التفسير الأثري الجامع - ج ٤

الشيخ محمّد هادي معرفة

التفسير الأثري الجامع - ج ٤

المؤلف:

الشيخ محمّد هادي معرفة


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة التمهيد ـ قم
المطبعة: ستاره
الطبعة: ١
ISBN: 978-600-5079-05-0
ISBN الدورة:
978-600-5079-08-1

الصفحات: ٥٦٠

ورموه بها ، فضاق صدره فأنزل الله تعالى : (وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِما يَقُولُونَ)(١) ثمّ كذّبوه ورموه ، فحزن لذلك فأنزل الله : (قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ وَلكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآياتِ اللهِ يَجْحَدُونَ. وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلى ما كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتاهُمْ نَصْرُنا)(٢) فألزم نفسه الصبر صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

فتعدّوا وذكروا الله تبارك وتعالى وكذّبوه فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : لقد صبرت في نفسي وأهلي وعرضي ولا صبر لي على ذكرهم إلهي ، فأنزل الله : (وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَما مَسَّنا مِنْ لُغُوبٍ. فَاصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ). (٣) فصبر صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في جميع أحواله.

ثمّ بشّر في الأئمّة عليهم‌السلام من عترته ووصفوا بالصّبر فقال : (وَجَعَلْنا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنا لَمَّا صَبَرُوا وَكانُوا بِآياتِنا يُوقِنُونَ)(٤) فعند ذلك قال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «الصبر من الإيمان كالرأس من البدن» ، فشكر الله له ذلك ، فأنزل الله عليه : (وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنى عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ بِما صَبَرُوا وَدَمَّرْنا ما كانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَما كانُوا يَعْرِشُونَ)(٥) فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : آية بشرى وانتقام ، فأباح الله قتل المشركين حيث وجدوا ، فقتلهم على يدي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأحبّائه وعجّل له ثواب صبره مع ما ادّخر له في الآخرة» (٦).

[٢ / ٣٩٠٥] وروى الصدوق بالإسناد إلى ابن سنان ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : «إذا دخل المؤمن قبره كانت الصلاة عن يمينه ، والزكاة عن يساره ، والبرّ مطلّ عليه ويتنحّى الصبر ناحية قال : فإذا دخل الملكان اللّذان يليان مساءلته قال الصبر للصلاة والزكاة والبرّ : دونكم صاحبكم ، فإن عجزتم عنه فأنا دونه» (٧).

[٢ / ٣٩٠٦] وروى البرقي عن أبيه عن النوفليّ ، عن السكونيّ ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : قال أمير المؤمنين عليه‌السلام : «ثلاث من أبواب البرّ : سخاء النفس ، وطيب الكلام ، والصبر على الأذى» (٨).

[٢ / ٣٩٠٧] وروى الراوندي بالإسناد إلى الصدوق ، عن أبيه ، عن سعد ، عن ابن عيسى ، عن ابن

__________________

(١) الحجر ١٥ : ٩٧.

(٢) الأنعام ٦ : ٣٣ ـ ٣٤. (٣) سورة ق ٥٠ : ٣٨ و ٣٩.

(٤) السجده ٣٢ : ٢٤. (٥) الأعراف ٧ : ١٣٧.

(٦) القمي ١ : ١٩٦ ـ ١٩٧. (٧) ثواب الأعمال : ١٧٠.

(٨) المحاسن ١ : ٦.

٢٤١

أبي عمير ، عن أبان بن عثمان ، عن الحلبيّ ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : «أوحى الله تعالى إلى داوود ـ صلوات الله عليه ـ أنّ خلّادة بنت أوس بشّرها بالجنّة وأعلمها أنّها قرينتك في الجنّة. فانطلق إليها فقرع الباب عليها فخرجت وقالت : هل نزل فيّ شيء؟ قال : نعم ، قالت : ما هو؟ قال : إنّ الله تعالى أوحى إليّ وأخبرني أنّك قريني في الجنّة ، وأن أبشّرك بالجنّة ، قالت : أو يكون اسم وافق اسمي؟ قال : إنّك لأنت هي. قالت : يا نبيّ الله ما أكذّبك ، ولا والله ما أعرف من نفسي ما وصفتني به.

قال داوود عليه‌السلام : أخبريني عن ضميرك وسريرتك ما هو؟ قالت : أمّا هذا فسأخبرك به ، أخبرك أنّه لم يصبني وجع قطّ نزل بي كائنا ما كان ، ولا نزل ضرّبي وحاجة وجوع كائنا ما كان إلّا صبرت عليه ، ولم أسأل الله كشفه عنّي حتّى يحوّله الله عنّي إلى العافية والسعة ، ولم أطلب بها بدلا ، وشكرت الله عليها وحمدته ، فقال داوود ـ صلوات الله عليه ـ : فبهذا بلغت ما بلغت.

ثمّ قال أبو عبد الله عليه‌السلام : وهذا دين الله الّذي ارتضاه للصالحين» (١).

[٢ / ٣٩٠٨] وجاء في كتاب «فقه الرضا» أنّه قال : «أروي أنّ الصبر على البلاء حسن جميل ، وأفضل منه الصبر عن المحارم.

وروي : إذا كان يوم القيامة نادى مناد أين الصابرون؟ فيقوم عنق من الناس فيقال لهم : اذهبوا إلى الجنّة بغير حساب ، قال : فتتلقّاهم الملائكة فيقولون لهم : أيّ شيء كانت أعمالكم؟ فيقولون : كنّا نصبر على طاعة الله ، ونصبر عن معصية الله ، فيقولون : نعم أجر العاملين.

ونروي : أنّ في وصايا الأنبياء صلوات الله عليهم : اصبروا على الحقّ وإن كان مرّا.

وأروي : أنّ اليقين فوق الإيمان بدرجة واحدة ، والصبر فوق اليقين.

ونروي : أنّه من صبر للحقّ عوّضه الله خيرا ممّا صبر عليه.

ونروي : أنّ الله تبارك وتعالى أوحى إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّي آخذك بمداراة الناس كما آخذك بالفرائض.

ونروي : أنّ المؤمن أخذ عن الله ـ جلّ وعزّ ـ الكتمان ، وعن نبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مداراة الناس ، وعن العالم عليه‌السلام (٢) الصبر في البأساء والضرّاء.

__________________

(١) قصص الأنبياء للراوندي : ٢٠٦ / ٢٦٨ ؛ البحار ٦٨ : ٨٩ / ٤٢ ، و ٧١ : ٩٧ / ٦٤ ؛ مشكاة الأنوار للطبرسي ١ : ٥٠ ـ ٥١ / ٧٥ ـ ٢٢.

(٢) يعني به الإمام الكاظم عليه‌السلام كما في غيره من الأئمّة عليهم‌السلام.

٢٤٢

وروي في قول الله ـ عزوجل ـ : (اصْبِرُوا وَصابِرُوا وَرابِطُوا وَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ)(١) قال : (اصْبِرُوا) على طاعة الله وامتحانه ، (وَصابِرُوا) قال : ألزموا طاعة الرسول ومن يقوم مقامه (وَرابِطُوا) قال : لا تفارقوا ذلك يعني الأمرين. و «لعلّ» في كتاب الله موجبة ومعناها أنّكم تفلحون.

وأروي عن العالم عليه‌السلام : الصبر على العافية أعظم من الصبر على البلاء. يريد بذلك أن يصبر على محارم الله ، مع بسط الله عليه في الرزق وتحويله النعم ، وأن يعمل بما أمره به فيها.

ونروي : لا يصلح المؤمن إلّا بثلاث خصال : الفقه في الدين ، والتقدير في المعيشة ، والصبر على النائبة» (٢).

