التفسير الأثري الجامع - ج ٤

الشيخ محمّد هادي معرفة

التفسير الأثري الجامع - ج ٤

المؤلف:

الشيخ محمّد هادي معرفة


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة التمهيد ـ قم
المطبعة: ستاره
الطبعة: ١
ISBN: 978-600-5079-05-0
ISBN الدورة:
978-600-5079-08-1

الصفحات: ٥٦٠

[٢ / ٣١٦٢] وأخرج ابن جرير عن مجاهد قال : يعملون به حقّ عمله. (١)

[٢ / ٣١٦٣] وأخرج وكيع وابن جرير عن الحسن في قوله : (يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاوَتِهِ) قال : يعملون بمحكمه ، ويؤمنون بمتشابهه ، ويكلون ما أشكل عليهم إلى عالمه. (٢)

* * *

[٢ / ٣١٦٤] قال مقاتل بن سليمان في قوله تعالى : (يا بَنِي إِسْرائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعالَمِينَ) قال : يعني عالمي ذلك الزمان يعني عالمي أجدادهم ويعني بالنعمة : المنّ والسلوى والحجر والغمام. (وَاتَّقُوا يَوْماً) يعني اخشوا يوما يوم القيامة (لا تَجْزِي نَفْسٌ) كافرة (عَنْ نَفْسٍ) كافرة (شَيْئاً) من المنفعة (وَلا يُقْبَلُ مِنْها عَدْلٌ) يعني فداء (وَلا تَنْفَعُها شَفاعَةٌ) يعني شفاعة نبيّ ولا شهيد ولا صدّيق (وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ) يعني يمتنعون من العذاب. (٣)

[٢ / ٣١٦٥] وروى أبو النضر محمّد بن مسعود العيّاشي بالإسناد إلى إبراهيم بن الفضيل عن الإمام أبي عبد الله الصادق عليه‌السلام قال : «العدل ـ في قول أبي جعفر (الباقر عليه‌السلام) ـ الفداء» (٤).

وما روي من تفسير العدل بالفريضة (٥) ، فهو ناظر إلى الحديث المعروف : «من أحدث حدثا أو آوى محدثا لم يقبل الله منه يوم القيامة صرفا ولا عدلا». (٦)

فقد فسّر العدل بالفريضة والصرف بالنافلة. فيما رواه أسباط الزطّي عن الإمام أبي عبد الله الصادق عليه‌السلام. (٧)

__________________

(١) الطبري ١ : ٧٢٥ / ١٥٧٠ ، وفي لفظ قال : «عملا به».

(٢) الدرّ ١ : ٢٧٣ ؛ الطبري ١ : ٧٢٥ ـ ٧٢٦ / ١٥٧٢ ؛ ابن أبي حاتم ١ : ٢١٨ / ١١٥٨ ؛ الثعلبي ١ : ٢٦٦.

(٣) تفسير مقاتل ١ : ١٣٥.

(٤) العيّاشي ١ : ٧٦ / ٨٦ ؛ البحار ٨ : ٦١ / ٧٤ ، باب ٢١ ؛ البرهان ١ : ٣١٧ / ٢.

(٥) فيما رواه العيّاشي ١ : ٧٦ / ٨٥ عن يعقوب الأحمر عن الصادق عليه‌السلام وما رواه ابن أبي حاتم ١ : ٢١٩ / ١١٦٤ بالإسناد إلى عبد الله بن المنيب قال : سمعت من يحدّث عن سعيد بن المسيّب أنّه سئل عن العدل؟ فقال : العدل الفريضة ، ما افترض الله على خلقه.

(٦) تحف العقول : ٣٩١ ؛ البحار ١ : ١٤٣.

(٧) العيّاشي ١ : ٧٦ / ٨٧.

٢١

قال تعالى :

(وَإِذِ ابْتَلى إِبْراهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِماتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قالَ إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً قالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قالَ لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ (١٢٤) وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْناً وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقامِ إِبْراهِيمَ مُصَلًّى وَعَهِدْنا إِلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ أَنْ طَهِّرا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ (١٢٥) وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هذا بَلَداً آمِناً وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَراتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ قالَ وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلاً ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلى عَذابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (١٢٦) وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْراهِيمُ الْقَواعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْماعِيلُ رَبَّنا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (١٢٧) رَبَّنا وَاجْعَلْنا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنا مَناسِكَنا وَتُبْ عَلَيْنا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (١٢٨) رَبَّنا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (١٢٩) وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْراهِيمَ إِلاَّ مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْناهُ فِي الدُّنْيا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ (١٣٠) إِذْ قالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ (١٣١) وَوَصَّى بِها إِبْراهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يا بَنِيَّ إِنَّ اللهَ اصْطَفى لَكُمُ الدِّينَ فَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (١٣٢) أَمْ كُنْتُمْ شُهَداءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قالَ لِبَنِيهِ ما تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قالُوا نَعْبُدُ إِلهَكَ وَإِلهَ آبائِكَ إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ إِلهاً واحِداً وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (١٣٣) تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَها ما كَسَبَتْ وَلَكُمْ ما كَسَبْتُمْ وَلا تُسْئَلُونَ عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ (١٣٤) وَقالُوا كُونُوا هُوداً أَوْ نَصارى تَهْتَدُوا قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (١٣٥) قُولُوا آمَنَّا بِاللهِ وَما أُنْزِلَ إِلَيْنا وَما أُنْزِلَ إِلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطِ وَما أُوتِيَ مُوسى وَعِيسى وَما أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (١٣٦) فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ ما آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّما هُمْ فِي شِقاقٍ فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (١٣٧) صِبْغَةَ اللهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عابِدُونَ (١٣٨) قُلْ أَتُحَاجُّونَنا فِي اللهِ وَهُوَ رَبُّنا

