التفسير الأثري الجامع - ج ٤

الشيخ محمّد هادي معرفة

التفسير الأثري الجامع - ج ٤

المؤلف:

الشيخ محمّد هادي معرفة


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة التمهيد ـ قم
المطبعة: ستاره
الطبعة: ١
ISBN: 978-600-5079-05-0
ISBN الدورة:
978-600-5079-08-1

الصفحات: ٥٦٠

الثاني : لا يكلّمهم أصلا. فتحمل آيات المسائلة على أنّ الملائكة تسألهم بأمر الله ويتأوّل قوله : (اخْسَؤُا فِيها وَلا تُكَلِّمُونِ)(١) على أنّ الحال دالّة على ذلك (٢).

[٢ / ٤٣٨٦] وأخرج ابن أبي حاتم عن أبي العالية في قوله : (أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدى) الآية. قال : اختاروا الضلالة على الهدى ، والعذاب على المغفرة (فَما أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ) قال : ما أجرأهم على عمل النار (٣).

[٢ / ٤٣٨٧] وأخرج عبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر ، عن الحسن في قوله : (فَما أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ) قال : والله ما لهم عليها من صبر ، ولكن يقول : ما أجرأهم على النار (٤).

[٢ / ٤٣٨٨] وأخرج ابن جرير عن قتادة (فَما أَصْبَرَهُمْ) قال : ما أجرأهم على العمل الّذي يقرّبهم إلى النار (٥).

[٢ / ٤٣٨٩] وروى الكليني بإسناده إلى عبد الله بن مسكان عمّن ذكره عن أبي عبد الله عليه‌السلام في قول الله ـ عزوجل ـ : (فَما أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ) قال : ما أصبرهم على فعل ما يعلمون أنّه يصيّرهم إلى النار (٦).

قال الطبرسي رحمه‌الله في تفسير الآية : فيه أقوال :

[٢ / ٤٣٩٠] أحدها : أنّ معناه ، ما أجرأهم على النار. ذهب إليه الحسن وقتادة ، ورواه عليّ بن إبراهيم بإسناده عن الإمام أبي عبد الله الصادق عليه‌السلام (٧).

[٢ / ٤٣٩١] والثاني : ما أعملهم بأعمال أهل النار ، عن مجاهد ، وهو المرويّ ـ أيضا ـ عن أبي عبد الله عليه‌السلام (٨).

__________________

(١) المؤمنون ٢٣ : ١٠٨.

(٢) التبيان ٢ : ٨٩ ؛ مجمع البيان ١ : ٤٧٩.

(٣) الدرّ ١ : ٤٠٩ ؛ ابن أبي حاتم ١ : ٢٨٦ / ١٥٣٧ ، وزاد : وروي عن قتادة والربيع بن أنس نحو ذلك.

(٤) الدرّ ٢ : ١٣٦ ، (ط : هجر).

(٥) الدرّ ١ : ٤١٠ ؛ الطبري ٢ : ١٢٣ / ٢٠٦٦.

(٦) الكافي ٢ : ٢٦٨ ـ ٢٦٩ / ٢ ، كتاب الإيمان والكفر ، باب الذنوب ؛ العيّاشيّ ١ : ٩٤ / ١٥٨ ؛ البرهان ١ : ٣٨٢ / ١ ؛ نور الثقلين ١ : ١٥٦.

(٧) البرهان ١ : ٣٨٢ / ٣.

(٨) الكافي ٢ : ٢٦٨ ـ ٢٦٩ / ٢.

٣٨١

[٢ / ٤٣٩٢] والثالث : ما أبقاهم على النار ، كما يقال : ما أصبر فلانا على الحبس ، عن الزجّاج.

[٢ / ٤٣٩٣] والرابع : ما أدومهم على النار ، أي ما أدومهم على العمل بعمل أهل النار. كما يقال : ما أشبه سخاءك بحاتم ، أي بسخاء حاتم. وعلى هذا الوجه فظاهر الكلام التعجّب ، والتعجّب لا يجوز على القديم سبحانه ، لأنّه عالم بجميع الأشياء لا يخفى عليه شيء. والتعجّب إنّما يكون ممّا لا يعرف سببه. وإذ ثبت ذلك فالغرض أن يدلّنا على أنّ الكفّار حلّوا محلّ من يتعجّب منه ، فهو تعجّب لنا منهم.

[٢ / ٤٣٩٤] والخامس : ما روي عن ابن عبّاس ، أنّ المراد : أيّ شيء أصبرهم على النار؟ أي حبسهم عليها ، فتكون ما استفهاميّة.

قال : ويجوز حمل الوجوه الثلاثة الأول على الاستفهام أيضا ، ليكون المعنى : أيّ شيء أجرأهم على النار ، وأعملهم بأعمال أهل النار ، وأبقاهم على النار؟

قال : وقال الكسائي : هو استفهام على وجه التعجّب. وقال المبرّد : هذا حسن ، لأنّه كالتوبيخ لهم ، والتعجّب لنا. كما يقال لمن وقع في ورطة : ما اضطرّك إلى هذا ، إذا كان غنيّا عن التعرّض للوقوع في مثلها. والمراد به الإنكار والتقريع على اكتساب سبب الهلاك وتعجّب الغير منه. ومن قال : معناه ، ما أجرأهم على النار ، فإنّه عنده من الصبر الّذي هو الحبس أيضا ، لأنّ بالجرأة يصبر على الشدّة (١).

__________________

(١) مجمع البيان ١ : ٤٨٠. وراجع : البحار ٧٠ : ٣١٤ ـ ٣١٥.

٣٨٢

قال تعالى :

(لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمالَ عَلى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقابِ وَأَقامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذا عاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْساءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ (١٧٧))

هنا وفي هذه الآية الكريمة يضع القرآن قواعد التصوّر الإيماني الصحيح ، وقواعد السلوك الإيماني الصحيح ، ويحدّد صفة الصادقين المتّقين. وفي ضمنه ردّ رصين على أولئك المتزمّتين أصحاب القشور ، رضوا بأنفسهم الالتهاء بشعائر أسلافهم ، وحسبوها الحقّ الوحيد وليس فيما عداها. (وَإِذا قِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا إِلى ما أَنْزَلَ اللهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قالُوا حَسْبُنا ما وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا أَوَلَوْ كانَ آباؤُهُمْ لا يَعْلَمُونَ شَيْئاً وَلا يَهْتَدُونَ)(١). و (قالُوا أَجِئْتَنا لِتَلْفِتَنا عَمَّا وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا)؟! (٢).

إلى غيرهما من آيات تنبؤك عن التجمّد العقلي والتقليد الأعمى ، كان يصدّهم عن الانصياع للحقّ الصراح. بل كان لا يمنعهم عن الافتراء على الله كذبا ، في تزمّتهم هذا الغريب. (وَإِذا فَعَلُوا فاحِشَةً قالُوا وَجَدْنا عَلَيْها آباءَنا وَاللهُ أَمَرَنا بِها قُلْ إِنَّ اللهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ)(٣) والقول الحقّ هو : (قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ)(٤).

* * *

وهكذا هنا في هذه الآية يعنّف أهل الكتاب في مزعومتهم أنّ طريقتهم هي طريقة الحقّ ، ولا سيّما بشأن القبلة ، وأنّها جهة المغرب عند اليهود وجهة المشرق عند النصارى ، فلا ذا ولا ذاك.

لا يغنيان شيئا إذا لم يكن عن أمره تعالى ، والمتمثّل فيما جاء به الإسلام وصرّح به القرآن الكريم.

__________________

(١) المائدة ٥ : ١٠٤.

(٢) يونس ١٠ : ٧٨.

(٣) الأعراف ٧ : ٢٨.

