التفسير الأثري الجامع - ج ٤

الشيخ محمّد هادي معرفة

التفسير الأثري الجامع - ج ٤

المؤلف:

الشيخ محمّد هادي معرفة


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة التمهيد ـ قم
المطبعة: ستاره
الطبعة: ١
ISBN: 978-600-5079-05-0
ISBN الدورة:
978-600-5079-08-1

الصفحات: ٥٦٠

وضدّها الغضب ؛ والعلم وضدّه الجهل ؛ والفهم وضدّه الحمق ؛ والعفّة وضدّها التهتّك ؛ والزهد وضدّه الرغبة ؛ والرفق وضدّه الخرق ؛ والرهبة وضدّها الجرأة ؛ والتواضع وضدّه الكبر ؛ والتؤدة وضدّها التسرّع ؛ والحلم وضدّها السفه ؛ والصمت وضدّه الهذر ؛ والاستسلام وضده الاستكبار ؛ والتسليم وضدّه الشك ؛ والصبر وضدّه الجزع ؛ والصفح وضدّه الانتقام ؛ والغنى وضدّه الفقر ؛ والتذكّر وضدّه السهو ؛ والحفظ وضدّه النسيان ؛ والتعطّف وضدّه القطيعة ؛ والقنوع وضدّه الحرص ؛ والمؤاساة وضدّها المنع ؛ والمودّة وضدّها العداوة ؛ والوفاء وضدّه الغدر ؛ والطاعة وضدّها المعصية ؛ والخضوع وضدّه التطاول ؛ والسلامة وضدّها البلاء ؛ والحبّ وضدّه البغض ؛ والصدق وضدّه الكذب ؛ والحقّ وضدّه الباطل ؛ والأمانة وضدّها الخيانة ؛ والإخلاص وضدّه الشوب ؛ والشهامة وضدّها البلادة ؛ والفهم وضدّه الغباوة ؛ والمعرفة وضدّها الإنكار ؛ والمداراة وضدّها المكاشفة ؛ وسلامة الغيب وضدّها المماكرة ؛ والكتمان وضدّه الإفشاء ؛ والصلاة وضدّها الإضاعة ، والصوم وضدّه الإفطار ، والجهاد وضدّه النكول ؛ والحجّ وضدّه نبذ الميثاق ؛ وصون الحديث وضدّه النميمة ؛ وبرّ الوالدين وضدّه العقوق ؛ والحقيقة وضدّها الرياء ؛ والمعروف وضدّه المنكر ؛ والستر وضدّه التبرّج ، والتقيّة وضدّها الإذاعة ؛ والإنصاف وضدّه الحميّة ؛ والتهيئة (١) وضدّها البغي ؛ والنظافة وضدّها القذر ؛ والحياء وضدّها الخلع ؛ والقصد وضدّه العدوان ؛ والراحة وضدّها التعب ؛ والسهولة وضدّها الصعوبة ؛ والبركة وضدّها المحق ؛ والعافية وضدّها البلاء ؛ والقوام وضدّه المكاثرة ، والحكمة وضدّها الهواء ؛ والوقار وضدّه الخفّة ، والسعادة وضدّها الشقاوة ؛ والتوبة وضدّها الإصرار ؛ والاستغفار وضدّه الاغترار ؛ والمحافظة وضدّها التهاون ؛ والدعاء وضدّه الاستنكاف ، والنشاط وضدّه الكسل ؛ والفرح وضدّه الحزن ؛ والالفة وضدّها الفرقة ؛ والسخاء وضدّه البخل.

فلا تجتمع هذه الخصال كلّها من أجناد العقل إلّا في نبيّ أو وصيّ نبي ، أو مؤمن قد امتحن الله قلبه للإيمان ، وأمّا سائر ذلك من موالينا فإنّ أحدهم لا يخلو من أن يكون فيه بعض هذه الجنود حتّى يستكمل ، وينقى من جنود الجهل فعند ذلك يكون في الدرجة العليا مع الأنبياء والأوصياء ، وإنّما يدرك ذلك بمعرفة العقل وجنوده ، وبمجانبة الجهل وجنوده ؛ وفّقنا الله وإيّاكم لطاعته ومرضاته».

__________________

(١) التهيئة : الموافقة والمصالحة.

٣٦١

[٢ / ٤٣١٣] وعن الحسن بن عليّ بن فضّال ، عن بعض أصحابنا ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : «ما كلّم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم العباد بكنه عقله قطّ ؛ وقال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : إنّا معاشر الأنبياء أمرنا أن نكلّم الناس على قدر عقولهم».

[٢ / ٤٣١٤] وعن النوفليّ ، عن السكوني ، عن جعفر ، عن أبيه عليهما‌السلام قال : قال أمير المؤمنين عليه‌السلام : «إنّ قلوب الجهّال تستفزّها الأطماع ، وترتهنها المنى ، وتستعلقها الخدائع».

[٢ / ٤٣١٥] وعن إبراهيم بن عبد الحميد قال : قال أبو عبد الله عليه‌السلام : «أكمل الناس عقلا أحسنهم خلقا».

[٢ / ٤٣١٦] وعن أبي هاشم الجعفريّ قال : كنّا عند الرضا عليه‌السلام فتذاكرنا العقل والأدب ، فقال : «يا أبا هاشم العقل حباء من الله والأدب كلفة ، فمن تكلّف الأدب قدر عليه ، ومن تكلّف العقل لم يزدد بذلك إلّا جهلا».

[٢ / ٤٣١٧] وعن إسحاق بن عمّار ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : «قلت له : جعلت فداك إنّ لي جارا كثير الصلاة ، كثير الصدقة ، كثير الحجّ لا بأس به ، قال : فقال : يا إسحاق كيف عقله؟ قال : قلت له : جعلت فداك ليس له عقل ، قال : فقال : لا يرتفع بذلك منه».

[٢ / ٤٣١٨] وعن أبي يعقوب البغداديّ قال : قال ابن السكّيت لأبي الحسن عليه‌السلام : لماذا بعث الله موسى بن عمران عليه‌السلام بالعصا ويده البيضاء وآلة السحر؟ وبعث عيسى بآلة الطبّ؟ وبعث محمّدا صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالكلام والخطب؟ فقال أبو الحسن عليه‌السلام : «إنّ الله لمّا بعث موسى عليه‌السلام كان الغالب على أهل عصره السحر ، فأتاهم من عند الله بما لم يكن في وسعهم مثله ، وما أبطل به سحرهم ، وأثبت به الحجّة عليهم ، وإنّ الله بعث عيسى عليه‌السلام في وقت قد ظهرت فيه الزمانات (١) واحتاج الناس إلى الطبّ ، فأتاهم من عند الله بما لم يكن عندهم مثله ، وبما أحيى لهم الموتى ، وأبرء الأكمه والأبرص بإذن الله ، وأثبت به الحجّة عليهم.

وإنّ الله بعث محمّدا صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في وقت كان الغالب على أهل عصره الخطب والكلام ـ وأظنّه قال :

__________________

(١) «الزمانات» الآنات الواردة على بعض الأعضاء فيمنعها عن الحركة كالفالج واللقوة ، ويطلق المزمن على مرض طال زمانه.

٣٦٢

الشعر ـ فأتاهم من عند الله من مواعظه وحكمه ما أبطل به قولهم ، وأثبت به الحجّة عليهم ؛ قال : فقال ابن السكّيت : تالله ما رأيت مثلك قطّ فما الحجّة على الخلق اليوم؟ قال : فقال عليه‌السلام : العقل ، يعرف به الصادق على الله فيصدّقه والكاذب على الله فيكذّبه» ؛ قال : فقال ابن السكّيت : هذا والله هو الجواب.

[٢ / ٤٣١٩] وعن ابن أبي يعفور ، عن مولى لبني شيبان ، عن أبي جعفر عليه‌السلام قال : «إذا قام قائمنا وضع الله يده على رؤوس العباد فجمع بها عقولهم وكملت به أحلامهم».

[٢ / ٤٣٢٠] وعن عليّ بن إبراهيم عن عبد الله بن سنان ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : «حجّة الله على العباد النبيّ ، والحجّة فيما بين العباد وبين الله العقل».

