه أنّه أعطاه إيّاه ، لكان مبيّنا. ولكنّ المسألة لمّا كانت ممّا جرى ذكره ، اكتفى بالذكر الذي قد مضى من تكريره وإعادته ، فقال : ومن ذرّيّتي بمعنى : (وَمِنْ ذُرِّيَّتِي) فاجعل مثل الذي جعلتني به من الإمامة للناس.

وقال بشأن قوله تعالى : (لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ :) هذا خبر من الله ـ جلّ ثناؤه ـ عن أنّ الظالم لا يكون إماما يقتدي به أهل الخير ، وهو من الله ـ جلّ ثناؤه ـ جواب لما توهّم في مسألته إيّاه أن يجعل من ذرّيّته أئمّة مثله ، فأخبر أنّه فاعل ذلك إلّا بمن كان من أهل الظلم منهم ، فإنّه غير مصيّره كذلك ، ولا جاعله في محلّ أوليائه عنده بالتكرمة بالإمامة ، لأنّ الإمامة إنّما هي لأوليائه وأهل طاعته دون أعدائه والكافرين به.

وقال : وبهذا المعنى قال مجاهد وجماعة :

[٢ / ٣٢٠٨] كما حدّثني محمّد بن عمرو ، بالإسناد عن مجاهد : (قالَ لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ) قال : لا يكون إمام ظالما.

[٢ / ٣٢٠٩] وحدّثني المثنّى ، بالإسناد عنه : قال الله : (لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ) قال : لا يكون إمام ظالما.

وحدّثنا المثنّى ، بالإسناد ، عن عكرمة بمثله.

[٢ / ٣٢١٠] وحدثنا ابن بشار ، بالإسناد إلى مجاهد في قوله : (قالَ لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ) قال : لا يكون إمام ظالم يقتدى به.

٥٣

[٢ / ٣٢١١] وحدّثنا مسروق بالإسناد إلى مجاهد في قوله : (لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ) قال : لا أجعل إماما ظالما يقتدى به.

[٢ / ٣٢١٢] وحدّثنا القاسم ، بالإسناد إلى مجاهد : (لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ) قال : لا يكون إماما ظالم.

[٢ / ٣٢١٣] وقال ابن جريج : وأما عطاء فإنّه قال : (إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً) قال (وَمِنْ ذُرِّيَّتِي) فأبى أن يجعل من ذرّيته ظالما إماما. قلت لعطاء : ما عهده؟ قال : أمره.

[٢ / ٣٢١٤] وحدّثنا محمّد بن سعد ، بالإسناد عن ابن عبّاس قوله : (لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ) يعني لا عهد لظالم عليك في ظلمه أن تطيعه فيه.

[٢ / ٣٢١٥] وحدّثني المثنّى ، بالإسناد عن مجاهد ، عن ابن عبّاس : (قالَ لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ) قال : ليس للظالمين عهد ، وإن عاهدته فانقضه.

[٢ / ٣٢١٦] وحدّثني القاسم ، بالإسناد عن ابن عبّاس ، قال : ليس لظالم عهد.

[٢ / ٣٢١٧] وحدّثني يحيى بن جعفر ، بالإسناد عن الضحّاك في قوله : (لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ) قال : لا ينال عهدي عدوّ لي يعصيني ، ولا أنحلها إلّا وليا يطيعني.

قال أبو جعفر : وهذا الكلام وإن كان ظاهره ظاهر خبر عن أنّه لا ينال من ولد إبراهيم ـ صلوات الله عليه ـ عهد الله الذي هو النبوّة والإمامة لأهل الخير ، بمعنى الاقتداء به في الدنيا ، والعهد الذي بالوفاء به ينجو في الآخرة ، من وفى لله به في الدنيا ـ من كان منهم ظالما متعديّا جائرا عن قصد سبيل الحقّ ، فهو إعلام من الله ـ تعالى ذكره ـ لإبراهيم أنّ من ولده من يشرك به ويجوز عن قصد السبيل ، ويظلم نفسه وعباده! (١)

[٢ / ٣٢١٨] وأخرج ابن إسحاق وابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عبّاس في الآية قال : يخبره أنّه كائن في ذرّيّته ظالم لا ينال عهده ، ولا ينبغي له أن يولّيه شيئا من أمره. (٢)

[٢ / ٣٢١٩] وأخرج ابن أبي حاتم ، عن مجاهد في قوله : (وَمِنْ ذُرِّيَّتِي) قال : أمّا من كان منهم

__________________

(١) الطبري ١ : ٧٣٧ ـ ٧٤٠.