(٤) الأعراف ٧ : ٢٩.

٣٨٣

وبذلك يصل السياق إلى تقرير الحقيقة الكبرى حول أمر القبلة والقضايا الجدليّة الّتي أثارتها اليهود بالذات حول شكليّات الشعائر والعبادات وكثيرا ما كانوا يثيرون الجدل حول هذه الأمور.

نعم ، ليس القصد من تحويل القبلة ، ولا من شعائر العبادة ـ على الإطلاق ـ أن يولّي الناس وجوههم قبل المشرق أو المغرب ، نحو بيت المقدس أو المسجد الحرام ، وليست غاية البرّ ـ وهو الخير جملة ـ هي تلك الشعائر الظاهرة ـ إذا كانت مجرّدة عمّا يصاحبها في القلب من الشعور وفي العمل من السلوك ـ إنّما البرّ هو تصوّر وشعور وأعمال وسلوك. تصوّر ينشىء أثره في ضمير الفرد والجماعة ، وعمل ينشىء أثره في حياة الفرد والجماعة. ولا يغني عن هذه الحقيقة العميقة مجرّد تولية الوجه قبل المشرق والمغرب ، سواء في التوجّه إلى القبلة هذه أم تلك ، أو التسليم من الصلاة يمينا وشمالا ، أو في سائر الحركات الظاهرة الّتي يزاولها الناس في الشعائر.

(وَلكِنَّ الْبِرَّ) الّذي هو جماع الخير كلّه (مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتابِ وَالنَّبِيِّينَ) إخبار عن المصدر باسم الذات للمبالغة كعكسه في قوله : «فإنّما هي إقبال وإدبار» (١). والمقصود : أنّ من اجتمعت فيه هذه الصفات ، صار كأنّه متجسّد منها وقد تجسّدت في وجوده تلك النعوت والفضائل.

وبعد فماذا في تلك الصفات من قيم تجعل لها هذا الوزن في ميزان الله؟ إنّ الإيمان بالله هو نقطة التحوّل في حياة البشريّة من العبوديّة لشتّى القوى وشتّى الأشياء وشتّى الاعتبارات ، إلى عبوديّة خالصة لله تحرّر بها النفس من كلّ علائقها المثبّطة لها عن الحركة نحو الكمال ، كما هي نقطة التحوّل كذلك من الفوضى إلى النظام ، ومن التيه إلى القصد ، ومن التفكّك إلى وحدة الاتّجاه.

فهذه البشريّة ، دون الإيمان بالله وحده لا شريك له ، لا تعرف لها قصدا مستقيما في الحياة ولا غاية مطّردة ، ولا تعرف لها نقطة ارتكاز تتجمّع حولها في جدّ وفي مساواة وفي طمأنينة وسلام.

__________________

(١) من قصيدة قالها الخنساء في رثاء أخيها صخر :

فما عجول على بوّ تطيف به

لها حنينان إصغار وإكبار

لا تسأم الدهر منه كلّما ذكرت

فإنّما هي إقبال وإدبار

يوما بأوجد منّي حين فارقني

صخر وللدهر إحلاء وإمرار

(الكشّاف ١ : ٢١٨).

٣٨٤

والإيمان باليوم الآخر ، هو الإيمان بالعدالة الإلهية المطلقة في الجزاء وبأنّ الحياة على هذه الأرض ليست سدى ولا فوضى بغير ميزان ، وبأنّ الخير لا يعدم جزاؤه ولو بدا أنّه في هذه الأرض لا يلقى الجزاء. كما أنّها ليست محدودة بأمد قصير ، وإنّما هي حركة دائبة في طول مسير.

والإيمان بالملائكة طرف من الإيمان بالغيب ، الّذي هو مفرق الطريق بين إدراك الإنسان وإدراك الحيوان. كما أنّه إيمان بأنّ هناك وراء الحسّ المشهود ، عالما ملؤه الحيويّة الفعّالة ، وربما كانت هي الّتي تمدّ الحياة هذه على وجه الأرض! فلا غنا للحياة هذه إذا لم تستمدّ من تلك الحياة العليا ، وملؤها القوى العاملة تحت رعاية الله ربّ العالمين.

والإيمان بالكتاب والنبيّين هو الإيمان بالرسالات جميعا وبالرسل جميعا. وإذعان بتحقّق الوعد الّذي وعد الله هذا الإنسان منذ هبط إلى الأرض أن لا يتركه هملا بلا رعاية ولا عناية ليئنّ تحت هواجسه خائفا وجلا ؛ بل عطف عليه بفضله وإحسانه ، وأرسل إليه رسله تترى بالآيات والبيّنات ، وأوضح له الطريق والهدى إلى السعادة والسّلام.

(فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً فَمَنْ تَبِعَ هُدايَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ)(١).

* * *

تلك ناحية الإيمان وموضعها الخطير في حياة الإنسان.

وهناك ناحية أخرى تلازم الإيمان الخالص لله تعالى شأنه وهو الإيثار في سبيله تعالى بالمال والإسعاف بحاجة الآخرين ، وفي ذلك إشعار بالتضامن والتكافل في محيط الجماعة المسلمة.

وفي قوله تعالى : (عَلى حُبِّهِ) دلالة على مبلغ أهميّة هذا الإيثار ، حيث مع تمكّن حبّ المال في النفوس والاعتزاز به ، مع ذلك يبسط المؤمن يده في البذل في سبيل حبّ الإنسانيّة العليا ، والّتي هي أرقى من حبّ الذات شخصيّا.

نعم قيمة إيتاء المال والإيثار به هي الانعتاق من ربقة الحرص والشحّ والضعف والأثرة. انعتاق الروح من حبّ المال الّذي يكاد يقبض الأيدي عن الإنفاق ، ويقبض النفوس عن الأريحيّة ، ويقبض الأرواح عن الانطلاق ، فهي قيمة روحيّة يشير إليها ذلك النصّ على حبّ المال!!

ثمّ هي قيمة إنسانيّة عليا في محيط الجماعة.

__________________

(١) البقرة ٢ : ٣٨.

٣٨٥

هذه الصلة لذوي القربى فيها تحقيق لمروءة النفس وكرامة الأسرة ، ووشائج القربى. والأسرة هي النواة الأولى للجماعة ، ومن ثمّ هذه العناية وهذا التقديم.

وهي لليتامي ، وهو تكافل بين الأقوياء والضعفاء ، وتعويض لهؤلاء الصغار عن فقدان الحماية والرعاية الأبويّتين ، وحماية للأمّة من تشرّد صغارها وتعرّضهم للفساد.

وهي للمساكين الّذين سكن بهم الفقر ، ومع ذلك فهم ساكنون لا يقدمون للسؤال ، ضنّا بماء وجوههم ، فليحتفظ لهم بكرامة نفوسهم والصون بهم عن البوار والانهيار ، وفي ذلك إشعار لهم بالتضامن والتكافل في محيط الجماعة المسلمة ، الّتي لا يهمل فيها فرد ولا يضيع فيها عضو.

وهي لابن السبيل ـ المنقطع عن المال والأهل ـ فريضة واجبة للنجدة في ساعة العسرة وإشعار له بأنّ الإنسانيّة كلّها أهل.

وهي للسائلين إسعاف لعوزهم وكفّ لهم عن المسألة الّتي يكرهها الإسلام. وفي الإسلام ، لا يسأل من يجد الكفاية أو من يجد عملا ، فهو مأمور من دينه أن يعمل ولا يسأل ، وأن يقنع ولا يتذلّل ، فلا سائل إلّا حيث يعييه العمل والكفاية.

