التفسير الأثري الجامع - ج ٤

الشيخ محمّد هادي معرفة

التفسير الأثري الجامع - ج ٤

المؤلف:

الشيخ محمّد هادي معرفة


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة التمهيد ـ قم
المطبعة: ستاره
الطبعة: ١
ISBN: 978-600-5079-05-0
ISBN الدورة:
978-600-5079-08-1

الصفحات: ٥٦٠

النفوس القاتلة أو الجارحة والشاجّة عمدا ، كذلك العفو أيضا عن ذلك.

وأمّا معنى قوله : (فَاتِّباعٌ بِالْمَعْرُوفِ) فإنّه يعني : فاتّباع على ما أوجبه الله له من الحقّ قبل قاتل وليّه ، من غير أن يزداد عليه ما ليس له عليه ، في أسنان الفرائض أو غير ذلك ، أو يكلّفه ما لم يوجبه الله له عليه. كما :

[٢ / ٤٤٧٦] روى بشر بن معاذ ، عن يزيد ، عن سعيد ، عن قتادة ، قال : بلغنا عن نبيّ الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه قال : «من زاد أو ازداد بعيرا» يعني في إبل الديات وفرائضها «فمن أمر الجاهلية».

وأمّا إحسان الآخر في الأداء ، فهو أداء ما لزمه بقتله لوليّ القتيل على ما ألزمه الله وأوجبه عليه من غير أن يبخسه حقّا له قبله بسبب ذلك ، أو يحوجه إلى اقتضاء ومطالبة.

فإن قال لنا قائل : وكيف قيل : (فَاتِّباعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَداءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسانٍ) ولم يقل : فاتّباعا بالمعروف وأداء إليه بإحسان ، كما قال : (فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقابِ)(١)؟ قيل : لو كان التنزيل جاء بالنصب ، وكان : فاتّباعا بالمعروف وأداء إليه بإحسان ، كان جائزا في العربيّة صحيحا على وجه الأمر ، كما يقال : ضربا ضربا ، وإذا لقيت فلانا فتبجيلا وتعظيما ، غير أنّه جاء رفعا ، وهو أفصح في كلام العرب من نصبه ، وكذلك ذلك في كلّ ما كان نظيرا له ممّا يكون فرضا عامّا فيمن قد فعل وفيمن لم يفعل إذا فعل ، لا ندبا وحثّا. ورفعه على معنى : فمن عفي له من أخيه شيء فالأمر فيه اتّباع بالمعروف ، وأداء إليه بإحسان ، أو فالقضاء والحكم فيه اتّباع بالمعروف. وقد قال بعض أهل العربيّة : رفع ذلك على معنى : فمن عفي له من أخيه شيء فعليه اتّباع بالمعروف. وهذا مذهبي ، والأوّل الّذي قلناه هو وجه الكلام ، وكذلك كلّ ما كان من نظائر ذلك في القرآن فإنّ رفعه على الوجه الّذي قلناه ، وذلك مثل قوله : (وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّداً فَجَزاءٌ مِثْلُ ما قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ)(٢) وقوله : (فَإِمْساكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ)(٣).

وأمّا قوله : (فَضَرْبَ الرِّقابِ) فإنّ الصواب فيه النصب ، وهو وجه الكلام ؛ لأنّه على وجه الحث من الله ـ تعالى ذكره ـ عباده على القتل عند لقاء العدوّ ، كما يقال : إذا لقيتم العدوّ فتكبيرا وتهليلا ،

__________________

(١) محمّد ٤٧ : ٤.

(٢) المائدة ٥ : ٩٥.

(٣) البقرة ٢ : ٢٢٩.

٤٢١

على وجه الحضّ على التكبير لا على وجه الإيجاب والإلزام.

وقال ـ في تأويل قوله تعالى : (ذلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ) ـ : يعني بقوله ذلك : هذا الّذي حكمت به وسننته لكم من إباحتي لكم أيّتها الأمّة العفو عن القصاص من قاتل قتيلكم على دية تأخذونها فتملكونها ملككم سائر أموالكم الّتي كنت منعتها من قبلكم من الأمم السالفة ، (تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ) يقول : تخفيف منّي لكم ممّا كنت ثقّلته على غيركم بتحريم ذلك عليهم ، ورحمة منّي لكم ، كما :

[٢ / ٤٤٧٧] روى أبو كريب وأحمد بن حمّاد الدولابي ، قالا : حدّثنا سفيان عن عمرو بن دينار عن مجاهد عن ابن عبّاس ، قال : كان في بني إسرائيل القصاص ولم تكن فيهم الدية ، فقال الله في هذه الآية : (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصاصُ فِي الْقَتْلى الْحُرُّ بِالْحُرِّ) إلى قوله : (فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ) فالعفو أن يقبل الدية في العمد ، (ذلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ) يقول : خفّف عنكم ما كان على من كان قبلكم ، أن يطلب هذا بمعروف ، ويؤدّي هذا بإحسان (١).

[٢ / ٤٤٧٨] وروى محمّد بن عليّ بن الحسن بن شقيق ، بالإسناد إلى ابن عبّاس ، قال : كان من قبلكم يقتلون القاتل بالقتيل لا تقبل منهم الدية ، فأنزل الله : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصاصُ فِي الْقَتْلى الْحُرُّ بِالْحُرِّ) إلى آخر الآية ؛ (ذلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ) يقول : خفّف عنكم ، وكان على من قبلكم أنّ الدية لم تكن تقبل ، فالذي يقبل الدية ذلك منه عفو.

[٢ / ٤٤٧٩] وروى المثنّى بالإسناد إلى جابر بن زيد عن ابن عبّاس : (ذلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ) ممّا كان على بني إسرائيل ، يعني من تحريم الدية عليهم.

[٢ / ٤٤٨٠] وعن ابن أبي نجيح عن مجاهد ، عن ابن عبّاس قال : كان على بني إسرائيل قصاص في القتل ليس بينهم دية في نفس ولا جرح ، وذلك قول الله : (وَكَتَبْنا عَلَيْهِمْ فِيها أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ)(٢) الآية كلّها. وخفّف الله عن أمّة محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقبل منهم الدية في النفس وفي الجراحة ، وذلك قوله تعالى : (ذلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ) بينكم.

__________________

(١) رواه البخاري في تفسير سورة البقرة باب ٢ ، والديات باب ٨. والنسائي في القسامة باب ٢٨. وقد قدّمنا ذلك عن كتاب تلخيص التلمود : ٣١٩ ـ ٣٢٢.

(٢) المائدة ٥ : ٤٥.

٤٢٢

[٢ / ٤٤٨١] وعن قتادة قوله : (ذلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ) وإنّما هي رحمة رحم الله بها هذه الأمّة أطعمهم الدية وأحلّها لهم ، ولم تحلّ لأحد قبلهم. فكان أهل التوراة إنّما هو القصاص أو العفو ، وليس بينهما أرش. وكان أهل الإنجيل إنّما هو عفو أمروا به ، فجعل الله لهذه الأمّة القود والعفو والدية ـ إن شاؤوا ـ أحلّها لهم ولم تكن لأمّة قبلهم.

وأمّا على قول من قال : القصاص في هذه الآية معناه : قصاص الديات بعضها من بعض على ما قاله السدّي ، فإنّه ينبغي أن يكون تأويله : هذا الّذي فعلت بكم أيّها المؤمنون من قصاص ديات قتلى بعضكم بديات بعض وترك إيجاب القود على الباقين منكم بقتيله الّذي قتله وأخذه بديته ، تخفيف منّي عنكم ثقل ما كان عليكم من حكمي عليكم بالقود أو الدية ورحمة منّي لكم.

