التفسير الأثري الجامع - ج ٤

الشيخ محمّد هادي معرفة

التفسير الأثري الجامع - ج ٤

المؤلف:

الشيخ محمّد هادي معرفة


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة التمهيد ـ قم
المطبعة: ستاره
الطبعة: ١
ISBN: 978-600-5079-05-0
ISBN الدورة:
978-600-5079-08-1

الصفحات: ٥٦٠

ولنقدّم أحاديث السلف بشأن نسخ الآية :

[٢ / ٤٥٣٧] أخرج البيهقي بالإسناد إلى ابن سيرين عن ابن عبّاس أنّه قام خطيبا في البصرة فقرأ عليهم سورة البقرة يبيّن ما فيها ، فأتى على هذه الآية : (إِنْ تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ لِلْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ) فقال : نسخت هذه الآية.

[٢ / ٤٥٣٨] وأخرج بالإسناد إلى عكرمة عن ابن عبّاس ، قال : كانت الوصيّة كذلك حتّى نسختها آية المواريث.

[٢ / ٤٥٣٩] وأخرج بالإسناد إلى وكيع عن سفيان عن جهضم عن عبد الله بن بدر عن عبد الله بن عمر ، قال : نسختها آية المواريث.

[٢ / ٤٥٤٠] وكذلك عن النخعي ، قال : نسختها آية المواريث.

[٢ / ٤٥٤١] وأخرج بالإسناد إلى الربيع بن سليمان قال : قال الشافعيّ وكذلك قال أكثر العامّة ، إلّا أنّ طاووسا وقليلا معه قالوا : ثبتت للقرابة غير الوارثين ، فمن أوصى لغير قرابة لم تجز (١).

[٢ / ٤٥٤٢] وأخرج ابن جرير بالإسناد إلى ابن عبّاس قال : نسخ من يرث ، ولم ينسخ الأقربين الّذين لا يرثون (٢).

[٢ / ٤٥٤٣] وأخرج أيضا عن ابن عبّاس قال : كان لا يرث مع الوالدين غيرهما إلّا وصيّة للأقربين. فأنزل الله آية المواريث ، فبيّن ميراث الوالدين ، وأقرّ الوصيّة للأقربين في ثلث المال (٣).

[٢ / ٤٥٤٤] وأخرج عن قتادة ، قال : نسخ الوالدان منها ، وترك الأقربون ممّن لا يرث (٤).

[٢ / ٤٥٤٥] وأخرج بالإسناد إلى أسباط عن السدّي قال : أمّا الوالدان والأقربون فيوم نزلت هذه الآية كان الناس ليس لهم ميراث معلوم ، إنّما يوصي الرجل لولده ولأهله فيقسم بينهم حتّى نسختها آية المواريث في سورة النساء (٥).

[٢ / ٤٥٤٦] وأخرج ابن أبي حاتم بالإسناد إلى الربيع عن أبي العالية قال : نسخ للوالدين ، فألحقا بأهل الميراث ، وصارت الوصيّة لأهل القرابة الّذين لا يرثون .. وكذلك روى عن سعيد بن جبير

__________________

(١) البيهقي ٦ : ٢٦٥.

(٢) الطبري ٢ : ١٦١ ـ ١٦٢ / ٢١٧٥.

(٣) المصدر : ١٦١ / ٢١٧٨.

(٤) المصدر / ٢١٧٤.

(٥) الطبري ٢ : ١٦٣ / ٢١٩٠.

٤٤١

والحسن والربيع بن أنس والضحّاك ومقاتل بن حيّان والزهري وقتادة (١).

[٢ / ٤٥٤٧] وأخرج عبد بن حميد عن مجاهد في الآية قال : كان الميراث للولد ، والوصية للوالدين والأقربين ، فهي منسوخة (٢).

* * *

[٢ / ٤٥٤٨] ومن روايات الخاصّة ما رواه العيّاشيّ بالإسناد إلى ابن مسكان عن أبي بصير عن أحدهما (الباقر أو الصادق عليهما‌السلام) في قوله تعالى : (كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ لِلْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ) قال : «هي منسوخة ، نسختها آية الفرائض الّتي هي المواريث ...» (٣).

وهكذا قال عليّ بن إبراهيم القمّي في تفسيره للآية : فإنّما هي منسوخة بآية المواريث (٤).

[٢ / ٤٥٤٩] وروى الشيخ أبو جعفر الطوسي بالإسناد إلى القاسم بن سليمان ، قال : «سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن رجل اعترف لوارث بدين في مرضه؟ فقال : لا تجوز وصيّته لوارث ولا اعتراف له بدين». (٥)

[٢ / ٤٥٥٠] وذكر الحسن بن عليّ بن شعبة خطبة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في حجّة الوداع ، قال فيها : «أيّها الناس ، إنّ الله قد قسّم لكلّ وارث نصيبه من الميراث ، ولا تجوز وصيّة لوارث بأكثر من الثلث». (٦)

[٢ / ٤٥٥١] وروى القاضي النعمان المغربي بالإرسال عن عليّ وأبي جعفر وأبي عبد الله عليهم‌السلام أنّهم قالوا : «لا وصيّة لوارث». قال : وهذا إجماع فيما علمناه.

[٢ / ٤٥٥٢] قال : وقد روينا عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه قال : «لا وصيّة لوارث ، قد فرض الله لأهل المواريث فرائضهم».

__________________

(١) ابن أبي الحاتم ١ : ٣٠٠ / ١٦٠٥.

(٢) الدرّ ١ : ٤٢٤ ؛ الطبري ٢ : ١٦٣ / ٢١٨٩ ، وفيه : ... وهي منسوخة نسختها آية (١١) في سورة النساء ؛ أبو الفتوح ٢ : ٣٤٥.

(٣) العيّاشيّ ١ : ٩٦ / ١٦٨ ؛ البحار ١٠٠ : ٢٠٠ / ٣٣ ؛ البرهان ١ : ٣٣٠.

(٤) القمي ١ : ٦٥.

(٥) التهذيب ٩ : ٢٠٠ / ٧٩٩ ؛ الاستبصار ٤ : ١٢٧ / ٤٧٩ ؛ الوسائل ١٩ : ٢٨٩ / ١٢.

(٦) تحف العقول : ٣٤ ؛ الوسائل ١٩ : ٢٩٠ / ١٤.

٤٤٢

[٢ / ٤٥٥٣] قال : وقد جاء عن جعفر بن محمّد عليه‌السلام أنّه قال في العطيّة للوارث والهبة في المرض الّذي يموت فيه : إنّها غير جائزة. قال : وهذا ممّا يؤيّد ما ذكرناه (١).

* * *

لكن هناك روايات صحاح (٢) تخالف ذلك ، وأن لا بأس بالوصيّة للوارث.

[٢ / ٤٥٥٤] روى ثقة الإسلام الكليني بالإسناد إلى أبي ولّاد الحنّاط عن الإمام أبي عبد الله الصادق عليه‌السلام «سأله عن الميّت يوصي للوارث بشيء؟ قال : نعم ، أو قال : جائز له» (٣).

[٢ / ٤٥٥٥] وبالإسناد إلى محمّد بن مسلم عن الإمام أبي جعفر الباقر عليه‌السلام «سأله عن الوصيّة للوارث؟ فقال : تجوز. ثمّ تلا الآية» (٤). ورواه الصدوق والشيخ بالإسناد إلى ابن أبي بكير (٥).

[٢ / ٤٥٥٦] وبالإسناد إلى أبي بصير المرادي عن أبي عبد الله عليه‌السلام «سأله عن الوصيّة للوارث؟ فقال : تجوز». (٦)

[٢ / ٤٥٥٧] وبالإسناد إلى محمّد بن مسلم عن أبي جعفر عليه‌السلام قال : «الوصيّة للوارث لا بأس بها» (٧).