وهي في الرقاب : إعتاق وتحرير لمن أوقعه سوء تصرّفه في الرقّ ، بحمل السيف في وجه الإسلام. ويتحقّق هذا النصّ إمّا بشراء الرقيق وعتقه ، وإمّا بإعطائه ما يؤدّي به ما كاتب عليه سيّده في نظير عتقه ، وذلك ليسارع في فكّ رقبته واسترداد حرّيته وإنسانيّته الكريمة ، والإسلام يعلن حرّيّة الرقيق في اللحظة الّتي يطلب فيها الحرّيّة ، إذا توفّرت فيه الشرائط.

* * *

وناحية ثالثة أهمّ وهي ناحية العبادة في الإسلام ، وشاخصها الصلاة الّتي هي عمود الدين ، والمحور الّذي يدور عليه رحى الإسلام ، من جانبيه الروحي ـ اتّصالا بالملكوت الأعلى (١) ـ والظاهري ـ اتّزانا في السلوك والمعاشرة العامّة : (إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللهِ أَكْبَرُ)(٢). ولعلّ ذيل الآية إشارة إلى الجهة الأولى : الاتّصال الروحي.

ورابعة : إيتاء الزكاة ، هي فريضة ماليّة متعيّنة في جانب مصرفها ، وهي تؤمّن جانبا من مؤونة واجب النظام المالي في الحكم الإسلامي. ووفاء بطرف من ضريبة الإسلام الاجتماعية ، الّتي

__________________

(١) الصلاة معراج المؤمن.

(٢) العنكبوت ٢٩ : ٤٥.

٣٨٦

جعلها الله حقّا في أموال الأغنياء للفقراء والمعوزين. ومن ثمّ فهو يقابل إيتاء المال المذكور أوّلا ، حيث إنّه على الندب وهذا على الفرض ، فليست الزكاة بديلة منه ، وإنّما الزكاة ضريبة مفروضة ، والإنفاق تطوّع طليق. والبرّ لا يتمّ إلّا بهذه وتلك ، وكلتاهما من مقوّمات الإسلام.

وخامسة : الوفاء بالعهد ، إنّه سمة الإسلام الّتي يحرص عليها ويؤكّد عليها القرآن في مواضع ، ويعدّها آية الإيمان وآية الآدميّة وآية الإحسان. وهي ضروريّة لإيجاد جوّ من الثقة المتبادلة في العلاقات : علاقات الأفراد وعلاقات الجماعات وعلاقات الأمم والدول. تقوم أوّلا على الوفاء بالعهد مع الله. وبغير هذه السمة يعيش كلّ فرد منعزلا عن غيره ، فزعا قلقا لا يركن إلى وعد ولا يطمئنّ إلى عهد ولا يثق بإنسان ، الأمر الّذي يوجب تفكّكا في هيكل الجماعة الفاقدة للإيمان.

وسادسة : الصبر في البأساء والضرّاء وحين البأس. إنّها تربية للنفوس وإعداد ، كي لا تطير شعاعا مع كلّ نازلة ، ولا تذهب حسرة مع كلّ فاجعة ، ولا تنهار جزعا أمام كلّ شدّة. إنّه التجمّل والتماسك والثبات حتّى تنقشع الغاشية وترحل النازلة ، ويجعل الله بعد عسر يسرا. إنّه الرجاء في الله والثقة بالله والاعتماد على الله. ولا بدّ لأمّة تناط بها القوامة على البشريّة ، والعدل في الأرض وبسط الصلاح ، أن تهيّأ لمشاقّ الطريق ووعثائه بالصبر في البأساء والضرّاء وحين الشدّة. الصبر في البؤس والفقر ، الصبر في القلّة والنقص ، الصبر في الجهاد والحصار ، والصبر على كلّ حال كي تتمكّن من النهوض بواجبها الضخم ، وتؤدّي دورها الفخم ، في ثبات وفي ثقة وفي طمأنينة وفي اعتدال واتّزان.

والملحوظ : أنّ السياق هنا وفي هذه الصفة ـ صفة الصبر في البأساء والضرّاء وحين البأس ـ يبرزها بإعطاء كلمة (الصَّابِرِينَ) ـ بنصب ـ وصفا في العبارة يدلّ على الاختصاص. فما قبلها من الصفات مرفوع ، أمّا هي فمنصوبة على الاختصاص بتقدير «وأخصّ الصابرين» وهي لفتة خاصّة لها وزنها في معرض صفات البرّ ، لفتة خاصّة تبرز الصابرين وتميّزهم بالذات من بين سائر السمات.

وهو مقام للصابرين عظيم ، وتقدير لصفة الصبر في ميزان الله يلفت الأنظار ، وقد سبق (١) بعض الكلام عن الصبر وأهمّيته في بناء بنية الفرد والجماعة ، والّتي هي آخذة في درجات الكمال.

__________________

(١) عند تفسير الآية : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ).

٣٨٧

وهكذا جمعت آية واحدة بين أصول الاعتقاد ، وتكاليف النفس والمال ، وجعلتها كلّا لا يتجزّأ ، ووحدة لا تنفصم. ووضعت على هذا كلّه عنوانا واحدا هو : «البرّ» أو هو «جماع الخير» أو هو «الإيمان كلّه» كما ورد في الأثر. والحقّ أنّها خلاصة كاملة للتصوّر الإسلامي ، ولمبادىء المنهج الإسلامي المتكامل ، لا يستقيم بدونها إسلام.

ومن ثمّ تعقّب الآية على من هذه صفاتهم بأنّهم : (أُولئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ).

أولئك الّذين صدقوا ربّهم في إسلامهم. صدقوا في إيمانهم واعتقادهم ، صدقوا في ترجمة هذا الإيمان والاعتقاد في مدلولاته الواقعة في الحياة. وأولئك هم المتّقون الّذين يخشون ربّهم ويتّصلون به ، ويؤدّون واجبهم له في حسّاسيّة وفي إشفاق. ومن ثمّ فإنّهم ـ وفي ظلّ عناية الله ـ يحبرون (إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلَّا تَخافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ)(١).

* * *

والآن فلنعرض الروايات عن السلف بشأن الآية :

[٢ / ٤٣٩٥] أخرج عبد الرزّاق وابن جرير عن قتادة قال : كانت اليهود تصلّي قبل المغرب والنصارى تصلّي قبل المشرق (٢).

وهكذا رواها عن أبي العالية وعن الربيع (٣).

[٢ / ٤٣٩٦] وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر عن قتادة في قوله : (لَيْسَ الْبِرَّ ...)

الآية. قال : ذكر لنا أنّ رجلا سأل النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن البرّ ، فأنزل الله هذه الآية ، فدعا الرجل فتلاها عليه ، وقد كان الرجل قبل الفرائض إذا شهد أن لا إله إلّا الله وأنّ محمّدا عبده ورسوله ، ثمّ مات على ذلك يرجى له في خير ، فأنزل الله : (لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ) وكانت

__________________

(١) فصّلت ٤١ : ٣٠.

(٢) عبد الرزّاق ١ : ٣٠٢ / ١٦٠ ؛ الطبري ٢ : ١٢٨ / ٢٠٨١ ؛ الثعلبي ٢ : ٤٩ ، نقلا عن الربيع ومقاتل بن حيّان أيضا.

(٣) الطبري ٢ : ١٢٨ / ٢٠٨٣ ؛ ابن أبي حاتم ١ : ٢٨٧ / ١٥٤١.

٣٨٨

اليهود توجّهت قبل المغرب والنصارى قبل المشرق (وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللهِ) الآية (١).