[٢ / ٣٩٠٩] وجاء في كتاب «مصباح الشريعة» عن الصادق عليه‌السلام قال : «الصبر يظهر ما في بواطن العباد من النور والصفاء ، والجزع يظهر ما في بواطنهم من الظلمة والوحشة ، والصبر يدّعيه كلّ أحد ، ولا يثبت عنده إلّا المخبتون. والجزع ينكره كلّ أحد وهو أبين على المنافقين ، لأنّ نزول المحنة والمصيبة يخبر عن الصادق والكاذب ، وتفسير الصبر ما يستمرّ مذاقه ، وما كان عن اضطراب لا يسمّى صبرا ، وتفسير الجزع اضطراب القلب وتحزّن الشخص وتغيّر السكون وتغيّر الحال. وكلّ نازلة خلت أوائلها من الإخبات والإنابة والتضرّع إلى الله تعالى فصاحبها جزوع غير صابر.

والصبر ما أوّله مرّ وآخره حلو ، من دخله من أواخره فقد دخل ومن دخله من أوائله فقد خرج ، ومن عرف قدر الصبر لا يصبر عمّا منه الصبر ، قال الله ـ عزوجل ـ في قصّة موسى والعبد الصالح : (وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلى ما لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْراً)(٣) فمن صبر كرها ولم يشك إلى الخلق ، ولم يجزع بهتك ستره ، فهو من العامّ ، ونصيبه ما قال الله ـ عزوجل ـ : (وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ)(٤) أي بالجنّة والمغفرة ، ومن استقبل البلاء بالرحب ، وصبر على سكينة ووقار فهو من الخاصّ ونصيبه ما قال الله ـ عزوجل ـ : (إِنَّ اللهَ مَعَ الصَّابِرِينَ)(٥)» (٦).

__________________

(١) آل عمران ٣ : ٢٠٠.

(٢) البحار ٦٨ : ٨٩ ـ ٩٠ / ٤٣.

(٣) الكهف ١٨ : ٦٨.

(٤) البقرة ٢ : ١٥٥.

(٥) الأنفال ٨ : ٤٦.

(٦) مصباح الشريعة : ١٨٦ ؛ مسكن الفؤاد : ٥٩ ؛ البحار ٦٨ : ٩٠ ـ ٩١ / ٤٤.

٢٤٣

[٢ / ٣٩١٠] وروى أبو عبد الله المفيد بالإسناد إلى آدم بن عيينة بن أبي عمران الهلالي قال : سمعت أبا عبد الله عليه‌السلام يقول : «كم من صبر ساعة قد أورثت فرحا طويلا ، وكم من لذّة ساعة قد أورثت حزنا طويلا» (١).

[٢ / ٣٩١١] وروى السبزاوي بالإسناد إلى الإمام عليّ بن موسى الرضا عليه‌السلام بإسناده ، عن عليّ بن الحسين قال : «خمسة لو رحلتم فيهنّ لأصبتموهنّ : لا يخاف عبد إلّا ذنبه ، ولا يرجو إلّا ربّه ، ولا يستحي الجاهل إذا سئل عمّا لا يعلم أن يقول : لا أعلم ، والصبر من الإيمان بمنزلة الرأس من الجسد ، ولا إيمان لمن لا صبر له».

[٢ / ٣٩١٢] وقال عليّ عليه‌السلام : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «الصبر ثلاثة : صبر على المصيبة ، وصبر على الطاعة ، وصبر عن المعصية ، فمن صبر على المصيبة أعطاه الله تعالى ثلاثمائة درجة ، ما بين الدرجة إلى الدرجة ما بين السماء والأرض ، ومن صبر على الطاعة كان له ستّمائة درجة ، ما بين الدرجة إلى الدرجة ما بين الثرى إلى العرش ، ومن صبر عن المعصية أعطاه الله سبعمائة درجة ما بين الدرجة إلى الدرجة ما بين منتهى العرش إلى الثرى مرّتين».

[٢ / ٣٩١٣] وقال أمير المؤمنين عليه‌السلام : «أيّها الناس عليكم بالصبر فإنّه لا دين لمن لا صبر له».

[٢ / ٣٩١٤] وقال عليه‌السلام : «إنّك إن صبرت جرت عليك المقادير وأنت مأجور ، وإنّك إن جزعت جرت عليك المقادير وأنت مأزور».

[٢ / ٣٩١٥] وعن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : «الصبر رأس الإيمان».

[٢ / ٣٩١٦] وعنه عليه‌السلام قال : «الصبر من الإيمان بمنزلة الرأس من الجسد ، فإذا ذهب الرأس ذهب الجسد ، كذلك إذا ذهب الصبر ذهب الإيمان».

[٢ / ٣٩١٧] وقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حاكيا عن الله تعالى : «إذا وجّهت إلى عبد من عبيدي مصيبة في بدنه أو ماله أو ولده ، ثمّ استقبل ذلك بصبر جميل ، استحييت منه أن أنصب له ميزانا أو أنشر له ديوانا».

[٢ / ٣٩١٨] وسئل محمّد بن عليّ عليهما‌السلام عن الصبر الجميل؟ فقال : «شيء لا شكوى فيه ، ثمّ قال : وما في الشكوى من الفرج؟ فإنّما هو يحزن صديقك ، ويفرح عدوّك!»

__________________

(١) الأمالي للمفيد : ٤١.

٢٤٤

[٢ / ٣٩١٩] وقال أمير المؤمنين عليه‌السلام : «إنّ الصبر وحسن الخلق والبرّ والحلم من أخلاق الأنبياء».

[٢ / ٣٩٢٠] وقال أيضا : «إنّه سيكون زمان لا يستقيم لهم الملك إلّا بالقتل والجور ، ولا يستقيم لهم الغنا إلّا بالبخل ، ولا يستقيم لهم الصحبة في الناس إلّا باتّباع أهوائهم والاستخراج من الدين ، فمن أدرك ذلك الزمان فصبر على الفقر وهو يقدر على الغنا ، وصبر على الذلّ وهو يقدر على العزّ ، وصبر على بغضة الناس وهو يقدر على المحبّة ، أعطاه الله ثواب خمسين صدّيقا».

[٢ / ٣٩٢١] وقال النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «من ابتلي من المؤمنين ببلاء فصبر عليه كان له مثل أجر ألف شهيد».

[٢ / ٣٩٢٢] وقال عليه‌السلام : «الجزع عند البلاء تمام المحنة».

[٢ / ٣٩٢٣] وقال عليه‌السلام : «كلّ نعيم دون الجنّة حقير ، وكلّ بلاء دون النار يسير» (١).

[٢ / ٣٩٢٤] وروى السيّد ابن طاووس في كتاب سعد السعود من تفسير أبي العبّاس ابن عقدة ، عن عثمان بن عيسى ، عن المفضّل [بن صالح] ، عن جابر [بن يزيد الجعفي] قال : «قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام : ما الصبر الجميل؟ قال : ذاك صبر ليس فيه شكوى إلى الناس. إنّ إبراهيم بعث يعقوب إلى راهب من الرهبان في حاجة ، فلمّا رآه الراهب حسبه إبراهيم فوثب إليه فاعتنقه وقال : مرحبا بك يا خليل الرحمان! فقال يعقوب : لست بإبراهيم ولكنّي يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم. فقال له الراهب : فما بلغ بك ما أرى من الكبر؟ قال : الهمّ والحزن والسقم. فما جاوز صغير الباب حتّى أوحى الله إليه ، يا يعقوب شكوتني إلى العباد؟ فخرّ ساجدا على عتبة الباب يقول : ربّ لا أعود ، فأوحى الله إليه : إنّي قد غفرتها لك ، فلا تعودنّ لمثلها ، فما شكى ممّا أصاب من نوائب الدّنيا ، إلّا أنّه قال : إنّما أشكو بثّي وحزني إلى الله وأعلم من الله ما لا تعلمون» (٢).