[٢ / ٤٥٥٨] وأيضا عن محمّد بن مسلم عن أبي عبد الله عليه‌السلام «في الوصيّة للوارث؟ فقال : تجوز» (٨). ورواه الشيخ بالإسناد إلى عبد الله بن بكير مثله (٩).

[٢ / ٤٥٥٩] وبالإسناد إلى محمّد بن قيس قال : «سألت أبا جعفر عليه‌السلام عن الرجل يفضّل بعض ولده على بعض؟ فقال : نعم ، ونساءه!» (١٠). ورواه الصدوق بالإسناد إلى ثعلبة بن ميمون مثله (١١).

[٢ / ٤٥٦٠] وروى الشيخ أبو جعفر الطوسي بالإسناد إلى أبي ولّاد الحنّاط قال : «سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن الميّت يوصي للوارث بشيء؟ قال : جائز» (١٢).

__________________

(١) دعائم الإسلام ٢ : ٣٥٨ ـ ٣٥٩ / ١٣٠٥ و ١٣٠٦ و ١٣٠٧.

(٢) ذكرها صاحب الوسائل في الباب ١٥ من كتاب الوصايا (الوسائل ١٩ : ٢٨٧ ـ ٢٨٩).

(٣) الكافي ٧ : ٩ / ٢.

(٤) المصدر : ١٠ / ٥.

(٥) الفقيه ٤ : ١٤٤ / ٤٩٣ ؛ التهذيب ٩ : ١٩٩ / ٧٩٣.

(٦) الكافي ٧ : ٩ / ١.

(٧) المصدر / ٣ و ١٠ / ذيل ٣.

(٨) المصدر : ١٠ / ٤.

(٩) التهذيب ٩ : ١٩٩ / ٧٩١ ؛ الاستبصار ٤ : ١٢٦ / ٤٧٦.

(١٠) الكافي ٧ : ١٠ / ٦.

(١١) الفقيه ٤ : ١٤٤ / ٤٩٥.

(١٢) التهذيب ٩ : ٢٠٠ / ٧٩٨.

٤٤٣

[٢ / ٤٥٦١] وبهذا الإسناد قال : «سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن الميّت يوصي للبنت بشيء؟ قال : جائز» (١).

[٢ / ٤٥٦٢] وبالإسناد إلى ابن بكير عن محمّد بن مسلّم قال : «سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن الوصيّة للوارث؟ فقال : تجوز» (٢).

[٢ / ٤٥٦٣] وبالإسناد إلى أبي المغرا عن أبي بصير قال : «قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام : تجوز للوارث وصيّة؟ قال : نعم» (٣).

[٢ / ٤٥٦٤] وبالإسناد إلى عبد الرحمان بن أبي عبد الله قال : «سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن امرأة قالت لأمّها : إن كنت بعدي فجاريتي لك. فقضى عليه‌السلام أنّ ذلك جائز» (٤).

* * *

قال الشيخ أبو جعفر الطوسي رحمه‌الله : والترجيح مع روايات الجواز ، نظرا لموافقتها للكتاب (٥).

قلت : مضافا إلى إمكان حمل روايات المنع على صورة الاتّهام بإرادة الإضرار بسائر الورثة ، أو زيادة على مقدار الثلث ، فإن رضي الورثة جازت. كما لا تجوز المنح ـ أي العطايا المنجّزة حالة المرض قبل الموت ـ إلّا مع موافقة الورّاث.

[٢ / ٤٥٦٥] روى الشيخ بالإسناد إلى السكوني عن جعفر عن أبيه عن عليّ عليهم‌السلام : أنّه كان يردّ النحلة في الوصيّة ، وما أقرّ به عند موته بلا ثبت ولا بيّنة ردّه (٦).

ورواه الصدوق أيضا بنفس الإسناد (٧).

قال الشيخ : يعني إذا كان الميّت غير مرضيّ وكان متّهما على الورثة.

[٢ / ٤٥٦٦] وكذلك روى بالإسناد إلى مسعدة بن صدقة عن جعفر بن محمّد عن أبيه عليهما‌السلام قال : قال عليّ عليه‌السلام : «لا وصيّة لوارث ولا إقرار له بدين». يعني : إذا أقرّ المريض لأحد من الورثة بدين له ،

__________________

(١) الاستبصار ٤ : ١٢٧ / ٤٧٨.

(٢) التهذيب ٩ : ١٩٩ / ٧٩٢.

(٣) المصدر / ٧٩٤ ؛ الاستبصار ٤ : ١٢٧ / ٤٧٧.

(٤) التهذيب ٩ : ٢٠٠ / ٧٩٧ ؛ الوسائل ١٩ : ٢٨٩.

(٥) الاستبصار ٤ : ١٢٧.

(٦) التهذيب ٩ : ١٦١ / ٦٦٣ ؛ الاستبصار ٤ : ١١٢ / ٤٣٢.

(٧) الفقيه ٤ : ١٨٤ / ٦٤٦.

٤٤٤

فليس له ذلك (١).

[٢ / ٤٥٦٧] وروى بالإسناد إلى سماعة قال : «سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن عطيّة الوالد لولده؟ فقال : أمّا إذا كان صحيحا فهو ماله يصنع به ما شاء. وأمّا في مرضه فلا يصلح» (٢).

[٢ / ٤٥٦٨] وروى بالإسناد إلى جرّاح المدائني قال : «سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن عطيّة الوالد لولده ببيّنة؟ قال : إذا أعطاه في صحّته جاز» (٣).

[٢ / ٤٥٦٩] وبالإسناد إلى سماعة قال : «سألته ـ يعني الصادق عليه‌السلام ـ عن المرأة تبرىء زوجها من صداقها في مرضها؟ فقال : لا. ولكنّها إن وهبت له جاز ما وهبت له من ثلثها» (٤).

والمتلخّص من هذه الروايات أنّ المنع من الوصيّة للوارث ، إنّما يراد به صورة الإضرار بسائر الورّاث ، أو كونها زيادة على الثلث ، فتقع موقوفة على رضى الورثة.

[٢ / ٤٥٧٠] كما جاء التصريح به في خطبة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على ما رواه ابن شعبة وغيره ... جاء فيها : «إنّ الله قد قسم لكلّ وارث نصيبه من الميراث ، فلا تجوز وصيّة لوارث بأكثر من الثلث» (٥).

[٢ / ٤٥٧١] وفي حديث ابن عبّاس : «لا تجوز وصيّة لوارث إلّا أن يشاء الورثة» (٦).

[٢ / ٤٥٧٢] وفي حديث عمرو بن خارجة : «لا وصيّة لوارث إلّا أن يجيز الورثة» (٧).

إذن فليس لدينا دليل على المنع بصورة مطلقة.

ومن ثمّ فإنّ أصحابنا الإماميّة ـ تبعا لمذهب أهل البيت عليهم‌السلام أطبقوا على جواز الوصيّة للوارث ، بشرط عدم التهمة وعدم زيادتها على الثلث ، وإلّا تقع موقوفة على إذن الورثة ورضاهم ، فتكون الزيادة من حصّتهم محاباة.

قال المحقّق الحلّي في كتاب الوصايا من شرائع الإسلام : وتصحّ الوصيّة للأجنبيّ والوارث. قال الشهيد الثاني في الشرح : اتّفق أصحابنا على جواز الوصيّة للوارث ، كما تجوز لغيره من

__________________

(١) التهذيب ٩ : ١٦٢ / ٦٦٥ ؛ الاستبصار ٤ : ١١٣ / ٤٣٤ ؛ الوسائل ١٩ : ٢٩٥ / ١٢ و ١٣.

(٢) التهذيب ٩ : ١٥٦ / ٦٤٢ ؛ الاستبصار ٤ : ١٢٧ / ٤٨١ ؛ الوسائل ١٩ : ٣٠٠ / ١١.