[٢ / ٤٣٢١] وعن أحمد بن محمّد مرسلا قال : قال أبو عبد الله : «دعامة الإنسان العقل ، والعقل منه الفطنة والفهم والحفظ والعلم ؛ وبالعقل يكمّل ، وهو دليله ومبصره ومفتاح أمره ، فإذا كان تأييد عقله من النور كان عالما ، حافظا ، ذاكرا فطنا ، فهما ، فعلم بذلك كيف ولم وحيث ، وعرف من نصحه ومن غشّه ، فإذا عرف ذلك عرف مجراه وموصوله ومفصوله ، وأخلص الوحدانيّة لله ، والإقرار بالطاعة ، فإذا فعل ذلك كان مستدركا لما فات ، وواردا على ما هو آت ، يعرف ما هو فيه ، ولأيّ شيء هو ههنا ، ومن أين يأتيه ، وإلى ما هو صائر ؛ وذلك كلّه من تأييد العقل».

[٢ / ٤٣٢٢] وعن إسماعيل بن مهران ، عن بعض رجاله ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : «العقل دليل المؤمن».

[٢ / ٤٣٢٣] وعن السريّ بن خالد ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «يا عليّ لا فقر أشدّ من الجهل ، ولا مال أعود من العقل».

[٢ / ٤٣٢٤] وعن إسحاق بن عمّار قال : قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام : «الرجل آتيه وأكلّمه ببعض كلامي فيعرفه كلّه ، ومنهم من آتيه فاكلّمه بالكلام فيستوفي كلامي كلّه ثمّ يردّه عليّ كما كلّمته ، ومنهم من آتيه فاكلّمه فيقول : أعد عليّ؟! فقال : يا إسحاق! وما تدري لم هذا؟ قلت : لا ؛ قال : الّذي تكلّمه ببعض كلامك فيعرفه كلّه فذاك من عجنت نطفته بعقله ، وأمّا الّذي تكلّمه فيستوفي كلامك ثمّ يجيبك على كلامك ، فذاك الّذي ركّب عقله فيه في بطن أمّه ، وأمّا الّذي تكلّمه بالكلام فيقول : أعد

٣٦٣

عليّ ، فذاك الّذي ركّب عقله فيه بعد ما كبر ، فهو يقول لك : أعد عليّ».

[٢ / ٤٣٢٥] وعن أحمد بن محمّد ، عن بعض من رفعه ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «إذا رأيتم الرجل كثير الصلاة كثير الصيام فلا تباهوا به حتّى تنظروا كيف عقله؟»

[٢ / ٤٣٢٦] وعن مفضّل بن عمر ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : «يا مفضّل لا يفلح من لا يعقل ، ولا يعقل من لا يعلم ، وسوف ينجب من يفهم ، ويظفر من يحلم ، والعلم جنّة ، والصدق عزّ ، والجهل ذلّ ، والفهم مجد ، والجود نجح ، وحسن الخلق مجلبة للمودّة ، والعالم بزمانه لا تهجم عليه اللوابس ، والحزم مسائة الظنّ ، وبين المرء والحكمة نعمة العالم ، والجاهل شقي بينهما ، والله وليّ من عرفه وعدوّ من تكلّفه ، والعاقل غفور والجاهل ختور. وإن شئت أن تكرم فلن وإن شئت أن تهان فاخشن ، ومن كرم أصله لان قلبه ، ومن خشن عنصره غلظ كبده ، ومن فرّط تورّط ، ومن خاف العاقبة تثبّت عن التوغّل فيما لا يعلم ، ومن هجم على أمر بغير علم جدع أنف نفسه ، ومن لم يعلم لم يفهم ، ومن لم يفهم لم يسلم ، ومن لم يسلم لم يكرم ، ومن لم يكرم يهضم ، ومن يهضم كان ألوم ، ومن كان كذلك كان أحرى أن يندم».

[٢ / ٤٣٢٧] وعن محمّد بن يحيى ، رفعه ، قال : قال أمير المؤمنين عليه‌السلام : «من استحكمت فيه خصلة من خصال الخير احتملته عليها واغتفرت فقد ما سواها ، ولا اغتفر فقد عقل ولا دين ، لأنّ مفارقة الدين مفارقة الأمن فلا يتهنّأ بحياة مع مخافة ، وفقد العقل فقد الحياة ، ولا يقاس إلّا بالأموات».

[٢ / ٤٣٢٨] وعن ميمون بن عليّ ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : قال أمير المؤمنين عليه‌السلام : «إعجاب المرء بنفسه دليل على ضعف عقله».

[٢ / ٤٣٢٩] وعن الحسن بن الجهم ، عن أبي الحسن الرضا عليه‌السلام قال : ذكر عنده أصحابنا وذكر العقل قال : فقال عليه‌السلام : «لا يعبأ بأهل الدين ممّن لا عقل له ، قلت : جعلت فداك إنّ ممّن يصف هذا الأمر قوما لا بأس بهم عندنا وليست لهم تلك العقول. فقال : ليس هؤلاء ممّن خاطب الله ، إنّ الله خلق العقل فقال له : أقبل فأقبل ، وقال له : أدبر فأدبر ، فقال : وعزّتي وجلالي ما خلقت شيئا أحسن منك أو أحبّ إليّ منك ، بك آخذ وبك أعطي».

٣٦٤

[٢ / ٤٣٣٠] وعن أحمد بن محمّد بن خالد ، عن أبيه ، عن بعض أصحابنا ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : «ليس بين الإيمان والكفر إلّا قلّة العقل. قيل : وكيف ذاك يا ابن رسول الله؟ قال : إنّ العبد يرفع رغبته إلى مخلوق فلو أخلص نيّته لله لأتاه الّذي يريد في أسرع من ذلك».

[٢ / ٤٣٣١] وعن يحيى بن عمران ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : كان أمير المؤمنين عليه‌السلام يقول : «بالعقل استخرج غور الحكمة ، وبالحكمة استخرج غور العقل ، وبحسن السياسة يكون الأدب الصالح.

قال : وكان يقول : التفكّر حياة قلب البصير كما يمشي الماشي في الظلمات بالنور بحسن التخلّص وقلّة التربّص».

[٢ / ٤٣٣٢] وعن الحسن بن عمّار ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام في حديث طويل : «أنّ أوّل الأمور ومبدأها وقوّتها وعمارتها الّتي لا ينتفع شيء إلّا به ، العقل الّذي جعله الله زينة لخلقه ونورا لهم ، فبالعقل عرف العباد خالقهم ، وأنّهم مخلوقون ، وأنّه المدبّر لهم ، وأنّهم المدبّرون ، وأنّه الباقي وهم الفانون ؛ واستدلّوا بعقولهم على ما رأوا من خلقه ، من سمائه وأرضه ، وشمسه وقمره ، وليله ونهاره ، وبأنّ له ولهم خالقا ومدبّرا لم يزل ولا يزول ، وعرفوا به الحسن من القبيح ، وأنّ الظلمة في الجهل ، وأنّ النور في العلم ، فهذا ما دلّهم ، عليه العقل.

قيل له : فهل يكتفي العباد بالعقل دون غيره؟ قال : إنّ العاقل لدلالة عقله الّذي جعله الله قوامه وزينته وهدايته ، علم أنّ الله هو الحقّ ، وأنّه هو ربّه ، وعلم أنّ لخالقه محبّة ، وأنّ له كراهية ، وأنّ له طاعة ، وأنّ له معصية ، فلم يجد عقله يدلّه على ذلك ، وعلم أنّه لا يوصل إليه إلّا بالعلم وطلبه ، وأنّه لا ينتفع بعقله ، إن لم يصب ذلك بعلمه ، فوجب على العاقل طلب العلم والأدب الّذي لا قوام له إلّا به».

[٢ / ٤٣٣٣] وعن حمران وصفوان بن مهران الجمّال قالا : سمعنا أبا عبد الله عليه‌السلام يقول : «لا غنى أخصب من العقل ، ولا فقر أحطّ من الحمق ، ولا استظهار في أمر بأكثر من المشورة فيه» (١).