[٢ / ٣٩٢٥] قال الإمام أمير المؤمنين ـ عليه صلوات المصلّين ـ : «الصبر صبران : فالصبر عند المصيبة حسن جميل ، وأحسن من ذلك الصبر عند ما حرّم الله عليك ، والذكر ذكران : ذكر الله عزوجل عند المصيبة ، وأكبر من ذلك ذكر الله عند ما حرّم الله فيكون ذلك حاجزا» (٣).

[٢ / ٣٩٢٦] وروى الحسن بن شعبة الحرّاني بالإسناد إلى داوود بن فرقد ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال :

__________________

(١) جامع الأخبار : ٣١٥ ـ ٣١٧ ، فصل ٧١ ، في الصبر ؛ البحار ٦٨ : ٩١ ـ ٩٣ / ٤٦.

(٢) سعد السعود : ١١٩ ـ ١٢٠.

(٣) الكافي ٢ : ٩٠ / ١١ ؛ الاختصاص : ٢١٨.

٢٤٥

«أوحى الله تعالى إلى موسى بن عمران : ما خلقت خلقا هو أحبّ إليّ من عبدي المؤمن. إنّي إنّما أبتليه لما هو خير له ، وأزوي عنه لما هو خير له ، وأعطيه لما هو خير له ، وأنا أعلم بما يصلح عليه حال عبدي المؤمن ، فليرض بقضائي ، وليشكر نعمائي ، وليصبر على بلائي أكتبه في الصدّيقين إذا عمل برضاي وأطاع لأمري».

[٢ / ٣٩٢٧] وأيضا عنه عليه‌السلام قال : «إنّ العبد ليكون له عند الله الدرجة لا يبلغها بعمله ، فيبتليه الله في جسده أو يصاب بماله أو يصاب في ولده ، فإن هو صبر بلّغه الله إيّاها».

[٢ / ٣٩٢٨] وعن أبي بصير ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : «ما من مؤمن إلّا وهو مبتلى ببلاء ، منتظر به ما هو أشدّ منه ، فإن صبر على البليّة الّتي هو فيها عافاه الله من البلاء الّذي ينتظر به ، وإن لم يصبر وجزع نزل به من البلاء المنتظر أبدا حتّى يحسن صبره وعزاؤه».

[٢ / ٣٩٢٩] وعن الثّمالي ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : «من ابتلي من شيعتنا فصبر عليه كان له أجر ألف شهيد».

[٢ / ٣٩٣٠] وعن إسحاق بن عمّار ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : «يا إسحاق لا تعدّنّ مصيبة أعطيت عليها الصبر واستوجبت عليها من الله ثوابا بمصيبة ، إنّما المصيبة الّتي يحرم صاحبها أجرها وثوابها إذا لم يصبر عند نزولها».

[٢ / ٣٩٣١] وعن أحمد بن محمّد البرقي رفعه إلى أبي عبد الله عليه‌السلام قال : «قد عجز من لم يعدّ لكلّ بلاء صبرا ، ولكلّ نعمة شكرا ، ولكلّ عسر يسرا ، أصبر نفسك عند كلّ بلية ورزيّة في ولد أو في مال ، فإنّ الله إنّما يقبض عاريته وهبته ، ليبلو شكرك وصبرك».

[٢ / ٣٩٣٢] وعن أبي بصير ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : «إنّ الله أنعم على قوم فلم يشكروا فصارت عليهم وبالا ، وابتلى قوما بالمصائب فصبروا فصارت عليهم نعمة».

[٢ / ٣٩٣٣] وعنه عليه‌السلام قال : «لم يستزد في محبوب بمثل الشكر ولم يستنقص من مكروه بمثل الصبر».

[٢ / ٣٩٣٤] وعن ربعي ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : «إنّ الصبر والبلاء يستبقان إلى المؤمن فيأتيه البلاء وهو صبور ، وإنّ الجزع والبلاء يستبقان إلى الكافر فيأتيه البلاء وهو جزوع».

[٢ / ٣٩٣٥] وقال الإمام أمير المؤمنين عليه‌السلام : «إنّ للنكبات غايات لا بدّ أن ينتهي إليها ، فإذا حكم

٢٤٦

على أحدكم بها فليتطأطأ لها ، ويصبر حتّى يجوز ، فإنّ إعمال الحيلة فيها عند إقبالها زائد في مكروهها».

[٢ / ٣٩٣٦] وكان يقول : «الصبر من الإيمان بمنزلة الرأس من الجسد ، فمن لا صبر له لا إيمان له».

[٢ / ٣٩٣٧] وكان يقول : «الصبر ثلاثة : الصبر على المصيبة ، والصبر على الطاعة ، والصبر عن المعصية».

[٢ / ٣٩٣٨] وقال أبو عبد الله عليه‌السلام : «الصبر صبران : الصبر على البلاء حسن جميل ، وأفضل منه الصبر على المحارم».

[٢ / ٣٩٣٩] وعن ابن أبي عمير قال : قال أبو عبد الله عليه‌السلام : «اتّقوا الله واصبروا فإنّه من لم يصبر أهلكه الجزع ، وإنّما هلاكه في الجزع أنّه إذا جزع لم يؤجر».

[٢ / ٣٩٤٠] وعن جابر بن عبد الله أنّ أمير المؤمنين عليه‌السلام قال : «من كنوز الجنّة البرّ وإخفاء العمل ، والصبر على الرزايا ، وكتمان المصائب» (١).

[٢ / ٣٩٤١] وروى قطب الدين : في كتابه الدعوات (الموسوم بسلوة الحزين) عن الإمام أمير المؤمنين ـ عليه صلوات المصلّين ـ قال : «صبرك على محارم الله أيسر من صبرك على عذاب القبر. من صبر على الله وصل إليه» (٢).

[٢ / ٣٩٤٢] وقال عليه‌السلام : الصبر صبران : «صبر على ما تكره ، وصبر ممّا تحبّ» (٣).

[٢ / ٣٩٤٣] وقال : «لا يعدم الصبور الظفر ، وإن طال به الزمان» (٤).

[٢ / ٣٩٤٤] وقال : «من لم ينجه الصبر أهلكه الجزع» (٥).

[٢ / ٣٩٤٥] وقال : «عند تناهي الشدّة تكون الفرجة ، وعند تضايق حلق البلاء يكون الرخاء» (٦).

[٢ / ٣٩٤٦] وروى أبو الفتح الكراجكي مرفوعا إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : «بالصبر يتوقّع الفرج ،

__________________

(١) هذه الروايات الخمس عشرة نقلها العلّامة المجلسي من كتاب التمحيص للحسن بن شعبة الحرّاني صاحب كتاب تحف العقول. أوردها في البحار ٦٨ : ٩٤ ـ ٩٥.

(٢) البحار ٦٨ : ٩٥ / ٦٠.

(٣) نهج البلاغة ٤ : ١٤ ، قصار الكلم رقم ٥٥.

(٤) المصدر : ٤٠ ، رقم ١٥٣.

(٥) المصدر : ٤٣ ، قصار الكلم رقم ١٨٩.

(٦) المصدر : ٨٢ ، رقم ٣٥١.

٢٤٧

ومن يدمن قرع الباب يلج» (١).

[٢ / ٣٩٤٧] وقال أمير المؤمنين عليه‌السلام : «الصبر مطيّة لا تكبو ، والقناعة سيف لا ينبو» (٢).

[٢ / ٣٩٤٨] وقال : «أفضل العبادة الصبر والصمت وانتظار الفرج» (٣).

[٢ / ٣٩٤٩] وقال : «الصبر جنّة من الفاقة» (٤).

[٢ / ٣٩٥٠] وقال : «من ركب مركب الصبر اهتدى إلى ميدان النصر» (٥).