[٢ / ٤٣٩٧] وروى الإمام أبو محمّد العسكري عن جدّه الإمام زين العابدين عليهما‌السلام قال : «قالت اليهود : قد صلّينا على قبلتنا هذه ، الصلاة الكثيرة وفينا من يحيي الليل صلاة إليها ، وهي قبلة موسى الّتي أمرنا بها. وقالت النصارى : قد صلّينا على قبلتنا هذه ، الصلاة الكثيرة وفينا من يحيي الليل صلاة إليها ، وهي قبلة عيسى الّتي أمرنا بها. وقال كلّ واحد من الفريقين : أترى ربّنا يبطل أعمالنا هذه الكثيرة ، وصلاتنا إلى قبلتنا ، لأنّا لا نتّبع محمّدا صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على هواه ...؟! فأنزل الله : يا محمّد قل : (لَيْسَ الْبِرَّ) [أي] الطاعة الّتي تنالون بها الجنان وتستحقّون بها الغفران والرضوان (أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ) بصلاتكم (قِبَلَ الْمَشْرِقِ) ، يا أيّها النصارى ، وقبل (وَالْمَغْرِبِ) ، يا أيّها اليهود ، وأنتم لأمر الله مخالفون وعلى وليّ الله مغتاظون» (٢).

[٢ / ٤٣٩٨] وأخرج ابن جرير عن ابن عبّاس قال : هذه الآية نزلت بالمدينة : (لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ) يعني الصلاة ، يقول : ليس البرّ أن تصلّوا ولا تعملوا غير ذلك ، ولكنّ البرّ ما ثبت في القلب من طاعة الله! (٣)

[٢ / ٤٣٩٩] وأخرج ابن أبي حاتم والحاكم وصحّحه عن أبي ذرّ ، أنّه سأل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن الإيمان ، فتلا : (لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ) حتّى فرغ منها ، ثمّ سأله أيضا فتلاها ، ثمّ سأله فتلاها. وقال : «وإذا عملت حسنة أحبّها قلبك ، وإذا عملت سيّئة أبغضها قلبك» (٤).

[٢ / ٤٤٠٠] وأخرج إسحاق بن راهويه في مسنده وعبد بن حميد وابن مردويه عن القاسم بن

__________________

(١) الدرّ ١ : ٤١١ ؛ الطبري ٢ : ١٢٨ / ٢٠٨٢ ؛ القرطبي ٢ : ٢٣٧ ، بلفظ : «قال قتادة : ذكر لنا أنّ رجلا سأل نبيّ الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن البرّ ، فأنزل الله هذه الآية. قال : وقد كان الرجل قبل [نزول] الفرائض إذا شهد أن لا إله إلّا الله وأنّ محمّدا عبده ورسوله ، ثمّ مات على ذلك وجبت له الجنّة ، فأنزل الله هذه الآية. وقال الربيع وقتادة أيضا : الخطاب لليهود والنصارى ، لأنّهم اختلفوا في التوجّه والتولّي ؛ فاليهود إلى المغرب قبل بيت المقدس ، والنصارى إلى المشرق مطلع الشمس. فتكلّموا في تحويل القبلة وفضّلت كلّ فرقة توليتها ؛ فقيل لهم : ليس البرّ ما أنتم فيه ، ولكن البرّ من آمن بالله ...».

(٢) الصافي ١ : ٣٢٤ ـ ٣٢٥ ؛ التفسير الإمام عليه‌السلام : ٥٩١ ـ ٥٩٢ / ٣٥٣ ؛ البحار ٩ : ١٨٨ ـ ١٩ باب ١.

(٣) الدرّ ١ : ٤١١ ؛ الطبري ٢ : ١٢٨ / ٢٠٧٩ ؛ مجمع البيان ١ : ٤٨٥ ، نقلا عن ابن عبّاس ومجاهد واختاره أبو مسلم بلفظ : ليس البرّ كلّه في التوجّه إلى الصلاة حتّى يضاف إلى ذلك غيره من الطاعات الّتي أمر الله بها.

(٤) الدرّ ١ : ٤١٠ ؛ ابن أبي حاتم ١ : ٢٨٧ / ١٥٣٩ ؛ الحاكم ٢ : ٢٧٢.

٣٨٩

عبد الرحمان قال : جاء رجل إلى أبي ذرّ فقال : ما الإيمان؟ فتلا عليه هذه الآية : (لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ) حتّى فرغ منها. فقال الرجل : ليس عن البرّ سألتك. فقال أبو ذرّ : جاء رجل إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فسأله عمّا سألتني ، فقرأ عليه هذه الآية فأبى أن يرضى كما أبيت أن ترضى ، فقال له رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : ادن ، فدنا فقال : «المؤمن إذا عمل الحسنة سرّته ورجا ثوابها ، وإذا عمل السيّئة أحزنته وخاف عقابها» (١).

[٢ / ٤٤٠١] وأخرج وكيع وابن أبي شيبة وابن المنذر عن أبي ميسرة قال : من عمل بهذه الآية فقد استكمل الإيمان ؛ (لَيْسَ الْبِرَّ ...) الآية (٢).

[٢ / ٤٤٠٢] وأخرج عبد بن حميد عن مجاهد (لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلكِنَّ الْبِرَّ) ما ثبت في القلوب من طاعة الله (٣).

[٢ / ٤٤٠٣] وأخرج أحمد والبزّار عن ابن عبّاس قال : «جلس رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مجلسا ، فأتاه جبريل فجلس بين يدي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم واضعا كفّيه على ركبتي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : يا رسول الله حدّثني عن الإسلام؟ قال : الإسلام أن تسلم وجهك لله عزوجل ، وأن تشهد أن لا إله إلّا الله وحده لا شريك له ، وأنّ محمّدا عبده ورسوله! قال : فإذا فعلت ذلك فقد أسلمت. قال : يا رسول الله حدّثني عن الإيمان؟ قال : الإيمان أن تؤمن بالله واليوم الآخر والملائكة والكتاب والنبيّين والموت والحياة بعد الموت ، وتؤمن بالجنّة والنار والحساب والميزان ، وتؤمن بالقدر كلّه خيره وشرّه! قال : فإذا فعلت ذلك فقد آمنت. قال : يا رسول الله حدّثني ما الإحسان؟ قال : الإحسان أن تعمل لله كأنّك تراه فإن لا تراه فإنّه يراك» (٤).

[٢ / ٤٤٠٤] وأخرج البزّار عن أنس قال : «بينا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم جالس مع أصحابه إذ جاءه رجل

__________________

(١) الدرّ ١ : ٤١١ ؛ ابن كثير ١ : ٢١٣ ؛ الثعلبي ٢ : ٥٣ ، إلى قوله : فأبى أن يرضى ... ؛ الوسيط ١ : ٢٦٣ ـ ٢٦٤.

(٢) الدرّ ١ : ٤١٢ ؛ المصنّف ٨ : ٢١٦ / ١٥ ، باب ٣٩.

(٣) الدرّ ١ : ٤١٢ ؛ الطبري ٢ : ١٢٨ ، ذيل رقم ٢٠٧٩ ، بلفظ : قال ابن جريج : وقال مجاهد : لَيْسَ الْبِرَّ ... يعني السجود وَلكِنَّ الْبِرَّ ما ثبت في القلوب من طاعة الله.

(٤) الدرّ ١ : ٤١٢ ـ ٤١٣ ؛ مسند أحمد ١ : ٣١٩ ؛ ابن كثير ٣ : ٤٦٣ ؛ سورة لقمان ، الآية ٣٤ ؛ مجمع الزوائد ١ : ٣٨ ، كتاب الإيمان.