٢٢

وَرَبُّكُمْ وَلَنا أَعْمالُنا وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُخْلِصُونَ (١٣٩) أَمْ تَقُولُونَ إِنَّ إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطَ كانُوا هُوداً أَوْ نَصارى قُلْ أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللهُ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهادَةً عِنْدَهُ مِنَ اللهِ وَمَا اللهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (١٤٠) تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَها ما كَسَبَتْ وَلَكُمْ ما كَسَبْتُمْ وَلا تُسْئَلُونَ عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ (١٤١))

فيما سبق من آيات كان الجدل مع أهل الكتاب دائرا حول سيرة بني إسرائيل ومواقفهم المتعنّتة مع أنبيائهم وفي العمل بشرائعهم وفي مواثيقهم وعهودهم ما بين نبذ ونقض وتمرّد وعصيان ، ابتداء من عهد موسى عليه‌السلام فإلى عهد ظهور الإسلام وأكثره عن اليهود ، وشيء عن النصارى إلى جنب تمرّدات المشركين ، عند السمات التي كانوا يلتقون فيها مع اليهود وسائر أهل الكتاب.

والآن يرجع السياق إلى مرحلة تاريخيّة أسبق من تاريخ اليهود ، يرجع إلى عهد إبراهيم الخليل عليه‌السلام وقصّة إبراهيم ـ على النحو الذي تساق به في موضعها هنا ـ تؤدّي دورها في السياق ، كما تؤدّي دورها فيما يعود إلى الجدل بين اليهود والجماعة المسلمة في المدينة من نزاع حادّ متشعّب الأطراف.

إنّ بني إسرائيل ليرجعون بأصولهم إلى إبراهيم عن طريق إسحاق ، ويعتزّون بنسبتهم إليه ، وبوعده تعالى له ولذرّيّته بالنموّ والبركة ، وعهده معه ومع ذرّيّته من بعده ، ومن ثمّ فيحتكرون لأنفسهم الهداية والقوامة على الدين ، كما كانوا يحتكرون لأنفسهم الجنّة أيّا كان ما يعملون!!

هذا وقريش أيضا كانت لترجع بأصولها إلى إبراهيم عن طريق إسماعيل ، وتعتزّ بنسبتها إليه ، وتستمدّ منها القوامة على البيت وعمارة المسجد الحرام ، وتستمدّ كذلك سلطانها الديني على العرب ، وفضلها وشرفها ومكانتها!!

الأمر الذي جعل القبيلين يصطدمان في الاحتكار بأصول الاعتزاز والشرف والنبل.

ومن ثمّ وللفصل بين الموقفين يجب عرض هذه الأصول ومدى امتدادها ـ شرفا وعزّا ـ في أيّ القبيلين؟! أو لا ذا ولا ذاك ، وإنّما يعتزّ الأبناء بشرف الآباء ، إذا ما حفظوا على السمات الأولى التي كان الآباء يملكونها وكانت موضع عزّهم وشرفهم وإلّا فربّ ولد هو شرّ خلف لخير سلف!؟

إذن فالعزّ والشرف إنّما يرثهما الأخلاف المتّبعون لآثار الأسلاف. (إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْراهِيمَ

٢٣

لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاللهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ)(١).

والآن يجيء الحديث عن إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ، والحديث عن البيت الحرام وبنائه وعمارته وشعائره ، في جوّه المناسب ، لتقرير الحقائق الخالصة في ادّعاءات اليهود والنصارى والعرب جميعا حول هذه النسب وهذه الصلات. ولتقرير قضيّة القبلة الّتي ينبغي أن يتّجه إليها المسلمون.

كذلك تجيء المناسبة لتقرير حقيقة دين إبراهيم ـ وهو التوحيد الخالص ـ وفصل ما بينها وبين العقائد المشوّهة المنحرفة التي عليها أهل الكتاب والمشركون سواء .. وتقرير وحدة دين الله واطّراده على أيدي رسله جميعا ، ونفي فكرة احتكاره في أيدي أمّة أو جنس.

وهكذا فإنّ العقيدة هي تراث القلب المؤمن الواعي لا تراث العصبيّة العمياء. وإنّ وراثة هذا التراث لا تقوم على قرابة الدم والجنس ، ولكن على قرابة الإيمان والعقيدة الصادقة. فمن آمن بهذه العقيدة ورعاها في أيّ جيل ومن أيّ قبيل فهو أحقّ بها من أبناء الصّلب وأقرباء العصب؟ فالدين دين الله ، وليس بين الله وبين أحد من عباده نسب ولا صهر!!

نعم (إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْراهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ) واتّخذوه الحنيفيّة دينا لهم ومشوا على طريقته البيضاء النقيّة (وَهذَا النَّبِيُ) نبيّ الإسلام (وَالَّذِينَ آمَنُوا) معه هم خلفه الصالح ، ومن ثمّ فإنّهم الّذين ورثوه ، وورثوا عزّه وسؤدده ، ونالتهم العناية الربّانية الشاملة (وَاللهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ).

* * *

هذه الحقائق التي تمثّل شطرا من الخطوط الأساسيّة في التصوّر الإسلامي ، يجلّيها القرآن الكريم هنا في نسق من الأداء عجيب ، وفي عرض من الترتيب والتعبير بديع يسير بنا خطوة خطوة من لدن إبراهيم عليه‌السلام منذ أن ابتلاه ربّه واختبره فاستحقّ اختياره واصطفاءه وتنصيبه للناس إماما إلى أن نشأت الأمّة المسلمة المؤمنة برسالة محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم استجابة من الله لدعوة إبراهيم وإسماعيل عليهما‌السلام وهما يرفعان القواعد من البيت الحرام ؛ فاستحقّت وراثة هذه الأمانة ، دون ذرّيّة إبراهيم جميعا ؛ بذلك السبب الوحيد الذي تقوم عليه وراثة العقيدة. سبب الإيمان بالرسالة ، وحسن القيام عليها ، والاستقامة على تصوّرها الصحيح!