(٣) التهذيب ٩ : ٢٠١ / ٨٠١ ؛ الاستبصار ٤ : ١٢٧ / ٤٨٠ ؛ الوسائل ١٩ : ٣٠١ / ١٤.

(٤) التهذيب ٩ : ٢٠١ / ٨٠٣ ؛ الوسائل ١٩ : ٣٠١ / ١٦.

(٥) تحف العقول : ٣٤ ؛ الوسائل ١٩ : ٢٩٠ / ١٤.

(٦) البيهقي ٦ : ٢٦٤.

(٧) المصدر.

٤٤٥

الأقارب والأجانب. وأخبارهم الصحيحة به واردة ـ وذكر الأخبار. ثمّ قال ـ : وفي الآية الكريمة ما يدلّ على الأمر به ، فضلا عن جوازه. قال : ومعنى «كتب» فرض ، وهو هنا بمعنى الحثّ والترغيب دون الفرض. ثمّ تعرّض لمذهب سائر الفقهاء وناقشها مناقشة فنّيّة وفق الأصول (١).

وقال المحقّق بشأن تصرّفات المريض : هي نوعان : مؤجّلة ومنجّزة. فالمؤجّلة ، حكمها حكم الوصيّة إجماعا ، وقد سلف. وكذا تصرّفات الصحيح إذا قرنت بما بعد الموت.

أمّا منجّزات المريض إذا كانت تبرّعا ، كالمحاباة في المعاوضات والهبة والعتق والوقف ، فقد قيل : إنّها من أصل المال. وقيل : من الثلث.

قال الشهيد الثاني ـ في الشرح ـ : اختلف الأصحاب في تصرّفات المريض المنجّزة المتبرّع بها ، فذهب الأكثر ـ ومنهم الشيخ في المبسوط (٢) ، والصدوق (٣) ، وابن الجنيد (٤) ، وسائر المتأخّرين (٥) إلى أنّها من الثلث كغير المنجّزة .. وقال المفيد (٦) ، والشيخ في النهاية (٧) ، وابن البرّاج (٨) ، وابن إدريس (٩) ، والآبي (١٠) تلميذ المصنّف : إنّها من الأصل. والمصنّف لم يرجّح هنا أحد القولين ، لكنّه رجّح الأوّل في مواضع متعدّدة من الكتاب (١١).

ثمّ أخذ في بيان منشأ الاختلاف وأنّه من اختلاف الروايات ظاهرا ، فذكرها وناقشها مناقشة فنيّة ، كما وتعرّض لأقوال سائر الفقهاء من العامّة وعالجها على مستوى دلائلهم في قياس المساواة وغيرها ، وتخرّج أخيرا إلى ترجيح القول الأوّل ، كما عليه الأكثر ، وكان في ذلك كفاية ووفاء. فجزاه عن الإسلام خير جزاء (١٢).

وهكذا نجد صاحب الجواهر تبع أثره في حسن الأداء والاستيفاء (١٣).

__________________

(١) مسالك الأفهام ٦ : ٢١٦ ـ ٢١٨.

(٢) المبسوط ٤ : ٤٤.

(٣) المقنع : ١٦٥.

(٤) راجع : المختلف ٢ : ٥١٤.

(٥) راجع : إيضاح الفوائد ٢ : ٥٩٣ وجامع المقاصد ١١ : ٩٤.

(٦) المقنعة : ٦٧١.

(٧) النهاية : ٦٢٠.

(٨) المهذّب ١ : ٤٢٠.

(٩) السرائر ٣ : ١٩٩ و ٢٢١.

(١٠) كشف الرموز ٢ : ٩١.

(١١) راجع : الجزء الرابع من الكتاب (شرائع الإسلام) : ١٥٦.

(١٢) مسالك الأفهام ٦ : ٣٠٤ ـ ٣١٥.

(١٣) جواهر الكلام ٢٨ : ٣٦٤.

٤٤٦

قوله تعالى : (فَمَنْ خافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفاً أَوْ إِثْماً فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ)

[٢ / ٤٥٧٣] أخرج الطستي عن ابن عبّاس أنّ نافع بن الأزرق سأله عن قوله : (جَنَفاً) قال : الجور والميل في الوصيّة قال : وهل تعرف العرب ذلك؟ قال : نعم ، أما سمعت قول عديّ بن زيد وهو يقول :

وأمّك يا نعمان في أخواتها

يأتين ما يأتينه جنفا (١)

[٢ / ٤٥٧٤] وروى الصدوق بإسناده إلى يونس بن عبد الرحمان رفعه إلى أبي عبد الله عليه‌السلام في قول الله عزوجل : (فَمَنْ خافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفاً أَوْ إِثْماً فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) قال : «يعني إذا اعتدى في الوصية إذا زاد على الثلث» (٢).

[٢ / ٤٥٧٥] وأخرج ابن جرير عن سعيد بن مسروق ، عن إبراهيم ، قال : سألته عن رجل أوصى بأكثر من الثلث ، قال : ارددها ، ثمّ قرأ : (فَمَنْ خافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفاً أَوْ إِثْماً)(٣).

[٢ / ٤٥٧٦] وروى الكليني عن عليّ بن إبراهيم عن أبيه عن رجاله قال : قال : إنّ الله عزوجل أطلق للموصى إليه أن يغيّر الوصية إذا لم تكن بالمعروف وكان فيها حيف ، ويردّها إلى المعروف ، لقوله تعالى : (فَمَنْ خافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفاً أَوْ إِثْماً فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ)(٤).

[٢ / ٤٥٧٧] وأخرج سفيان بن عيينة وسعيد بن منصور والبيهقي في سننه عن ابن عبّاس عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : الجنف في الوصيّة والإضرار فيها من الكبائر (٥).

__________________

(١) الدرّ ١ : ٤٢٥.

(٢) العلل ٢ : ٥٦٧ / ٤ ، باب ٣٦٩ ؛ العيّاشيّ ١ : ٩٧ / ١٧٤ ؛ البحار ١٠٠ : ١٩٨ و ٢٠٤ ؛ البرهان ١ : ٣٩٢ ـ ٣٩٣.

(٣) الطبري ٢ : ١٨٠ / ٢٢١٨.

(٤) نور الثقلين ١ : ١٦١ ـ ١٦٢ ؛ الكافي ٧ : ٢٠ ـ ٢١ / ١ ، كتاب الوصايا ؛ البرهان ١ : ٣٩٢ / ١٢.

(٥) الدرّ ١ : ٤٢٦ ؛ البيهقي ٦ : ٢٧١ ؛ القرطبي ٢ : ٢٧١.

٤٤٧

قال تعالى :

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ كَما كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (١٨٣) أَيَّاماً مَعْدُوداتٍ فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعامُ مِسْكِينٍ فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (١٨٤) شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدىً لِلنَّاسِ وَبَيِّناتٍ مِنَ الْهُدى وَالْفُرْقانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كانَ مَرِيضاً أَوْ عَلى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللهَ عَلى ما هَداكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (١٨٥))

تلك فريضة الصيام فرضت على المسلمين فرضا يقرّبهم إلى الله من جهة ، ومن جهة أخرى ، فيها حكمة وتربية عميقة للنفس ، لتراوض على المقاومة والصبر على مكان النفس وعند الشدائد والهزاهز ، والّتي قد تنجرف بالإنسان عن سبل السّلام ، لو لا الطمأنينة والأناة ، الأمر الّذي يتروّض عليه المسلم عند القيام بفريضة الصيام ، عن جدّ وإخلاص.

وهكذا تبرز الغاية الكبيرة من الصوم ، إنّها التقوى : التزام بتعهّد نفسيّ جادّ ، تجاه التكليف والمسؤوليّة الّتي فرضتها الفطرة في جبلّة كلّ إنسان.