٣٩٠

ليس عليه ثياب السفر يتخلّل الناس حتّى جلس بين يدي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فوضع يده على ركبة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقال : يا محمّد ما الإسلام؟ قال : شهادة أن لا إله إلّا الله وحده لا شريك له وأنّ محمّدا عبده ورسوله ، وإقام الصلاة ، وإيتاء الزكاة ، وصوم شهر رمضان ، وحجّ البيت إن استطعت إليه سبيلا. قال : فإذا فعلت ذلك فأنا مسلم؟ قال : نعم. قال : صدقت. ثمّ قال : يا محمّد ما الإيمان؟ قال : الإيمان بالله واليوم الآخر والملائكة والكتاب والنبيّين وبالموت وبالبعث وبالحساب وبالجنّة وبالنّار وبالقدر كلّه. قال : فإذا فعلت ذلك فأنا مؤمن؟ قال : نعم. قال : صدقت. قال : يا محمّد ما الإحسان؟ قال : أن تخشى الله كأنّك تراه فإن لم تره فإنّه يراك. قال : فإذا فعلت ذلك فأنا محسن؟

قال : نعم. قال : صدقت. قال : يا محمّد متى الساعة؟ قال : ما المسؤول عنها بأعلم من السائل! وأدبر الرجل فذهب. فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : عليّ بالرجل ، فاتّبعوه يطلبونه فلم يروا شيئا. فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : ذاك جبريل جاءكم ليعلّمكم دينكم» (١).

قوله تعالى : (وَآتَى الْمالَ عَلى حُبِّهِ)

[٢ / ٤٤٠٥] أخرج ابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير في قوله : (وَآتَى الْمالَ) يعني أعطى المال (عَلى حُبِّهِ) يعني على حبّ المال (٢).

[٢ / ٤٤٠٦] وأخرج ابن المبارك في الزهد ووكيع وسفيان بن عيينة وعبد الرزّاق والفريابي وسعيد بن منصور وابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن جرير والطبراني والحاكم وصحّحه وابن مردويه والبيهقي في سننه عن ابن مسعود : (وَآتَى الْمالَ عَلى حُبِّهِ) قال : يعطي وهو صحيح شحيح يأمل العيش ويخاف الفقر. وأخرج الحاكم عن ابن مسعود مرفوعا مثله (٣).

[٢ / ٤٤٠٧] وأخرج البيهقي في شعب الإيمان عن المطّلب «أنّه قيل : يا رسول الله ما (وَآتَى الْمالَ عَلى حُبِّهِ) فكلّنا نحبّه؟ قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : تؤتيه حين تؤتيه ونفسك تحدّثك بطول العمر

__________________

(١) الدرّ ١ : ٤١٣ ؛ مختصر زوائد مسند البزّار ١ : ٦٨ ـ ٦٩ / ١٤ ، وفيه : «فأنا مسلم» بدل قوله «فأنا مؤمن» ؛ مجمع الزوائد ١ : ٤٠.

(٢) الدرّ ١ : ٤١٤ ؛ ابن أبي حاتم ١ : ٢٨٨ / ١٥٤٧.

(٣) الدرّ ١ : ٤١٤ ؛ عبد الرزّاق ١ : ٣٠٢ / ١٦١ ؛ المصنّف لابن أبي شيبة ٨ : ١٦٣ / ٣٨ ؛ الطبري ٢ : ١٢٩ ـ ١٣١ ؛ الحاكم ٢ : ٢٧٢ ؛ البيهقي ٤ : ١٩٠ ؛ الثعلبي ٢ : ٥١.

٣٩١

والفقر». (١)

[٢ / ٤٤٠٨] وأخرج أحمد وأبو داوود والترمذي وصحّحه والنسائي والحاكم وصحّحه والبيهقي عن أبي الدرداء قال : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول : «مثل الّذي ينفق (٢) أو يتصدّق عند الموت مثل الّذي يهدي إذا شبع» (٣).

[٢ / ٤٤٠٩] وأخرج أحمد والبخاري ومسلم وأبو داوود والنسائي وابن حبّان عن أبي هريرة قال :

قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «أفضل الصدقة أن تصّدّق وأنت صحيح شحيح تأمل البقاء وتخشى الفقر ، ولا تمهل حتّى إذا بلغت الحلقوم قلت لفلان كذا لفلان كذا ألا وقد كان لفلان» (٤).

* * *

قال الشيخ أبو عليّ الطبرسي ـ في قوله تعالى : (عَلى حُبِّهِ :) فيه وجوه :

[٢ / ٤٤١٠] أحدها : أنّ الكناية راجعة إلى المال ، أي على حبّ المال ، فيكون المصدر مضافا إلى المفعول. وهو معنى قول ابن عبّاس وابن مسعود.

ثانيها : أن تكون الهاء راجعة إلى الموصول (مَنْ آمَنَ ،) فيكون المصدر مضافا إلى الفاعل ، ولم يذكر المفعول ، لظهور المعنى ووضوحه. قال : وهو مثل الوجه الأوّل سواء في المعنى.

ثالثها : أن تكون الهاء راجعة إلى الإيتاء ، الّذي دلّ عليه قوله (وَآتَى الْمالَ). والمعنى : على حبّه الإعطاء. ويجري ذلك مجرى قول القطامي :

هم الملوك وأبناء الملوك لهم

والآخذون به والساسة الأول

فكنّى بالهاء عن الملك ، لدلالة قوله : «الملوك» عليه.

رابعها : أنّ الهاء راجعة إلى الله تعالى ، لأنّ ذكره سبحانه قد تقدّم. أي يعطون المال على حبّ

__________________

(١) الدرّ ١ : ٤١٤ ؛ الشعب ٣ : ٢٥٦ / ٣٤٧١.

(٢) وفي أكثر المصادر : يعتق.

(٣) الدرّ ١ : ٤١٤ ؛ أبو الفتوح ٢ / ٣١٢ ؛ مسند أحمد ٦ : ٤٤٨ ؛ أبو داوود ٢ : ٢٤٢ / ٣٩٦٨ ، باب ١٥ ؛ الترمذي ٣ : ٢٩٤ ـ ٢٩٥ / ٢٢٠٦ ؛ النسائي ٣ : ١٧٢ / ٤٨٩٣ ؛ الحاكم ٢ : ٢١٣ ؛ الشعب ٤ : ٧٢ ـ ٧٣ / ٤٣٤٧ ؛ كنز العمّال ١٠ : ٣١٩ / ٢٩٥٩٦.

(٤) الدرّ ١ : ٤١٤ ؛ مسند أحمد ٢ : ٤٤٧ ؛ البخاري ٢ : ١١٥ ؛ كتاب الزكاة ، باب ١١ ؛ مسلم ٣ : ٩٣ و ٩٤ ، كتاب الزكاة ؛ أبو داوود ١ : ٦٥٥ / ٢٨٦٥ ، باب ٣ ؛ النسائي ٤ : ٩٩ / ٦٤٣٨ ؛ ابن حبّان ٨ : ١٢٥ / ٣٣٣٥ ؛ كنز العمّال ٦ : ٤٠٠ / ١٦٢٥١.

٣٩٢

الله وخالصا لوجهه. قال المرتضى ـ قدس الله روحه ـ : لم نسبق إلى هذا الوجه في هذه الآية. وهو أحسن ما قيل فيها ؛ لأنّ تأثير ذلك أبلغ من تأثير حبّ المال ، لأنّ المحبّ للمال الضنين به متى بذله وأعطاه ولم يقصد به القربة إلى الله تعالى ، لم يستحقّ شيئا من الثواب ، وإنّما يؤثّر حبّه للمال في زيادة الثواب متى حصل قصد القربة والطاعة. ولو تقرّب بالعطيّة وهو غير ضنين بالمال ولا محبّ له لا يستحقّ الثواب (١).