[٢ / ٣٩٥١] وروى أبو الفضل الطبرسي مرفوعا إلى الإمام الصادق عليه‌السلام قال : «إنّ الحرّ حرّ على جميع أحواله ، إن نابته نائبة صبر لها ، وإن تداكّت عليه المصائب لم تكسره ، وإن أسر وقهر واستبدل بالعسر يسرا ، كما كان يوسف الصدّيق الأمين عليه‌السلام ، لم يضرّه حزنه أن استعبد وقهر وأسر ، ولم تضرّره ظلمة الجبّ ووحشته ، وما ناله أن منّ الله عليه فجعل الجبّار العاتي له عبدا ، بعد أن كان مالكا له ، فأرسله فرحم به أمّة ، وكذلك الصبر يعقب خيرا. فاصبروا تظفروا ، وواظبوا على الصبر توجروا» (٦).

[٢ / ٣٩٥٢] وعن الإمام الباقر عليه‌السلام قال : «من صبر واسترجع وحمد الله عند المصيبة فقد رضي بما صنع الله ، ووقع أجره على الله ، ومن لم يفعل ذلك جرى عليه القضاء وهو ذميم وأحبط الله أجره» (٧).

[٢ / ٣٩٥٣] وعن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : «المؤمن يطبع على الصبر على النوائب» (٨).

[٢ / ٣٩٥٤] وعن الحلبيّ عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : «أوحى الله ـ عزوجل ـ إلى داوود عليه‌السلام أنّ قرينك في الجنّة خلّادة بنت أوس فأتها وأخبرها وبشّرها بالجنّة وأعلمها أنّها قرينك في الآخرة.

فانطلق داوود عليه‌السلام إليها فقرع الباب عليها ، فخرجت إليه ، فقال : أنت خلّادة بنت أوس؟ قالت : يا نبيّ الله لست بصاحبتك الّتي تطلب! قال لها داوود : ألست خلّادة بنت أوس من سبط كذا وكذا؟ قالت : بلى ، قال : فأنت هي إذا ، فقالت : يا نبيّ الله لعلّ اسما وافق اسما؟ فقال لها داوود : ما كذبت ولا كذبت ، وإنّك لأنت هي ، فقالت : يا نبيّ الله ما أكذّبك ولا والله ما أعرف من نفسي ما وصفتني به.

قال لها داوود : خبّريني عن سريرتك ما هي؟ قالت : أمّا هذا فسأخبرك به : إنّه لم يصبني وجع

__________________

(١) كنز الفوائد : ٥٨ ؛ البحار ٦٨ : ٩٦. (٢) كنز الفوائد : ٥٨.

(٣) المصدر.

(٤) المصدر.

(٥) المصدر.

(٦) مشكاة الأنوار : ٥٨.

(٧) المصدر : ٥٩.

(٨) المصدر.

٢٤٨

قطّ نزل بي من الله ـ تبارك وتعالى ـ كائنا ما كان ، ولا نزل بي مرض أو جوع ، إلّا صبرت عليه ، ولم أسأل الله كشفه حتّى هو يكون الّذي يحوّله عنّي إلى العافية والسعة ، لم أطلب بها بدلا ، وشكرت الله عليها وحمدته. قال لها داوود عليه‌السلام : فبهذا النعت بلغت ما بلغت.

ثمّ قال أبو عبد الله عليه‌السلام : هذا والله دين الله الّذي ارتضاه للصالحين» (١).

[٢ / ٣٩٥٥] وروى الحسين بن سعيد الأهوازي بإسناده ، عن أحدهما عليهما‌السلام قال : «ما من عبد مسلم ابتلاه الله بمكروه وصبر إلّا كتب له أجر ألف شهيد» (٢).

[٢ / ٣٩٥٦] وعن أبي الحسن عليه‌السلام قال : «ما من أحد يبليه الله ـ عزوجل ـ ببليّة فصبر عليها إلّا كان له أجر ألف شهيد» (٣).

* * *

هذا وقد تقدّمت (ذيل الآية ٤٥) أكثر أحاديث السلف في الحثّ على الصبر والصلاة. ذكرناها. وإليك شذرات باقية منها :

[٢ / ٣٩٥٧] أخرج ابن جرير بالإسناد إلى أبي العالية ، في قوله تعالى : (وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ ،) قال : استعينوا بالصبر والصلاة على مرضاة الله ، واعلموا أنّهما من طاعة الله (٤).

وعن الربيع قال : اعلموا أنّهما عون على طاعة الله (٥).

[٢ / ٣٩٥٨] وأخرج عن حذيفة ، قال : «إنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان إذا حزّ به أمر فزع إلى الصلاة» (٦).

[٢ / ٣٩٥٩] وأخرج ابن أبي حاتم عن عبد الرحمان بن زيد قال : الصبر في بابين : الصبر لله بما أحبّ ، وإن ثقل على الأنفس والأبدان ، والصبر لله عمّا كره ، وإن نازعت إليه الأهواء. فمن كان هكذا فهو من الصابرين الّذين يسلّم عليهم (٧) إن شاء الله تعالى (٨).

__________________

(١) المصدر : ٦٠. وقد مرّ الحديث برواية الراوندي من كتابه قصص الأنبياء.

(٢) كتاب المؤمن : ١٦ ؛ البحار ٦٨ : ٩٧ / ٦٥.

(٣) البحار ٦٨ : ٩٧ / ٦٥.

(٤) الطبري ٢ : ٥٣ / ١٩٢٠.

(٥) المصدر / ١٩٢١.

(٦) ابن كثير ١ : ٢٠٢ ؛ الطبري ١ : ٣٧١ بعد رقم ٧١١ ، في تفسير سورة البقرة ، الآية ٤٥. والحزّة : ألم في القلب.

(٧) إشارة إلى قوله تعالى : (سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِما صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ) ، الرعد ١٣ : ٢٤.

(٨) الدرّ ١ : ١٥٩ ، ذيل الآية ٤٥ من سورة البقرة ؛ ابن كثير ١ : ٢٠٢.

٢٤٩

[٢ / ٣٩٦٠] وأخرج عن سعيد بن جبير : الصبر اعتراف العبد لله بما أصاب منه ، واحتسابه عند الله رجاء ثوابه ، وقد يجزع الرجل وهو متجلّد لا يرى منه إلّا الصبر (١).

[٢ / ٣٩٦١] وأخرج عن مقاتل قال : استعينوا على طلب الآخرة بالصبر على الفرائض وبالصلوات الخمس في مواقيتها على تمحيص الذنوب (٢).

[٢ / ٣٩٦٢] وقال عطاء عن ابن عبّاس في قوله تعالى : (إِنَّ اللهَ مَعَ الصَّابِرِينَ) يقول : إنّي معكم أنصركم ولا أخذ لكم (٣).

[٢ / ٣٩٦٣] وأخرج مسلم عن أبي هريرة ، قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «مثل المؤمن كمثل الزرع لا تزال الريح تميله ، ولا يزال المؤمن يصيبه البلاء. ومثل المنافق كمثل شجرة الأرز لا تهتزّ حتّى تستحصد» (٤).

[٢ / ٣٩٦٤] وأخرج ابن ماجة عن أنس بن مالك ، عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، أنّه قال : «عظم الجزاء مع عظم البلاء وإنّ الله إذا أحبّ قوما ابتلاهم ، فمن رضي فله الرضا ، ومن سخط فله السخط» (٥).

[٢ / ٣٩٦٥] وأخرج الترمذي عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «ما يزال البلاء بالمؤمن والمؤمنة في نفسه وولده وماله حتّى يلقى الله وما عليه خطيئة». قال : هذا حديث حسن صحيح (٦).

[٢ / ٣٩٦٦] وأخرج ابن أبي الدنيا في العزاء عن يونس بن يزيد قال : سألت ربيعة بن أبي عبد الرحمان : ما منتهى الصبر؟ قال : يكون يوم تصيبه المصيبة مثله قبل أن تصيبه (٧).