* * *

وقال ـ في تأويل قوله تعالى : (فَمَنِ اعْتَدى بَعْدَ ذلِكَ فَلَهُ عَذابٌ أَلِيمٌ) ـ : يعني تعالى ذكره بقوله : (فَمَنِ اعْتَدى بَعْدَ ذلِكَ) فمن تجاوز ما جعله الله له بعد أخذه الدية اعتداء وظلما إلى ما لم يجعل له من قتل قاتل وليّه وسفك دمه ، فله بفعله ذلك وتعدّيه إلى ما قد حرّمته عليه عذاب أليم. وقد بيّنت معنى الاعتداء فيما مضى بما أغنى عن إعادته (١). وبنحو الّذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك :

[٢ / ٤٤٨٢] روى محمّد بن عمرو عن أبي عاصم عن عيسى ، عن ابن أبي نجيح عن مجاهد : (فَمَنِ اعْتَدى بَعْدَ ذلِكَ) فقتل (فَلَهُ عَذابٌ أَلِيمٌ).

[٢ / ٤٤٨٣] وعن سعيد عن قتادة قوله : (فَمَنِ اعْتَدى بَعْدَ ذلِكَ فَلَهُ عَذابٌ أَلِيمٌ) يقول : فمن اعتدى بعد أخذه الدية فقتل ، فله عذاب أليم. قال : وذكر لنا أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان يقول : «لا أعافي رجلا قتل بعد أخذه الدية» (٢).

[٢ / ٤٤٨٤] وعن عبد الرزّاق عن معمر عن قتادة في قوله : (فَمَنِ اعْتَدى بَعْدَ ذلِكَ) قال : هو القتل

__________________

(١) انظر ما قاله في تفسير قوله تعالى : (تَظاهَرُونَ عَلَيْهِمْ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ) الآية ٨٥ من سورة البقرة.

(٢) هذا الحديث مرسل عن قتادة. ورواه أبو داوود مرفوعا عن جابر بن عبد الله في الديات باب ٥. وأحمد في المسند (٣ : ٣٦٣) بلفظ : «لا أعفي من قتل بعد أخذه الدية».

٤٢٣

بعد أخذ الدية ، يقول : من قتل بعد أن يأخذ الدية فعليه القتل ، لا تقبل منه الدية.

[٢ / ٤٤٨٥] وعن الحسن ، قال : كان الرجل إذا قتل قتيلا في الجاهليّة فرّ إلى قومه ، فيجيء قومه فيصالحون عنه بالدية. قال : فيخرج الفارّ وقد أمن على نفسه. قال : فيقتل ثمّ يرمى إليه بالدية ، فذلك الاعتداء!

[٢ / ٤٤٨٦] وأيضا عنه قال : القاتل إذا طلب فلم يقدر عليه وأخذ من أوليائه الدية ثمّ أمن فأخذ فقتل ، كان ما أكل عدوانا.

[٢ / ٤٤٨٧] وعن هارون بن سليمان ، قال : قلت لعكرمة : من قتل بعد أخذه الدية؟ قال : إذن يقتل ، أما سمعت الله يقول : (فَمَنِ اعْتَدى بَعْدَ ذلِكَ فَلَهُ عَذابٌ أَلِيمٌ).

* * *

وقال أبو جعفر : واختلفوا في معنى العذاب الأليم الّذي جعله الله لمن اعتدى بعد أخذه الدية من قاتل وليّه ، فقال بعضهم : ذلك العذاب هو القتل بمن قتله بعد أخذ الدية منه وعفوه عن القصاص منه بدم وليّه. ذكر من قال ذلك :

[٢ / ٤٤٨٨] روى يعقوب بن إبراهيم الدورقي بالإسناد إلى الضحّاك في قوله : (فَمَنِ اعْتَدى بَعْدَ ذلِكَ فَلَهُ عَذابٌ أَلِيمٌ) قال : يقتل ، وهو العذاب الأليم ، يقول : العذاب الموجع.

[٢ / ٤٤٨٩] وعن عكرمة : (فَمَنِ اعْتَدى بَعْدَ ذلِكَ فَلَهُ عَذابٌ أَلِيمٌ) قال : القتل.

وقال بعضهم : ذلك العذاب عقوبة يعاقبه بها السلطان على قدر ما يرى من عقوبته. ذكر من قال ذلك :

[٢ / ٤٤٩٠] روى القاسم بن الحسن عن الحسين عن حجّاج ، قال : قال ابن جريج : أخبرني إسماعيل بن أميّة ، عن الليث ـ غير أنّه لم ينسبه ، وقال : ثقة ـ : أنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أوجب بقسم أو غيره أن لا يعفى عن رجل عفا عن الدم وأخذ الدية ثمّ عدا فقتل.

[٢ / ٤٤٩١] وقال ابن جريج : وأخبرني عبد العزيز بن عمر بن عبد العزيز ، قال : في كتاب لعمر عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : «والاعتداء» الّذي ذكر الله ، أنّ الرجل يأخذ العقل أو يقتصّ ، أو يقضي السلطان فيما بين الجراح ، ثمّ يعتدي بعضهم من بعد أن يستوعب حقّه ، فمن فعل ذلك فقد اعتدى ، والحكم فيه

٤٢٤

إلى السلطان بالذي يرى فيه من العقوبة. قال : ولو عفا عنه لم يكن لأحد من طلبة الحقّ أن يعفو ، لأنّ هذا من الأمر الّذي أنزل الله فيه قوله : (فَإِنْ تَنازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ) وأولي الأمر منكم (١).

[٢ / ٤٤٩٢] وعن الحسن في رجل قتل فأخذت منه الدية ، ثمّ إن وليّه قتل به القاتل ، قال الحسن : تؤخذ منه الدية الّتي أخذ ولا يقتل به.

قال أبو جعفر : وأولى التأويلين بقوله : (فَمَنِ اعْتَدى بَعْدَ ذلِكَ فَلَهُ عَذابٌ أَلِيمٌ) تأويل من قال : فمن اعتدى بعد أخذه الدية ، فقتل قاتل وليّه ، فله عذاب أليم في عاجل الدنيا وهو القتل ؛ لأنّ الله تعالى جعل لكلّ وليّ قتيل قتل ظلما سلطانا على قاتل وليّه ، فقال تعالى ذكره : (وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنا لِوَلِيِّهِ سُلْطاناً فَلا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ)(٢). فإذ كان ذلك كذلك وكان الجميع من أهل العلم مجمعين على أنّ من قتل قاتل وليّه بعد عفوه عنه وأخذه منه دية قتيله أنّه بقتله إيّاه له ظالم في قتله ، كان بيّنا أن لا يولّي من قتله ظلما كذلك السلطان عليه في القصاص والعفو وأخذ الدية ، أيّ ذلك شاء. وإذا كان ذلك كذلك كان معلوما أنّ ذلك عذابه ، لأنّ من أقيم عليه حدّه في الدنيا كان ذلك عقوبته من ذنبه ولم يكن به متّبعا في الآخرة ، على ما قد ثبت به الخبر عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (٣).

وأمّا ما قاله ابن جريج من أنّ حكم من قتل قاتل وليّه بعد عفوه عنه وأخذه دية وليّه المقتول إلى الإمام دون أولياء المقتول ، فقول خلاف لما دلّ عليه ظاهر كتاب الله وأجمع عليه علماء الأمّة. وذلك أنّ الله جعل لوليّ كلّ مقتول ظلما السلطان دون غيره من غير أن يخصّ من ذلك قتيلا دون قتيل ، فسواء كان ذلك قتيل ولي من قتله أو غيره. ومن خصّ من ذلك شيئا سئل البرهان عليه من

__________________

(١) النساء ٤ : ٥٩.

(٢) الإسراء ١٧ : ٣٣.