__________________

(١) الكافي ١ : ١٠ ـ ٢٩ ، كتاب العقل والجهل من رقم ١ ، إلى ٣٤.

٣٦٥

قال تعالى :

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ (١٧٢) إِنَّما حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَما أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (١٧٣))

هنا وبعد أن وجّه دعوته إلى الناس جميعا ، ليتمتّعوا بالحلال من العيشة الطيّبة ، وأن يبتعدوا عن اتّباع خطوات الشيطان الآخذة في مسيرة الضلال .. بعد ذلك يأتي دور توجيه الخطاب إلى الجماعة المسلمة ، فليعلموا أنّ الحلال من العيش ما أحلّته الشريعة ، والحرام ما حرّمه الله بالنصّ والتعيين ، لا الأهواء والمعاذير الكاذبة الّتي كان يرتكبها اليهود ومن حذا حذوهم من المشركين.

يقول تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) خاطبهم بالصفة الّتي تربطهم بالله سبحانه ، وتوحي إليهم أن يتلقّوا منه الشرائع ، ويذكّرهم بما أنعم عليهم من طيّبات الرزق ، ولم يمنعهم طيّبا من الطيّبات ، وأنّه إذا حرّم عليهم شيئا فلأنّه غير طيّب ، لا لشيء سواه. وعليه ، فكلوا من رزق الله واشكروا له. لأنّ الله يحبّ أن يؤخذ برخصه ، كما يحبّ أن يؤخذ بعزائمه .. كما في الحديث (١). والأخذ بالرّخص والعزائم ، دليل على الإيمان الصادق والاستسلام لوجهه تعالى الكريم.

ومن ثمّ قال : (إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ) يعني : هذا دليل صدق نيّاتكم.

نعم (إِنَّما حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَما أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللهِ) أي قدّم قربانا لغير الله من الأصنام وغيرها.

والميتة هي : كلّ حيوان مات من غير تذكية شرعيّة.

والدم المتميّز عن اللحم ، فإنّ ما يختلط باللحم معفوّ عنه.

ولحم الخنزير وشحمه أيضا وجميع أجزائه ، وخصّ اللحم بالذكر ، لأنّه أظهر الأجزاء الّتي

__________________

(١) المرويّ عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : «إنّ الله يحبّ أن يؤخذ برخصه كما يحبّ أن يؤخذ بعزائمه». رواه النعماني في باب ما ورد من صنوف آيات القرآن. (راجع : البحار ٩٠ : ٢٩ ـ ٣٠).

٣٦٦

ينتفع بها.

وتحريم هذه الأشياء ليس عن اعتباط ، وإنّما هو عن مضرّة فادحة تؤثّر على النفس فضلا عن إضرارها للجسم. كما :

[٢ / ٤٣٣٤] قال الإمام عليّ بن موسى الرضا عليه‌السلام : «وكلّ أمر يكون فيه الفساد ممّا قد نهي عنه من جهة أكله وشربه ولبسه ونكاحه وإمساكه لوجه الفساد ، مثل الميتة والدم ولحم الخنزير ، والربا وجميع الفواحش ولحوم السباع والخمر وما أشبه ذلك ، فحرام ضارّ للجسم وفساد للنفس» (١).

نعم ليس يقتصر ضرر ما حرّم الله على خسائر مادّيّة دنيويّة فحسب ، بل يعمّ جانب النفس الروحي والفكري العقلاني ، ولعلّه الأهمّ لمن يحاول الصعود على مدارج الكمال ، والحصول على سلامة القلب وطهارة الروح وخلوص الضمير ، والتوجّه إلى البارىء الحكيم.

ومن هنا تتجلّى علاقة التحليل والتحريم في هذه الآيات ، بالحديث عن وحدانيّة الله وخلوص عبادته عن الشوائب والأكدار.

* * *

ومع ذلك فإنّ الإسلام يحسب حساب الضرورات ـ حسب مبدء رحمته الواسعة ـ (فَمَنِ اضْطُرَّ) إلى تناول شيء ممّا حرّمه الله (غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ).

نعم ، الاضطرار إلى تناول الحرام إنّما يرفع العقاب ، إذا لم يكن عن ابتغاء للحرام ، ولا تجاوز عن مقدار الضرورة.

أمّا الباغي الّذي مهّد السبيل للوقوع في الاضطرار ، المبيح لارتكاب الحرام ، فهو وإن كان قد أجيز له التناول ، ولكن من غير أن ترتفع عنه عقوبة ارتكاب الحرام ، لأنّه اضطرار عن اختيار وعن ابتغاء للحرام.

وكذلك العادي ، الّذي تجاوز حدّ الضرورة في تناول الحرام. فالمغفرة والرحمة لا تشملان هذين ، بعد سوء نيّتهما.

[٢ / ٤٣٣٥] أخرج أحمد ومسلم والترمذي وابن المنذر وابن أبي حاتم عن أبي هريرة قال : قال

__________________

(١) فقه الرضا : ٢٥٠ ؛ مستدرك الوسائل ١٣ : ٦٥.

٣٦٧

رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «إنّ الله طيّب لا يقبل إلّا طيّبا ، وإنّ الله أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين ، فقال : (يا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّباتِ وَاعْمَلُوا صالِحاً إِنِّي بِما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ)(١) وقال : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ). ثمّ ذكر : الرجل يطيل السفر ، أشعث أغبر يمدّ يديه إلى السماء : يا ربّ يا ربّ ، ومطعمه حرام ، ومشربه حرام ، وملبسه حرام ، وغذّي بالحرام ، فأنّى يستجاب لذلك؟!» (٢).

[٢ / ٤٣٣٦] وأخرج ابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير : (كُلُوا مِنَ الطَّيِّباتِ) قال : من الحلال (٣).

[٢ / ٤٣٣٧] وأخرج ابن جرير عن الضحاك في قوله : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) يقول : صدّقوا (كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ) يعني : اطعموا من حلال الرزق الّذي أحللناه لكم ، فطاب لكم بتحليلي إيّاه لكم ممّا كنتم تحرّمونه أنتم ، ولم أكن حرّمته عليكم من المطاعم والمشارب (وَاشْكُرُوا لِلَّهِ) يقول : أثنوا على الله بما هو أهل له على النعم الّتي رزقكم وطيّبها لكم (٤).

[٢ / ٤٣٣٨] وأخرج عبد بن حميد عن أبي أمية في قوله : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ) قال : فلم يوجد من الطّيّبات شيء أحلّ ولا أطيب من الولد وماله (٥).

[٢ / ٤٣٣٩] وأخرج ابن أبي شيبة وأحمد ومسلم عن أنس قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «إنّ الله ليرضى عن العبد أن يأكل الأكلة أو يشرب الشربة فيحمد الله عليها» (٦).

[٢ / ٤٣٤٠] وروي عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : «يقول الله : إنّي والجنّ والإنس في نبأ عظيم ؛ أخلق ويعبد

__________________

(١) المؤمنون ٢٣ : ٥١.

(٢) الدرّ ١ : ٤٠٦ ؛ مسند أحمد ٢ : ٣٢٨ ؛ مسلم ٣ : ٨٥ ـ ٨٦ ، كتاب الزكاة ، باب قبول الصدقه من الكسب الطيّب وتربيتها ؛ الترمذي ٤ : ٢٨٨ / ٤٠٧٤ ، تفسير سورة البقرة ؛ أبو الفتوح ٢ : ٢٩٣ ؛ الثعلبي ٢ : ٤٣ ، البغوي ١ : ٢٠٠ / ١٢١ ؛ كنز العمّال ٢ : ٨١ / ٣٢٣٦ ؛ القرطبي ٢ : ٢١٥.

(٣) الدرّ ١ : ٤٠٦ ؛ الوسيط ١ : ٢٥٥ ـ ٢٥٦ ، قال الواحدي : قال المفسّرون هذا أمر إباحة ، وأراد بالطيّبات : الحلالات من الحرث والأنعام.

(٤) الدرّ ١ : ٤٠٦ ـ ٤٠٧ ؛ الطبري ٢ : ١١٤ / ٢٠٤١.

(٥) الدرّ ١ : ٤٠٧.