[٢ / ٣٩٦٧] وأخرج في كتاب الاعتبار عن عمر بن عبد العزيز. أنّ سليمان بن عبد الملك قال له عند موت ابنه : أيصبر المؤمن حتّى لا يجد لمصيبته ألما؟ قال : يا أمير المؤمنين لا يستوي عندك ما

__________________

(١) ابن أبي حاتم ١ : ١٠٢ / ٤٨٥ ؛ الدرّ ١ : ١٥٩ ، ذيل الآية ٤٥ من سورة البقرة ؛ ابن كثير ١ : ٢٠٢.

(٢) ابن أبي حاتم ١ : ١٠٢ / ٤٨٣ ؛ الوسيط ١ : ٢٣٥ ـ ٢٣٦. وراجع : التفسير ١ : ١٥٠ ، وفيه بعض الاختلاف.

(٣) الوسيط ١ : ٢٣٦.

(٤) مسلم ٨ : ١٣٦ ، كتاب صفة القيامة والجنّة والنار ؛ البغوي ١ : ١٩٠ / ١١٤.

(٥) ابن ماجة ٢ : ١٣٣٨ / ٤١٣١ ، باب ٢٣ ؛ البغوي ١ : ١٨٩ / ١١٢.

(٦) الترمذي ٤ : ٢٨ / ٢٥١٠ ، باب ٤٦ ؛ البغوي ١ : ١٨٩ ـ ١٩٠ / ١١٣.

(٧) الدرّ ١ : ٣٧٨.

٢٥٠

أنصركم ولا أخذ لكم (١).

[٢ / ٣٩٦٢] وأخرج مسلم عن أبي هريرة ، قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «مثل المؤمن كمثل الزرع لا تزال الريح تميله ، ولا يزال المؤمن يصيبه البلاء. ومثل المنافق كمثل شجرة الأرز لا تهتزّ حتّى تستحصد» (٢).

[٢ / ٣٩٦٣] وأخرج ابن ماجة عن أنس بن مالك ، عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، أنّه قال : «عظم الجزاء مع عظم البلاء وإنّ الله إذا أحبّ قوما ابتلاهم ، فمن رضي فله الرضا ، ومن سخط فله السخط» (٣).

[٢ / ٣٩٦٤] وأخرج الترمذي عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «ما يزال البلاء بالمؤمن والمؤمنة في نفسه وولده وماله حتّى يلقى الله وما عليه خطيئة». قال : هذا حديث حسن صحيح (٤).

[٢ / ٣٩٦٥] وأخرج ابن أبي الدنيا في العزاء عن يونس بن يزيد قال : سألت ربيعة بن أبي عبد الرحمان : ما منتهى الصبر؟ قال : يكون يوم تصيبه المصيبة مثله قبل أن تصيبه (٥).

[٢ / ٣٩٦٦] وأخرج في كتاب الاعتبار عن عمر بن عبد العزيز. أنّ سليمان بن عبد الملك قال له عند موت ابنه : أيصبر المؤمن حتّى لا يجد لمصيبته ألما؟ قال : يا أمير المؤمنين لا يستوي عندك ما تحبّ وما تكره ، ولكنّ الصبر معول المؤمن (٦).

__________________

(١) الوسيط ١ : ٢٣٦.

(٢) مسلم ٨ : ١٣٦ ، كتاب صفة القيامة والجنّة والنار ؛ البغوي ١ : ١٩٠ / ١١٤.

(٣) ابن ماجة ٢ : ١٣٣٨ / ٤١٣١ ، باب ٢٣ ؛ البغوي ١ : ١٨٩ / ١١٢.

(٤) الترمذي ٤ : ٢٨ / ٢٥١٠ ، باب ٤٦ ؛ البغوي ١ : ١٨٩ ـ ١٩٠ / ١١٣.

(٥) الدرّ ١ : ٣٧٨.

(٦) الدرّ ١ : ٣٧٨ ؛ الاعتبار : ٤٢.

٢٥١

قال تعالى :

(وَلا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْواتٌ بَلْ أَحْياءٌ وَلكِنْ لا تَشْعُرُونَ (١٥٤))

والآن ، وعند نزول آيات القتال والمكافحة ضدّ أعداء الدين ، جعلت الجماعة المسلمة تستعدّ للجهاد ، جهادا شاقّا يستهدف إقرار منهج الله في الأرض ، ولأداء دورها المقسوم لها في قدر الله. ولتسلم الراية والسير بها في الطريق الشاقّ الطويل ، الآن يأخذ القرآن في تعبئتها تعبئة روحيّة ، وفي تقويم تصوّرها لما يجري في أثناء هذا الجهاد من جذب ودفع ، ومن تضحيات وآلام ، وفي إعطائها الموازين الصحيحة الّتي تقدّر بها القيم في هذه المعركة الطويلة المدى :

(وَلا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْواتٌ بَلْ أَحْياءٌ ...)

نعم ، الّذين يستشهدون في سبيل إعلاء كلمة الله في الأرض ، حيث كانوا قتلى كراما أعزّاء أزكياء. هم عادة أكرم القلوب وأزكى الأرواح وأطهر النفوس ، وأقرب إلى رضوان الله تعالى ، ومن ثمّ فإنّهم ليسوا أمواتا ـ بمعنى الفناء والمحو عن صفحة الوجود ـ بل هم أحياء ، حيث كانت سمة الحياة الأولى هي الفاعليّة والنموّ والامتداد ، وسمة الموت هي السلبيّة والخمول والانقطاع. وهؤلاء الّذين بذلوا نفوسهم في سبيل الله ، كانت فاعليّتهم في نصرة الحقّ الّذي قتلوا من أجله فاعليّة مؤثّرة دائمة ، والفكرة الّتي من أجلها قتلوا ترتوي بدمائهم على مدى الزمان. فما زالوا عنصرا فعّالا دافعا مؤثّرا في تكييف الحياة وتوجيهها.

[٢ / ٣٩٧٢] قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «اغزوا تورثوا أبناءكم مجدا» (١).

[٢ / ٣٩٧٣] وقال عليّ عليه‌السلام : «والله ما صلحت دنيا ولا دين إلّا بالجهاد» (٢).

قال سيّد قطب : وهذه هي صفة الحياة الأولى. فهم أحياء أوّلا بهذا الاعتبار الواقعي في دنيا الناس. ثمّ هم أحياء عند ربّهم ـ إمّا بهذا الاعتبار ، وإمّا باعتبار آخر لا ندري نحن كنهه. وحسبنا

__________________

(١) كما في حديث الإمام الصادق عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الوسائل ١٥ : ١٥ / ١٦.

(٢) الكافي ٥ : ٨ / ١١.

٢٥٢

إخبار الله تعالى به : (أَحْياءٌ وَلكِنْ لا تَشْعُرُونَ). لأنّ كنه هذه الحياة فوق إدراكنا البشري القاصر المحدود. ولكنّهم أحياء. أحياء ، ومن ثمّ لا يغسّلون كما يغسّل الموتى ، ويكفّنون في ثيابهم الّتي استشهدوا فيها. فالغسل تطهير للجسد الميّت وهم أطهار بما فيهم من حياة. وثيابهم في الأرض ثيابهم في القبر ، لأنّهم بعد أحياء.

أحياء ، فلا يشقّ استشهادهم على الأهل والأحبّاء والأصدقاء. أحياء يشاركون في حياة الأهل والأحبّاء والأصدقاء. أحياء ، فلا يصعب فراقهم على القلوب الباقية خلفهم ، ولا يتعاظمها الأمر ، ولا يهولنّها عظم الفداء.

ثمّ هم بعد كونهم أحياء ، مكرمون عند الله ، مأجورون أكرم الأجر وأوفاه.

(وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْواتاً بَلْ أَحْياءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ. فَرِحِينَ بِما آتاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ. يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ. الَّذِينَ اسْتَجابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ ما أَصابَهُمُ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ. الَّذِينَ قالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزادَهُمْ إِيماناً وَقالُوا حَسْبُنَا اللهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ. فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوانَ اللهِ وَاللهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ)(١).