ومن ثمّ يبدأ التكليف بمثل هذا النداء الحبيب إلى المؤمنين ، المذكّر لهم بحقيقتهم الأصيلة. ثمّ يقرّر لهم : أنّ الصوم فريضة قديمة على المؤمنين بالله في كلّ دين وشريعة ، وأنّ الغاية الأولى هي إعداد النفوس للتقوى والشفّافيّة والحسّاسيّة والخشية من الله ، عزّ شأنه.

ثمّ يثني بتقرير أنّ الصوم أيّام معدودات (شهر الصيام) وليس تكليفا دائما طول السنة ، ومع ذلك فقد أعفى من أدائه المرضى ومن كان على متن سفر ، تخفيفا وتيسيرا على العباد : (أَيَّاماً مَعْدُوداتٍ فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ) فيقضيه متى صحّ بدنه واستقرّ في بلده.

وظاهر النصّ في المرض والسفر يطلق ولا يمدّد فأيّ مرض وأيّ سفر ، فإنّه يسوّغ الفطر ،

٤٤٨

على أن يقضي المريض حين يصحّ ، والمسافر حين يقيم. وهذا هو الأولى في فهم هذا النصّ القرآني المطلق ، والأقرب إلى المفهوم الإسلامي في رفع الحرج ومنع الضرر. فليست شدّة المرض ولا مشقّة السفر بالتي يتعلّق بها الحكم ، إنّما هي المرض والسفر إطلاقا ، لإرادة اليسر بالناس لا العسر.

قال سيّد قطب : ونحن لا ندري حكمة الله كلّها في تعليقه بمطلق المرض ومطلق السفر ، وقد تكون هناك اعتبارات أخرى يعلمها الله ويجهلها البشر في المرض والسفر ، وقد تكون مشقّات أخرى لا تظهر للحظتها ، أو لا تظهر للتقدير البشري .. وما دام الله لم يكشف عن علّة الحكم فنحن لا نتأوّلها ، ولكن نطيع النصوص ولو خفيت علينا حكمتها فوراءها قطعا حكمة ، وليس من الضروريّ أن نكون نحن ندركها (١).

ومن ثمّ فتقييد الرخصة في المرض بحالة الإضرار ، والسفر بالمشقّة ، تأويل للنصّ من غير مبرّر ، فإنّ الله يحبّ أن يؤخذ برخصه كما يحبّ أن يؤخذ بعزائمه (٢). وهذا مطلق في جميع الرخص والعزائم.

[٢ / ٤٥٧٨] قال الإمام جعفر بن محمّد الصادق عليه‌السلام : «الصائم في السفر في شهر رمضان كالمفطر في الحضر. ثمّ قال : إنّ رجلا أتى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقال : يا رسول الله ، أصوم شهر رمضان في السفر؟ فقال : لا ، فقال : يا رسول الله ، إنّه عليّ يسير! فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : إنّ الله عزوجل تصدّق على مرضى أمّتي ومسافريها بالإفطار في شهر رمضان ، أيعجب أحدكم لو تصدّق بصدقة أن تردّ عليه؟!» (٣)

[٢ / ٤٥٧٩] وروى الصدوق بالإسناد إلى الإمام جعفر بن محمّد عن أبيه عليهما‌السلام قال : «قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : إنّ الله ـ تبارك وتعالى ـ أهدى إليّ وإلى أمّتي هديّة ، لم يهدها إلى أحد من الأمم ،

__________________

(١) في ظلال القرآن ١ : ٢٣٩ ـ ٢٤٠.

(٢) كما في الحديث المأثور عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (البحار ٦٦ : ٣٦٠ و ٩٠ : ٢٩ ـ ٣٠) وراجع : الأوسط ٦ : ٢٣٦ ؛ وسيأتي نقل الحديث.

(٣) الكافي ٤ : ١٢٧ / ٣ ؛ الفقيه ٢ : ٩٠ / ٤٠٣ ؛ العلل : ٣٨٢ / ٣. فضائل الأشهر الثلاثة ، للصدوق : ٩٤ / ٧٧ ؛ التهذيب ٤ : ٢١٧ / ٦٣٠ ؛ الوسائل ١٠ : ١٧٥ / ٥.

٤٤٩

كرامة من الله لنا! قالوا : وما ذاك يا رسول الله؟ قال : الإفطار في السفر والتقصير في الصلاة ؛ فمن لم يفعل ذلك فقد ردّ على الله هديّته» (١).

[٢ / ٤٥٨٠] وأخرج البيهقي عن عبد الله بن عمر أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : «إنّ الله يحبّ أن تؤتى رخصه كما يحبّ أن تؤتى عزائمه» (٢).

[٢ / ٤٥٨١] وأخرج البزّار والطبراني وابن حبّان عن ابن عبّاس عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : «إنّ الله يحبّ أن تؤتى رخصه كما يحبّ أن تؤتى عزائمه» (٣).

[٢ / ٤٥٨٢] وأخرج أحمد والبزّار وابن خزيمة وابن حبّان والطبراني في الأوسط والبيهقي عن عبد الله بن عمر قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «إنّ الله يحبّ أن تؤتى رخصه كما لا يحبّ أن تؤتى معصيته» (٤).

[٢ / ٤٥٨٣] وأخرج الطبراني عن عبد الله بن يزيد بن آدم قال : حدّثني أبو الدرداء ، وواثلة بن الأسقع ، وأبو أمامة ، وأنس بن مالك أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : «إنّ الله يحبّ أن تقبل رخصه كما يحبّ العبد مغفرة ربّه» (٥).

__________________

(١) الخصال : ١٣ / ٤٣ ؛ العلل ٢ : ٣٨٣ / ١ ، باب ١١٣ ؛ دعائم الإسلام ١ : ١٩٥ ؛ البحار ٨٦ : ٥٨ / ٢٤.

(٢) الدرّ ١ : ٤٦٦ ؛ البيهقي ٣ : ١٤٠ ؛ شعب الإيمان ٣ : ٤٠٣ / ٣٨٨٩ ؛ كنز العمّال ٣ : ٣٤ / ٥٣٣٤.

(٣) الدرّ ١ : ٤٦٦ ؛ مختصر زوائد مسند البزّار ١ : ٤٢٠ / ٧٠١ ؛ الكبير ١١ : ٢٥٥ ـ ٢٥٦ ، وفيه : «يؤتى» بدل «تؤتى» ؛ ابن حبّان ٢ : ٦٩ / ٣٥٤ ، كتاب البرّ والإحسان ، باب ٢ (ما جاء في الطاعات وثوابها) ؛ مجمع الزوائد ٣ : ١٦٢ ، كتاب : الصيام ، باب الصيام في السفر. قال الهيثمي : رواه الطبراني في الكبير والبزّار ورجال البزّار ثقات وكذلك رجال الطبراني ؛ كنز العمّال ٣ : ٣٤ / ٥٣٣٤.

(٤) الدرّ ١ : ٤٦٦ ؛ مسند أحمد ٢ : ١٠٨ ، وفيه «كما يكره» بدل قوله «كما لا يحبّ» ؛ صحيح ابن خزيمة ٣ : ٢٥٩ ، وفيه : «كما يحبّ أن تترك معصيته» بدل قوله : «كما لا يحبّ أن تؤتى معصيته» ؛ ابن حبّان ٦ : ٤٥١ / ٢٧٤٢ ، بنحو ما رواه أحمد ؛ الأوسط ٥ : ٢٧٥ ، بلفظ : «... إنّ الله يحبّ أن تؤتى عزائمه كما يكره أن تؤتى معصيته» ؛ (رقم ٥٣٠٢ ـ ط : بيضون) ؛ شعب الإيمان ٣ : ٤٠٣ / ٣٨٩٠ ؛ مجمع الزوائد ٣ : ١٦٢ ، بنحو ما رواه أحمد. قال الهيثمي : رواه أحمد ورجاله رجال الصحيح والبزّار والطبراني في الأوسط وإسناده حسن ؛ كنز العمّال ٣ : ٣٤ / ٥٣٣٥.