__________________

(١) آل عمران ٣ : ٦٨.

٢٤

وفي ثنايا هذا العرض التاريخي يبرز السياق : أنّ الإسلام ـ بمعنى إسلام الوجه لله وحده ـ كان هو الرسالة الأولى ، وكان هو الرسالة الأخيرة. هكذا اعتقد إبراهيم ، وهكذا اعتقد من بعده إسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط ، حتّى أسلموا هذه العقيدة ذاتها إلى موسى وعيسى. ثمّ آلت أخيرا إلى ورثة إبراهيم من المسلمين. فمن استقام على هذه العقيدة الواحدة فهو وريثها ، ووريث عهودها وبشاراتها. ومن فسق عنها ، ورغب بنفسه عن ملّة إبراهيم ، فقد فسق عن عهد الله ، وقد فقد وراثته لهذا العهد وبشاراته.

وعندئذ تسقط كلّ دعاوي اليهود والنصارى في اصطفائهم واجتبائهم ، لمجرّد أنّهم أبناء إبراهيم وحفدته .. لقد سقطت عنهم الوراثة منذ أن انحرفوا عن هذه العقيدة.

وعندئذ تسقط كذلك كلّ دعاوي قريش في الاستئثار بالبيت الحرام وشرف القيام عليه وعمارته ، لأنّهم قد فقدوا حقّهم في وراثة باني هذا البيت ورافع قواعده ، بانحرافهم عن عقيدته.

ثمّ تسقط كلّ دعاوي اليهود فيما يختصّ بالقبلة التي ينبغي أن يتّجه إليها المسلمون. فالكعبة هي قبلتهم وقبلة أبيهم إبراهيم.

كلّ ذلك في نسق من العرض والأداء والتعبير عجيب ؛ حافل بالإشارات الموحية ، والوقفات العميقة الدلالة ، والإيضاح القويّ التأثير (١). فلنأخذ في استعراض هذا النسق العالي في ظلّ هذا البيان المنير :

* * *

(وَإِذِ ابْتَلى إِبْراهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِماتٍ) هي مواقفه المشهودة التي قضاها بسلام (فَأَتَمَّهُنَ) وفّاهنّ (وَإِبْراهِيمَ الَّذِي وَفَّى)(٢). وبذلك استحقّ تلك البشرى ، أو تلك الثقة الكبرى : (قالَ إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً) قدوة ، يقودهم إلى الله ، وأسوة يأخذ بهم إلى سعادة الحياة الأبديّة.

وعند ذلك تداركت إبراهيم فطرته الإنسانيّة العليا : الرغبة في امتداد الذات الكريمة عن طريق الذراري والأحفاد ذلك الشعور الفطريّ العميق ، الذي أودعه الله فطرة البشر لتنمو الحياة وتزدهر وتمضي في طريقها المرسوم ، ويكمل اللاحق ما بدأه السابق ، وتتعاون الأجيال جميعا وتتساوق

__________________

(١) في ظلال القرآن ١ : ١٥٢ ـ ١٥٤.

(٢) نجم ٥٣ : ٣٧.

٢٥

في الاتّجاه النبيل ذلك الشعور الذي يحاول بعض المتشاكسين الأحداث تحطيمه أو تعويقه وتكبيله ، وهو مركوز في أصل الفطرة ، لتحقيق تلك الغاية البعيدة المدى.

ومن ثمّ (قالَ) ـ إبراهيم بدافع من فطرته الرشيدة ـ : (وَمِنْ ذُرِّيَّتِي؟) وذلك استعلام منه : هل هناك في ذرّيّته من يصلح للإمامة؟ وليس طلبا منه أن يجعل منهم إماما! (١)

وجاءه الجواب من ربّه الذي ابتلاه واصطفاه ـ بعد أن قضى عقبات كؤودة ـ جوابا يقرّر القاعدة الكبرى لنيل الشهادة العليا ، والتي أساسها الإيمان الصادق والعمل الصالح والسير على منهج اليقين. إنّ الإمامة ـ وهي قدوة إلهيّة ـ إنّما تكون لمن استحقّها بالعمل والشعور ، وبالصلاح والإيمان والإخلاص لله ربّ العالمين .. وليست هي وراثة أصلاب وأنساب. فالقربى ليست وشيجة لحم ودم ، إنّما هي وشيجة دين وعقيدة.

ومن ثمّ (قالَ) ـ تعالى ـ : (لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ).

والظلم أنواع وألوان : ظلم النفس بالشرك ، وظلم الناس بالبغي .. والإمامة الممنوعة على الظالمين تشمل كلّ معاني الإمامة : إمامة الرسالة ، وإمامة الخلافة. وإمامة القيادة. وحتّى إمامة الصلاة.

فالعدل بكلّ معانيه هو أساس استحقاق هذه الإمامة في أيّة صورة من صورها. ومن ظلم ـ أيّ لون من الظلم ـ فقد جرّد نفسه من حقّ الإمامة وأسقط حقّه فيها ، بكلّ معنى من معانيها.

وهذا الذي قيل لإبراهيم عليه‌السلام وهذا العهد بصيغته التي لا التواء فيها ولا غموض ، قاطع في تنحية مشركي العرب واليهود عن صلاحيّة القيادة والإمامة ، بما عتوا وبغوا في الأرض ، عتوا عن أمر الله إلى حدّ الشرك بالله وأفسدوا وانحرفوا عن طريقة جدّهم إبراهيم الخليل عليه‌السلام.