ولا أظنّ وصفا أفخم ممّا وصف الله تعالى لمواضع الشهداء ، بمثل ما جاءت به هذه الآيات من نعوت جميلة وحبوة من الله كريمة. فهم أحياء يتقلّبون في أحضان نعم الله الوافرة ، ذكرا في هذه الحياة ، وخلودا في نعيم الآخرة.

[٢ / ٣٩٧٤] روى الإمام جعفر بن محمّد الصادق عن أبيه عن آبائه عليهم‌السلام أنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : «فوق كلّ ذي برّ برّ حتّى يقتل في سبيل الله ، فإذا قتل في سبيل الله فليس فوقه برّ» (٢).

[٢ / ٣٩٧٥] ومن ثمّ ورد في الحديث : «إنّ أفضل الخلق بعد الرسل والأوصياء هم الشهداء». (٣)

__________________

(١) آل عمران ٣ : ١٦٩ ـ ١٧٥.

(٢) الوسائل ١٥ : ١٦ ـ ١٧ / ١٩٩٢١ / ٢١ ؛ التهذيب ٦ : ١٢٢ / ٢٠٩ ؛ الخصال : ٩ / ٣١ ؛ الكافي ٥ : ٥٣ / ٢.

(٣) عن الإمام أمير المؤمنين عليه‌السلام البحار ٢٢ : ٢٨٢ / ٤١ و ٣٢ : ٢٧٤ / ٢١٢ ؛ الكافي ١ : ٤٥٠ / ٣٤.

٢٥٣

[٢ / ٣٩٧٦] وكانوا هم الشفعاء بعد الأنبياء والعلماء (١).

نعم كانت الشهادة في سبيل الله ، فضيلة. لا يدانيها فضيلة ، وقد كان الأبرار يتمنّون الشهادة ، وكانوا يفضّلون ألف ضربة بالسيف على ميتة على فراش (٢).

* * *

ولكن من هو الشهيد ـ النائل بكرامة الله في الدارين ـ؟ إنّه الّذي يقتل في سبيل ، ابتغاء مرضاة الله ، وإعلاء لكلمة الله في الأرض! كما :

[٢ / ٣٩٧٧] روي عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وقد سئل عن الرجل يقاتل شجاعة ، ويقاتل حميّة ، ويقاتل رياء ، أيّ ذلك في سبيل الله؟ فقال : «من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا ، فهو سبيل الله». أخرجه مالك والشيخان (٣).

[٢ / ٣٩٧٨] وكذا قيل له صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : يا رسول الله ، رجل يريد الجهاد في سبيل الله وهو يبتغي عرضا من الدنيا؟ فقال : «لا أجر له». فأعيد عليه ثلاثا ، كلّ ذلك يقول : «لا أجر له» (٤).

[٢ / ٣٩٧٩] وأخرج ابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير في قوله : (لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللهِ) قال : في طاعة الله في قتال المشركين (٥).

هل البقاء خاصّ بالشهداء؟

لا شكّ أنّ الشهادة في سبيل الله ، شهادة عن ابتغاء مرضاة الله ، وإعلاء لكلمة الله في الأرض ، توجب الحياة الأبديّة ، دنيا وآخرة.

لكن هذا لا يستدعي اختصاصا بحقّه ، حيث الأولياء والأصفياء أيضا أحياء عند الله يرزقون

__________________

(١) البحار ٨ : ٣٤ / ٢ ؛ الخصال ١ : ١٥٦ / ١٩٧ ، أبواب الثلاثة.

(٢) الكافي ٥ : ٥٣ / ٤ ، في حديث عليّ عليه‌السلام. وقال : «إنّ الجهاد باب من أبواب الجنّة ، فتحه الله لخاصّة أوليائه» ، المصدر ٥ : ٤ / ٦.

(٣) راجع : البخاري ١ : ٤٠ ، و ٨ : ١٨٩ ؛ مسلم ٦ : ٤٦ ؛ ابن ماجة ٢ : ٩٣١ / ٢٧٨٤.

(٤) أبو داوود ١ : ٥٦٥ / ٢٥١٦ ؛ الحاكم ٢ : ٨٥ ؛ البيهقي ٩ : ١٦٩.

(٥) الدرّ ١ : ٣٧٥ ؛ ابن أبي حاتم ١ : ٢٦٢ / ١٤٠٩.

٢٥٤

ومتنعّمون برضوان الله أبديّا.

حيث الموت ليس هو الفناء محضا ، وإنّما هو انتقال من دار إلى دار. والحياة إنّما هي بالروح ، والروح من أمر الله ، لا فناء له ، ولا سيّما من ذوي الأنفس الزكيّة. فهي باقية أبدا.

قال الشيخ أبو جعفر الصدوق رحمه‌الله : اعتقادنا في الأرواح أنّها خلقت للبقاء ولم تخلق للفناء.

[٢ / ٣٩٨٠] لقول النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «ما خلقتم للفناء ، بل خلقتم للبقاء. وإنّما تنقلون من دار إلى دار» (١).

وأنّها في الأرض غريبة ، وفي الأبدان مسجونة.

وأنّها إذا فارقت الأبدان فهي باقية ، منها منعّمة ومنها معذّبة (٢).

* * *

والروايات بهذا الشأن كثيرة :

[٢ / ٣٩٨١] روى الإمام أبو محمّد العسكري عن آبائه عن الإمام موسى بن جعفر عليهم‌السلام قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لعليّ عليه‌السلام : «ما خلقت أنت ولا هم لدار الفناء ، بل خلقتم لدار البقاء ، ولكنّكم تنتقلون من دار إلى دار» (٣).

[٢ / ٣٩٨٢] وقال الإمام أمير المؤمنين ـ عليه صلوات المصلّين ـ : «إنّ هذه الدنيا ـ الّتي أصبحتم تتمنّونها وترغبون فيها ، وأصبحت تغضبكم وترضيكم ، ليست بداركم ولا منزلكم الّذي خلقتم له» (٤).

[٢ / ٣٩٨٣] وقال : «إنّ الدنيا دار فناء ، والآخرة دار بقاء. فخذوا من ممرّكم لمقرّكم ... ففي الدنيا حييتم ، وللآخرة خلقتم ...» (٥).

[٢ / ٣٩٨٤] وقال : «فللآخرة خلقتم ، وفي الدنيا حبستم» (٦).

إلى غيرها من روايات وهي كثيرة.

* * *

غير أنّ الّذي ذكره الصدوق رحمه‌الله ليس على إطلاقه إذ من الناس من يلهى عنهم كما ورد في

__________________

(١) البحار ٣٧ : ١٤٦ ؛ تفسير الإمام : ١١٧ / ٦٠.

(٢) الاعتقادات للصدوق : ٤٧ باب ٥١ (ج ٥ مصنّفات المفيد).

(٣) تفسير الإمام ١١٧ / ٦٠ ؛ البحار ٣٧ : ١٤٦ / ٣٦.

(٤) البحار ٣٢ : ٢٠ ؛ نهج البلاغة ٢ : ٨٧ ، الخطبة ١٧٣.

(٥) البحار ٧٠ : ٨٨ / ٥٦ ؛ عيون الأخبار ١ : ٢٩٧ و ٢٩٨.

(٦) البحار ٧٤ : ٤١٨ / ٤٠ ؛ الإرشاد للمفيد ١ : ٢٩٦.

٢٥٥

الحديث أيضا.

قال الشيخ أبو عبد الله المفيد رحمه‌الله : والّذي ثبت في هذا الباب ، أنّ الأرواح بعد فراق الأجساد على ضربين : منها ما ينقل إلى الثواب والعقاب ، ومنها ما يبطل ، فلا يشعر بثواب ولا عقاب (١).