(٢) الدرّ ١ : ٢٨٨ ؛ ابن أبي حاتم ١ : ٢٢٢ / ١١٧٥ ؛ ابن كثير ١ : ١٧٢.

٥٤

صالحا فسأجعله إماما يقتدى به. وأمّا من كان منهم ظالما فلا ، ولا نعمة عين. (١)

[٢ / ٣٢٢٠] وأخرج وكيع وابن مردويه عن عليّ بن أبي طالب عليه‌السلام عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في قوله : (لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ) قال : «لا طاعة إلّا في المعروف». (٢)

[٢ / ٣٢٢١] وأخرج عبد بن حميد عن عمران بن حصين : سمعت النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول : «لا طاعة لمخلوق في معصية الله». (٣)

هل تصلح إمامة الجائر؟

اتّفقت الأمّة على أنّ الجائر لا يصلح للإمامة ، وهي عهد الله لا يناله الظالمون. قال الإمام الرازي : اتّفق جمهور الفقهاء والمتكلّمين على أنّ الفاسق ـ حال فسقه ـ لا يجوز عقد الإمامة له واحتجّوا بقوله تعالى : (لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ) ، حيث المراد بالعهد هي الإمامة المشروعة التي يرتضيه ربّ العالمين! قال : وكلّ عاص فإنّه ظالم لنفسه. (٤)

[٢ / ٣٢٢٢] وقد عرفت من كلام الإمام الصادق عليه‌السلام : «لا يكون السفيه إمام التقيّ!» (٥).

وهكذا استدلّ الإمام الشافعي على عدم صحّة عقد الإمامة للجائر ، لأنّه فاسق ، والفاسق ليس من أهل الولاية. قال : لأنّه لا ينظر لنفسه فكيف ينظر لغيره؟! (٦)

قال القاضي عبد الجبّار : فأمّا الذي يدلّ على وجوب كونه عدلا ، فلأنّه قد ثبت أنّ العدالة شرط في الشاهد والحاكم ، فبأن يكون شرطا في الإمام أولى. لأنّ للإمامة ما للشهادة والقضاء وزيادة. (٧)

قال جار الله الزمخشري : قوله : (لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ). أي من كان ظالما من ذرّيّتك ، لا ينال استخلافي وعهدي إليه بالإمامة. وإنّما ينال من كان عادلا بريئا من الظلم .. قالوا : في هذا دليل على أنّ الفاسق لا يصلح للإمامة ، وكيف يصلح لها من لا يجوز حكمه وشهادته ، ولا تجب طاعته ، ولا يقبل

__________________

(١) ابن أبي حاتم ١ : ٢٢٣ / ١١٧٩ ؛ ابن كثير ١ : ١٧٢.

(٢) الدرّ ١ : ٢٨٨ ؛ ابن كثير ١ : ١٧٣ ؛ كنز العمّال ٢ : ٣٥٨ / ٤٢٣٥.

(٣) الدرّ ١ : ٢٨٨ ؛ مسند أحمد ٥ : ٦٦ ، بخلاف في اللفظ ؛ كنز العمّال ٦ : ٦٧ / ١٤٨٧٥.

(٤) التفسير الكبير ٤ : ٤٢ ، المسألة الخامسة.

(٥) الكافي ١ : ١٧٥ / ٢.

(٦) شرح العقائد النسفية ، للتفتازاني : ١١٤ (ط : كابل).

(٧) المغني في الإمامة : ٢٠١ : القسم الأوّل.

٥٥

خبره ، ولا يتقدّم للصلاة!

قال : وكان أبو حنيفة يفتي سرّا بوجوب نصرة زيد بن عليّ ـ رضوان الله عليهما ـ وحمل المال إليه ، والخروج معه على اللّصّ المتغلّب المتسمّي بالإمام والخليفة ، كالدوانيقي وأشباهه.

وقالت امرأة لأبي حنيفة : أشرت على ابني بالخروج مع إبراهيم ومحمّد ابني عبد الله بن الحسن حتّى قتل! قال : ليتني مكان ابنك! وكان يقول في المنصور وأشياعه : لو أرادوا بناء مسجد وأرادوني على عدّ آجره لما فعلت! وعن ابن عيينة : لا يكون الظالم إماما قطّ. وكيف يجوز نصب الظالم للإمامة ، والإمام إنّما هو لكفّ الظلمة ، فإذا نصب من كان ظالما في نفسه ، فقد جاء المثل السائر : «من استرعى الذئب ظلم». (١)

وقال أبو بكر الرازي : وقد أفادت الآية أنّ شرط جميع من كان في محلّ الائتمام به في أمر الدين العدالة والصلاح. وهذا يدلّ أيضا على أنّ أئمّة الصلاة ينبغي أن يكونوا صالحين غير فسّاق ولا ظالمين ، لدلالة الآية على شرط العدالة لمن نصب منصب الائتمام به في أمور الدين (٢) ، لأنّ عهد الله هو أوامره ، فلم يجعل قبوله عن الظالمين منهم ، وهو ما أودعهم من أمور دينه وأجاز قولهم فيه وأمر الناس بقبوله منهم والاقتداء بهم فيه ..