وهذا الذي قيل لإبراهيم عليه‌السلام وهذا العهد بصيغته التي لا التواء فيها ولا غموض ، قاطع كذلك في تنحية من يسمّون أنفسهم المسلمين اليوم ، ولكنّهم ظلموا وفسقوا وعتوا عن أمر ربّهم ، ونبذوا شريعة الله وراء ظهورهم. ودعواهم الإسلام ، وهم ينحّون شريعة الله ومنهجه عن الحياة ، دعوى كاذبة بل فاضحة تزيد على خبثهم لؤما.

__________________

(١) كما قال الجبّائي : إنّه سؤال منه من الله أن يعرّفه : هل في ذرّيّته من يجعله إماما مثله؟ (التبيان ١ : ٤٤٧).

٢٦

(وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثابَةً) مرجعا (لِلنَّاسِ) جميعا يؤوبون إليه من كلّ صوب ومكان. فهو حقّ للجميع ، وليس لأحد أو فئة أن يمنع الناس عن مثابتهم حول البيت. (وَأَمْناً) محلّا آمنا ، وليس لسدنته من قريش أن يروّعوا أحدا أو يؤذوهم أو يفتنوهم عن دينهم ـ كما فعلت بالمؤمنين وهم أحقّ به منهم.

(وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقامِ إِبْراهِيمَ مُصَلًّى). ومقام إبراهيم هنا يشمل البيت والمسجد الحرام ، والذي ينبغي أن يتخذ مصلّى ، محلّا للعبادة لله خالصة. ومن ثمّ (وَعَهِدْنا إِلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ أَنْ طَهِّرا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ.)

وهذا هو عهد الله بالنسبة إلى بيت الله الحرام ، فليكن مطهّرا من رجس الأوثان ، وممهّدا للطائفين حوله ، والعاكفين في جواره ، والمتعبّدين الركّع السجود.

* * *

(وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هذا بَلَداً آمِناً وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَراتِ). ومرّة أخرى يؤكّد دعاء إبراهيم صفة الأمن للبيت ، ويؤكّد معنى الوراثة للفضل والخير .. ولقد عرف إبراهيم منذ أن قال له ربّه : (لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ) أن يحترس ويستثني ويحدّد من يعني :

(مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ) إيمانا بالمبدأ والمعاد ، إيمانا بمسيرة الحياة مبتدئة من عند الله ، ومنتهية إليه في نهاية المطاف .. فقد كانت المسيرة في جميع مراحلها مرعيّة برعايته تعالى وفي قبضته وفي رقابة شديدة منه. (ما يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ)(١). فليكن الإنسان على حذر من شأنه في الحال والمآل.

وإبراهيم المتأدّب بالأدب الذي علّمه ربّه ، فيراعيه في طلبه ودعائه .. يجيئه الجواب من عند ربّه مكمّلا ومبيّنا عن الشطر الآخر الذي سكت عنه إبراهيم. شطر الّذين بغوا في الأرض وعتوا عن أمر ربّهم ، فليؤولوا إلى مصير أليم :

(قالَ) ـ تعالى ـ : (وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلاً) قد يكون له حظّ في الحياة ولكنّه قصير (ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلى عَذابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ) تلك عاقبة الّذين خسروا أنفسهم فألجؤوا إلى شقاء الأبد وبئس المصير.

__________________

(١) سورة ق ٥٠ : ١٨.

٢٧

ويأتي دور تنفيذ إبراهيم وإسماعيل للأمر الذي تلقّياه من ربّهما ، بإعداد البيت وتطهيره للطائفين والعاكفين والركّع السجود. يرسمه القرآن مشهودا كما لو كانت الأعين تراهما اللحظة وتسمعهما في آن :

(وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْراهِيمُ الْقَواعِدَ مِنَ الْبَيْتِ) هي أصول بنيانه (وَإِسْماعِيلُ) ضارعين سائلين منه تعالى : (رَبَّنا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) السميع لدعائنا ، العليم بالمصالح في عاجل الحياة وآجلها.

(رَبَّنا وَاجْعَلْنا مُسْلِمَيْنِ لَكَ) إسلاما عن صدق وإخلاص (وَ) كذلك اجعل (مِنْ ذُرِّيَّتِنا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ). لتكون الذرّيّة هم العناصر الأولى لتكوين أمّة عريقة لها تأصّلها وكرامتها وشرفها التليد. وليكن طابعها الإسلام وشعارها السّلام والتضامن والوئام .. تضامن الأجيال في العقيدة والإيمان.

(وَأَرِنا مَناسِكَنا) عرّفنا شعائر ديننا الحقّ ، ومراسيم عباداتنا حسبما ترضاه .. فلا ننحرف ولا ننجرف ولا يتلاعب بنا الأهواء.

(وَتُبْ عَلَيْنا) إن نسينا أو أخطأنا (إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ).

ثمّ لئلّا يتركهم بلا هداية في أجيالهم المتلاحقة : (رَبَّنا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ).

وكان آخر من أرسل إليهم بدعاء إبراهيم وإسماعيل ، هو نبيّ الإسلام محمّد المصطفى صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقد كانت فيه جماع الأوصاف :

[٢ / ٣١٦٦] كما قال أمير المؤمنين عليه‌السلام : «اجتباه من بني جلدته من خير محتد أصيل. يتلو عليهم آياته : بيّناته. يتابع ذكر الدلائل على عظيم آلائه ، فيذكّرهم منسيّ نعمته ، ويستأديهم ميثاق فطرته ، ويريهم آيات المقدرة ، ويثير لهم دفائن العقول» (١). ويعلّمهم شرائع الكتاب المفروضة عليهم والمندوب إليها في صميم الشريعة. كما ويفتح لهم أبواب الحكمة الرشيدة : بصيرة نافذة في الأعماق (وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً). (٢)

__________________

(١) انظر : نهج البلاغة ، الخطبة الأولى.