(٦) الدرّ ١ : ٤٠٧ ؛ المصنّف ٥ : ٥٦٣ / ١ ، كتاب الأطعمة ، باب ٢٦ (في التسمية على الطعام) ؛ مسند أحمد ٣ : ١١٧ ؛ مسلم ٨ : ٨٧ ، كتاب الذكر والدعاء ؛ الترمذي ٣ : ١٧٢ / ١٨٧٦ ، باب ١٨ ؛ النسائي ٤ : ٢٠٢ / ٦٨٩٩.

٣٦٨

غيري وأرزق ويشكر غيري؟!» (١)

[٢ / ٤٣٤١] وأخرج الترمذي عن أبي حسان ، قال سمعت سعيد بن المسيب يقول : إنّ الله طيّب يحبّ الطيّب ، نظيف يحبّ النظافة ، كريم يحبّ الكرم ، جواد يحبّ الجود ، فنظّفوا ، ولا تشبّهوا باليهود. قال : فذكرت ذلك لمهاجر بن مسمار ، فقال حدّثنيه عامر بن سعد عن أبيه ، عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مثله ، إلّا أنّه قال : نظّفوا أفنيتكم! (٢)

[٢ / ٤٣٤٢] وأخرج ابن سعد عن عمر بن عبد العزيز أنّه قال يوما : إنّي أكلت حمّصا وعدسا فنفخني. فقال له بعض القوم : يا أمير المؤمنين إنّ الله يقول في كتابه : (كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ) فقال عمر : هيهات ، ذهبت به إلى غير مذهبه ، إنّما يريد به طيّب الكسب ولا يريد به طيّب الطعام (٣)

* * *

[٢ / ٤٣٤٣] وروى ابن بابويه الصدوق بإسناده إلى محمّد بن عذافر عن بعض رجاله عن أبي جعفر عليه‌السلام قال : قلت له : لم حرّم الله الخمر والميتة والدم ولحم الخنزير؟ فقال : إنّ الله تبارك وتعالى لم يحرّم ذلك على عباده وأحلّ لهم ما سوى ذلك من رغبة فيما أحلّ لهم ، ولا زهد فيما حرّم عليهم ، ولكنّه خلق الخلق فعلم ما يقوم به أبدانهم وما يصلحهم ، فأحلّ لهم وأباحه ، وعلم ما يضرّهم فنهاهم عنه وحرّمه عليهم. ثمّ أحلّ للمضطرّ في الوقت الّذي لا يقوم بدنه إلّا به ، فأمره أن ينال منه بقدر البلغة لا غير ذلك ، ثمّ قال : أمّا الميتة فإنّه لم ينل أحد منها إلّا ضعف بدنه ، وأوهنت قوّته ، وانقطع نسله ، ولا يموت آكل الميتة إلّا فجأة ، وأمّا الدم فإنّه يورث أكله الماء الأصفر ويورث الكلب وقساوة القلب وقلّة الرأفة والرحمة ، حتّى لا يؤمن على حميمه ولا يؤمن على من صحبه .. (٤).

[٢ / ٤٣٤٤] وروى بالإسناد إلى الإمام أبي عبد الله الصادق عليه‌السلام قال : «عشرة أشياء من الميتة ذكيّة :

__________________

(١) الثعلبي ٢ : ٤٣ ؛ أبو الفتوح ٢ : ٢٩٣ ؛ كنز العمّال ١٦ : ٣ / ٤٣٦٧٤ ؛ الشعب ٤ : ١٣٤ / ٤٥٦٣ ، عن أبي الدرداء عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ؛ نوادر الأصول ٢ : ٣٠١.

(٢) الترمذي ٤ : ١٩٨ / ٢٩٥١ ، باب ٧٤ ؛ أبو الفتوح ٢ : ٢٩٣.

(٣) الدرّ ١ : ٤٠٦ ؛ الطبقات ٥ : ٣٦٧ ، باب عمر بن عبد العزيز.

(٤) العلل ٢ : ٤٨٣ ـ ٤٨٤ / ١ و ٢ ، باب ٢٣٧ ؛ الأمالي للصدوق : ٧٦٣ ـ ٧٦٤ / ١٠٢٧ ـ ١ ، المجلس ٩٥ ؛ البحار ٦٢ : ١٣٤ ـ ١٣٥ و ١٦٣ ـ ١٦٤.

٣٦٩

العظم والشعر والصوف والريش والقرن والحافر والبيض والأنفحة واللبن والسنّ» (١).

[٢ / ٤٣٤٥] وروى الكليني بالإسناد إلى عليّ بن أبي المغيرة قال : قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام : «جعلت فداك ، الميتة ينتفع منها بشيء؟ قال : لا ، قلت : بلغنا أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مرّ بشاة ميتة ، فقال : ما كان على أهل هذه الشاة إذ لم ينتفعوا بلحمها أن ينتفعوا بإهابها؟ (٢) قال : تلك شاة كانت لسودة بنت زمعة زوج النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وكانت شاة مهزولة لا ينتفع بلحمها ، فتركوها حتّى ماتت ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : ما كان على أهلها إذ لم ينتفعوا بلحمها أن ينتفعوا بإهابها أي تذكى» (٣).

[٢ / ٤٣٤٦] وأخرج أحمد وابن ماجة والدار قطني والحاكم وابن مردويه عن ابن عمر قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «أحلّت لنا ميتتان ودمان : السمك والجراد ، والكبد والطحال» (٤).

* * *

[٢ / ٤٣٤٧] وأخرج ابن المنذر عن ابن عبّاس في قوله : (وَما أُهِلَ) قال : ذبح (٥).

[٢ / ٤٣٤٨] وأخرج ابن أبي حاتم عن مجاهد : (وَما أُهِلَ) قال : ما ذبح لغير الله (٦).

[٢ / ٤٣٤٩] وأخرج ابن جرير عن ابن عبّاس قال : يعني ما أهلّ للطواغيت (٧).

[٢ / ٤٣٥٠] وعن قتادة في قوله : (وَما أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللهِ) قال : ما ذبح لغير الله ممّا لم يسمّ عليه (٨).

__________________

(١) الخصال : ٤٣٤ / ١٩ ، باب العشرة ؛ الفقيه ٣ : ٣٤٧ / ٤٢١٧ ؛ البحار ٦٣ : ٤٨ / ١.

(٢) الإهاب : الجلد.

(٣) الكافي ٣ : ٣٩٨ / ٦ ، و ٦ : ٢٥٩ / ٧.

(٤) الدرّ ١ : ٤٠٧ ؛ مسند أحمد ٢ : ٩٧ ، بلفظ : عن ابن عمر قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «أحلّت لنا ميتتان ودمان ، فأمّا الميتتان فالحوت والجراد ، وأمّا الدمان فالكبد والطحال» ؛ ابن ماجة ٢ : ١١٠٢ / ٣٣١٤ ، باب ٣١ ؛ الدار قطني ٤ : ١٨٤ ؛ الثعلبي ٢ : ٤٤ ؛ البغوي ١ : ٢٠٠ / ١٢٢ ؛ كنز العمّال ١٥ : ٢٧٧ / ٤٠٩٧٢.

(٥) الدرّ ١ : ٤٠٧ ؛ الطبري ٢ : ١١٧ / ٢٠٤٦ ، بلفظ : (وَما أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللهِ) يعني ما أهلّ للطواغيت كلّها يعني ما ذبح لغير الله من أهل الكفر غير اليهود والنصارى ؛ أبو الفتوح ٢ : ٢٩٨ ؛ الثعلبي ٢ : ٤٤ ، نقلا عن مجاهد وقتادة والضحّاك أيضا ؛ الوسيط ١ : ٢٥٧ ، عن ابن عبّاس وجميع المفسرين ، بلفظ : ما ذبح للأصنام وذكر عليه غير اسم الله.

(٦) ابن أبي حاتم ١ : ٢٨٣ / ١٥١٩ ، وزاد : وروي عن الحسن وقتادة والضحّاك والزهري ، نحو ذلك ؛ الطبري ٢ : ١١٧ / ٢٠٤٣ ؛ التبيان ٢ : ٨٥ ؛ مجمع البيان ١ : ٤٧٦ ؛ الثعلبي ٢ : ٤٤.