(٥) الدرّ ١ : ٤٦٦ ؛ الكبير ٨ : ١٥٤ ، (برقم ٤٩٢٧ ـ ط : بيضون) ؛ مجمع الزوائد ٣ : ١٦٢ ـ ١٦٣.

٤٥٠

[٢ / ٤٥٨٤] وأخرج عن علقمة بن قيس عن عبد الله بن مسعود ، قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «إنّ الله يحبّ أن تعمل رخصه كما يحبّ أن تعمل عزائمه» (١).

[٢ / ٤٥٨٥] وأخرج عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة ، قالت : قال النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «إنّ الله يحبّ أن تؤتى رخصه كما يحبّ ان تؤتى عزائمه» (٢).

[٢ / ٤٥٨٦] وأخرج عن حفص بن عبد الله عن عمر بن عبيد البصري ـ صاحب الخمر ـ عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة ، قالت : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «إنّ الله يحبّ أن يؤخذ برخصه كما يحبّ أن يؤخذ بعزائمه». قلت : وما عزائمه؟ قال : فرائضه! (٣)

* * *

[٢ / ٤٥٨٧] وأخرج مسلم بالإسناد إلى الزّهريّ قال : وكان الفطر آخر الأمرين. وإنّما يؤخذ من أمر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالآخر فالآخر (٤).

[٢ / ٤٥٨٨] وأيضا عن ابن شهاب الزّهريّ قال : كانوا ـ أي الصحابة ـ يتّبعون الأحدث فالأحدث من أمره صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ويرونه الناسخ المحكم (٥).

[٢ / ٤٥٨٩] وأخرج مسلم والترمذي والنسائي بالإسناد إلى جابر بن عبد الله الأنصاري ـ واللفظ لمسلم ـ قال : خرج رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عام الفتح إلى مكّة في رمضان ، حتّى بلغ «كراع الغميم» (٦) فصام الناس ـ أي كانوا داوموا على صيامهم ـ ثمّ دعا بقدح من ماء فرفعه حتّى نظر الناس إليه ، ثمّ شرب. فقيل له بعد ذلك : إنّ بعض الناس قد صام! فقال : «أولئك العصاة ، أولئك العصاة» (٧).

[٢ / ٤٥٩٠] وروى الكليني بإسناده عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : «إذا خرج الرجل في شهر رمضان مسافرا أفطر. وقال : إنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم خرج من المدينة إلى مكّة في شهر رمضان ومعه الناس وفيهم المشاة ، فلمّا انتهى إلى «كراع الغميم» دعا بقدح من ماء ، فيما بين الظهر والعصر فشربه وأفطر ، وأفطر معه الناس. وتمّ أناس على صومهم ، فسمّاهم : العصاة! قال : وإنّما يؤخذ بآخر أمر

__________________

(١) الأوسط ٣ : ٨٩.

(٢) المصدر ٨ : ٨٢.

(٣) المصدر ٦ : ٢٣٦.

(٤) مسلم ٣ : ١٤١.

(٥) المصدر.

(٦) كراع الغميم : واد بين الحرمين على مرحلتين من مكّة.

(٧) مسلم ٣ : ١٤١ ـ ١٤٢ ؛ الترمذي ٣ : ٨٩ ، باب ١٨ من كتاب الصوم (٧١٠) ؛ النسائي ٢ : ١٠١ / ٢٥٧١ ، باب ٤٩.

٤٥١

رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم» (١).

قوله : «وإنّما يؤخذ بآخر أمر رسول الله» يعني : أنّ المعتبر من شرايع الدين ما شرّع متأخّرا ، فيكون ناسخا لما قبله. فيجب الأخذ بهذا الأخير وهو الحجّة الباقية.

[٢ / ٤٥٩١] وهكذا روى مسلم بالإسناد إلى ابن شهاب عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة عن ابن عبّاس ، أنّه أخبره أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم خرج عام الفتح في رمضان فصام حتّى بلغ الكديد (٢) ثمّ أفطر. قال : وكان صحابة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يتّبعون الأحدث فالأحدث من أمره عليه‌السلام (٣).

قوله : فصام حتّى بلغ الكديد : أي داوم على صومه هو وأصحابه حتّى بلغوا ذلك الموضع.

[٢ / ٤٥٩٢] وروى العيّاشيّ بالإسناد إلى محمّد بن مسلم عن الإمام أبي عبد الله عليه‌السلام قال : «لم يكن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يصوم في السفر تطوّعا ولا فريضة. منذ نزلت هذه الآية ، ورسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بكراع الغميم ، عند صلاة الهجير. فدعا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بإناء فشرب ، فأمر الناس أن يفطروا. وقال قوم : قد توجّه النهار ، ولو تمّمنا يومنا هذا! فسمّاهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم العصاة ، فلم يزالوا يسمّون بذلك الاسم حتّى قبض رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم» (٤).

[٢ / ٤٥٩٣] وروى الكليني عن عليّ بن إبراهيم عن أبيه عن ابن أبي عمير عن حمّاد عن الحلبي عن الإمام أبي عبد الله عليه‌السلام قال : قلت له : رجل صام في السفر؟ فقال : «إن بلغه أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم نهى عن ذلك فعليه القضاء ، وإن لم يكن بلغه فلا شيء عليه» (٥).

[٢ / ٤٥٩٤] وعن أبي عليّ الأشعري عن محمّد بن عبد الجبّار عن صفوان بن يحيى عن العيص بن القاسم عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : «من صام في السفر بجهالة لم يقضه» (٦).

__________________

(١) الكافي ٤ : ١٢٧ / ٥ ؛ الفقيه ٢ : ٩١ / ٤٠٧ ؛ الوسائل ١٠ / ١٧٦ / ٧.

(٢) الكديد ، هو موضع على اثنين وأربعين ميلا من مكة. بين عسفان وأمج. قال ابن إسحاق : سار النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى مكّة في رمضان فصام وصام أصحابه حتّى إذا كان بالكديد بين عسفان وأمج ، أفطر. (معجم البلدان ٤ : ٤٤٢). قال البخاري (٣ : ٤٣) : الكديد : ماء بين عسفان وقديد.

(٣) مسلم ٣ : ١٤٠ ـ ١٤١.

(٤) العيّاشيّ ١ : ١٠٠ / ١٩١. وصحّحناه على مجمع البيان ٢ : ١٠. وراجع : البحار ٩٣ : ٣٢٥. والبرهان ١ : ٣٩٥. ونور الثقلين ١ : ١٦٤ ـ ١٦٥.

(٥) الكافي ٤ : ١٢٨ / ١ ؛ الفقيه ٢ : ١٤٤ / ١٩٨٧ ؛ التهذيب ٤ : ٢٢٠ ـ ٢٢١ / ٦٤٣ ـ ١٨.

(٦) نور الثقلين ١ : ١٦٥ ؛ الكافي ٤ : ١٢٨ / ٢.

٤٥٢

[٢ / ٤٥٩٥] وعن صفوان بن يحيى عن عبد الله بن مسكان عن ليث المرادي عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : «إذا سافر الرجل في شهر رمضان أفطر ، وإن صامه بجهالة لم يقضه» (١).

[٢ / ٤٥٩٦] وعن جميل بن درّاج عن الوليد بن صبيح قال حممت بالمدينة يوما في شهر رمضان ، فبعث إليّ أبو عبد الله عليه‌السلام بقصعة فيها خلّ وزيت وقال لي : «أفطر ، وصلّ وأنت قاعد!» (٢)

ومن ثمّ فقد تظافر الحديث عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : «ليس من البرّ الصيام في السفر».