(٢) البقرة ٢ : ٢٦٩.

٢٨

وبعد فإذ تمّ عرض قصّة إبراهيم وإسماعيل عليهما‌السلام وبنائهما للبيت الرفيع ، وما أبرزته هذه القصّة البديعة من سمات وصفات هي من جلائل سمات الكرام وما حوته أدعية هذا الأب والابن الحنونين على الذراري والأحفاد ، من درس وعبر وتبيين لموضع وراثة الأبناء لآبائهم الأعلام ، وما به يستحقّ الأحفاد أن يرثوا الأجداد.

بعد إذ تمّ ذلك ، يأتي السياق ليلتقط دلالته وإيحاءه ، ليواجه بهما الّذين ينازعون الأمّة المسلمة في الإمامة ، وينازعون نبيّ الإسلام النبوّة والرسالة وقيادته لهداية الناس جميعا ، عن استحقاق تليد وليس عن طارف.

نعم يجادلون في حقيقة دين الله الأصيلة الصحيحة : (وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْراهِيمَ) يحيد عن طريقته الواضحة وشريعته البيضاء اللائحة (إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ) سفيه مستهتر حيث أخذ في عكر الظلام ، مع وضوح المحجّة وظهور الحجّة؟!

(وَلَقَدِ اصْطَفَيْناهُ فِي الدُّنْيا) حيث أفضليّته على سائر الناس (وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ) معدود من عبادنا الصالحين الخلّص ، لم يعكر صفو زلاله كدر غبار. ولكن لم اصطفاه الله في الدنيا إماما ، ليكون في الآخرة من خير عباد الله الصالحين؟

نعم لم يكن لشيء سوى استسلامه لربّ العالمين : (إِذْ قالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قالَ) ـ لفوره ـ : (أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ) هذه هي ملّة إبراهيم وطريقته اللائحة المفضّلة : الإسلام الخالص الصريح .. ولم يكتف إبراهيم بنفسه ، إنّما تركها كلمة باقية في عقبه ، وجعلها وصيّة في ذرّيّته.

(وَوَصَّى بِها إِبْراهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ) ويعقوب هذا هو إسرائيل الذي ينتسب اليهود إليه ، ثمّ لا يلبّون وصيّته ووصيّة جدّه وجدّهم إبراهيم.

وها هو إبراهيم وحفيده يعقوب يذكّران ذراريهما بنعمة الله عليهم في اختياره الحنيفيّة دينا لهم : (يا بَنِيَّ إِنَّ اللهَ اصْطَفى لَكُمُ الدِّينَ) فلا تكن مشيتكم على خلاف هذا الاصطفاء الحنيف ، ولتكن مسيرتكم على منهجه مع الأبد. (فَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ ..) وليكن ذلك شكرا منكم على نعمة هذا الاختيار وهذا الاصطفاء .. والحرص على ما اختاره الله لهم ، والاجتهاد في أن لا يتركوا هذه الأرض إلّا وهذه الأمانة محفوظة فيهم.

* * *

٢٩

تلك كانت وصيّة إبراهيم وحفيده يعقوب ، الوصيّة التي كرّرها يعقوب في آخر لحظة من لحظات حياته ، والتي كانت شغله الشاغل الذي لم يصرفه عنه الموت وسكراته ، فليسمعها بنو إسرائيل : (أَمْ كُنْتُمْ شُهَداءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قالَ لِبَنِيهِ ما تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قالُوا نَعْبُدُ إِلهَكَ وَإِلهَ آبائِكَ إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ إِلهاً واحِداً وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ).

إنّه لمشهد عظيم الدلالة ، قويّ الإيحاء ، عميق التأثير ، ما هي القضيّة التي كانت تشغل بال ميّت محتضر في تلك الساعة الحرجة؟ ما هو الأمر الجلل الذي يريد أن يطمئنّ عليه ويستوثق منه؟ ما هي التركة التي يريد أن يخلّفها لأبنائه ويحرص على سلامة وصولها إليهم فيسلّمها لهم في محضر يسجّل فيه كلّ التفصيلات؟

نعم ، إنّها العقيدة الصافية الخالصة ، والتي تجعل من الحياة زاهية لامعة مع الأبد.

وبعد فها هي الفرصة سانحة لتبلور تلك العقيدة وتخليصها من كدورات علتها عبر الزمان ، فقد جاءهم الرسول الذي يجدّد دعوتهم إلى الإسلام والاستسلام المحض ، وهو ثمرة الدعوة التي دعاهم إبراهيم عليه‌السلام.

* * *

وفي ضوء هذا التقرير يظهر الفارق الحاسم بين تلك الأمّة التي أخذت بوصيّة إبراهيم ويعقوب ، وقد خلت وهذا الجيل الحاضر الذي حاول نبذ الوصيّة وتركها في غياهب النسيان فلا مجال لنسب بين السابقين واللاحقين :

(تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَها ما كَسَبَتْ) من مفاخر ومواقف محمودة. (وَلَكُمْ ما كَسَبْتُمْ) من مآثم ومواضع ممقوتة. فلكلّ حساب ، ولكلّ عقيدة وعمل (كُلٌّ يَعْمَلُ عَلى شاكِلَتِهِ)(١) فكان النتاج : أن ليست هذه الأعقاب امتدادا لأولئك الأسلاف ، ولا صلة تربطهما ، ولا علاقة تجمعهما ، لا في المسيرة ولا في الاتّجاه.

* * *

وفي ظلّ هذا البيان التاريخي الحاسم ، لقصّة العهد مع إبراهيم ، وقصّة البيت الحرام كعبة للمسلمين ، ولحقيقة الوراثة وحقيقة الدين ؛ يناقش ادّعاءات أهل الكتاب المعاصرين لنزول

__________________

(١) الإسراء ١٧ : ٨٤.