(٧) الدرّ ١ : ٤٠٧ ؛ الطبري ٢ : ١١٧ / ٢٠٤٤ ؛ الثعلبي ٢ : ٤٤ ؛ البيهقي ٩ : ٢٤٩ ، وفيه : الطواغيت كلّها.

(٨) عبد الرزّاق ١ : ٣٠١ / ١٥٥ ؛ التبيان ٢ : ٨٥ ؛ مجمع البيان ١ : ٤٧٦.

٣٧٠

[٢ / ٤٣٥١] وأخرج ابن أبي حاتم عن أبي العالية : (وَما أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللهِ) يقول : ما ذكر عليه اسم غير الله (١).

[٢ / ٤٣٥٢] وعن الزهري قال : الإهلال أن يقولوا : باسم المسيح (٢).

* * *

[٢ / ٤٣٥٣] وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عبّاس في قوله : (فَمَنِ اضْطُرَّ) يعني إلى شيء ممّا حرّم (غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ) يقول : من أكل شيئا من هذه وهو مضطرّ فلا حرج ، ومن أكله وهو غير مضطرّ فقد بغى واعتدى (٣).

[٢ / ٤٣٥٤] وأخرج ابن أبي حاتم وابن المنذر عن ابن عبّاس في قوله : (غَيْرَ باغٍ) قال : في الميتة.

(وَلا عادٍ) قال : في الأكل (٤).

[٢ / ٤٣٥٥] وأخرج سفيان بن عيينة وآدم بن أبي إياس وسعيد بن منصور وابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ والبيهقي في المعرفة وفي السنن عن مجاهد في قوله : (غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ) قال : غير باغ على المسلمين ولا متعدّ عليهم ، من خرج يقطع الرحم ، أو يقطع السبيل ، أو يفسد في الأرض ، أو مفارقا للجماعة والأئمّة ، أو خرج في معصية الله ، فاضطرّ إلى الميتة لم تحلّ له (٥).

[٢ / ٤٣٥٦] وهكذا روى ابن بابويه بإسناده إلى البزنطي عمّن ذكره عن أبي عبد الله عليه‌السلام في قول

__________________

(١) الدرّ ١ : ٤٠٧ ؛ ابن أبي حاتم ١ : ٢٨٣ / ١٥١٨ ؛ وزاد : وروي عن الربيع نحو ذلك ؛ الثعلبي ٢ : ٤٤ ؛ البغوي ١ : ٢٠١ ؛ أبو الفتوح ٢ : ٢٩٨.

(٢) عبد الرزّاق ١ : ٣٠١ / ١٥٦ ؛ الثعلبي ٢ : ٤٤ ـ ٤٥.

(٣) الدرّ ١ : ٤٠٧ ؛ ابن أبي حاتم ١ : ٢٨٣ / ١٥٢٠.

(٤) الدرّ ١ : ٤٠٧ ؛ ابن أبي حاتم ١ : ٢٨٤ بعد رقم ١٥٢٧ ؛ ابن كثير ١ : ٢١١ ؛ البيهقي ٣ : ١٥٦.

(٥) الدرّ ١ : ٤٠٨ ؛ ابن أبي حاتم ١ : ٢٨٣ و ٢٨٤ / ١٥٢٢ ؛ الطبري ٢ : ١١٨ / ٢٠٥٢ ؛ الثعلبي ٢ : ٤٥ ـ ٤٦ ؛ القرطبي ٢ : ٢٣١ ، نقلا عن مجاهد وسعيد بن جبير وغيرهما. بلفظ : (غَيْرَ باغٍ) على المسلمين (وَلا عادٍ) عليهم ؛ مجمع البيان ١ : ٤٧٦ ، بلفظ : (غَيْرَ باغٍ) على إمام المسلمين (وَلا عادٍ) بالمعصية طريق المحقّين وهو المرويّ عن أبي جعفر وأبي عبد الله وعن مجاهد وسعيد بن جبير ؛ البغوي ١ : ٢٠١ ، بلفظ : (غَيْرَ باغٍ) أي : غير خارج على السلطان (وَلا عادٍ) أي : ولا متعدّ عاص بسفره بأن خرج لقطع الطريق أو الفساد في الأرض وهو قول ابن عبّاس ومجاهد وسعيد بن جبير.

٣٧١

الله عزوجل : (فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ) قال : الباغي ، الّذي يخرج على الإمام ، والعادي الّذي يقطع الطريق ، لا يحلّ لهما الميتة (١).

[٢ / ٤٣٥٧] وروى بالإسناد إلى عبد العظيم بن عبد الله الحسني عن أبي جعفر الجواد عليه‌السلام قال : «قلت : يا ابن رسول الله فما معنى قوله عزوجل : (فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ؟) قال : العادي السارق ، والباغي الّذي يبغي الصيد بطرا أو لهوا لا ليعود به على عياله ، ليس لهما أن يأكلا الميتة إذا اضطرّا ، هي حرام عليهما في حال الاضطرار كما هي حرام عليهما في حال الاختيار» (٢).

[٢ / ٤٣٥٨] وروى الكليني بالإسناد إلى حمّاد بن عثمان عن أبي عبد الله عليه‌السلام في قول الله عزوجل : (فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ) قال : «الباغي باغي الصيد ، والعادي السارق ، ليس لهما أن يأكلا الميتة إذا اضطرّ إليها ، هي حرام عليهما ، ليس هي عليهما كما هي على المسلمين ، وليس لهما أن يقصرا في الصلاة» (٣).

[٢ / ٤٣٥٩] وعن حمّاد بن عثمان عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : «الباغي الخارج على الإمام ، والعادي اللصّ» (٤).

[٢ / ٤٣٦٠] وروى العيّاشيّ عن محمّد بن إسماعيل رفعه إلى أبي عبد الله عليه‌السلام في قوله : (فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ) قال : «الباغي الظالم ، والعادي الغاصب» (٥).

__________________

(١) المعاني : ٢١٣ ـ ٢١٤ / ١ ، باب معنى الباغي والعادي ؛ البرهان ١ : ٣٨٠ / ٢ ، وزاد : ويروى أنّ العادي اللصّ والباغي الّذي يبغي الصيد لا يجوز لهما التقصير في السفر ولا أكل الميتة في حال الاضطرار ؛ الكافي ٦ : ٢٦٥ / ١ ، كتاب الأطعمة ، باب ذكر الباغي والعادي ؛ البحار ٦٢ : ١٣٦ و ١٠٤ ، أبواب الصيد والذبائح و... باب ١.

(٢) الفقيه ٣ : ٣٤٤ / ٤٢١٣ ؛ التهذيب ٩ : ٨٣ ـ ٨٤ / ٣٥٤ ـ ٨٩ ، البحار ٦٢ : ١٤٨ / ١٩ ، أبواب الصيد والذبائح و....

(٣) نور الثقلين ١ : ١٥٥ ؛ الكافي ٣ : ٤٣٨ / ٧ ؛ التهذيب ٣ : ٢١٧ ـ ٢١٨ / ٥٣٩ ـ ٤٨.

(٤) البرهان ١ : ٣٨٠ / ٦ ؛ العيّاشيّ ١ : ٩٣ / ١٥٥ ؛ البحار ٦٢ : ١٣٧ / ٩ ، أبواب الصيد والذبائح و... ، باب ١ ، قال العلّامة المجلسي في ذيل الرواية : «الّذي يتلخّص من مجموع الأخبار هو : أنّ السفر الّذي لا يجوز فيه قصر الصلاة والصوم للمعصية والعدوان ، لا يحلّ أكل الميتة إذا اضطرّ فيه إليها».

(٥) البرهان ١ : ٣٨٠ / ٣ ؛ العيّاشيّ ١ : ٩٣ / ١٥٢.

٣٧٢

وقفة قصيرة

[٢ / ٤٣٦١] قال الطبرسي : هنا ثلاثة أقوال ، أحدها : (غَيْرَ باغٍ) اللذّة (وَلا عادٍ) سدّ الجوعة. عن الحسن وقتادة ومجاهد.