فثبت أنّهم غير مؤتمنين على أوامر الله تعالى وغير مقتدى بهم فيها ، فلا يكونون أئمّة في الدين. قال : فثبت بدلالة هذه الآية بطلان إمامة الفاسق ، وأنّه لا يكون خليفة. وأنّ من نصب نفسه في هذا المنصب وهو فاسق ، لم يلزم الناس اتّباعه ولا إطاعته. كما قال النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق».

قال : ودلّت الآية أيضا على أنّ الفاسق لا يكون حاكما ، وأنّ أحكامه لا تنفذ إذا ولي الحكم. وكذلك لا تقبل شهادته ولا خبره إذا أخبر عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ولا فتياه إذا كان مفتيا. وأنّه لا يقدّم للصلاة. قال : فقد حوى قوله : (لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ) هذه المعاني كلّها.

قال : ومن الناس من يظنّ أنّ مذهب أبي حنيفة تجويز إمامة الفاسق وخلافته ، وأنّه يفرّق بينه

__________________

(١) الكشّاف ١ : ١٨٤.

(٢) وهذا ردّ على مذهب القائل بجواز الاقتداء بالبرّ والفاجر ، نظرا لما رووه : «صلّوا خلف كلّ برّ وفاجر». (شرح العقائد النسفيّة : ١١٥ ؛ البيهقي ٤ : ١٩ رواه مكحول عن أبي هريرة ؛ عوالي اللئالي ١ : ٣٧ / ٢٨. وسنبحث عن ذلك.

٥٦

وبين الحاكم فلا يجيز حكمه .. ذكر ذلك عن بعض المتكلّمين وهو المسمّى «زرقان»! وقد كذب في ذلك وقال بالباطل ، وليس هو أيضا ممّن تقبل حكايته.

قال : ولا فرق عند أبي حنيفة بين القاضي وبين الخليفة ، في أنّ شرط كلّ واحد منهما العدالة ، وأنّ الفاسق لا يكون خليفة ولا يكون حاكما ، كما لا تقبل شهادته ولا خبره .. وكيف يكون خليفة وروايته غير مقبولة وأحكامه غير نافذة؟!

وكيف يجوز أن يدّعى ذلك على أبي حنيفة ، وقد أكرهه ابن هبيرة في أيّام بني أميّة على القضاء وضربه فامتنع من ذلك وحبس. فلجّ ابن هبيرة وجعل يضربه كلّ يوم أسواطا ، فلمّا خيف عليه قال له الفقهاء : فتولّ شيئا من أعماله أيّ شيء كان ، حتّى يزول عنك هذا الضرب! فتولّى له عدّ أحمال التبن الذي يدخل ، فخلّاه. ثمّ دعاه المنصور إلى مثل ذلك فأبى فحبسه حتّى عدّ له اللّبن الذي كان يضرب لسور مدينة بغداد.

ومذهبه في قتال الظلمة وأئمّة الجور مشهور. وقضيّته في أمر زيد بن عليّ مشهورة. وفي حمله المال إليه وفتياه الناس سرّا في وجوب نصرته والقتال معه. وكذلك أمره مع محمّد وإبراهيم ابني عبد الله بن الحسن.

وقال لأبي إسحاق الفزاري ـ حين قال له : لم أشرت على أخي بالخروج مع إبراهيم حتّى قتل ـ قال : مخرج أخيك أحبّ إليّ من مخرجك ، وكان أبو إسحاق قد خرج إلى البصرة .. [لمعاضدة ابن الأشعث ضدّ الحجّاج](١).

عدالة ظاهرة وباطنة

قال الإمام الرازي : فإن قيل : ظاهر الآية يقتضي انتفاء كونهم ظالمين ظاهرا وباطنا ، ولا يصحّ ذلك في الأئمّة والقضاء فلو كان شرطا لم يمكن العلم بتحقّقه في أيّ إنسان مهما كان ظاهر العدالة. إذ لا يعلم سرّ القلوب إلّا الله.