(٣) كالّذي رواه الإمام أحمد في المسند (٥ : ٣٢٣) عن عبادة بن الصامت قال : «كنت فيمن حضر العقبة الأولى وكنّا اثني عشر رجلا ، فبايعنا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على بيعة النساء وذلك قبل أن يفترض الحرب ؛ على أن لا نشرك بالله شيئا ولا نسرق ولا نزني ولا نقتل أولادنا ولا نأتي ببهتان نفتريه بين أيدينا وأرجلنا ولا نعصيه في معروف ، فإن وفيتم فلكم الجنّة ، وإن غشيتم في ذلك شيئا فأمركم إلى الله إن شاء عذّبكم وإن شاء غفر لكم». ورواه بنحوه البخاري في الحدود باب ١٤ ، ومناقب الأنصار باب ٤٣ ، والإيمان باب ١١ ، والأحكام باب ٤٩ ، والتوحيد باب ٣١. والنسائي في البيعة باب ٩ و ١٧ و ١٨. ومالك في البيعة حديث ٢.

٤٢٥

أصل أو نظير وعكس عليه القول فيه ، ثمّ لن يقول في شيء من ذلك قولا إلّا ألزم في الآخر مثله. ثمّ في إجماع الحجّة على خلافه ما قاله في ذلك مكتفى في الاستشهاد على فساده بغيره.

* * *

وقال ـ في تأويل قوله تعالى : (وَلَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ يا أُولِي الْأَلْبابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) ـ : يعني ـ تعالى ذكره ـ بقوله : (وَلَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ يا أُولِي الْأَلْبابِ) : ولكم يا أولي العقول فيما فرضت عليكم وأوجبت لبعضكم على بعض من القصاص في النفوس والجراح والشجاج ما منع به بعضكم من قتل بعض وقدع (١) بعضكم عن بعض فحييتم بذلك فكان لكم في حكمي بينكم بذلك حياة.

واختلف أهل التأويل في معنى ذلك ، فقال بعضهم في ذلك نحو الّذي قلنا فيه. ذكر من قال ذلك :

[٢ / ٤٤٩٣] روى ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قوله : (وَلَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ يا أُولِي الْأَلْبابِ) قال : نكال ، تناه.

[٢ / ٤٤٩٤] وكذا عن قتادة : (وَلَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ) قال : جعل الله هذا القصاص حياة ونكالا وعظة لأهل السفه والجهل من الناس. وكم من رجل قد همّ بداهية لو لا مخافة القصاص لوقع بها ، ولكنّ الله حجز بالقصاص بعضهم عن بعض. وما أمر الله بأمر قطّ إلّا وهو أمر صلاح في الدنيا والآخرة ولا نهى الله عن أمر قطّ إلّا وهو أمر فساد في الدنيا والدين ، والله أعلم بالّذي يصلح خلقه.

[٢ / ٤٤٩٥] وعنه أيضا قال : قد جعل الله في القصاص حياة ، إذا ذكره الظالم المتعدّي كفّ عن القتل.

[٢ / ٤٤٩٦] وعن الربيع قوله : (وَلَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ) الآية ، يقول : جعل الله هذا القصاص حياة وعبرة لكم ، كم من رجل قد همّ بداهية فمنعه مخافة القصاص أن يقع بها ، وإن الله قد حجز عباده بعضهم عن بعض بالقصاص.

[٢ / ٤٤٩٧] وقال ابن جريج : حياة : منعة.

[٢ / ٤٤٩٨] وقال ابن زيد حياة : بقية (٢) ؛ إذا خاف هذا أن يقتل بي كفّ عنّي ، لعلّه يكون عدوّا لي يريد قتلي ، فيتذكّر أن يقتل في القصاص ، فيخشى أن يقتل بي ، فيكفّ بالقصاص الّذي خاف أن

__________________

(١) قدع : كفّ.

(٢) بقية : إبقاء.

٤٢٦

يقتل ؛ لو لا ذلك قتل هذا.

وقال آخرون : معنى ذلك : ولكم في القصاص من القاتل بقاء لغيره ، لأنّه لا يقتل بالمقتول غير قاتله في حكم الله. وكانوا في الجاهليّة يقتلون بالأنثى الذكر ، وبالعبد الحرّ. ذكر من قال ذلك :

[٢ / ٤٤٩٩] روى موسى بن هارون عن عمرو بن حمّاد عن أسباط عن السدّي : (وَلَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ) يقول : بقاء ، لا يقتل إلّا القاتل بجنايته.

وتأويل قوله : (يا أُولِي الْأَلْبابِ :) يا أولي العقول. والألباب جمع اللبّ ، واللبّ العقل. وخصّ الله تعالى ذكره بالخطاب أهل العقول ، لأنّهم هم الّذين يعقلون عن الله أمره ونهيه ويتدبّرون آياته وحججه دون غيرهم.

وتأويل قوله : (لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) أي تتّقون القصاص فتنتهون عن القتل كما :

[٢ / ٤٥٠٠] روى ابن وهب عن ابن زيد ، قال : لعلّك تتّقي أن تقتله فتقتل به (١).

* * *

[٢ / ٤٥٠١] وأخرج الثعلبي عن الشعبي والكلبي وقتادة قالوا : نزلت هذه الآية في حيّين من أحياء العرب اقتتلوا في الجاهليّة قبيل الإسلام بقليل ، وكانت بينهما قتلى وجراحات لم يأخذها بعضهم من بعض ، حتّى جاء الإسلام. قال قتادة ومقاتل بن حيّان : كانت بين بني قريظة وبني النضير (٢). وقال سعيد بن جبير : كانت بين الأوس والخزرج .. قالوا جميعا : وكان لأحد الحيّين على الآخر طول في الكثرة والشرف ، وكانوا ينكحون نساءهم بغير مهور (٣). فأقسموا لنقتلنّ بالعبد منّا الحرّ منهم. وبالمرأة منّا الرجل منهم ، وبالرجل منّا الرجلين منهم ، وبالرجلين منّا أربعة رجال منهم. وجعلوا جراحاتهم ضعفي جراحات أولئك. فرفعوا أمرهم إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فأنزل الله تعالى هذه الآية وأمر بالمساواة بينهم ، فرضوا وسلّموا (٤).

__________________

(١) الطبري ٢ : ١٣٩ ـ ١٥٧.

(٢) لا شأن لقبيلتين من اليهود (نكثا العهد مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فنفاهم وصادر أموالهم) في نزول آية تخصّ أحكام الإسلام.

في حين أنّ الخطاب فيها أيضا مع المؤمنين!

(٣) وهذا يبيّن أنّ الحيّين لم يكونا من الأنصار لا من الأوس ولا من الخزرج ، بعد أن لم يعهد ذلك التفاضل بينهم في شيء.

(٤) البغوي ١ : ٢٠٧ ؛ الثعلبي ٢ : ٥٣ ؛ أبو الفتوح ٢ : ٣٢٩.

٤٢٧

[٢ / ٤٥٠٢] وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم ، والبيهقي في سننه عن ابن عبّاس قال : كانوا لا يقتلون الرجل بالمرأة ، ولكن يقتلون الرجل بالرجل والمرأة بالمرأة ، فأنزل الله : (النَّفْسَ بِالنَّفْسِ). فجعل الأحرار في القصاص سواء فيما بينهم في العهد رجالهم ونساؤهم ، في النفس وما دون النفس. وجعل العبيد مستوين في العمد ، في النفس وما دون النفس ، رجالهم ونساؤهم (١).

[٢ / ٤٥٠٣] وروى الطبرسي صاحب كتاب الاحتجاج بإسناده إلى عليّ بن الحسين عليه‌السلام في تفسير قوله تعالى : (وَلَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ) قال : ولكم يا أمّة محمّد في القصاص حياة ، لأنّ من همّ بالقتل فعرف أنّه يقتصّ منه كفّ لذلك عن القتل ، كان حياة للذي كان همّ بقتله ، وحياة لهذا الجاني الّذي أراد أن يقتل ، وحياة لغيرهما من الناس ، إذ علموا أنّ القصاص واجب لا يجسرون على القتل مخافة القصاص (يا أُولِي الْأَلْبابِ) أولى العقول (لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ)(٢).