[٢ / ٤٣٦٢] وثانيهما : غير باغ في الإفراط ولا عاد في التقصير. عن الزجّاج.

[٢ / ٤٣٦٣] وثالثها : غير باغ على إمام المسلمين ولا عاد بالمعصية طريق المحقّين.

قال : وهذا القول الأخير هو المرويّ عن الإمامين الباقر والصادق عليهما‌السلام وعن مجاهد وسعيد بن جبير.

واعترض عليّ بن عيسى الرمّاني : وهذا القول ـ الأخير ـ لا يسوغ ، لأنّه تعالى لم يبح لأحد قتل نفسه ، بل حظر عليه ذلك. والتعريض للقتل قتل في حكم الدين. ولأنّ الرخصة إنّما كانت لأجل المجاعة المتلفة ، لا لأجل الخروج في طاعة وفعل إباحة.

قال الشيخ الطوسي : وهذا الّذي ذكره غير صحيح لأنّ من بغى على إمام عادل فأدّى ذلك إلى تلفه ، فهو المعرّض نفسه للقتل ، كما لو قتل في المعركة ، فإنّه المهلك لها ، فلا يجوز لذلك استباحة ما حرّم الله ، كما لا يجوز له أن يستبقي نفسه بقتل غيره من المسلمين ، وما قاله من أنّ الرخصة لمكان المجاعة ، لا يسلم إطلاقه ، بل يقال : إنّما ذلك للمجاعة الّتي لم يكن هو المعرّض نفسه لها ، فأمّا إذا عرّض نفسه لها ، فلا يجوز له استباحة المحرّم ، كما قلنا في قتل نفس الغير ، ليدفع عن نفسه القتل (١).

* * *

وقال الشيخ محمّد عبده : لا خلاف بين المسلمين في أنّ العاصي كغيره يحرم عليه إلقاء نفسه في التهلكة ، ويجب عليه توقّي الضرر ، ويجب علينا دفعه عنه إن استطعنا ، فكيف لا تتناوله إباحة الرخص! ثمّ إنّ المناسب للسياق أن تحدّد الضرورة الّتي تجيز أكل المحرّم ، وتفسير الباغي والعادي بما ذكرنا (٢) هو المحدّد لها ، وهو الموافق للّغة ، كقوله تعالى حكاية عن إخوة يوسف : (ما نَبْغِي)(٣).

__________________

(١) التبيان ٢ : ٨٦ ؛ مجمع البيان ١ : ٤٧٦.

(٢) فسّر الباغي بالطالب له ، الراغب فيه لذاته. والعادي بالمتجاوز قدر الضرورة (المنار ٢ : ٩٨).

(٣) يوسف ١٢ : ٦٥.

٣٧٣

وفي الحديث : «يا باغي الخير هلمّ». وفي التنزيل (وَلا تَعْدُ عَيْناكَ عَنْهُمْ)(١) أي لا تتجاوزهم إلى غيرهم. فالكلام في تحديد الضرورة وتمام بيان حكم ما يحلّ ويحرم من الأكلّ ، لا في السياسة وعقوبة الخارجين على الدولة والمؤذين للأمّة. وإنّما كان هذا التحديد لازما لئلّا يتّبع الناس أهواءهم في تفسير الاضطرار ، إذا هو وكل إليهم بلا حدّ ولا قيد ، فيزعم هذا أنّه مضطرّ وليس بمضطرّ ، ويذهب ذلك بشهوته إلى ما وراء حدّ الضرورة.

فعلم من قوله : (غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ) كيف تقدّر الضرورة بقدرها. والأحكام عامّة يخاطب بها كلّ مكلّف ، لا يصحّ استثناء أحد إلّا بنصّ صريح من الشارع (٢).

وحاول سيّدنا العلّامة الطباطبائي الجمع بين الأقوال ومختلف الروايات ، بأنّها من قبيل عدّ المصاديق ، نظرا لعموم مفهوم الآية حسب استفادته رحمه‌الله قال : والجميع من قبيل عدّ المصاديق ، وهي تؤيّد ما استفدناه من ظاهر اللفظ. فقد فسّر قوله تعالى : (فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ) بكونه غير ظالم ولا متجاوز حدّه ، بمفهومهما العام .. قال : وأمّا لو اضطرّ في حال البغي والعدوّ ، كأن يكونا هما الموجبين للاضطرار ، فلا يجوز له ذلك (٣).

وهكذا ذكر المحدّث الشيخ حرّ العاملي : أن لا منافاة بين التفسيرات ، ولا بعد في دخول المعاني في الآية (٤).

قلت : لو كنّا نحن وظاهر سياق الآية ، فالمستفاد منها : أنّه مبدأ عامّ ينصبّ على هذه المحرّمات ، ولكنّه بإطلاقه يصحّ أن يتناول سواها في سائر المقامات ؛ فأيّما ضرورة ملجئة يخشى منها على الحياة ، فلصاحبها أن يتفادى هذا الحرج بتناول المحظور في الحدود الّتي تدفع هذه الضرورة ولا زيادة (٥).

أمّا الّذي جاء في الروايات وفي سائر الأقوال ، فلا يشبه أن يكون تفسيرا للآية في سياقها العامّ ، اللهمّ إلّا أن يراد الاستطراد وبيان وجه الاشتراك في الحكم ، لا تفسير الآية بالذات.

__________________

(١) الكهف ١٨ : ٢٨.

(٢) المنار ٢ : ٩٩.

(٣) الميزان ١ : ٤٣٤ ـ ٤٣٥.

(٤) وسائل الشيعة ٢٤ : ٢١٧.

(٥) راجع : في ظلال القرآن ، المجلّد الأوّل : ٢٢٢.

٣٧٤

وقد عرفت من حديث مفضّل بن عمر عن الإمام الصادق عليه‌السلام تفسير الآية بما ذكرنا. قال : «ثمّ أباحه للمضطرّ وأحلّه له في الوقت الّذي لا يقوم بدنه إلّا به ، فأمره أن ينال منه بقدر البلغة ، لا غير ذلك» (١).

وأمّا الروايات الّتي جاءت بغير هذا المعنى ، ففي أسنادها ضعف أو إرسال (٢).

[٢ / ٤٣٦٤] وأخرج وكيع عن إبراهيم والشعبي قالا : إذا اضطرّ إلى الميتة أكل منها قدر ما يقيمه (٣).

[٢ / ٤٣٦٥] وأخرج الثعلبي عن السدّي قال : غير باغ في أكله شهوة فيأكلها ملذّذا ، ولا عاد يأكل حتّى يشبع منه ، ولكن يأكل منها قوتا مقدار ما يمسك رمقا (٤).

[٢ / ٤٣٦٦] وأخرجه الطبري بلفظ : أمّا الباغي فيبغي فيه شهوته. وأمّا العادي فيتعدّى في أكله ، يأكل حتّى يشبع. ولكن يأكل منه بقدر ما يمسك به نفسه حتّى يبلغ به حاجته (٥).

[٢ / ٤٣٦٧] وأخرج عبد بن حميد عن قتادة قال : غير باغ في أكله ولا عاد أن يتعدّى الحلال إلى الحرام ، وهو يجد عنه بلغة ومندوحة (٦).

[٢ / ٤٣٦٨] وقال مقاتل بن حيّان : (غَيْرَ باغٍ) : أي مستحلّ لها (وَلا عادٍ) أي متزوّد منها (٧).

[٢ / ٤٣٦٩] وعن الحسن في قوله تعالى قال : غير باغ فيها ولا يتعدّى فيها بأكلها وهو غنيّ عنها (٨).

__________________

(١) وسائل الشيعة ٢٤ : ١٠٠ باب ١ / ١ ، من أبواب الأطعمة المحرّمة.

(٢) الوسائل ٢٤ : ٢١٤ ـ ٢١٧.

(٣) الدرّ ١ : ٤٠٨ ؛ المصنّف لابن أبي شيبة ٥ : ٥٧٧ / ١ ، كتاب الأطعمة ، باب ٤٦ (الرجل يضطرّ إلى الميتة) بلفظ : عن إبراهيم : في المضطرّ إلى الميتة قال : يأكل ما يقيمه.

(٤) الثعلبي ٢ : ٤٦.