قال : أمّا الشيعة الإماميّة فقد اشترطوا العصمة في الإمام ، استنادا إلى هذه الآية لظاهر الإطلاق. والعصمة : عدالة في الظاهر والباطن.

__________________

(١) أحكام القرآن لأبي بكر الجصّاص ١ : ٦٩ ـ ٧٠.

٥٧

قال : وأمّا نحن فنقول : وإن كان مقتضى الآية ـ في ظاهر إطلاقها ـ ذلك ، إلّا أنّا تركنا اعتبار الباطن [للمحذور] فتبقى العدالة الظاهرة هي المعتبرة. (١)

* * *

ولسيّدنا العلّامة الطباطبائي كلام مسهب عن مسألة «العصمة» وهي شرط في حمل رسالة الله إلى العباد.

قال : الإمام هاد يهدى بأمر ملكوتيّ ـ لم يزل يرافقه ـ لتكون الإمامة نحو ولاية على أعمال الناس ومحاولة لإيصالهم إلى المطلوب الخير. وليست مجرّد إرائة الطريق.

إنّه تعالى بيّن السبب لهذه الموهبة (الإمامة) حيث قال ـ عزّ من قائل ـ : (وَجَعَلْنا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنا لَمَّا صَبَرُوا وَكانُوا بِآياتِنا يُوقِنُونَ)(٢). وقال بشأن إبراهيم الخليل : (وَكَذلِكَ نُرِي إِبْراهِيمَ مَلَكُوتَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ)(٣). حيث اليقين عن مشاهدة الملكوت مشاهدة بعين القلب لا بالإبصار.

قال : فالإمام يجب أن يكون إنسانا ذا يقين مكشوفا له عالم الملكوت ، ومتحقّقا بكلمات من الله سبحانه. والملكوت هو الوجه الآخر الباطن من وجهي عالم الوجود. ولا سبيل إليه عن غير طريق الكشف والشهود.

قال : ومن ثمّ فإنّ الإمامة ـ لشرافتها وفخامتها ـ لا تقوم إلّا بمن كان سعيد الذات شريف المحتد. لم تدنّسه جاهليّة ولا عكر الشقاء.

أمّا المتكدّر بلوث الأنجاس والأرجاس ، والذي وهنت عزيمته عن الانحراف والانجراف ، فهذا لا يصلح للإمامة ولأن يأتمّ به الناس. وقد قال تعالى : (أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لا يَهِدِّي إِلَّا أَنْ يُهْدى فَما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ)(٤).

واستنتج أخيرا : أنّ الإمام ـ من كانت إمامته مطلقة وعامّة ـ يجب أن يكون معصوما. وأنّ الظالم لا يصلح لهذا المنصب الخطير أيّا كان ظلمه. فإنّه ظالم لنفسه ، لم يملك منعها عن الابتذال فهو بأن لا يملك منع الآخرين عن الإجرام ، أولى.

__________________

(١) التفسير الكبير ٤ : ٤٢.

(٢) السجدة ٤١ : ٢٤.

(٣) الأنعام ٦ : ٧٥.

(٤) يونس ١٠ : ٣٥.

٥٨

قال : وبهذا البيان ظهر أنّ المراد بالظالمين [المحجوزين عن نيل الإمامة] مطلق من ارتكب ظلما ، شركا فما دونه من سائر المعاصي التي توجب فسقا وخروجا عن طاعة الله.

قال : وهذا لا يفترق بين أن يكون ظالما لنفسه في الحال أو في سالف عمره قضاه في الشرك والفساد. ذلك لأنّ فسقه وتمرّده العارم في الحال أو في سالف عمره ، يكشف عن وهن في سريرته ، يسترسل مع مبتذلات الحياة حيثما أخذت به الأهواء. وهذا الضعف النفسي المشهود منه ـ في أيّ وقت من الأوقات ـ هو الذي أسقطه عن درجة الاعتبار ، بحيث لا يمكن الاعتماد عليه في تنصيبه لمثل هذا المنصب الخطير ، ألا وهي قيادة الأمّة في مهامّ أمور تعود إلى شؤون حياتهم في المعاش والمعاد. (١)

قال : وقد سئل بعض أساتيدنا رحمه‌الله عن تقريب دلالة الآية على ضرورة عصمة الإمام أي العدالة الشاملة ، فأجاب : بحسب الفرض العقلي على أربعة أصناف : صنف يكون ظالما طول حياته. وصنف يكون عادلا طول بقائه. وصنف يظلم ثمّ يؤوب. والصنف الرابع هو الذي يعود ظالما بقيّة حياته حتّى الموت.