[٢ / ٤٥٩٧] أخرج الشيخان والترمذي والنسائي عن جابر بن عبد الله الأنصاري ـ واللفظ للبخاري ـ أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان في سفر ، فرأى زحاما ورجلا قد ظلّل عليه ، فقال : ما هذا؟ فقالوا : صائم! فقال : «ليس من البرّ الصوم في السفر». وفي لفظ النسائي : «ليس من البرّ الصيام في السفر». وهكذا لفظ الترمذي. وفي لفظ مسلّم : «ليس من البرّ أن تصوموا في السفر» (٣).

* * *

[٢ / ٤٥٩٨] وكذلك أخرج مسلم بعدّة أسانيد عن أمّ الفضل بنت الحارث ، أنّ ناسا تماروا يوم عرفة في صيام رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فزعم بعضهم أنّه صائم. وآخرون : غير صائم. قالت : فأرسلت إليه بقدح لبن وهو بعرفة فشربه.

[٢ / ٤٥٩٩] وفي رواية أخرى عن ميمونة أنّها أرسلت إليه بحلاب اللبن وهو واقف في الموقف فشرب منه والناس ينظرون إليه (٤).

[٢ / ٤٦٠٠] وأخرج النسائي بعدّة أسانيد عن الأوزاعي ، قال : حدّثني يحيى بن أبي كثير رفعه إلى عمرو بن أميّة الضّمريّ قال : قدمت على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فسلّمت عليه ، فلمّا ذهبت لأخرج قال : «انتظر الغداء يا أبا أميّة! قلت : إنّي صائم ، يا نبيّ الله! قال : تعالى أخبرك عن المسافر ، إنّ الله تعالى وضع عنه الصيام ونصف الصلاة» (٥). وهكذا رواه مسلم في الصحيح (٦).

[٢ / ٤٦٠١] وأخرج عن الزّهريّ عن حميد بن عبد الرحمان عن أبيه ، وكذا عن غيره عنه ، قال :

__________________

(١) نور الثقلين ١ : ١٦٥ ؛ الكافي ٤ : ١٢٨ / ٣.

(٢) الكافي ٤ : ١١٨ / ١ ؛ الفقيه ٢ : ١٣٢ / ١٩٤٢.

(٣) البخاري ٣ : ٤٤ ؛ مسلم ٣ : ١٤٢ ؛ النسائي ٤ : ١٤٨.

(٤) مسلم ٣ : ١٤٥ و ١٤٦.

(٥) سنن النسائي ٤ : ١٧٩.

(٦) مسلم ٣ : ١٤٦.

٤٥٣

الصائم في السفر كالمفطر في الحضر (١).

[٢ / ٤٦٠٢] وأخرج أبو داوود عن جعفر بن جبر ، قال : كنت مع أبي بصرة الغفاري صاحب النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في سفينة من الفسطاط (٢) في رمضان ، فرفع ، ثمّ قرب غداه فدعا بالسّفرة ، قال : اقترب. قلت : ألست ترى البيوت؟ قال أبو بصرة : أترغب عن سنّة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم؟ فأكل (٣).

[٢ / ٤٦٠٣] وأخرج عن منصور الكلبي أنّ دحية بن خليفة خرج من قرية من دمشق مرّة إلى قدر قرية عقبة من الفسطاط ، وذلك ثلاثة أميال ، في رمضان ، ثمّ أفطر وأفطر معه ناس وكره آخرون أن يفطروا. فلمّا رجع إلى قريته قال : والله لقد رأيت اليوم أمرا ما كنت أظنّ أنّي أراه ؛ إنّ قوما رغبوا عن هدى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأصحابه!! (٤).

[٢ / ٤٦٠٤] وأخرج الترمذي عن أنس بن مالك (رجل من بني عبد الله بن كعب) قال : أغارت علينا خيل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فأتيت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فوجدته يتغدّى ، فقال : «ادن فكل. فقلت : إنّي صائم. فقال : ادن أحدّثك عن الصوم ، إنّ الله تعالى وضع عن المسافر الصوم وشطر الصلاة ، وعن الحامل والمرضع».

قال : حديث أنس بن مالك الكعبي حديث حسن (٥).

قال : واختلف أهل العلم في الصوم في السفر ، فرأى بعض أهل العلم من أصحاب النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وغيرهم : أنّ الفطر في السفر أفضل ، حتّى رأى بعضهم أنّ عليه الإعادة إذا صام في السفر (٦). حسبما يأتي في كلام أبي جعفر الطبري.

* * *

وبعد فهناك روايات كانت ترخّص الصوم والإفطار ـ حسبما يأتي ـ جاءت مردفة مع الّتي سردناها ، ولكن العمل على أحدث الأحاديث ، كما مرّ في كلام الإمام جعفر بن محمّد الصادق عليه‌السلام وعرفت من كلام أبي بصرة الغفاري ودحية بن خليفة ، وأنّه عمل الصحابة ، واستغرابهم رغبة

__________________

(١) المصدر ٤ : ١٥٤.

(٢) الفسطاط : أوّل مدينة أسّسها العرب في مصر بالقرب من بابليون على الضفة الشرقيّة للنيل.

(٣) أبو داوود ٢ : ٣١٨ / ٢٤١٢.

(٤) المصدر : ٣١٩ / ٢٤١٣.

(٥) الترمذي ٣ : ٩٤ / ٧١٥ ، باب ٢١.

(٦) المصدر : ٩٠ ، باب ١٨.

٤٥٤

البعض عن هدي رسول الله وصحابته الكبار.

قال سيّد قطب : والأحاديث بجملتها تشير إلى تقبّل رخصة الإفطار في السفر في سماحة ويسر وترجّح الأخذ بها ، وثابت من حديث جابر أنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أفطر وقال عن الّذين لم يفطروا : أولئك العصاة ، أولئك العصاة.

قال : وهذا الحديث متأخّر ـ في سنة الفتح ـ فهو أحدث من الأحاديث الأخرى وأكثر دلالة على الاتّجاه المختار (١). وقد اختار ترجيح الفطر على الصوم في كلتا حالتي السفر والمرض بإطلاقهما.

[٢ / ٤٦٠٥] أخرج أبو جعفر الطبري بالإسناد إلى جابر بن زيد عن ابن عبّاس قال : الإفطار في السفر عزمة.

[٢ / ٤٦٠٦] وعن يوسف بن الحكم قال سألت ابن عمر ، أو سئل عن الصوم في السفر ، فقال : أرأيت لو تصدّقت على رجل بصدقة خرّدها عليك ، ألم تغضب؟ فإنّها صدقة من الله تصدّق بها عليكم.

[٢ / ٤٦٠٧] وعن عبد الملك بن حميد قال : قال أبو جعفر : كان أبي لا يصوم في السفر وينهى عنه.

[٢ / ٤٦٠٨] وعن الضحّاك أنّه كره الصوم في السفر.

قال أبو جعفر : قال أهل هذه المقالة : من صام في السفر فعليه القضاء إذا أقام!

[٢ / ٤٦٠٩] فقد روى نصر بن عليّ الخثعمي بالإسناد إلى ربيعة بن كلثوم رفعه عن عمر بن الخطّاب أنّه أمر الّذي صام في السفر أن يعيد.

[٢ / ٤٦١٠] وكذا روى محمّد بن المثنّى بالإسناد إلى سعيد بن عمرو بن دينار عمّن ذكر له من تميم أنّ عمر أمر رجلا صام في السفر أن يعيد صومه.