[٢ / ٤٥٠٤] وروى الكليني بالإسناد إلى الحلبي ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام ، قال : «سألته عن قول الله عزوجل : (فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّباعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَداءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسانٍ ،) فقال : ينبغي للذي له الحقّ أن لا يعسر أخاه إذا كان قد صالحه على دية ، وينبغي للذي عليه الحقّ أن لا يمطل أخاه إذا قدر على ما يعطيه ، ويؤدّي إليه بإحسان. وسألته عن قول الله عزوجل : (فَمَنِ اعْتَدى بَعْدَ ذلِكَ فَلَهُ عَذابٌ أَلِيمٌ) ، فقال : هو الرجل يقبل الدية أو يعفو أو يصالح ثمّ يعتدي فيقتل (فَلَهُ عَذابٌ أَلِيمٌ) كما قال الله عزوجل» (٣).

[٢ / ٤٥٠٥] وروى أيضا عنه عن أبي عبد الله عليه‌السلام ، في قول الله عزوجل : (فَمَنِ اعْتَدى بَعْدَ ذلِكَ فَلَهُ عَذابٌ أَلِيمٌ). قال : الرجل يعفو أو يأخذ الدية ثمّ يجرح صاحبه أو يقتله (فَلَهُ عَذابٌ أَلِيمٌ)(٤).

[٢ / ٤٥٠٦] وأخرج النسائي عن أبي سعيد الخدري قال : بينا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقسّم شيئا ، أقبل رجل فأكبّ عليه ، فطعنه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بعرجون كان معه ، فخرج الرجل ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : تعال فاستقد! فقال : بل قد عفوت يا رسول الله! (٥)

__________________

(١) الدرّ ٢ : ١٥٣ ، (ط : هجر) ؛ ابن أبي حاتم ١ : ٢٩٤ / ١٥٧٨.

(٢) نور الثقلين ١ : ١٥٨ / ٥٢٢ ؛ الاحتجاج ٢ : ٥٠ ؛ البرهان ١ : ٣٨٧ ـ ٣٨٨ / ١ ؛ البحار ٦٩ : ٢٢٠ ـ ٢٢١ / ٧.

(٣) الكافي ٧ : ٣٥٨ / ١.

(٤) الكافي ٧ : ٣٥٩ / ٣ ؛ التهذيب ١٠ : ١٧٨ / ٦٩٨ ـ ١٣ ؛ البرهان ١ : ٣٨٦.

(٥) النسائي ٤ : ٢٢٦ / ٦٩٧٥ ؛ القرطبي ٢ : ٢٥٦ ـ ٢٥٧.

٤٢٨

قال تعالى :

(كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ لِلْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ (١٨٠) فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَ ما سَمِعَهُ فَإِنَّما إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (١٨١) فَمَنْ خافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفاً أَوْ إِثْماً فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (١٨٢))

هنا وفي هذه الآيات جاء تشريع الوصيّة عند الموت فريضة ، إن كان سيترك وراءه خيرا ، وفسّر بالثروة الطائلة.

والروايات في تفسير الخير هنا مختلفة ، فقد جاء تفسيره بالمال ، على إطلاقه :

[٢ / ٤٥٠٧] كما في الرواية عن أبي جعفر وأبي عبد الله عليهما‌السلام أنّهما قالا : «الخير هاهنا المال» (١).

وكذا عن ابن عبّاس (٢) ومجاهد (٣) وقتادة (٤). والربيع (٥). وعطاء (٦). وعن أسباط عن السدّي (٧). وغيرهم.

[٢ / ٤٥٠٨] وفسرّه الضحّاك بالمال الوفير. حيث قال أوّلا : الخير المال. ثمّ استشهد بقول شعيب : (إِنِّي أَراكُمْ بِخَيْرٍ)(٨) ، قال : يعنى الغنى. (٩)

[٢ / ٤٥٠٩] وروي عن الإمام أمير المؤمنين عليه‌السلام «أنّه دخل على مولى له في مرضه ، وله سبعمأة درهم أو تسعمأة ، فقال : ألا أوصي؟ فقال له الإمام : لا ، إنّما قال الله سبحانه (إِنْ تَرَكَ خَيْراً ،) وليس

__________________

(١) دعائم الإسلام ٢ : ٣١٠ / ١١٦٩ ؛ مستدرك الوسائل ١٦ : ١١.

(٢) الطبري ٢ : ١٦٤ و ١٦٥ ؛ ابن أبي حاتم ١ : ٢٩٩.

(٣) الطبري ٢ : ١٦٤. قال مجاهد : الخير في القرآن كلّه المال : (لِحُبِّ الْخَيْرِ) العاديات ١٠٠ : ٨. (أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ) سورة ص ٣٨ : ٣٢. (إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْراً) النور ٢٤ : ٣٣.

(٤) المصدر.

(٥) المصدر.

(٦) المصدر.

(٧) المصدر.

(٨) هود ١١ : ٨٤.

(٩) الطبري ٢ : ١٦٥.

٤٢٩

لك كثير مال» (١).

[٢ / ٤٥١٠] وروي أنّه حضره رجل مقلّ ، فقال : ألا أوصي ـ يا أمير المؤمنين؟ ـ فقال : «أوص بتقوى الله ، وأمّا المال فدعه لورثتك ، فإنّه طفيف يسير. وإنّما قال الله ـ عزوجل ـ : (إِنْ تَرَكَ خَيْراً) وأنت لم تترك خيرا توصي فيه» (٢).

[٢ / ٤٥١١] وأخرج عبد بن حميد عن ابن عبّاس ـ أيضا ـ قال : من لم يترك ستّين دينارا لم يترك خيرا (٣).

[٢ / ٤٥١٢] وأخرج سعيد بن منصور وابن أبي شيبة وابن المنذر والبيهقي عن عائشة. قال لها رجل : إنّي أريد أن أوصي! قالت : كم مالك؟ قال : ثلاثة آلاف. قالت : كم عيالك؟ قال : أربعة. قالت : قال الله : (إِنْ تَرَكَ خَيْراً) وهذا يسير فاتركه لعيالك فهو أفضل (٤).

[٢ / ٤٥١٣] وأخرج عبد الرزّاق وسعيد بن منصور والبيهقي عن ابن عبّاس قال : إن ترك الميّت سبعمائة درهم فلا يوصي (٥).

[٢ / ٤٥١٤] وعن أبان بن إبراهيم النخعي في قوله تعالى : (إِنْ تَرَكَ خَيْراً) قال : ألف درهم إلى خمسمائة (٦).

[٢ / ٤٥١٥] وأخرج ابن جرير بالإسناد إلى همّام بن يحيى ، عن قتادة في هذه الآية : (إِنْ تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ) قال : الخير : ألف فما فوقه (٧).

[٢ / ٤٥١٦] وروي عن طاووس قال : لم يترك خيرا من لم يترك ثمانين دينارا (٨).

__________________

(١) عوالي اللئالي ٢ : ١١٦ / ٣٢١ ؛ التبيان ٢ : ١٠٩ ؛ مجمع البيان ١ : ٤٩٣ ؛ أبو الفتوح ٢ : ٣٤٢ ـ ٣٤٣.

(٢) دعائم الإسلام ٢ : ٣٥٦ / ١٢٩٨ ؛ مستدرك الوسائل ١٤ : ١٤١.

(٣) الدرّ ١ : ٤٢٢ ؛ الوسيط ١ : ٢٧٠ ؛ ابن كثير ١ : ٢١٨.

(٤) سنن سعيد ٢ : ٦٥٦ / ٢٤٨. قال : سنده صحيح ؛ الثعلبي ٢ : ٥٨ ، بلفظ عن أبي مليكة أنّ رجلا قال لعائشة ... ، أبو الفتوح ٢ : ٣٤٣ ؛ الدرّ ١ : ٤٢٣.

(٥) سنن سعيد ٢ : ٦٥٨ / ٢٥٠ ؛ أبو الفتوح ٢ : ٣٤٣ ، بلفظ : ثمانمأة درهم ؛ مجمع البيان ١ : ٤٩٣ ، بلفظ : إلى ثمانمأة درهم.