٣٠

القرآن ، ويعرض لحججهم وجولهم ومحالهم ، فيبدو كلّه ضعيفا شاحبا ، كما يبدو فيه العنت والادّعاء بلا دليل .. كذلك تبدو العقيدة الإسلاميّة عقيدة طبيعيّة شاملة لا ينحرف عنها إلّا المتعنّتون :

(وَقالُوا) ـ لا عن وعي ـ : (كُونُوا هُوداً أَوْ نَصارى تَهْتَدُوا) قالت اليهود : كونوا هودا تهتدوا. وقالت النصارى : كونوا نصارى تهتدوا. فكلّ يضرب على وتره ويحاكي شاكلته ، لا عن وعي ولا إقامة برهان.

(قُلْ : بَلْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً) : الشريعة البيضاء النقيّة التي جاء بها إبراهيم من أوّل يومه ، ولا تزال هي شريعة الله الخالدة مدى الأجيال.

(وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) كما تزعم العرب المشركون أنّهم على امتداد خطّ أبيهم إبراهيم عليه‌السلام.

وعليه فلنرجع جميعا ـ سواء اليهود أو النصارى أم المشركون ـ إلى ملّة أبينا إبراهيم ، هو أب الأنبياء ، وملّته ملّتهم جميعا ، كما هي ملّة الإسلام الحاضرة (مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْراهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هذا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيداً عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللهِ هُوَ مَوْلاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلى وَنِعْمَ النَّصِيرُ). (١)

تلك هي الوحدة الدينيّة الكبرى التي يدعو إليها المسلمون ، من لدن إبراهيم فإلى موسى وعيسى وإلى الإسلام الأخير .. دعوة أهل الكتاب إلى الإيمان بهذا الدين الحنيف الشامل.

(قُولُوا آمَنَّا بِاللهِ وَما أُنْزِلَ إِلَيْنا) نحن المسلمين (وَما أُنْزِلَ إِلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطِ ، وَما أُوتِيَ مُوسى وَعِيسى وَما أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ) لله (مُسْلِمُونَ) كما قال الأب إبراهيم من قبل (إِذْ قالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ).

تلك هي حقيقة الإيمان وأساسها الاستسلام لله ربّ العالمين .. ومن ثمّ (فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ ما آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا) وحسبوا الاهتداء في احتكارهم (فَإِنَّما هُمْ فِي شِقاقٍ) جدال مع الحقّ الصريح (فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللهُ) شرّهم ومكائدهم (وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ)(٢) .. (وَهُوَ السَّمِيعُ) لما يدور بينهم من مؤامرات لئيمة (الْعَلِيمُ) بنيّاتهم الخبيثة ، ومن ثمّ فإنّ كلّ دسائسهم تصبح فاشلة وفاضحة ، ولا يفلح الماكر حيث أتى. (٣)

__________________

(١) الحجّ ٢٢ : ٧٨.

(٢) فاطر ٣٥ : ٤٣.

(٣) اقتباسا من قوله تعالى : (وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتى) (طه ٢٠ : ٦٩). حيث الماكر ساحر.

٣١

نعم ، ليس للمؤمن إلّا أن يستقيم على طريقته (الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا)(١). فيعتزّ بالحقّ المستمدّ مباشرة من ربّه (٢) ، وبالسمة التي يسمهم بها ربّهم الجليل ، فيعرمون بها بين الناس (سِيماهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ)(٣). تلك كانت : (صِبْغَةَ اللهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عابِدُونَ).

قال سيّد قطب : ونقف هنا عند سمة من سمات التعبير القرآني ذات الدلالة العميقة .. إنّ صدر الآية من كلام الله التقريري : (صِبْغَةَ اللهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللهِ صِبْغَةً). أمّا باقيها فهو من كلام المؤمنين. يلحقه السياق ـ بلا فصل ـ بكلام البارىء ـ سبحانه ـ في السياق. وكلّه قرآن منزل. ولكنّ الشطر الأوّل حكاية عن قول الله ، والشطر الثاني حكاية عن قول المؤمنين. وهو تشريف عظيم أن يلحق كلام المؤمنين بكلام الله في سياق واحد ، بحكم الصلة الوثيقة بينهم وبين ربّهم ، وبحكم الاستقامة الواصلة بينه وبينهم. وأمثال هذا في القرآن كثير ، وهو ذو مغزى كبير. (٤)

* * *

ثمّ تمضي الحجّة الدامغة إلى نهايتها الحاسمة :

(قُلْ أَتُحَاجُّونَنا فِي اللهِ وَهُوَ رَبُّنا وَرَبُّكُمْ وَلَنا أَعْمالُنا وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُخْلِصُونَ).

نعم لا مجال للجدل في الله وهو ربّنا وربّكم كما أنّ لنا أعمالنا نحاسب عليها .. ولكم أعمالهم تتحوّل وزرها .. غير أنّ هناك فارق كبير يفصل بيننا وبينكم ، إذ نحن متجرّدون له ومخلصون في عبادته لا نشرك به شيئا ولا ندعو معه أحدا.

وهذا تعريض لطيف بالمدّعين للتوحيد ، فإمّا يجعلون له شريكا في الربوبيّة ، كما صنع أهل الكتاب أو يشركون في عبادته ، مع اعترافهم بأنّ الصانع تعالى واحد لا شريك له. فلم يكن توحيد كلّ من الفئات خالصا ، كما هو عند المسلمين.

* * *

وينتقل السياق إلى مجال آخر من مجالات الجدل ، ممّا لا ينبغي الجدل فيه.