[٢ / ٤٦١١] وعن ربيعة بن كلثوم عن أبيه : أنّ قوما قدموا على عمر بن الخطّاب وقد صاموا رمضان في سفر! فقال لهم عمر : والله لكأنّكم كنتم تصومون!! فقالوا : والله يا أمير المؤمنين ، لقد صمنا! قال : فأطقتموه؟ قالوا : نعم! قال : فاقضوه فاقضوه فاقضوه!!

[٢ / ٤٦١٢] وعن المحرّر بن أبي هريرة قال : كنت مع أبي في سفر في رمضان ، فكنت أصوم

__________________

(١) في ظلال القرآن ١ : ٢٤٣.

٤٥٥

ويفطر! فقال لي أبي : أما إنّك إذا أقمت قضيت!

[٢ / ٤٦١٣] وبالإسناد إلى شعبة عن عاصم قال : سمعت عروة يأمر رجلا صام في السفر أن يقضي!

قال : وعلّة من قال هذه المقالة : أنّ الله تعالى جعل فرض المريض والمسافر صوم عدّة من أيّام اخر غير شهر رمضان ، فكما أنّ المقيم لا يجوز له الإفطار أيّام رمضان والصيام عدّة أيّام أخر ، كذلك لا يجوز للمسافر الصيام في رمضان. لأنّ فرضه أيّام أخر.

[٢ / ٤٦١٤] مضافا إلى ما روي عن ابن عوف قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «الصائم في السفر كالمفطر في الحضر».

* * *

قال أبو جعفر : وقال آخرون : إباحة الإفطار في السفر رخصة. والفرض الصوم. فمن صام فقد أدّى فرضه. ومن أفطر فقد أخذ بالرخصة.

[٢ / ٤٦١٥] وأخرج بالإسناد إلى أيّوب قال : كان عروة وسالم عند عمر بن عبد العزيز أيّام كان أميرا على المدينة ، فتذاكروا الصوم في السفر. قال سالم : كان ابن عمر لا يصوم في السفر ، وقال عروة : كانت عائشة تصوم. فقال سالم : إنّما أخذت عن ابن عمر! وقال عروة : إنّما أخذت عن عائشة! حتّى ارتفعت أصواتهما ، فقال عمر بن عبد العزيز : اللهمّ عفوا ، إذا يسرا فصوموا ، وإذا عسرا فأفطروا.

[٢ / ٤٦١٦] وأخرج بالإسناد إلى الزّهريّ عن سالم بن عبد الله. قال : خرج عمر في بعض أسفاره في ليال بقيت من رمضان ، فقال : إنّ الشهر قد تشعشع ـ أو تسعسع ـ (١) فلو صمنا ـ أي لعلّنا نصوم هذه البقيّة ـ فصام وصام الناس معه.

قال سالم : ثمّ أقبل مرّة قافلا حتّى إذا كان بالروحاء (٢) أهلّ هلال شهر رمضان ، فقال عمر : إنّ الله قد قضى السفر ، فلو صمنا ولم نثلم شهرنا! فصام وصام الناس معه.

[٢ / ٤٦١٧] وبالإسناد إلى خيثمة قال : سألت أنس بن مالك عن الصوم في السفر؟ فقال : قد أمرت

__________________

(١) تشعشع : أي رقّ وبقيت منه بقيّة يسيرة. أمّا تسعسع فمعناه : أدبر وفني إلّا أقلّه.

(٢) موضع على بعد ستة وثلاثين ميلا من المدينة.

٤٥٦

غلامي أن يصوم فأبى! قلت : فأين هذه الآية .. قال : نزلت ونحن يومئذ نرتحل جياعا وننزل على غير شبع ، وإنّا اليوم نرتحل شباعا وننزل على شبع.

[٢ / ٤٦١٨] وعن عاصم عن أنس وقد سئل عن الصوم في السفر؟ فقال : من أفطر فبرخصة ، ومن صام فالصوم أفضل.

[٢ / ٤٦١٩] وعن محمّد بن عثمان بن أبي العاص قال : الفطر في السفر رخصة ، والصوم أفضل.

[٢ / ٤٦٢٠] وعن عطاء قال : إن صمتم أجزأ عنكم ، وإن أفطرتم فرخصة. وهكذا روى عن سالم بن عبد الله. وقريب منه عن الحسن.

[٢ / ٤٦٢١] وعن رجل من بني ليث ـ ربما قيل : إنّه واثلة بن الأسقع ـ قال : لو صمت في السفر ما قضيت!

[٢ / ٤٦٢٢] وعن العوّام بن حوشب قال : قلت لمجاهد : الصوم في السفر؟ قال : كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يصوم فيه ويفطر. قلت : فأيّهما أحبّ إليك؟ قال : هي رخصة وأن تصوم رمضان أحبّ إليّ!

[٢ / ٤٦٢٣] وهكذا روي عن سعيد بن جبير وإبراهيم. وزاد مجاهد : ما منهما إلّا حلال : الصوم والإفطار ، وما أراد الله بالإفطار إلّا التيسير لعباده.

[٢ / ٤٦٢٤] وعن شعبة عن الأشعث بن سليم قال : صحبت أبي والأسود بن يزيد وعمرو بن ميمون وأبا واثل إلى مكّة ، وكانوا يصومون رمضان وغيره في السفر.

[٢ / ٤٦٢٥] وعن محمّد بن صالح قال : قلت للقاسم بن محمّد : إنّا نسافر في الشتاء في رمضان ، فإن صمت فيه كان أهون عليّ من أن أقضيه في الحرّ! فقال : قال الله : يريد بكم اليسر ولا يريد بكم العسر ، ما كان أيسر عليك فافعل (١).

قال أبو جعفر الطبري : وهذا القول عندنا أولى بالصواب ، لإجماع الجميع على أنّ مريضا لو صام شهر رمضان وهو ممّن له الإفطار لمرضه ، أنّ صومه ذلك مجزىء عنه ولا قضاء عليه. قال : فكان معلوما بذلك حكم المسافر ، أن لا قضاء عليه إذا صام في سفره ، قال : وفي الآية دلالة على ذلك ، لأنّه تعالى رخّص في الإفطار إرفاقا لأجل اليسر ولا يريد بهم العسر.

__________________

(١) انظر : الطبري ٢ : ٢٠٥ ـ ٢١١ / ٢٣٤١ ـ ٢٣٦٥.

٤٥٧

قال : فإن ظنّ ذو غباوة (١) أنّ الّذي صامه لم يكن فرضه الواجب ، فإنّ عموم الآية يخالفه ، وكان معنى قوله تعالى : (فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ) أنّ من أفطر عن رخصة فعليه صوم عدّة أيّام أخر مكان الأيّام الّتي أفطر في سفره أو مرضه (٢).

قال : وقد تظاهرت الأخبار عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه رخّص الصوم والفطر كليهما في السفر :

[٢ / ٤٦٢٦] فقد روي أنّ حمزة الأسلمي كان يسرد الصوم ـ أي يتابع فيه ـ فسأل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن الصوم في السفر. فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «إنّما هي رخصة من الله لعباده ، فمن فعلها فحسن جميل ومن تركها فلا جناح عليه». فكان حمزة يصوم الدهر ، فيصوم في السفر والحضر. وكان عروة بن الزبير يصوم الدهر في السفر والحضر ، حتّى أن كان ليمرض فلا يفطر. وكان أبو مراوح يصوم الدهر سفرا وحضرا.

قال أبو جعفر : ففي هذا مع نظائره من الأخبار الّتي يطول باستيعابها الكتاب ، الدلالة الدالّة على صحّة ما قلنا من أنّ الإفطار رخصة لا عزم.

قال : وأمّا حديث «ليس من البرّ الصيام في السفر» فمورده ما إذا أضرّه الصوم وهكذا قوله : الصائم في السفر كالمفطر في الحضر ، كان لمن أضرّه الصوم (٣).