(٦) الطبري ٢ : ١٦٦ / ٢٢٠٥ ؛ عبد الرزّاق ١ : ٣٠٨ / ١٧٧ ؛ التبيان ٢ : ١٠٩.

(٧) الطبري ٢ : ١٦٥.

(٨) ابن كثير ١ : ٢١٨ ؛ الوسيط ١ : ٢٧٠.

٤٣٠

[٢ / ٤٥١٧] وأخرج ابن جرير عن عبد الله بن عيينة ـ أو عتبة ، الشكّ من الطبري ـ : أنّ رجلا أراد أن يوصي وله ولد كثير ، وترك أربعمائة دينار! فقالت عائشة : ما أرى فيه فضلا (١).

قوله تعالى : (الْوَصِيَّةُ لِلْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ)

والمعروف هو الّذي تألفه العقول ولا تنكره النفوس. فهو الأمر المحبوب المرضيّ لدى الجميع. وسمّي معروفا لكثرة تداوله والتأنّس به وتعارفه بين الناس.

غير أنّ المراد بالمعروف هنا : العدل الّذي لا مضارّة فيه ولا تفاضل فيما يوجب تحاسدا وتباغضا بين الأقارب. ومن ثمّ فمن المستحسن في الوصيّة أن لا تكون لقصد الإضرار والامتهان بشأن زوج أو قريب من الأقرباء.

[٢ / ٤٥١٨] نعم روي عن الإمام أبي عبد الله الصادق عن آبائه عليهم‌السلام ، أنّ من لم يوص عند موته لذوي قرابته ممّن لا يرثه ، فقد ختم عمله بمعصية (٢)

[٢ / ٤٥١٩] وأخرج ابن جرير عن الضحّاك أنّه كان يقول : من مات ولم يوص لذوي قرابته فقد ختم عمله بمعصية (٣).

[٢ / ٤٥٢٠] وروى محمّد بن قيس عن أبي جعفر عليه‌السلام قال : «من أوصى بوصيّة لغير الوارث من صغير أو كبير بالمعروف غير المنكر فقد جازت وصيّته». (٤)

[٢ / ٤٥٢١] وأخرج عبد الرزّاق وعبد بن حميد عن قتادة قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «أيّها الناس ابتاعوا أنفسكم من ربّكم ، ألا إنّه ليس لامرىء شيء ، ألا لا أعرفنّ امرءا بخل بحقّ الله فيه ، حتّى إذا حضره الموت أخذ يوزّع ماله هاهنا وهاهنا» ثمّ قال قتادة : ويلك يا ابن آدم كنت بخيلا ممسكا حتّى إذا حضرك الموت أخذت تدعدع مالك وتفرّقه ، يا ابن آدم اتّق الله ولا تجمع إساءتين في مالك ، إساءة في الحياة وإساءة عند الموت ، انظر إلى قرابتك الّذين يحتاجون ولا يرثون فأوص لهم

__________________

(١) الطبري ٢ : ١٦٦ / ٢٢٠٤.

(٢) التهذيب ٩ : ١٧٤ ؛ الفقيه ٤ : ١٨٢ ؛ العيّاشيّ ١ : ٩٦ ؛ أبو الفتوح ٢ : ٣٤٤ ؛ البحار ١٠٠ : ٢٠٠.

(٣) الطبري ٢ : ١٥٩ ؛ الثعلبي ٢ : ٥٧.

(٤) البرهان ١ : ٣٨٩ / ٥ ؛ العيّاشيّ ١ : ٩٥ ـ ٩٦ / ١٦٦.

٤٣١

من مالك بالمعروف (١).

[٢ / ٤٥٢٢] وأخرج ابن جرير عن مسروق : أنّه حضر رجلا فوصّى بأشياء لا تنبغي ، فقال له مسروق : إنّ الله قد قسم بينكم فأحسن القسم ، وإنّه من يرغب برأيه عن رأي الله يضلّه ، أوص لذي قرابتك ممّن لا يرثك ، ثمّ دع المال على ما قسمه الله عليه (٢).

* * *

قوله تعالى : (حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ) تأكيد لفرض الوصيّة بالمعروف ، إذ كانت عادة العرب في الجاهليّة ـ ولا تزال اليوم وكذا عند غيرهم من أهل الجفاء ـ أنّ الميّت إذا كان له ولد أو أولاد ذكور ، استأثروا بماله كلّه ، بما يوجب حرمان الإناث ، سواء الأولاد والأزواج ، وحتّى إذا لم يكن له ولد ذكر استأثر بماله أقرب الذكور له من أب أو عمّ أو ابن عمّ الأدنين فالأدنين ، وكان الميّت ربما أوصى ببعض ماله أو بجميعه لبعض أولاده أو قرابته أو أصدقائه ، ليحرم الباقين فضل ماله.

ولمّا استقرّ المسلمون بدار الهجرة واختصّوا بجماعتهم ، شرع الله لهم تشريك بعض القرابة في تركتهم ، ممّن كانوا يهملون توريثه أحيانا ، أو لا يرثون ، لأنّهم من الطبقات التالية (٣).

قد يقال : إنّ الآية بشأن فرض الوصيّة للوالدين والأقربين ، أصبحت منسوخة بآية المواريث. ولقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «لا وصيّة لوارث» (٤).

قال سيّد قطب : «أمّا الأقربون ـ ممّن لا يرثون ـ فقد بقي النصّ بالقياس إليهم على عمومه. فمن ورّثته آيات الميراث فلا وصيّة له ، ومن لم يرث بقي نصّ الوصيّة هنا يشمله. قال : هذا هو رأي بعض الصحابة والتابعين ، نأخذ به» (٥).

قال الشيخ أبو جعفر الطوسي : فأمّا من قال : إنّ الآية منسوخة بآية الميراث ، فقوله بعيد عن الصواب ، لأنّ الشيء إنّما ينسخ غيره إذا لم يمكن الجمع بينهما ، فأمّا إذا لم يكن بينهما تناف ولا تضادّ ، بل أمكن الجمع بينهما ، فلا يجب حمل الآية على النسخ. ولا تنافي بين ذكر ما فرض الله للوالدين وغيرهم من الميراث ، وبين الأمر بالوصيّة لهم على جهة الخصوص ، فلم يجب حمل الآية

__________________

(١) الدرّ ١ : ٤٢٣ ، (الدرّ ٢ : ١٦٣ ، ط : هجر) ؛ المصنّف لعبد الرزّاق / ١٦٣٦٨.

(٢) الطبري ٢ : ١٥٩.

(٣) راجع : التحرير والتنوير لابن عاشور ٢ : ١٤٥.

(٤) وسنتكلّم عن هذا الحديث.

(٥) في ظلال القرآن ٢ : ٢٣٧.

٤٣٢

على النسخ (١).

والإجماع على أنّ الوصيّة للوالدين والأقربين الوارثين ليست فرضا ، لا يدلّ على نسخ الآية ، بل غايته الدلالة على أنّها ممّا فرضه الله ندبا مؤكّدا ، لا أنّها غير مشروعة بعد فرض المواريث.

نعم لا تجوز ـ أي لا تنفذ ـ الوصيّة بما يزيد على الثلث ، وتبقى موقوفة على إذن الورثة ، فتؤدّى من حصّتهم إن رضوا ، على ما يفصّله الفقهاء.

* * *

والوصيّة إلى مقدار الثلث نافذة ولا يجوز لأحد تبديلها أو التحوير بمحتواها ، (فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَ ما سَمِعَهُ) أي ثبتت عنده صحّة الوصيّة (فَإِنَّما إِثْمُهُ) أي المآثم الّتي تترتّب على هذا التبديل (عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ) لأقوالكم (عَلِيمٌ) بنيّاتكم فهو الشهيد عليكم ليأخذكم في نهاية المطاف.