قلت : وبذلك ثبتت الرواية عن أئمّة أهل البيت عليهم‌السلام.

[٢ / ٣٩٨٥] روى المفيد بالإسناد إلى أبي بكر الحضرمي عن الإمام أبي جعفر الباقر عليه‌السلام قال : «لا يسأل في القبر إلّا من محض الإيمان محضا ، أو محض الكفر محضا. قال الحضرمي : فقلت :

فسائر الناس؟ فقال : يلهى عنهم» (٢).

[٢ / ٣٩٨٦] وروى الكليني بالإسناد إلى عبد الله بن سنان عن الإمام أبي عبد الله الصادق عليه‌السلام قال : «إنّما يسأل في قبره من محض الإيمان أو الكفر محضا. وأمّا ما سوى ذلك فيلهى عنه» (٣).

وهكذا روى بالإسناد إلى الإمام أبي جعفر عليه‌السلام مثله.

[٢ / ٣٩٨٧] وكذا عن محمّد بن مسلم عن الصادق عليه‌السلام قال : «لا يسأل في القبر إلّا من محض الإيمان محضا ، أو محض الكفر محضا» (٤).

قال الشيخ أبو عبد الله المفيد : والّذي ثبت من الحديث في هذا الباب أنّ الأرواح بعد موت الأجساد على ضربين ، منها : ما ينقل إلى الثواب والعقاب. ومنها : ما يبطل فلا يشعر بثواب ولا عقاب.

[٢ / ٣٩٨٨] قال : وقد روي عن الصادق عليه‌السلام ما ذكرنا في هذا المعنى وبيّنّاه. فقد سئل عمّن مات في هذه الدار ، أين تكون روحه؟ فقال عليه‌السلام : من مات وهو ماحض للإيمان محضا أو ماحض للكفر محضا ، نقلت روحه من هيكله إلى مثله في الصورة (٥) ، وجوزي بأعماله إلى يوم القيامة. فإذا بعث

__________________

(١) تصحيح الاعتقاد : ٨٨. (ج ٥ مصنّفات المفيد).

(٢) البحار ٦ : ٢٣٥ / ٥٢ ؛ ورواه الكليني بنفس الإسناد ، إلّا أنّه قال : والآخرون يلهى عنهم. الكافي ٣ : ٢٣٧ / ٤٧٢٠ ، والبحار ٦ : ٢٦٠ / ٩٧.

(٣) الكافي ٣ : ٢٣٥ / ٤٧١٤ ؛ البحار ٦ : ٢٦٠ / ٩٨.

(٤) الكافي ٣ : ٢٣٦ / ٤٧١٦ ؛ البحار ٦ : ٢٦٠ / ١٠٠.

(٥) هذا إشارة إلى الأبدان المثاليّة (المصطلح عنها بالأبدان البرزخيّة) وقد جاء ذكرها في لفيف من روايات الباب. وسنتعرّض لتفنيد هذا الرأي في مجاله إن شاء الله.

٢٥٦

الله من في القبور أنشأ جسمه (١) وردّ روحه إلى جسده ، وحشره ليوفّيه أعماله.

فالمؤمن تنتقل روحه من جسده [الدنيوي] إلى مثل جسده في الصورة [القالب المثالي]. فيجعل في جنّة من جنان الله يتنعّم فيها إلى يوم المآب.

والكافر تنتقل روحه من جسده إلى مثله بعينه ، فتجعل في نار ، فيعذّب بها إلى يوم القيامة.

قال : وشاهد ذلك في المؤمن قوله تعالى : (قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ قالَ يا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ. بِما غَفَرَ لِي رَبِّي)(٢). وشاهد ذلك في الكافر قوله تعالى : (وَحاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذابِ. النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْها غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذابِ)(٣).

قال : فأخبر الله تعالى أنّ مؤمنا قال ـ بعد موته وقد أدخل الجنّة ـ : يا ليت قومي يعلمون. وأخبر أنّ كافرا يعذّب بعد موته غدوّا وعشيّا ويوم تقوم الساعة يخلد في النار.

قال : والضرب الآخر : من يلهى عنه وتعدم نفسه عند فساد جسمه (٤) فلا يشعر بشيء حتّى يبعث ، وهو : من لم يمحض الإيمان محضا ولا الكفر محضا.

قال : وقد بيّن الله تعالى ذلك عند قوله : (إِذْ يَقُولُ أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا يَوْماً)(٥). فبيّن أنّ قوما عند الحشر لا يعلمون مقدار لبثهم في القبور ، حتّى يظنّ بعضهم أنّ ذلك كان عشرا (٦).

قال : وليس يجوز أن يكون ذلك عن وصف من عذّب إلى بعثه أو نعّم إلى بعثه. لأنّ من لم يزل منعّما أو معذّبا لا يجهل عليه حاله فيما عومل به ، ولا يلتبس عليه الأمر في بقائه بعد وفاته.

[٢ / ٣٩٨٩] قال : وقد روي عن الإمام أبي عبد الله عليه‌السلام أنّه قال : «إنّما يسأل في قبره من محض الإيمان محضا أو محض الكفر محضا. فأمّا ما سوى هذين فإنّه يلهى عنه» (٧).

* * *

قلت : وفي الأحاديث أيضا شواهد على بقاء أرواح المؤمنين الأبرار ، وأنّهم أحياء متنعّمون

__________________

(١) الّذي كان في الدنيا ، وسنتكلّم عن ذلك عند الكلام عن المعاد الجسماني : ماذا يكون؟

(٢) يس ٣٦ : ٢٦ ـ ٢٧.

(٣) غافر ٤٠ : ٤٥ ـ ٤٦.

(٤) التعبير بانعدام النفس يعني الفناء والفساد محضا ، الأمر الّذي يتنافى مع قوله بعد ذلك : فلا يشعر بشيء حتّى يبعث. وسنذكر أنّ الصحيح هو العدم المحض بلا إعادة.

(٥) طه ٢٠ : ١٠٤.

(٦) (يَتَخافَتُونَ بَيْنَهُمْ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا عَشْراً) طه ٢٠ : ١٠٣.

(٧) تصحيح الاعتقاد : ٨٨ ـ ٩٠.

٢٥٧

عند ربّهم يرزقون.

[٢ / ٣٩٩٠] قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «من صلّى عليّ عند قبري سمعته. ومن صلّى عليّ من بعيد بلّغته» (١).

[٢ / ٣٩٩١] وقال : «من صلّى عليّ مرّة صلّيت عليه عشرا. ومن صلّى عليّ عشرا صلّيت عليه مائة. فليكثر امرؤ منكم الصلاة عليّ أو يقلّ» (٢).

قال المفيد : فبيّن صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه بعد خروجه من الدنيا يسمع الصلاة عليه ، ولا يكون كذلك إلّا وهو حيّ عند الله تعالى. وكذلك أئمّة الهدى عليهم‌السلام يسمعون سلام المسلّم عليهم من قرب ، ويبلغهم سلام من بعد وبذلك جاءت الآثار الصادقة عنهم عليهم‌السلام (٣).

ذكر الشيخ تقيّ الدين الكفعمي في آداب زيارة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أو أحد مشاهد الأئمّة عليهم‌السلام : قف عند الباب واستأذن للدخول بهذه الكلمات : «اللهمّ إنّي وقفت على باب من أبواب بيوت نبيّك ـ صلواتك عليه وآله ـ وقد منعت الناس أن يدخلوا إلّا بإذنه ، فقلت : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ)(٤). اللهمّ إنّي أعتقد حرمة صاحب هذا المشهد الشريف في غيبته ، كما أعتقدها في حضرته ، وأعلم أنّ رسولك وخلفاءك عليهم‌السلام أحياء عندك يرزقون ، يرون مقامي ويسمعون كلامي ويردّون سلامي ، وأنّك حجبت عن سمعي كلامهم وفتحت باب فهمي بلذيذ مناجاتهم ...» (٥).