(أَمْ تَقُولُونَ إِنَّ إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطَ كانُوا هُوداً أَوْ نَصارى) وهم أسبق

__________________

(١) فصّلت ٤١ : ٣٠.

(٢) حيث ذيل الآية : (تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلَّا تَخافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا ...).

(٣) الفتح ٤٨ : ٢٩.

(٤) في ظلال القرآن ١ : ١٦٤ ـ ١٦٥.

٣٢

عهدا من اليهوديّة والنصرانية .. إذن تلك فضيحة عارمة.

(قُلْ أَأَنْتُمْ) مع هذا الجهل المفرط (أَعْلَمُ أَمِ اللهُ) الذي لا يعزب عن علمه شيء؟!

وهذا سؤال لا جواب لهم عليه! وفيه من الاستنكار ما يقضي بالخجل والتراجع عن الجواب.

ولكنّه كتمان عن الشهادة بالحقّ : (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهادَةً عِنْدَهُ مِنَ اللهِ وَمَا اللهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ). نعم (تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَها ما كَسَبَتْ وَلَكُمْ ما كَسَبْتُمْ وَلا تُسْئَلُونَ عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ).

هذا هو الفاصل بين رفعة تلكم الآباء وضعة هؤلاء الأحفاد. وفي ذلك فصل الخطاب ونهاية الجدل ، والكلمة الأخيرة في تلك الدعاوي الفارغة ولكنّها العريضة بلا طائل.

الكلمات التي ابتلي بها إبراهيم عليه‌السلام

والكلمات : الكلام الذي أوحى الله به إلى إبراهيم ، إمّا إلهاما في شعور باطنه أو وحيا مباشريّا ألقاه في روعه. إذ الكلمة لفظ يدلّ على معنى والمراد : الوظائف الإنسانيّة الكريمة التي توحيها الفطرة السليمة أو التي تتلقّاها الأنفس الكريمة من وحي السماء.

فإبراهيم الخليل ـ بفطرته الذاتيّة أوّلا وبوحي السماء في امتداد حياته ـ قام بأعمال جسام ووقف مواقف مشهودة ، جرّبته بها الأيّام ، إنسانا شهما عريقا في شعور إنسانيّته النبيلة وآهلته للنيل بمقام محمود عند الله مدى الدهر.

أمّا وما هي هذه الكلمات وهذه المواقف التي جعلت إبراهيم الخليل؟

تكفيك مراجعة تاريخ حياته منذ أن بزغ إلى الوجود ، من طفولته فريعان شبابه فكهولته وحتّى أيّام المشيب .. تجده ملأ حياته الحيويّة والنشاط والتضحية في سبيل إعلاء كلمة الله في الأرض ، حتّى أصبح لوحده أمّة : (إِنَّ إِبْراهِيمَ كانَ أُمَّةً قانِتاً لِلَّهِ حَنِيفاً)(١). نعم هو لوحده أمّة ، حيث إنّه منطلق أمّة قانتة لله تعالى عبر الزمان ، ومنبعث شريعة حنيفة بيضاء على صفحات التاريخ مدى الدهر .. (وَجَعَلَها كَلِمَةً باقِيَةً فِي عَقِبِهِ)(٢).

وهذه الكلمات هي أوامره تعالى ونواهيه ، منها الفطريّة ومنها بإيحاء. وإبراهيم عليه‌السلام قام بإنجازها كملا ومن غير توان قياما لا هوادة فيه ولا فتور. (فَأَتَمَّهُنَّ) : وفّى بهنّ أحسن وفاء

__________________

(١) النحل ١٦ : ١٢٠.

(٢) الزخرف ٤٣ : ٢٨.

٣٣

(وَإِبْراهِيمَ الَّذِي وَفَّى)(١).

وللمفسرين هنا شرح وتبيين لهذه المواقف ، وبالأحرى تفصيل البيان عن هذه الكلمات نعرضها كما يلي :

للشيخ أبي جعفر ابن بابويه الصدوق ـ عليه الرحمة ـ هنا بيان لطيف جامع لتبيين هذه الكلمات استنادا إلى المستفاد من فحوى آي الذكر الحكيم ، قال :

والابتلاء على ضربين ، أحدهما يستحيل على الله تعالى ذكره ، والآخر جائز. فأمّا ما يستحيل فهو أن يختبره ليعلم ما تكشف الأيّام عنه. وهذا ما لا يصحّ له ، لأنّه ـ عزوجل ـ علّام الغيوب. والضرب الآخر من الابتلاء أن يبتليه حتّى يصبر فيما يبتليه به ، فيكون ما يعطيه من العطاء على سبيل الاستحقاق ، ولينظر إليه الناظر فيقتدي به ، فيعلم من حكمة الله ـ عزوجل ـ أنّه لم يكل أسباب الإمامة إلّا إلى الكافىء المستقلّ ، الذي كشفت الأيّام عنه بخبره.

فأمّا الكلمات فمنها ـ مضافا إلى ما ورد في الحديث ـ : اليقين. وذلك قول الله ـ عزوجل ـ : (وَكَذلِكَ نُرِي إِبْراهِيمَ مَلَكُوتَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ)(٢).

ومنها المعرفة بقدم باريه وتوحيده وتنزيهه عن التشبيه ، حين نظر إلى الكواكب والقمر والشمس ، فاستدلّ بأفول كلّ واحد منها على حدوثه ، وبحدوثه على محدثه.