نعم سوى حالة واحدة يجوز للوصيّ أن لا ينفّذ الوصيّة ، وذلك إذا عرف أنّ الموصي إنّما قصد الإجحاف بشأن الورثة أو بعضهم ، فيحابي بعضا وينكي بعضا ، لا لجهة فضيلة يقبلها الشرع والعقل ، بل لمجرّد هوى النفس وتسويلات الشيطان الخبيثة ، فعند ذلك ـ وإذ قد ثبت ذلك بوضوح ـ فلا حرج في تعديل الوصيّة بما يتلافى به ذلك الجنف أي الحيف والميل عن جادّة الحقّ ، وليردّ الأمر إلى العدل والنصف.

(فَمَنْ خافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفاً) أي حيفا وميلا عن الحقّ (أَوْ إِثْماً) أي إضرارا بشأن ذي حقّ (فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ) أي أخذ بالتعادل ورعاية الحقّ (فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ).

نظرة في حديث «لا وصيّة لوارث»

وأمّا حديث «لا وصيّة لوارث» فليس ممّا اتّفق عليه أصحاب الحديث. ولم يخرجه الشيخان (مسلم والبخاري) نظرا لوهن إسناده. كما وضعّفه الإمام الشافعي سوى ما يحكى عن أصحاب المغازي. فإنّه يرى إسناده من طرق أهل الحديث ضعيفا لا يصحّ الاعتماد عليه.

وأجمع من نقد الحديث نقدا فنّيّا هو الإمام الحافظ أحمد بن الحسين البيهقي في سننه الكبرى.

__________________

(١) التبيان ٢ : ١٠٨.

٤٣٣

[٢ / ٤٥٢٣] فقد أخرج الحديث بالإسناد إلى ابن جريج عن عطاء (١) عن ابن عبّاس ، قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «لا تجوز الوصيّة لوارث ، إلّا إن شاء الورثة».

قال البيهقي : عطاء هذا هو الخراساني ، لم يدرك ابن عبّاس ولم يره. قاله أبو داوود السجستاني وغيره.

[٢ / ٤٥٢٤] قال : وقد روي من وجه آخر عنه عن عكرمة عن ابن عبّاس ، قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «لا تجوز وصيّة لوارث ، إلّا أن يشاء الورثة».

وعقّبه بقوله : عطاء الخراساني غير قويّ.

[٢ / ٤٥٢٥] وأخرج بالإسناد إلى الإمام الشافعي عن ابن عيينة عن سليمان [بن أبي مسلم] الأحول عن مجاهد : أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : «لا وصيّة لوارث» (٢).

[٢ / ٤٥٢٦] وقال الإمام الشافعي : وروى بعض الشاميّين حديثا (٣) ليس ممّا يثبته أهل الحديث ، بأنّ بعض رجاله مجهولون ، فرويناه عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم منقطعا (٤) واعتمدنا على حديث أهل المغازي عامّة : أنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال عام الفتح (٥) : «لا وصيّة لوارث». و [مضافا إلى] إجماع العامّة (٦) على القول به.

[٢ / ٤٥٢٧] ثمّ أخرج البيهقي بالإسناد إلى إسماعيل بن عيّاش (٧) عن شرحبيل بن مسلم (٨) ، قال : سمعت أبا أمامة قال : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول : «إنّ الله ـ جلّ ثناؤه ـ قد أعطى كلّ ذي حقّ حقّه ، ولا وصيّة لوارث».

__________________

(١) هو عطاء بن أبي مسلم الخراساني أبو أيّوب ، البلخي نزيل الشام. روى عن الصحابة مرسلا. وذكره البخاري في الضعفاء ولم يخرّج له. روى حديثا عن سعيد بن المسيّب ، فقال : كذب عليّ عطاء ، ما حدثته هكذا. قال الطبراني لم يسمع من أحد من الصحابة إلّا من أنس. (تهذيب التهذيب لابن حجر ٧ : ٢١٢ ـ ٢١٥ / ٣٩٤).

(٢) والحديث كما ترى مرسل غير متّصل الإسناد إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

(٣) أي مسندا ، ولكنّه ليس ذات اعتبار عند المحدّثين.

(٤) يعنى به : مرسلة مجاهد.

(٥) في السنة الثامنة للهجرة في شهر رمضان.

(٦) أي عامّة الفقهاء.

(٧) لم يكن أحد أروى منه لحديث الشاميّين. وكان العراقيّون يكرهون حديثه. (تهذيب التهذيب ١ : ٣٢٠ / ٥٨٤).

(٨) الخولاني الشامي. ضعّفه ابن معين (تهذيب التهذيب ٤ : ٣٢٥ / ٥٦٠).

٤٣٤

قال البيهقي : وهذا الحديث إنّما رواه إسماعيل عن شاميّ (١).

[٢ / ٤٥٢٨] وأخرج بالإسناد إلى عبد الوهّاب بن عطاء عن سعيد عن قتادة عن شهر بن حوشب (٢) عن عبد الرحمان بن غنم عن عمرو بن خارجة قال : خطبنا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بمنى وهو على راحلته ، فقال : «إنّ الله قسم لكلّ إنسان نصيبه من الميراث ، فلا يجوز لوارث وصيّة».

قال البيهقي : ورواه أيضا حمّاد بن سلمة عن قتادة.

قال : وروي من وجه آخر ضعيف عن عمرو بن خارجة :

[٢ / ٤٥٢٩] وروى أبو الحسين بن الفضل القطّان بالإسناد إلى إسماعيل بن مسلم (٣) عن الحسن عن عمرو بن خارجة : أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : «لا وصيّة لوارث إلّا أن يجيز الورثة».

[٢ / ٤٥٣٠] وروى أبو بكر بن الحارث الفقيه بالإسناد إلى سعيد بن أبي سعيد (٤) عن أنس بن مالك ، قال : إنّي لتحت ناقة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يسيل عليّ لعابها ، فسمعته يقول : «إنّ الله ـ عزوجل ـ قد أعطى كلّ ذي حقّ حقّه ، ولا وصيّة لوارث».

ورواه الوليد بن مزيد البيروتي عن عبد الرحمان بن يزيد بن جابر عن سعيد بن أبي سعيد شيخ بالساحل ، قال : حدّثني رجل من أهل المدينة ، قال : إنّي لتحت ناقة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فذكر الحديث.

قال البيهقي : وقد روي هذا الحديث من أوجه اخر كلّها غير قويّة.

قال : والاعتماد على الحديث الأوّل ، وهو رواية ابن أبي نجيح عن عطاء عن ابن عبّاس. وعلى ما ذكره الشافعي من نقل أهل المغازي. مع إجماع العامّة على القول به! والله أعلم (٥).

__________________

(١) يعني به شرحبيل بن مسلم الخولاني. الّذي ضعّفه ابن معين. وو إن كان وثّقه أحمد توثيقا عامّا ، قال : ما رواه ابن عيّاش عن الشاميّين صحيح. وهذا توثيق عامّ لا يتصادم مع تضعيف ابن معين لشخصه. ولعلّ أحمد عرف من وجه آخر أنّ ما يرويه عن الشاميّين صحيح الإسناد إليهم ، الأمر الّذي لا يوجب توثيق شخصه بالذات.

(٢) شهرين حوشب أيضا شاميّ متروك الحديث. كثير الإرسال والأوهام. (تهذيب التهذيب ٤ : ٣٧٠ / ٦٢٥ وتقريب التهذيب ١ : ٣٥٥ / ١١٢).

(٣) كان مخلّطا كثير الخطأ ، ما كان يدري شيئا عند ما يسأل عن الحديث. وله أحاديث مناكير ومن ثمّ ضعّفوه (تهذيب التهذيب ١ : ٣٣٢ / ٥٩٨).

(٤) الساحلي البيروتي ، مجهول. (تقريب التهذيب ١ : ٢٩٧ / ١٨٠).

(٥) البيهقي ٦ : ٢٦٣ ـ ٢٦٥.