* * *

ورافقه على ذلك أبو إسحاق الثعلبي قال : قال قوم : الإفطار في السفر عزيمة واجبة وليس برخصة ، فمن صام في السفر فعليه القضاء إذا أقام. وهو قول عمر بن الخطّاب وأبي هريرة وابن عبّاس وعليّ بن الحسين وعروة بن الزبير والضحّاك.

[٢ / ٤٦٢٧] واستندوا إلى رواية أمّ الدرداء عن كعب بن عاصم قال : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول : «ليس من البرّ الصيام في السفر» (٤).

[٢ / ٤٦٢٨] وروى الزّهري بالإسناد إلى عبد الرحمان بن عوف ، قال : الصائم في السفر كالمفطر في الحضر.

__________________

(١) تعبير متجاف بالنسبة إلى من ذكر عنهم أنّهم أوجبوا القضاء لمن صام في السفر!؟

(٢) الطبري ٢ : ٢١٠.

(٣) الطبري ٢ : ٢١١ ـ ٢١٢.

(٤) الأمّ ٢ : ١١٢ ؛ مسند الحميدي ٢ : ٣٨١.

٤٥٨

قال : وقال آخرون : الإفطار في السفر رخصة من الله ـ عزوجل ـ والفرض الصوم ، فمن صام نفرضه أدّى ، ومن أفطر فبرخصة الله أخذ!

قال : وهذا هو الصحيح وعليه عامّة الفقهاء. واستدلّ بما يلي :

[٢ / ٤٦٢٩] روى عاصم بن الأحول عن أبي نضرة عن جابر قال : كنّا مع النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في سفر ، فمنّا الصائم ومنّا المفطر ، فلم يكن بعضنا يعيب على بعض.

[٢ / ٤٦٣٠] وروى يحيى بن سعيد عن هشام عن أبيه عن عائشة : أنّ حمزة بن عمرو قال : يا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إنّي كنت أتعوّد الصيام ، أفأصوم في السفر؟ قال : «إن شئت فصم وإن شئت فأفطر» (١)

[٢ / ٤٦٣١] وعن عروة بن أبي قراح عن حمزة بن عمرو أنّه قال : يا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أجد بي قوّة على الصيام في السفر ، فهل عليّ جناح؟ قال : «هي رخصة من الله ـ عزوجل ـ : فمن أخذها فحسن ، ومن أحبّ أن يصوم فلا جناح عليه» (٢).

قال : والجامع لهذه الأخبار ، والمؤيّد لما قلنا ما روى أيّوب عن عروة وسالم ، أنّهما كانا عند عمر بن عبد العزيز ، إذ هو أمير على المدينة ، فتذاكروا الصوم في السفر.

فقال سالم : كان ابن عمر لا يصوم في السفر! وقال عروة : كانت عائشة تصوم في السفر!

فقال سالم : إنّما أحدّث عن عبد الله بن عمر! وقال عروة : إنّما أحدّث عن عائشة! فارتفعت أصواتهما. فقال عمر بن عبد العزيز : اللهمّ اغفر ، إذا كان يسرا فصوموا وإذا كان عسرا فأفطروا (٣).

* * *

[٢ / ٤٦٣٢] روى أبو النضر محمّد بن مسعود بن عيّاش بالإسناد إلى الزّهري عن الإمام زين العابدين عليه‌السلام في صوم السفر والمرض قال : اختلفت العامّة (عامّة الفقهاء) في ذلك فقال قوم : يصوم. وقال قوم : لا يصوم. وقال قوم : إن شاء صام وإن شاء أفطر! قال : وأمّا نحن فنقول : يفطر في الحالين جميعا ، فإن صام في السفر أو في حال المرض ، فعليه القضاء ؛ ذلك بأنّ الله تعالى يقول :

__________________

(١) ابن ماجة ١ : ٥٣١ / ١٦٦٢ ؛ سنن النسائي ٤ : ١٨٦.

(٢) مسلم ٣ : ١٤٥.

(٣) الثعلبي ٢ : ٧١ ـ ٧٢.

٤٥٩

(وَمَنْ كانَ مَرِيضاً أَوْ عَلى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ)(١).

ورواه ابن بابويه الصدوق (٢) والكليني (٣) والشيخ أبو جعفر الطوسي (٤) وغيرهم.

ورواه القمي بلفظ : «... فإن صام في السفر أو في حال المرض فهو عاص وعليه القضاء» (٥).

[٢ / ٤٦٣٣] وقال ابن بابويه الصدوق : روي أنّ من صام في مرضه أو سفره أو أتمّ الصلاة فعليه القضاء ، إلّا أن يكون جاهلا فيه ، فليس عليه شيء (٦).

[٢ / ٤٦٣٤] وروي عن الإمام أبي عبد الله عليه‌السلام قال : «كلّما أضرّ به الصوم فالإفطار واجب» (٧).

[٢ / ٤٦٣٥] وروى الكليني بالإسناد إلى مصدّق بن صدقة ، عن عمّار بن موسى ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام في الرجل يجد في رأسه وجعا من صداع شديد ، هل يجوز له الإفطار؟ قال : «إذا صدع صداعا شديدا ، وإذا حمّ حمّى شديدة ، وإذا رمدت عينه رمدا شديدا فقد حلّ له الإفطار».

ورواه الشيخ بإسناده عن محمّد بن يعقوب كذلك (٨).

[٢ / ٤٦٣٦] وروى بالإسناد إلى أبي بكر الحضرمي ، «سأل الإمام أبا عبد الله الصادق عليه‌السلام قال : ما حدّ المرض الّذي يترك منه الصوم؟ قال : إذا لم يستطع أن يتسحّر». (٩)

[٢ / ٤٦٣٧] وروى القاضي نعمان المصري عنه عليه‌السلام قال : «أن يكون العليل لا يستطيع أن يصوم ، أو استطاع ولكن زاد في علّته وخاف على نفسه. وهو مؤتمن على ذلك مفوّض إليه فيه ؛ فإن أحسّ ضعفا فليفطر ، وإن وجد قوّة على الصوم فليصم ، كان المريض على ما كان» (١٠).

__________________

(١) العيّاشيّ ١ : ١٠١ / ١٩٣ ؛ البحار ٩٣ : ٢٦٢ ، باب ٣١ ، عن القمي والخصال وفقه الرضا والهداية للصدوق.

(٢) الفقيه ٢ : ٨١ / ١٧٨٤ ؛ الخصال : ٥٣٧ / ٢ ، أبواب الأربعين.

(٣) الكافي ٤ : ٨٦ / ١.

(٤) التهذيب ٤ : ٢٩٧ / ٨٩٥ ـ ١.

(٥) في حديث طويل عن الزّهري عن الإمام عليّ بن الحسين عليهما‌السلام يذكر فيه أنواع وربما بلغت أربعين نوعا (القمي ١ : ١٨٥ ـ ١٨٧).

(٦) فقه الرضا : ٢٠٨ ؛ البحار ٩٦ : ٣٢٣.

(٧) الفقيه ٢ : ١٣٣ / ١٩٤٦.

(٨) الكافي ٤ : ١١٨ / ٥ ؛ التهذيب ٤ : ٢٥٦ / ٧٦٠ ؛ الوسائل ١٠ : ٢٢٠.

(٩) الكافي ٤ : ١١٨ ـ ١١٩ / ٦ ؛ الفقيه ٢ : ١٣٢ / ١٩٤٣ ؛ التهذيب ٢ : ١٧٨ / ٤٠١ ـ ١٤ ؛ و ٤ : ٣٢٥ / ١٠٠٩ ـ ٧٧.

(١٠) دعائم الإسلام ١ : ٢٧٨ ؛ مستدرك الوسائل ٧ : ٣٨٩ ؛ البحار ٩٣ : ٣٢٦ / ٢٣ ، باب ٤٢.

٤٦٠