(٥) الطبري ٢ : ١٢٠ / ٢٠٥٩ ؛ القرطبي ٢ : ٢٣١ بلفظ : غير باغ في أكلها شهوة وتلذّذا. ولا عاد باستيفاء الأكل.

(٦) الدرّ ١ : ٤٠٨ ؛ الطبري ٢ : ١١٩ / ٢٠٥٤ ؛ القرطبي ٢ : ٢٣١ ، نقلا عن قتادة والحسن والربيع وابن زيد وعكرمة ، بلفظ : غَيْرَ باغٍ في أكله فوق حاجته و (وَلا عادٍ) بأن يجد عن هذه المحرّمات مندوحة ويأكلها ؛ الثعلبي ٢ : ٤٦ ، نقلا عن الحسن وقتادة والربيع وابن زيد بلفظ : (غَيْرَ باغٍ :) يأكله من غير اضطرار (وَلا عادٍ) : متعد يتعدّى الحلال إلى الحرام فيأكلها وهو غنيّ عنها.

(٧) البغوي ١ : ٢٠٢ ؛ الثعلبي ٢ : ٤٦.

(٨) عبد الرزّاق ١ : ٣٠١ / ١٥٧.

٣٧٥

[٢ / ٤٣٧٠] وروى ابن بابويه الصدوق عن كتاب «نوادر الحكمة» لمحمد بن أحمد بن يحيى ، عن الإمام الصادق عليه‌السلام قال : «من اضطرّ إلى الميتة والدم ولحم الخنزير ، فلم يأكل شيئا من ذلك حتّى يموت ، فهو كافر» (١) يعني : كفران نعمة الرخصة ، بل تعمّد في إلقاء النفس في التهلكة المؤدّي إلى قتل النفس المحرّم شرعا.

[٢ / ٤٣٧١] وأخرج وكيع وعبد بن حميد وأبو الشيخ عن مسروق قال : من اضطرّ إلى الميتة والدم ولحم الخنزير فتركه تقذّرا ولم يأكل ولم يشرب ثمّ مات ، دخل النار (٢).

[٢ / ٤٣٧٢] وروى الكليني بإسناده إلى محمّد بن مسلم قال : سألت الإمام أبا عبد الله عليه‌السلام عن الرجل يذهب بصره ، يأتيه الأطبّاء فيقولون : نداويك شهرا أو أربعين ليلة مستلقيا ، كذلك يصلّي؟ فرخّص في ذلك ، وقال : (فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ)(٣).

ورواه العيّاشيّ عن الإمام أبي جعفر عليه‌السلام (٤).

[٢ / ٤٣٧٣] وروى الشيخ بإسناده إلى سماعة قال : «سألت الإمام عليه‌السلام عن الرجل يكون في عينه الماء فينزع الماء منها فيستلقي على ظهره الأيّام الكثيرة أربعين يوما أو أقلّ أو أكثر ، فيمتنع من الصلاة (أي قائما وراكعا وساجدا) الأيّام وهو على تلك الحال؟ فقال : لا بأس بذلك ، وليس شيء ممّا حرّم الله إلّا وقد أحلّه لمن اضطرّ إليه» (٥).

ملحوظة

ما ورد من عموم الترخيص في تناول الحرام عند الاضطرار ، نراه قد خصّص بما عدا المسكرات ولا سيّما الخمر ، إذ ليست بالتي ترفع الضرورة ، بل تزيد في اشتدادها.

__________________

(١) الوسائل ٢٤ : ٢١٦ / ٣٠٣٧٦ ـ ٣ ؛ الفقيه ٣ : ٣٤٥ / ٤٢١٤.

(٢) الدرّ ١ : ٤٠٨ ؛ الثعلبي ٢ : ٤٦ ؛ البغوي ١ : ٢٠٢.

(٣) الكافي ٣ : ٤١٠ / ٤ ؛ البرهان ١ : ٣٨٠ / ٥ ؛ نور الثقلين ١ : ١٥٤.

(٤) العيّاشيّ ١ : ٩٣ / ١٥٤ ؛ البحار ٥٩ : ٦٦ / ١١ ، باب ٤٩.

(٥) التهذيب ٣ : ٣٠٦ / ٩٤٥ ـ ٢٣.

٣٧٦

[٢ / ٤٣٧٤] فقد روى ابن بابويه الصدوق بإسناده إلى أبي بصير عن الإمام أبي عبد الله الصادق عليه‌السلام قال : «المضطرّ لا يشرب الخمر ، لأنّها لا تزيده إلّا شرّا (وفي رواية : لا تزيده إلّا عطشا) ، ولأنّه إن شربها قتلته ، فلا يشرب منها قطرة» (١).

[٢ / ٤٣٧٥] وروى الكليني بإسناده إلى أبي بصير قال : دخلت أمّ خالد العبديّة على الإمام أبي عبد الله الصادق عليه‌السلام وأنا عنده ، فقالت : جعلت فداك ، إنّه يعتريني قراقر في بطني ، وقد وصف لي أطبّاء العراق النبيذ بالسويق ، وقد وقفت وعرفت كراهتك له ، فأحببت أن أسألك عن ذلك؟ فقال لها : وما يمنعك عن شربه؟ قالت : قد قلّدتك ديني ، فألقى الله ـ عزوجل ـ حين ألقاه فأخبره أنّ جعفر بن محمّد عليهما‌السلام أمرني ونهاني! فقال ـ مخاطبا لأبي بصير ـ : «يا أبا محمّد ، ألا تسمع إلى هذه المرأة وهذه المسائل!! لا والله لا آذن لك في قطرة منه ولا تذوقي منه قطرة ؛ فإنّما تندمين إذا بلغت نفسك هاهنا ـ وأومأ بيده إلى حنجرته ـ يقولها ثلاثا : أفهمت؟ قالت : نعم. ثمّ قال أبو عبد الله عليه‌السلام ما يبلّ الميل ينجّس حبّا من ماء ، يقولها ثلاثا» (٢).

[٢ / ٤٣٧٦] وروى بالإسناد إلى عمر بن أذينة قال : كتبت إلى أبي عبد الله عليه‌السلام أسأله عن الرجل يبعث له الدواء من ريح البواسير ، فيشربه بقدر أسكرّجة من نبيذ صلب ، ليس يريد به اللّذة ، وإنّما يريد به الدواء؟ فقال : «لا ولا جرعة! ثمّ قال : إنّ الله ـ عزوجل ـ لم يجعل في شيء ممّا حرّم الله شفاء ولا دواء» (٣).

[٢ / ٤٣٧٧] وروى بالإسناد إلى عليّ بن أسباط قال : أخبرني أبي قال : كنت عند أبي عبد الله عليه‌السلام فقال له رجل : إنّ بي أرياح البواسير وليس يوافقني إلّا شرب النبيذ؟ فقال له : «ما لك ولما حرّم الله ورسوله؟! يقول له ذلك ثلاثا» (٤).

[٢ / ٤٣٧٨] وروى بالإسناد إلى الحلبي قال : «سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن دواء عجن بالخمر؟ فقال :

__________________

(١) العلل : ٤٧٨ / ١ ؛ الوسائل ٢٥ : ٣٧٨ / ٣ ؛ البحار ٥٩ : ٨٣ / ٥. و ٦٢ : ١٥٧ / ٣٣ ؛ العيّاشيّ ١ : ٩٣ / ١٥٣.

(٢) الكافي ٦ : ٤١٣ / ١.

(٣) المصدر / ٢. والأسكرّجة إناء صغير لشرب القليل من اللبن أو الماء ، يشبه الفنجانة.

(٤) المصدر / ٣.

٣٧٧

لا والله ، ما أحبّ أن أنظر إليه ، فكيف أتداوى به ، إنّه بمنزلة شحم الخنزير» (١).