٤٣٥

قلت : لا اعتماد على الحديث الأوّل ، بعد كون الراوي عن ابن عبّاس بلا واسطة أو مع واسطة عكرمة ، هو عطاء الخراساني نزيل الشام ، وكان نسيّا قد ينسب الحديث إلى شخص لم يقله. وقد ذكره البخاري في الضعفاء ، وذكر حديثه عن سعيد بن المسيّب عن أبي هريرة عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : أنّ من واقع في شهر رمضان فعليه كفّارة ظهار. وساق الإسناد إلى سعيد ، لكنّ سعيدا لمّا سمع ذلك أنكره وقال : كذب عليّ عطاء ، ما حدّثته هكذا. ومن ثمّ لم يخرّج له البخاري شيئا. قال ابن حبّان : كان رديء الحفظ : يخطئ وهو لا يعلم. قال : ومن ثمّ بطل الاحتجاج بحديثه (١).

هذا فضلا عن أنّه لم يدرك ابن عبّاس ولم يره ، فقد دلّس في الإسناد إليه. أمّا روايته بواسطة عكرمة ، ففي السند أبو علاثة محمّد بن عمرو بن خالد ، وهو مجهول.

إذن فقد صحّ قول الإمام الشافعي : إنّ رواية بعض الشاميّين لهذا الحديث ، ليست ممّا يثبته أئمّة الحديث ، نظرا لجهالة بعض من وقع في الإسناد.

ومن ثمّ لجأ الشافعي إلى حديث منقطع ـ غير متّصل الإسناد إلى النبيّ ـ وهو حديث مجاهد عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم واعتمد أيضا على رواية الأخباريّين من أهل المغازي.

وحيث لا يصحّ الاعتماد على حديث منقطع الإسناد ، ولا على رواية الأخباريّين ممّن همّهم جمع الأخبار ـ وحشد حقائبهم بغرائب الآثار ـ نراه اعتمد الإجماع وعمل العامّة عليه.

ومشى على أثره الإمام البيهقي وغيره من الفقهاء ، زاعمين فيه الكفاية!

قال : والاعتماد على رواية عطاء الخراساني عن ابن عبّاس ، وعلى ما ذكره الشافعي من نقل أهل المغازي ، مع إجماع العامّة على القول به (٢).

وأغرب من ذلك دعوى تواتر الحديث ، كما يأتي عن ابن حجر في الشرح. وإليك إخراج الحديث في سائر المسانيد :

[٢ / ٤٥٣١] أخرج الدارمي بالإسناد إلى قتادة عن شهر بن حوشب ، عن عبد الرحمان بن غنم عن عمرو بن خارجة ، قال : كنت تحت ناقة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وهي تقصع بجرّتها ولعابها ينوص بين كتفيّ ،

__________________

(١) تهذيب التهذيب ٧ : ٢١٢ ـ ٢١٥ / ٣٩٤.

(٢) البيهقي ٦ : ٢٦٥.

٤٣٦

سمعته يقول : «ألا إنّ الله أعطى كلّ ذي حقّ حقّه ، فلا يجوز وصيّة لوارث» (١).

[٢ / ٤٥٣٢] وأخرج أبو عيسى الترمذي بنفس الإسناد عن عمرو بن خارجة قال : إنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم خطب على ناقته وأنا تحت جرانها (٢) وهي تقصع بجرّتها وإنّ لعابها يسيل بين كتفيّ ، فسمعته يقول : «إنّ الله أعطى كلّ ذي حقّ حقّه ، ولا وصيّة لوارث ...» (٣).

[٢ / ٤٥٣٣] وأخرج عن إسماعيل بن عيّاش عن شرحبيل بن مسلم الخولانيّ عن أبي أمامة الباهليّ قال : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول في خطبته عام حجّة الوداع (٤) : «إن الله قد أعطى لكلّ ذي حقّ حقّه ، فلا وصيّة لوارث ...» (٥).

وأخرجه أبو داوود أيضا بنفس الإسناد (٦).

وأخرجهما ابن ماجة في سننه وكذا حديث أنس (٧).

وأخرج النسائي حديث عمرو بن خارجة بثلاثة أسانيد (٨).

هذا ، وقد عرفت تضعيف الإمام الشافعي لأسناد الحديث فيما رواه أصحاب السنن.

ومن ثمّ فإنّ البخاري ومسلم لم يخرّجاه ، لمكان الضعف وقد عقد البخاري بابا وترجمه بنفس العنوان : «باب لا وصيّة لوارث» ، لكنّه لم يأت بالحديث ، بل عوّضه بحديث آخر ، قد يؤدّي هذا المعنى ـ فيما فرض ـ :

[٢ / ٤٥٣٤] أخرج بالإسناد إلى ابن أبي نجيح عن عطاء عن ابن عبّاس ، قال : كان المال للولد ، وكانت الوصيّة للوالدين. فنسخ الله من ذلك ما أحبّ ، فجعل للذّكر مثل حظّ الأنثيين ، وجعل

__________________

(١) الدارمي ٢ : ٤١٩ ، باب الوصيّة للوارث. قوله : وهي تقصع بجرّتها ، أراد شدّة المضغ وضمّ بعض الأسنان على البعض. وقيل قصع الجرّة : خروجها من الجوف إلى الشدق ومتابعة بعضها بعضا. وإنّما تفعل الناقة ذلك إذا كانت مطمئنة ، وإذا خافت شيئا لم تخرجها. والجرّة : ما يخرجه البعير من كرشه إلى الفم ليمضغه ثمّ يبلعه. والقصع : شدّة المضغ. ولعابها ينوص أي يسيل. كما في الحديث التالي.

(٢) جران : هو من العنق ما بين المذبح إلى المنحر.

(٣) الترمذي ٤ : ٤٣٤ / ٢١٢١.

(٤) في السنة العاشرة للهجرة ، في ذي الحجّ. ولا تنافي بين ذلك وما سبق عن أهل المغازي أنّه كان عام الفتح سنة ثمان من الهجرة ، ولعلّه تكرّر منه ذلك في الموردين.

(٥) الترمذي ٤ : ٤٣٣ / ٢١٢٠.

(٦) أبو داوود ٣ : ١١٤ / ٢٨٧٠.

(٧) ابن ماجة ٢ : ١٥٩ ، باب ٩٤٠ / ٢٧٥٧ و ٢٧٥٨ و ٢٧٥٩.

(٨) سنن النسائي ٦ : ٢٠٧ ، باب إبطال الوصيّة للوارث.

٤٣٧

للأبوين لكلّ واحد منهما السدس. وجعل للمرأة الثمن والربع ، وللزوج الشطر والربع (١).

قال ابن حجر : هذه الترجمة لفظ حديث مرفوع ، كأنّه لم يثبت على شرط البخاري ، فترجم به كعادته ، واستغنى بما يعطى حكمه. قال : وقد أخرجه أبو داوود والترمذي وغيرهما من حديث أبي أمامة. وفي الباب عن عمرو بن خارجة عند الترمذي والنسائي. وعن أنس عند ابن ماجة. وعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جدّه عند الدارقطني (٢). وعن جابر عند الدارقطني أيضا وقال : الصواب إرساله. وعن عليّ عليه‌السلام عند ابن أبي شيبة.

قال : ولا يخلو أسناد كلّ منها عن مقال! لكن مجموعها يقتضي أنّ للحديث أصلا ، بل جنح الشافعي ـ في الأمّ (٣) ـ إلى أنّ هذا المتن متواتر ، فقال : وجدنا أهل الفتيا ومن حفظنا عنهم من أهل العلم بالمغازي من قريش وغيرهم لا يختلفون في أنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال عام الفتح : «لا وصيّة لوارث». ويؤثرون عمّن حفظوه عنه ممّن لقوه من أهل العلم فكان نقل كافّة عن كافّة ، فهو أقوى من نقل واحد!