* * *

وهذا الّذي ذكره أبو عليّ الطبرسي رحمه‌الله مقتبس من تحقيق جامع حول الآية ، أورده السيد المرتضى علم الهدى ـ قدّس الله روحه ـ في أماليه ، فلنذكره بنصّه :

قال : إن سأل سائل عن قوله تعالى : (لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ) إلى قوله : (وَأُولئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ) فقال :

كيف ينفي كون تولية الوجوه إلى الجهات ، من البرّ؟ وإنّما يفعل ذلك في الصلاة ، وهي برّ لا محالة. وكيف خبّر عن البرّ بمن؟ والبرّ كالمصدر ، ومن اسم محض!

وعن أيّ شيء كنّى بالهاء في قوله : (وَآتَى الْمالَ عَلى حُبِّهِ). وما المخصوص بأنّها كناية عنه ، وقد تقدّمت أشياء كثيرة؟

وعلى أيّ شيء ارتفع (الْمُوفُونَ؟) وكيف نصب (الصَّابِرِينَ) وهو معطوف على (الْمُوفُونَ).

وكيف وحّد الكناية في موضع وجمعها في آخر ، فقال : من آمن ، وآتى المال ، وأقام الصلاة. ثمّ قال : والموفون ، والصابرين؟

فقال في الجواب : يقال له فيما ذكرته أوّلا جوابان :

أحدهما : أنّه أراد تعالى ، ليس الصلاة هي البرّ كلّه ، ولكنّه عدّد ما في الآية من ضروب الطاعات وصنوف الواجبات ، فلا تظنّوا أنّكم إذا توجّهتم إلى الجهات بصلاتكم ، فقد أحرزتم البرّ بأسره وحزتموه بكماله ، بل يبقى عليكم بعد ذلك معظمه وأكثره.

والجواب الثاني : أنّ النصارى لمّا توجّهوا إلى المشرق ، واليهود إلى بيت المقدس ، واتّخذوا هاتين الجهتين قبلتين ، واعتقدوا في الصلاة إليها أنّهما برّ وطاعة ، خلافا على الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أكذبهم

__________________

(١) مجمع البيان ١ : ٤٨٧.

٣٩٣

الله في ذلك ، وبيّن أنّ ذلك ليس من البرّ ؛ إذ كان منسوخا بشريعة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الّتي تلزم الأسود والأبيض والعربيّ والعجميّ وأنّ البرّ هو ما تضمّنته الآية.

فأمّا إخباره بمن ، ففيه وجوه ثلاثة :

أوّلها : أن يكون البرّ هاهنا البارّ أو ذا البرّ ، وجعل أحدهما في مكان الآخر ، والتقدير : ولكنّ البارّ من آمن بالله ويجري ذلك مجرى قوله تعالى : (أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ ماؤُكُمْ غَوْراً)(١) يريد غائرا ومثل قول الشاعر :

ترتع ما رتعت حتّى إذا ادّكرت

فإنّما هي إقبال وإدبار

أراد أنّها مقبلة مدبرة. ومثله :

تظلّ جيادهم نوحا عليهم

مقلدة أعنتها صفونا

أراد نائحة عليهم. ومثله قول الشاعر :

هريقي من دموعهم سجاما

ضباع وجاوبي نوحا قياما

والوجه الثاني : أنّ العرب قد تخبر عن الاسم بالمصدر والفعل ، وعن المصدر بالإسم ، فأمّا إخبارهم عن المصدر بالإسم فقوله تعالى : (وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللهِ)(٢) وقول العرب : إنّما البرّ الّذي يصل الرحم ويفعل كذا وكذا. وأمّا إخبارهم عن الاسم بالمصدر والفعل فمثل قول الشاعر :

لعمرك ما الفتيان أن تنبت اللّحى

ولكنّما الفتيان كلّ فتى ندّ

فجعل أن تنبت ، وهو مصدر ، خبرا عن الفتيان.

والوجه الثالث : أن يكون المعنى : ولكنّ البرّ برّ من آمن ، فحذف البرّ الثاني وأقام الأوّل مقامه ، كقوله تعالى : (وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ)(٣) أراد حبّ العجل. قال الشاعر :

وكيف تواصل من أصبحت

خلالته كأبي مرحب

أراد : كخلالة أبي مرحب. وقال النابغة :

وقد خفت حتّى ما تزيد مخافتي

على وعل في ذي المطارة عاقل

أراد على مخافة وعل. وتقول العرب : بنو فلان يطؤهم الطريق أي أهل الطريق. وحكي عن

__________________

(١) الملك ٦٧ : ٣٠.

(٢) البقرة ٢ : ١٧٧.

(٣) البقرة ٢ : ٩٣.

٣٩٤

بعضهم : أطيب الناس الزبد ، أي أطيب ما يأكل الناس الزبد. وكذلك قولهم : حسبت صباحي زيدا ، أي صباح زيد.

[٢ / ٤٤١١] وروي عن ابن عبّاس في قوله تعالى : (لَيْسَ عَلَى الْأَعْمى حَرَجٌ)(١) أي ليس على من أكل مع الأعمى حرج. وفي قوله تعالى : (رابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ)(٢) وذكروا أنّه كان راعيا تبعهم.

فأمّا ما كنّى عنه بالهاء في قوله تعالى : (وَآتَى الْمالَ عَلى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبى) ففيه وجوه أربعة :

أوّلها : أن تكون الهاء راجعة على المال الّذي تقدّم ذكره ، ويكون المعنى : وآتى المال على حبّ المال ، وأضيف الحبّ إلى المفعول ، ولم يذكر الفاعل ، كما يقول القائل : اشتريت طعامي كاشتراء طعامك ، والمعنى كاشترائك طعامك.

والوجه الثاني : أن تكون الهاء راجعة إلى (مَنْ آمَنَ بِاللهِ) فيكون المصدر مضافا إلى الفاعل ، ولم يذكر المفعول لظهور المعنى ووضوحه.

والوجه الثالث : أن ترجع الهاء إلى الإيتاء الّذي دلّ عليه آتى ، والمعنى : وأعطى المال على حبّ الإعطاء ، ويجري ذلك مجرى قول القطامي :

هم الملوك وأبناء الملوك لهم

والآخذون به والساسة الأول

فكنّى بالهاء عن الملك ، لدلالة قوله «وأبناء الملوك» عليه .. ومثله قول الشاعر :

إذا نهي السفيه جرى إليه

وخالف والسفيه إلى خلاف

أراد جرى إلى السفه الّذي دلّ ذكر السفيه عليه.

والوجه الرابع : أن تكون الهاء راجعة إلى الله ، لأنّ ذكره تعالى قد تقدّم ، فيكون «وآتى المال على حبّ الله ، ذوي القربى واليتامى».

فإن قيل : وأيّ فائدة في ذلك ، وقد علمنا الفائدة في إيتاء المال مع محبّته والضنّ به ، وأنّ العطيّة تكون أشرف وأمدح ، فما الفائدة فيما ذكرتموه ، وما معنى محبّة الله ، والمحبّة عندكم هي الإرادة ، والقديم لا يصحّ أن يراد؟

قلنا : أمّا المحبّة عندنا فهي الإرادة ، إلّا أنّهم يستعملونها كثيرا مع حذف متعلّقها مجازا وتوسّعا ، فيقولون : فلان يحبّ زيدا إذا أراد منافعه ، ولا يقولون : زيدا يريد عمرا بمعنى أنّه يريد منافعه ، لأنّ

__________________

(١) النور ٢٤ : ٦١.

(٢) الكهف ١٨ : ٢٢.