قوله : خلفاؤك ، باعتبار أنّ خلفاء الرسول هم خلفاء الله في الأرض.

وفي كثير من الأدعية والزيارات وردت العبارة التالية :

«اللهمّ بلّغ محمّدا منّي تحيّة كثيرة وسلاما» (٦).

__________________

(١) المصدر : ٩١.

(٢) المصدر.

(٣) المصدر : ٩١ ـ ٩٢.

(٤) الأحزاب ٣٣ : ٥٣.

(٥) المصباح : ٤٧٢ ـ ٤٧٣ فصل ٤١ في الزيارات ؛ البحار ٩٧ : ١٦٠ / ٤١ ؛ المزار للمحمّد بن المشهدي : ٥٥ ؛ المزار للشهيد الأوّل : ٦٤ ، أورده في زيارة أمير المؤمنين عليه‌السلام.

(٦) المزار للشيخ المفيد : ١٦١ ؛ إقبال الأعمال لابن طاووس ١ : ٣٢٤ ؛ البحار ٩١ : ٨٥ / ٥ ؛ ثواب الأعمال : ١٥٦ ؛ البحار ٨٣ : ٩٦ / ٢.

٢٥٨

«وأبلغ محمّدا عنّي تحيّة كثيرة طيّبة مباركة وسلاما» (١).

«اللهمّ بلّغ روح محمّد وآل محمّد عنّي تحيّة وسلاما» (٢).

وفي بعضها : طلب ردّ السّلام منهم ، باعتبار أنّهم أحياء.

روى السيّد ابن طاووس في باب الدعاء لمحمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لكشف المهمّات ، جاء فيه : «اللهمّ بلّغ روح محمّد وآل محمّد منّي التحيّة والسّلام ، واردد عليّ منهم ، تحيّة كثيرة وسلاما» (٣).

[٢ / ٣٩٩٢] وهكذا روى بالإسناد إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : «من آوى إلى فراشه ثمّ قرأ سورة الملك ثمّ قال : اللهمّ ربّ الحلّ والحرم ، بلّغ روح محمّد عنّي تحيّة وسلاما ـ أربع مرّات ـ وكّل الله به ملكين حتّى يأتيا محمّدا فيقولان : فلان يقرأ عليك السّلام ورحمة الله. فيقول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : وعلى فلان السّلام ورحمة الله وبركاته» (٤).

[٢ / ٣٩٩٣] وكذا روى عليّ بن إبراهيم بالإسناد إلى عبد الرحيم القصير عن الإمام الصادق عليه‌السلام قال : إذا نزل بك أمر فافزع إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وصلّ ركعتين تهديهما إليه ، فإذا فرغت وسلّمت قلت : «اللهمّ أنت السّلام ، ومنك السّلام ، وإليك يرجع السّلام. اللهمّ صلّ على محمّد وآل محمّد ، وبلّغ روح محمّد منّي السّلام ، وأرواح الأئمّة الصادقين سلامي ، واردد عليّ منهم السّلام» (٥).

على أنّ في خطاب النبيّ عند ضريحه المقدّس بالسلام عليه ، لدليلا واضحا على اعتقاد كونه حيّا يرزق عند الله ، يسمع الكلام ويردّ السّلام.

[٢ / ٣٩٩٤] روى الكليني بالإسناد إلى شرحبيل الكندي عن الإمام أبي جعفر الباقر عليه‌السلام قال : إذا أردت أمرا تسأله ربّك ، فتوضّأ وأحسن الوضوء ، ثمّ صلّ ركعتين وعظّم الله وصلّ على النبيّ. وقل بعد التسليم : «اللهمّ إنّي أسألك بأنّك ملك وأنت على كلّ شيء قدير مقتدر ، وبأنّك ما تشاء من أمر يكون. اللهمّ إنّي أتوجّه إليك بنبيّك محمّد نبيّ الرحمة. يا محمّد ، يا رسول الله ، إنّي أتوجّه بك إلى

__________________

(١) مصباح المتهجّد للطوسي : ٣٠١ ؛ جمال الأسبوع ، لابن طاووس : ١٧١ ؛ البحار ٨٨ : ١٨٠ / ٦ ؛ وفي الكافي ٢ : ٥٤٦ : «وأبلغ محمّدا عنّي تحيّة كثيرة وسلاما».

(٢) وردت هذه العبارة في دعاء الإمام أبي عبد الله الحسين عليه‌السلام يوم عرفة. رواه السيّد ابن طاووس في الإقبال ٢ : ١٠١ ؛ البحار ٩٥ : ٢٣٢.

(٣) البحار ٨٣ : ٨٩ / ١٢.

(٤) المصدر ٧٣ : ٢١٥ / ٢٣.

(٥) الكافي ٣ : ٤٧٦ / ١ ، باب صلاة الحوائج.

٢٥٩

الله ربّك وربّي لينجح لي طلبتي. اللهمّ بنبيّك أنجح لي طلبتي بمحمّد». قال : ثمّ سل حاجتك (١).

ثمّ ذكر شيخنا المفيد رحمه‌الله أنّ أصحابنا الإماميّة اختلفوا في الّذي ينعّم أو يعذّب بعد موته ، فقال بعضهم هو الروح ، الّذي توجّه إليه الأمر والنهي والتكليف ، وسمّوه جوهرا. وقال آخرون : بل الروح الحياة ، جعلت في جسد كجسده في دار الدنيا!

قال : وكلا الأمرين يجوزان في العقل. والأظهر عندي قول من قال : إنّها الجوهر المخاطب ، وهو الّذي يسمّيه الفلاسفة «البسيط».

وتعرّض لما دلّ على أنّ النبيّ والأئمّة عليهم‌السلام أحياء عند ربّهم يرزقون ، على ما مرّ تفصيله وعقّبه بما :

[٢ / ٣٩٩٥] روي عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه وقف على قليب بدر فخاطب قتلى المشركين هناك قائلا : «لقد كنتم جيران سوء لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أخرجتموه من بلده وطردتموه ، ثمّ اجتمعتم عليه فحاربتموه!! ثمّ قال : فقد وجدت ما وعدني ربّي حقّا ، فهل وجدتم ما وعدكم ربّكم حقّا؟ فقال له عمر : ما خطابك لهام قد صديت؟! (٢)

فقال له رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : مه يا ابن الخطّاب! فو الله ما أنت بأسمع منهم ، وما بينهم وبين أن تأخذهم الملائكة بمقامع من الحديد ، إلّا أن أعرض بوجهي هكذا (ولوى بوجهه الشريف) عنهم» (٣).

[٢ / ٣٩٩٦] وعن أمير المؤمنين عليه‌السلام أنّه ركب بعد انفصال الأمر من حرب البصرة ، فصار يتخلّل بين الصفوف حتّى مرّ على كعب بن سورة ـ وكان هذا قاضي البصرة ، ولّاه إيّاها عمر بن الخطّاب ، فأقام بها قاضيا بين أهلها زمن عمر وعثمان ، فلمّا وقعت الفتنة بالبصرة علّق في عنقه مصحفا وخرج بأهله وولده يقاتل أمير المؤمنين ، فقتلوا بأجمعهم ـ فوقف عليه أمير المؤمنين عليه‌السلام وهو صريع بين القتلى ، فقال : «أجلسوا كعب بن سورة ، فأجلس بين نفسين. وقال له : يا كعب بن سورة ، قد وجدت

__________________

(١) المصدر : ٤٧٨ / ٧.

(٢) الهام : الجثّة. وصديت أي أصبحت جثّة هامدة بلا رواء.

(٣) تصحيح الاعتقاد : ٩٢ ؛ وانظر : البداية والنهاية لابن كثير ١ : ١٣٧ ـ ١٣٨ ، ط : مصر.

٢٦٠