قال : وحاش إبراهيم أن يسأل ربّه الإمامة للصنف الأوّل والأخير .. فبقي القسمان الثاني والثالث. صنف أصحاب العدل الشامل. وصنف التائب بعد الذنب المستديم.

فإذ وقع السؤال لكلا الصنفين ، فالاستثناء في الجواب إذن أخرج الصنف الثالث ، ليبقى الصنف الثاني صاحب العدل الشامل (العصمة) هو الصالح لنيل هذا المقام. (٢)

* * *

وهكذا قال الإمام الرازي بدلالة الآية على عصمة إبراهيم الخليل عصمة شاملة ؛ قال : لأنّ الإمام هو الذي يؤتمّ به ويقتدى ، فلو صدرت منه معصية لجاز الاقتداء به فيها ـ لإطلاق النصّ وعمومه ـ فيلزم منه جواز المعصية ، وهو محال ، لأنّ كونها معصية عبارة عن كونها ممنوعة. وكونه جائزا عبارة عن كونه غير ممنوع .. والجمع بينهما مستحيل. (٣)

__________________

(١) قالوا : الإمامة رياسة عامّة في أمور الدين والدنيا. قاله القاضي عضد الدين اللإيجي. (شرح المواقف للسيد شريف الجرجاني ٨ : ٣٤٥ ؛ شرح المقاصد لسعد الدين التفتازاني ٥ : ٢٣٤).

(٢) الميزان ١ : ٢٧٥ ـ ٢٧٧.

(٣) التفسير الكبير ٤ : ٤٠. المسألة الرابعة.

٥٩

قلت : وإذا كانت الإمامة المطلوبة في دعاء إبراهيم ، نفس الإمامة الممنوحة له عليه‌السلام فالكلام فيها عين الكلام في إمامة إبراهيم ، مستفادا من الآية الكريمة.

أيضا فإنّ كلامه هنا يناقض ما أسلفنا عنه بالإنكار على الشيعة حيث اعتبروا شرط العصمة في الإمام ، استنادا إلى دلالة الآية الظاهرة في الإطلاق والشمول لكنّ الرازي ـ حيث هابته سطوة الأمراء الحاكمين في زمانه ، وهكذا سلفهم الطغاة العصاة الظالمون ـ عرّج بكلامه ولواه إلى حيث يهديه الاتّقاء من العتاة وشرور غوغاء العوام. فقال : إنّ واقعنا المرير جعلنا نلوي بوجه الآية إلى حيث خلاف ظاهرها الصريح؟! (١)

عصمة أم عدالة شاملة؟

نعم كانت العصمة ـ وهي عناية ملكوتيّة فائضة ـ شرطا عند أصحابنا الإماميّة في الإمام الأصل ، الذي يتعيّن بالنصّ (٢) ، وهو النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والأئمّة الاثنا عشر من عترته الطيّبة عليهم‌السلام ، هذا في عصر الظهور.

أمّا عصر الغيبة وفقد إمام ظاهر مبسوط اليد ، منصوص عليه بالنصّ الخاصّ ، فالشرط هي العدالة الشاملة ، والتي يكشفها الاتّزان في السلوك في خلواته وفي الجلوات. وهذا كما جاء في حديث الإمام أبي محمّد العسكري عليه‌السلام. فقد جاء الشرط للمرجعيّة العامّة في شؤون الدين والدنيا أن يكون :

[٢ / ٣٢٢٣] «صائنا لنفسه ، حافظا لدينه ، مخالفا على هواه ، مطيعا لأمر مولاه» (٣).

هذه هي العدالة الشاملة للاتّزان النفسي والاعتدال في السلوك ، الأمر الذي نشترطه فحسب في «وليّ أمر المسلمين» فيمن عدا الأئمّة المعصومين.

__________________

(١) المصدر : ٤٢.

(٢) إذ لا سبيل لمعرفة مقام العصمة من غير طريق الوحي المعجز (القرآن الكريم) نصّ على عصمة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم. وأمّا الأئمّة من ذرّيته فقد نصّ كلّ سابق على اللاحق ، كما نصّ النبيّ على ولاية عليّ وهكذا كابرا بعد كابر. وكتب المسانيد متوافرة بهذه النصوص.

(٣) التفسير الموسوم باسم العسكري : ٣٠٠ ذيل الآية ٧٨ ـ ٧٩ من سورة البقرة.

٦٠