٣٩٥

التعارف جرى في استعمال الحذف والاختصار في المحبّة دون الإرادة ، وإن كان المعنى واحدا ، وقد ذكر أنّ لقولهم : زيد يحبّ عمرا مزية على قولهم : يريد منافعه ، لأنّ اللّفظ الأوّل ينبىء عن أنّه لا يريد إلّا منافعه ، وأنّه لا يريد شيئا من مضارّه. والثاني لا يدلّ على ذلك ، فجعلت له مزية. وعلى هذا المعنى نصف الله بأنّه يحبّ أولياءه المؤمنين من عباده ، والمعنى فيه : أنّه يريد لهم ضروب الخير من التعظيم والإجلال والنعم ، فأمّا وصف أحدنا بأنّه يحبّ الله ، فالمعنى فيه : أنّه يريد تعظيمه وعبادته والقيام بطاعته ، ولا يصحّ المعنى الّذي ذكرناه في محبّة بعضهم بعضا ، لاستحالة المنافع عليه تعالى. ومن جوّز عليه تعالى الانتفاع لا يصحّ أيضا أن يكون محبّا له على هذا المعنى ، لأنّه باعتقاده ذلك فيه قد خرج من أن يكون عارفا به ، فمحبّته في الحقيقة لا تتعلّق ولا تتوجّه إليه ، كما نقول في أصحاب التشبيه : إنّهم إذا عبدوا من اعتقدوه إلها فقد عبدوا غير الله تعالى.

فأمّا الفائدة في إعطاء المال مع محبّة الله ، فهي ظاهرة ، لأنّ إعطاء المال متى قارنته إرادة وجه الله وعبادته وطاعته ، استحقّ به الثواب ، ومتى لم يقترن به ذلك لم يستحقّ الفاعل به ثوابا وكان ضائعا. وتأثير ما ذكرناه أبلغ من تأثير حبّ المال والضنّ به ، لأنّ المحبّ للمال الضنين به متى بذله وأعطاه ولم يقصد به الطاعة والعبادة والقربة لم يستحق به شيئا من الثواب ، وإنّما يؤثّر حبّه للمال في زيادة الثواب متى حصل ما ذكرناه من قصد القربة والعبادة. ولو تقرّب بالعطيّة وهو غير ضنين بالمال ولا محبّ له لا يستحق الثواب.

وهذا الوجه لم نسبق إليه في هذه الآية ، وهو أحسن ما قيل فيها.

وقد ذكر وجه آخر وهو أن يكون الهاء راجعة إلى (مَنْ آمَنَ) أيضا وينتصب ذوي القربى بالحبّ ، ولا يجعل لآتى منصوبا ، لوضوح المعنى ، ويكون تقدير الكلام : وأعطى المال في حال حبّه ذوي القربي واليتامى ، على محبّته إيّاهم.

وهذا الوجه ليس فيه مزيّة في باب رجوع الهاء الّتي وقع عليها السؤال ، وإنّما يتبيّن ممّا تقدّم ، بتقدير انتصاب ذوي القربى بالحبّ ، وذلك غير ما وقع السؤال عنه والأجوبة الأول أقوى وأولى.

فأمّا قوله : (وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ) ففي رفعه وجهان ؛ أحدهما : أن يكون مرفوعا على المدح ، لأنّ النعت إذا طال وكثر رفع بعضه ونصب بعضه على المدح ، ويكون المعنى : وهم الموفون بعهدهم. قال الزجّاج : وهذا أجود الوجهين.

٣٩٦

والوجه الآخر : أن يكون معطوفا على (مَنْ آمَنَ) ويكون المعنى : ولكنّ ذا البرّ وذوي البرّ المؤمنون والموفون بعهدهم.

فأمّا نصب الصابرين ففيه وجهان ؛ أحدهما : المدح ، لأنّ مذهبهم في الصفات والنعوت إذا طالت ، أن يعترضوا بينهما بالمدح والذمّ ، ليميّزوا الممدوح أو المذموم ويفردوه ، فيكون غير متّبع لأوّل الكلام. من ذلك قول الخرنق بنت بدر بن هفّان :

لا يبعدن قومي الّذين هم

سمّ العداة وآفة الجزر

النّازلين بكلّ معترك

والطّيّبين معاقد الأزر

فنصبت ذلك على المدح وربما رفعوهما جميعا على أن يتّبع آخر الكلام أوّله. ومنهم من ينصب النازلين ويرفع الطيّبين ، وآخرون يرفعون النازلين وينصبون الطيّبين. والوجه في النصب والرفع ما ذكرناه. ومن ذلك قول الشاعر أنشده الفرّاء :

إلى الملك القرم وابن الهمام

وليث الكتيبة في المزدحم

وذا الرّأي حين تغمّ الأمو

ر بذات الصّليل وذات اللّجم

فنصب ليث الكتيبة وذا الرأي على المدح .. وأنشد الفرّاء أيضا :

فليت الّتي فيها النجوم تواضعت

على كلّ غثّ منهم وسمين

غيوث الحيا في كلّ محل ولزبة

أسود الشّرا يحمين كلّ عرين

وممّا نصب على الذمّ قوله :

سقوني الخمر ثمّ تكنّفوني

عداة الله من كذب وزور

والوجه الآخر في نصب الصابرين : أن يكون معطوفا على ذوي القربى ، ويكون المعنى : وآتى المال على حبّه ذوي القربى والصابرين. قال الزجاج : وهذا لا يصلح إلّا أن يكون الموفون رفعا على المدح للمضمرين ، لأنّ ما في الصلة لا يعطف عليه بعد العطف على الموصول ، وكان يقوّي الوجه الأوّل.

وأمّا توحيد الذكر في موضع وجمعه في آخر ، فلأنّ (مَنْ آمَنَ) لفظه لفظ الوحدة ، وإن كان في المعنى للجمع ، فالذكر الّذي أتى بعده موحّدا يجري على اللفظ ، وما جاء من الوصف بعد ذلك على سبيل الجمع مثل قوله تعالى : (وَالْمُوفُونَ) و (الصَّابِرِينَ) ، فعلى المعنى.

٣٩٧

وقد اختلفت قراءة القرّاء السبعة في رفع الراء ونصبها من قوله تعالى : (لَيْسَ الْبِرَّ) فقرأ حمزة وعاصم في رواية حفص : ليس البرّ ، بنصب الراء وروى هبيرة عن حفص عن عاصم أنّه كان يقرأ بالنصب والرفع ، وقرأ الباقون البرّ بالرفع ، والوجهان حسنان ، لأنّ كلّ واحد من الاسمين اسم ليس وخبرها معرفة ، فإذا اجتمعا في التعريف تكافآ في جواز كون أحدهما اسما والآخر خبرا ، كما تتكافأ النكرات.

وحجّة من رفع البرّ : أنّه لأن يكون البرّ الاسم ، لشبهه الفاعل أولى ، لأنّ (لَيْسَ) يشبه الفعل ، وكون الفاعل بعد الفعل أولى من كون المفعول بعده ، ألا ترى أنّك إذا قلت قام زيد ، فإنّ الاسم يلي الفعل ، وتقول : ضرب غلامه زيد ، فيكون التقدير في الغلام التأخير ، فلو لا أنّ الفاعل أخصّ بهذا الموضع ، لم يجز هذا كما لم يجز في الفاعل ضرب غلامه زيدا ، حيث لم يجز في الفاعل تقدير التأخير ، كما جاز في المفعول به ، لوقوع الفاعل موقعه المختصّ به.

وحجّة من نصب البرّ أن يقول : كون الإسم أن وصلتها أولى لشبهها بالمضمر في أنّها لا توصف ، كما لا يوصف المضمر ، فكأنّه اجتمع مضمر ومظهر والأولى إذا اجتمعا أن يكون المضمر الاسم من حيث كان أذهب في الاختصاص من المظهر (١).

قوله تعالى : (ذَوِي الْقُرْبى) [٢ / ٤٤١٢] أخرج ابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير في قوله : (ذَوِي الْقُرْبى) يعني قرابته (٢).