قال : وقد نازع الفخر الرازي في كون هذا الحديث متواترا ، وعلى تقدير تسليم ذلك فالمشهور من مذهب الشافعي أنّ القرآن لا ينسخ بالسنّة! قال : لكنّ الحجّة في هذا ، الإجماع على مقتضاه ، كما صرّح به الشافعيّ وغيره.

قال : والمراد بعدم صحّة وصيّة لوارث ، عدم اللزوم ، لأنّ الأكثر على أنّها موقوفة على إجازة الورثة.

__________________

(١) البخاري ٤ : ٤ ، كتاب الوصايا ، باب لا وصيّة لوارث.

(٢) راجع : الدارقطني ٤ : ١٥٢ / ١٠.

(٣) قال الشافعي : أخبرنا سفيان عن سليمان الأحول عن مجاهد ، يعني في حديث «لا وصيّة لوارث». قال : ورأيت متظاهرا عند عامّة من لقيت من أهل العلم بالمغازي أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال ـ في خطبته عام الفتح ـ : «لا وصيّة لوارث». ولم أر بين الناس في ذلك اختلافا ... (الأمّ ٤ : ١١٤). قال : فوجدنا الدلالة على أنّ الوصيّة للوالدين والأقربين الوارثين منسوخة بآي المواريث من وجهين : أحدهما أخبار ليست بمتّصلة عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من جهة الحجازيّين ، منها : أنّ سفيان بن عيينة أخبرنا عن سليمان الأحول عن مجاهد : أنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : «لا وصيّة لوارث» ... وقال ـ في الوجه الثاني ـ : ثمّ لم نعلم أهل العلم في البلدان اختلفوا في أنّ الوصيّة للوالدين منسوخة باي المواريث. واحتمل إذا كانت منسوخة أن تكون الوصيّة للوالدين ساقطة ، حتّى لو أوصى لهما لم تجز الوصيّة. وبهذا نقول. قال : وإن كان يحتمل أن يكون وجوبها منسوخا ، وإذا أوصى لهم جاز. (الأمّ ٤ : ١١٨).

٤٣٨

[٢ / ٤٥٣٥] وقد روى الدارقطني من طريق ابن جريج عن عطاء عن ابن عبّاس ـ مرفوعا ـ : «لا تجوز وصيّة لوارث إلّا أن يشاء الورثة». قال : ورجاله ثقات ، إلّا أنّه معلول ؛ فقد قيل : إنّ عطاء هو الخراساني (١).

* * *

قال أبو عبد الله الأنصاري القرطبي : اختلف العلماء في هذه الآية ، هل هي منسوخة أو محكمة؟ فقيل : هي محكمة ، ظاهرها العموم ومعناها الخصوص [وأنّها] في الوالدين اللذين لا يرثان ، كالكافرين أو المملوكين. وفي القرابة غير الورثة. قاله الضحّاك وطاووس والحسن ، واختاره الطبري (٢).

وعن الزهري : أنّ الوصيّة واجبة فيما قلّ أو كثر. وقال ابن المنذر : أجمع كلّ من يحفظ عنه من أهل العلم ، على أنّ الوصيّة للوالدين اللّذين لا يرثان والأقرباء الّذين لا يرثون جائزة.

[٢ / ٤٥٣٦] وقال ابن عبّاس والحسن أيضا وقتادة : الآية عامّة ، وتقرّر الحكم بها برهة من الدهر ، ونسخ منها كلّ من كان يرث بآية الفرائض.

وقد قيل : إنّ آية الفرائض لم تستقلّ بنسخها ، بل بضميمة قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «لا وصيّة لوارث». فنسخ الآية إنّما كان بالسنّة الثابتة لا بآية المواريث ، على الصحيح من مذهب العلماء.

قال القرطبي : ولو لا هذا الحديث لأمكن الجمع بين الآيتين ؛ بأن يأخذوا المال عن المورّث بالوصيّة [إن أوصى] ، وبالميراث إن لم يوص ، أو ما بقي بعد الوصيّة. لكن منع من ذلك هذا الحديث والإجماع!

قال : والشافعيّ وأبو الفرج وإن كانا منعا من نسخ الكتاب بالسنّة ، فالصحيح جوازه ، بدليل أنّ الكلّ حكم الله ومن عنده وإن اختلفت في الأسماء! قال : ونحن وإن كان هذا الخبر بلغنا آحادا ، لكن قد انضمّ إليه إجماع المسلمين أنّه لا تجوز وصيّة لوارث!

قال : فقد ظهر أنّ وجوب الوصيّة للأقربين الوارثين منسوخ بالسنّة ، وأنّها مستند المجمعين (٣).

__________________

(١) فتح الباري ٥ : ٢٧٨. وقد سبق ذلك عن البيهقي في الكبرى ٦ : ٢٦٣ ـ ٢٦٤.

(٢) الطبري ٢ : ١٦١ ـ ١٦٢.

(٣) القرطبي ٢ : ٢٦٢ ـ ٢٦٣.

٤٣٩

وقد أنكر أبو مسلم الأصبهاني نسخ الآية ، لوجوه قرّرها الإمام الرازي كما يلي : قال : اختلفوا في هذه الآية أنّها منسوخة أم لا ، واختار أبو مسلم الأصبهاني عدم النسخ لوجوه :

أحدها : أن لا تنافي بين هذه الآية وآية المواريث ، إذ يمكن أن يقال ـ في الجمع بين الآيتين ـ : كتب عليكم ما أوصى الله به من توريث الوالدين والأقربين حسب آية المواريث. أو كتب عليكم بتوفير ما أوصى الله بشأن الوالدين والأقربين ، وأن لا ينقص من سهامهم شيء.

وثانيها : أنّه لا منافاة بين ثبوت الميراث للأقرباء مع ثبوت الوصيّة بالميراث عطيّة من الله. والوصيّة عطيّة ممّن حضره الموت. فالوارث يجمع ـ بحكم الآيتين ـ بين الوصيّة الّتي هي عطيّة ، وبين الميراث الّذي هو فرض من الله.

وثالثها : لو فرضنا التنافي بين الآيتين لأمكن الجمع بجعل آية الميراث مخصّصة لآية الوصيّة. حيث هذه الآية توجب الوصيّة للأقربين ، وآية الميراث تخرج القريب الوارث ، ويبقى القريب غير الوارث داخلا تحت الآية ، وذلك لأنّ من الوالدين من يرث ومن لا يرث ، بسبب اختلاف الدين أو الرقّيّة أو القتل. ومن الأقربين من لا يحجب عن الإرث ومن كان يحجب عن الميراث ، فكلّ من كان من هؤلاء وارثا لم تجز الوصيّة له ، ومن لم يكن وارثا جازت بشأنه ولأنّه صلة رحم وقد أكّد الله عليه بقوله : (وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي تَسائَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحامَ)(١). وبقوله : (إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ وَإِيتاءِ ذِي الْقُرْبى)(٢).

قال الرازي : فهذا تقرير مذهب أبي مسلم في هذا الباب (٣).

واعترض عليه الحافظ ابن كثير في التفسير قائلا : والعجب من أبي عبد الله محمّد بن عمر الرازي ، كيف حكى في تفسيره الكبير عن أبي مسلم الأصبهاني أنّ هذه الآية غير منسوخة ، وإنّما هي مفسّرة بآية المواريث ؛ ومعناه : كتب عليكم ما أوصى الله به من توريث الوالدين والأقربين ، من قوله : (يُوصِيكُمُ اللهُ فِي أَوْلادِكُمْ). قال ـ أي الفخر الرازي ـ : وهو قول أكثر المفسّرين والمعتبرين من الفقهاء (٤).

قلت : ولا عجب بعد عدم توفّر شرائط النسخ هنا ، حسبما تقرّر الكلام فيه.

__________________

(١) النساء ٤ : ١.

(٢) النحل ١٦ : ٩٠.

(٣) التفسير الكبير ٥ : ٦١ ـ ٦٢.

(٤) ابن كثير ١ : ٢١٧ ـ ٢١٨.

٤٤٠