[٢ / ٤٣٧٩] وروى بالإسناد إلى عبد الله بن عبد الحميد عن عمرو عن ابن الحرّ (٢) ، قال : «دخلت على أبي عبد الله عليه‌السلام أيّام قدم العراق ، فقال لي : ادخل على إسماعيل (يعني ابنه) فإنّه شاك فانظر ما وجعه؟ ... قال : فدخلت عليه وسألته عن وجعه ، فوصفت له دواء فيه نبيذ! فقال إسماعيل : النبيذ حرام ، وإنّا أهل بيت لا نستشفي بالحرام!» (٣)

[٢ / ٤٣٨٠] وروى بالإسناد إلى معاوية بن عمّار قال : سأل رجل أبا عبد الله عليه‌السلام عن دواء عجن بالخمر نكتحل منها؟ فقال أبو عبد الله عليه‌السلام : «ما جعل الله ـ عزوجل ـ فيما حرّم شفاء!» (٤)

[٢ / ٤٣٨١] وبالإسناد إلى قايد بن طلحة أنّه سأل أبا عبد الله عليه‌السلام عن النبيذ ، يجعل في الدواء؟ فقال : «لا ، ليس ينبغي لأحد أن يستشفي بالحرام» (٥).

[٢ / ٤٣٨٢] وعن عليّ بن جعفر عن أخيه أبي الحسن عليه‌السلام قال : سألته عن الكحل يعجن بالنبيذ ، أيصلح ذلك؟ فقال : لا (٦).

[٢ / ٤٣٨٣] وعن الحلبي قال : سئل أبو عبد الله عليه‌السلام عن دواء يعجن بخمر؟ فقال : «ما أحبّ أن أنظر إليه ولا أشمّه ، فكيف أتداوى به؟!» (٧)

قلت : ولعلّ ذلك فيما إذا أمكن رفع الضرورة بعلاج آخر ، وإن كان أصعب أو أكثر مؤنة. إذ لو كان العلاج منحصرا لما جاز تركه ، بعد ضرورة وجوب حفظ النفس عن التلف أو نقص في الطرف.

ولذلك نجد الصدوق رحمه‌الله أطلق القول بجواز شرب الخمر عند الضرورة. قال ـ بعد أن ذكر حديث المنع ـ : جاء هذا الحديث هكذا ، كما أوردته. وشرب الخمر في حال الاضطرار مباح مطلق ، مثل الميتة والدم ولحم الخنزير .. قال : وإنّما أوردته لما فيه من العلّة ، ولا قوّة إلّا بالله (٨).

__________________

(١) المصدر : ٤١٤ / ٤.

(٢) كان طبيبا معالجا.

(٣) المصدر / ٥.

(٤) المصدر / ٦.

(٥) المصدر / ٨.

(٦) المصدر / ٩.

(٧) المصدر / ١٠.

(٨) العلل : ٤٧٨ ذيل الحديث رقم ١ ، باب ٢٢٧.

٣٧٨

قال تعالى :

(إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ ما أَنْزَلَ اللهُ مِنَ الْكِتابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً أُولئِكَ ما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلاَّ النَّارَ وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَلا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (١٧٤) أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدى وَالْعَذابَ بِالْمَغْفِرَةِ فَما أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ (١٧٥) ذلِكَ بِأَنَّ اللهَ نَزَّلَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتابِ لَفِي شِقاقٍ بَعِيدٍ (١٧٦))

نعم ، كان صعبا على أرباب النحل وأصحاب المذاهب المبتدعة أن يرضخوا للحقّ ، مهما بلغ صراحة ووضوحا حيث يرونه معاكسا لمصالحهم المزعومة ، الأمر الّذي شكّل معضلة في طريق نشر الدعوة دون بلوغها إلى عامّة الناس ، حيث الحجز القائمة دون سماع الحقّ والسعي وراء كتمانه مهما بلغ الأمر.

ومن ثمّ نجد هنا حملة قويّة على الّذين يكتمون ما أنزل الله من الكتاب ، يكتمون الحقّ الّذي يعلمونه ، ويشترون به ثمنا قليلا ، منافع خاصّة يحرصون عليها والّتي يتحرّونها بهذا الكتمان ويخشون عليها من البيان ، وما هي إلّا الدنيا العاجلة ، ألا وهي ثمن بخس تجاه ما يخسرونه من رضى الله وثوابه الجزيل.

وهذا الّذي يتقاضونه من حطام الدنيا ليس سوى حرّ الدنيا يصلونها في بطونهم (ما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلَّا النَّارَ) وكأنّما هذا الّذي يأكلونه من ثمن الكتمان والبهتان نار في بطونهم! وإنّها لحقيقة حينما يلمسونها في الآخرة ، ولبئس العذاب.

وجزاء ما كتموا من آيات الله ، أن يهملهم الله يوم القيامة ويدعهم في مهانة وازدراء (وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَلا يُزَكِّيهِمْ) لا كلام ولا اهتمام ولا تطهير ولا غفران (وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) مولم يحزّ في النفس حزّه الشديد.

وتصوير آخر يشي بفشلهم وفضحهم أكثر : (أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدى وَالْعَذابَ بِالْمَغْفِرَةِ). ألا وهي صفقة خاسرة يدفعون فيها الهدى ويقبضون الضلال ، ويؤدّون المغفرة

٣٧٩

ويأخذون فيها العذاب ، فما أخسرها من صفقة وأغباها!

وكفاية عن فضاعة شأنهم قال : (فَما أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ؟!) فيا لطول صبرهم على النار ، الّتي اختاروها وعهدوا إليها عن قصد لئيم. فيا للتهكّم الساخر من صفاقتهم الشائنة.

وهذا التعاطي الخاسر إنّما كان نتيجة العمه في اختيار الطريق. (ذلِكَ بِأَنَّ اللهَ نَزَّلَ الْكِتابَ بِالْحَقِ) فمن فاء إليه فهو على الهدى ، وهو في وفاق مع الحقّ ، وفي وفاق مع المهتدين ، وفي وفاق مع الفطرة وناموس الكون الأصيل ، (وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتابِ) في شريعة الله النازلة بحقّ (لَفِي شِقاقٍ بَعِيدٍ) شقاق مع الحقّ وشقاق مع ناموس الفطرة ، وشقاق فيما بينهم وبين أنفسهم ، ولقد كانوا كذلك ولا يزالون ، وعد الله الّذي يتحقّق على مدار الزمان واختلاف الأقوام. ونرى مصداقه واقعا في كلّ دور وكور على مدى الأيّام.

* * *

[٢ / ٤٣٨٤] أخرج الثعلبي عن ابن عبّاس قال : نزلت هذه الآية في رؤساء اليهود وعلمائهم ، كانوا يصيبون من سفلتهم الهدايا والفضل ، وكانوا يرجون أن يكون النبيّ المبعوث منهم ، فلمّا بعث الله محمّدا صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من غيرهم خافوا ذهاب مأكلتهم وزوال رياستهم ، فعمدوا إلى صفة محمّد فغيّروها ، ثمّ أخرجوها إليهم وقالوا : هذا نعت النبيّ الّذي يخرج في آخر الزمان لا يشبه نعت هذا النبيّ ، فإذا نظرت السفلة إلى النعت المغيّر وجدوه مخالفا لصفة محمّد فلم يتّبعوه ، فأنزل الله : (إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ ما أَنْزَلَ اللهُ مِنَ الْكِتابِ)(١).

[٢ / ٤٣٨٥] وقال الشيخ في تفسير قوله تعالى : (وَلا يُكَلِّمُهُمُ :) قيل في معناه قولان : أحدهما : لا يكلّمهم بما يحبّون وإنّما هو دليل على الغضب عليهم وليس فيه دليل على أنّه لا يكلّمهم بما يسوءهم لأنّه قد دلّ في موضع آخر فقال : (فَلَنَسْئَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْئَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ) وقال : (رَبَّنا أَخْرِجْنا مِنْها فَإِنْ عُدْنا فَإِنَّا ظالِمُونَ. قالَ اخْسَؤُا فِيها وَلا تُكَلِّمُونِ) وهذا قول الحسن وواصل وأبي عليّ.

__________________

(١) الدرّ ١ : ٤٠٩ ؛ الثعلبي ٢ : ٤٧ ؛ أسباب النزول للواحدي : ٢٩ ـ ٣٠ ؛ أبو الفتوح ٢ : ٣٠١ ـ ٣٠٢ ؛ مجمع البيان ١ : ٤٧٧.

٣٨٠