[٢ / ٤٤١٣] وأخرج الطبراني والحاكم وصحّحه والبيهقي في سننه عن أمّ كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول : «أفضل الصدقة على ذي الرحم الكاشح» (٣).

[٢ / ٤٤١٤] وأخرج أحمد والدارمي والطبراني عن حكيم بن حزام أنّ رجلا سأل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم

__________________

(١) أمالي المرتضى ١ : ٢٠٠ ـ ٢٠٨.

(٢) الدرّ ١ : ٤١٤ ؛ ابن أبي حاتم ١ : ٢٨٩ / ١٥٤٩.

(٣) الدرّ ١ : ٤١٤ ؛ الكبير ٢٥ : ٨٠ ؛ الحاكم ١ : ٤٠٦ ؛ البيهقي ٧ : ٢٧ ؛ مجمع الزوائد ٣ : ١١٦. قال الهيثمي : رواه الطبراني في الكبير ورجاله رجال الصحيح ؛ الثعلبي ٢ : ٥١.

٣٩٨

عن الصدقات أيّها أفضل؟ قال : «على ذي الرحم الكاشح» (١).

[٢ / ٤٤١٥] وأخرج ابن أبي شيبة وأحمد والترمذي وحسّنه والنسائي وابن ماجة والحاكم والبيهقي في سننه عن سلمان بن عامر الضبّي قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «الصدقة على المسكين صدقة ، وعلى ذي الرحم اثنتان : صدقة وصلة» (٢).

[٢ / ٤٤١٦] وأخرج أحمد والبخاري ومسلم والنسائي وابن ماجة عن زينب امرأة عبد الله بن مسعود قالت : سألت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أتجزيء عنّي من الصدقة النفقة على زوجي وأيتام في حجري؟ قال : «لك أجران : أجر الصدقة وأجر القرابة» (٣).

[٢ / ٤٤١٧] وأخرج ابن المنذر عن فاطمة بنت قيس أنّها قالت : يا رسول الله إنّ لي سبعين مثقالا من ذهب! قال : «اجعليه في قرابتك» (٤).

ملحوظة

قال الشيخ أبو جعفر الطوسي في قوله تعالى : (ذَوِي الْقُرْبى) : قيل : أراد به قرابة المعطي.

اختاره الجبّائي. نظرا لحديث فاطمة بنت قيس .. قال : ويحتمل أن يكون أراد به قرابة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كما في آية (الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى)(٥) قال : وهو قول أبي جعفر وأبي عبد الله عليهما‌السلام (٦).

وتبعه الطبرسي أيضا قال : ويحتمل أن يكون أراد قرابة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كما في آية المودّة. وهو

__________________

(١) الدرّ ١ : ٤١٤ ؛ مسند أحمد ٣ : ٤٠٢ ؛ الدارمي ١ : ٣٩٧ ؛ الكبير ٣ : ٢٠٢ ـ ٢٠٣ / ٣١٢٦ ؛ مجمع الزوائد ٣ : ١١٦ ، قال الهيثمي : رواه أحمد والطبراني في الكبير وأسناده حسن ؛ التبيان ٢ : ٩٧ ، بلفظ : «جهد المقلّ على ذي القرابة الكاشح» ؛ مجمع البيان ١ : ٤٨٧.

(٢) الدرّ ١ : ٤١٥ ؛ المصنّف ٣ : ٨٣ / ١٢ ؛ مسند أحمد ٤ : ١٧ ، وفيه «ذي القرابة» بدل «ذي الرحم» ؛ الترمذي ٢ : ٨٤ / ٦٥٣ ؛ النسائي ٢ : ٤٩ / ٢٣٦٣ ؛ ابن ماجة ١ : ٥٩١ / ١٨٤٤ ، وفيه «القرابة» بدل «الرحم» ؛ الحاكم ١ : ٤٠٧ ، كتاب الزكاة ؛ البيهقي ٤ : ١٧٤ ؛ البغوي ١ : ٢٠٤ ـ ٢٠٥ / ١٢٤ ؛ ابن كثير ١ : ٢١٤ ، وزاد : فهم أولى الناس بك ببرّك وإعطائك.

(٣) الدرّ ١ : ٤١٥ ؛ مسند أحمد ٦ : ٣٦٣ ؛ البخاري ٢ : ١٢٨ ؛ مسلم ٣ : ٨٠ ؛ النسائي ٥ : ٣٨٠ ـ ٣٨١ / ٩٢٠٠ ؛ ابن ماجة ١ : ٥٨٧ / ١٨٣٤ ؛ الحاكم ٤ : ٦٠٣ ؛ مجمع الزوائد ٣ : ١١٧ ؛ أبو الفتوح ٢ : ٣١٣.

(٤) الدرّ ١ : ٤١٥ ؛ الطبري ٢ : ١٣٠ / ٢٠٨٦ ؛ التبيان ٢ : ٩٧ ؛ مجمع البيان ١ : ٤٨٧ ؛ أبو الفتوح ٢ : ٣١٣.

(٥) الشورى ٤٢ : ٢٣.

(٦) التبيان ٢ : ٩٦.

٣٩٩

المرويّ عن أبي جعفر وأبي عبد الله عليهما‌السلام (١).

قلت : ولعلّه من خلط بين الروايات ؛ إذ المرويّ عنهما عليهما‌السلام تفسير لآيتي الخمس والفيء من سورتي الأنفال (٢) والحشر (٣) ، للمناسبة هناك ، ولا مناسبة هنا!

قوله تعالى : (وَابْنَ السَّبِيلِ)

[٢ / ٤٤١٨] روي عن مجاهد قال : أنّه المسافر المنقطع به عن أهله ، يمرّ عليك (٤).

[٢ / ٤٤١٩] وقد عبّر عنه بعضهم بالضيف (٥).

قوله تعالى : (وَالسَّائِلِينَ)

[٢ / ٤٤٢٠] عن عكرمة : أنّه السائل الّذي يسألك (٦).

[٢ / ٤٤٢١] وأخرج أحمد وأبو داوود وابن أبي حاتم عن الإمام الحسين بن عليّ عليه‌السلام قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «للسائل حقّ ، وإن جاء على فرس» (٧).

وأخرجه الثعلبي عن عبد الله بن الحسن عليه‌السلام عن أمّه فاطمة بنت الحسين عليه‌السلام قالت : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «للسائل حقّ وإن جاء على فرس» (٨).

وأخرجه ابن كثير عن فاطمة بنت الحسين عن أبيها ـ الحسين بن عليّ عليهما‌السلام ـ قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ... قال : ورواه أبو داوود (٩).

[٢ / ٤٤٢٢] وأخرج ابن أبي شيبة عن سالم بن أبي الجعد قال : قال عيسى بن مريم : للسائل حقّ

__________________

(١) مجمع البيان ١ : ٤٨٧.

(٢) الأنفال ٨ : ٤١.

(٣) الحشر ٥٩ : ٧.

(٤) الطبري ٢ : ١٣٢ و ٤ : ١١٧ ؛ الثعلبي ٢ : ٥١ ؛ عبد الرزّاق ١ : ٤٥٥ ـ ٤٥٦.

(٥) ابن أبي حاتم ١ : ٢٨٩ ، عن ابن عبّاس وقتادة وسعيد بن جبير.

(٦) الطبري ٢ : ١٣٣.

(٧) مسند أحمد ١ : ٢٠١. ابن أبي حاتم ١ : ٢٩٠ ؛ أبو داوود ١ : ٣٧٥ / ١٦٦٥ ؛ البيهقي ٧ : ٢٣.

(٨) الثعلبي ٢ : ٥٢.

(٩) ابن كثير ١ : ٢١٤.

٤٠٠