ومنها الشجاعة ، وقد كشفت الأيّام عنها. بدلالة قوله تعالى : (إِذْ قالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ ما هذِهِ التَّماثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَها عاكِفُونَ) ـ قال لهم ذلك مسخّفا لعقليّتهم الهزيلة ـ ولمّا (قالُوا وَجَدْنا آباءَنا لَها عابِدِينَ) قال لهم بجرأة وشهامة : (لَقَدْ كُنْتُمْ أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ). وأخيرا هدّدهم بكلّ صرامة : (وَتَاللهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنامَكُمْ بَعْدَ أَنْ تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ.) وبالفعل قام بما هدّدهم ولم يهبهم .. قال الصدوق : ومقاومة إنسان واحد ألوفا حاشدة ، لهي أدلّ دليل على شجاعة فائقة.

والحلم ، كما جاء في قوله ـ عزوجل ـ : (إِنَّ إِبْراهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُنِيبٌ)(٣).

والسخاء ، ينبؤك به حديث ضيف إبراهيم المكرمين. (٤)

__________________

(١) النجم ٥٣ : ٣٧.

(٢) الأنعام ٦ : ٧٥.

(٣) هود ١١ : ٧٧.

(٤) الذاريات ٥١ : ٢٤. والحجر ١٥ : ٥١.

٣٤

والعزلة عن الأهل والعشيرة ، في جنب الله : (اعْتَزَلَهُمْ وَما يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ)(١).

والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. لما في قوله : (يا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ ما لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ وَلا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئاً) الآيات (٢).

ودفع السيّئة بالحسنة ، وذلك لمّا قال له أبوه : (أَراغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يا إِبْراهِيمُ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا) قال في جوابه : (سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كانَ بِي حَفِيًّا)(٣).

والتوكّل ، وبيان ذلك في قوله : (الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ. وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ. وَإِذا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ)(٤).

وتحمّل المحن في النفس (٥) ، والولد (٦) ، والأهل (٧) والصبر عليها صبر عبد شكور.

وإلى غير ذلك من مواقفه المشهودة ، والتي اختصّ بها ذلك العبد الأوّاه المنيب إبراهيم الخليل ، صلوات الله عليه. (٨)

[٢ / ٣١٦٧] قال الجبّائي : أراد بالكلمات كلّ ما كلّفه من الطاعات العقليّة والشرعيّة. (٩)

ويكفيك شاهدا على صلابة إيمانه وشديد عزمه واستقامته في جنب الله ، شهادة الله بحقّه .. وأيّ شيء أكبر شهادة من الله. (١٠)

انظر إلى قوله تعالى : (وَلَقَدْ آتَيْنا إِبْراهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ عالِمِينَ). (١١)

وقوله : (وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ إِبْراهِيمَ إِنَّهُ كانَ صِدِّيقاً نَبِيًّا.)(١٢)

وقوله : (إِنَّ إِبْراهِيمَ كانَ أُمَّةً قانِتاً لِلَّهِ حَنِيفاً وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ. شاكِراً لِأَنْعُمِهِ اجْتَباهُ وَهَداهُ إِلى

__________________

(١) مريم ١٩ : ٤٩.

(٢) مريم ١٩ : ٤٣ ـ ٤٦.

(٣) مريم ١٩ : ٤٧ ـ ٤٨.

(٤) الشعراء ٢٦ : ٧٨ ـ ٨٠.

(٥) حين قذف في النار.

(٦) حين أمر بذبح ولده إسماعيل. قال تعالى : (إِنَّ هذا لَهُوَ الْبَلاءُ الْمُبِينُ) (الصافات ٣٧ : ١٠٦).

(٧) حينما أمر بالهجرة بهاجر.

(٨) راجع : كتاب الخصال ١ : ٣٠٥ ـ ٣١٠. أبواب الخمسة برقم ٨٤.

(٩) التبيان ١ : ٤٤٦ ، مجمع البيان ١ : ٢٠٠.

(١٠) الأنعام ٦ : ١٩.

(١١) الأنبياء ٢١ : ٥١.

(١٢) مريم ١٩ : ٤١.

٣٥

صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ. وَآتَيْناهُ فِي الدُّنْيا حَسَنَةً وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ)(١).

وقوله : (وَإِبْراهِيمَ الَّذِي وَفَّى)(٢).

وقوله : (وَلَقَدِ اصْطَفَيْناهُ فِي الدُّنْيا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ. إِذْ قالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ)(٣).

وقوله : (وَإِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ لَإِبْراهِيمَ. إِذْ جاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ). (٤)

وقوله : (إِنَّ إِبْراهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ)(٥).

وقوله : (إِنَّ إِبْراهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُنِيبٌ)(٦).

وأخيرا : (سَلامٌ عَلى إِبْراهِيمَ)(٧) ومن ثمّ : (وَاتَّخَذَ اللهُ إِبْراهِيمَ خَلِيلاً)(٨). وجعله إماما وأمر باتباع سنّته مدى الأجيال : (قُلْ صَدَقَ اللهُ فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً)(٩). وصدق الله العلي العظيم.

تلك شهادات الله الفخيمة بشأن رجل عظيم ، سجلّت مواقفه المشهودة المشرّفة صفحات التاريخ المشرقة وما هذه المفاخر والمكرمات الإنسانية العليا ، والتي لا تزال البشرية تعتزّ بها وتعمل في تحقيقها حتّى بلوغ الكمال إلّا أثرا مشهودا من سيرة ذلك الرجل العظيم : (وَجَعَلَها كَلِمَةً باقِيَةً فِي عَقِبِهِ)(١٠).

ولنذكر ـ هنا وبالمناسبة ـ ظاهرة عجيبة من حياة شيخ الأنبياء وإمام الأئمّة النبلاء قد تبدو غريبة ، ولكن لا منه ، بل ممّن سواه على الإطلاق :

[٢ / ٣١٦٨] حدّث بها كبير ذراريه الإمام أبو عبد الله جعفر بن محمّد الصادق عليه‌السلام فيما رواه أبو جعفر ابن بابويه الصدوق بإسناد صحيح عنه عليه‌السلام قال : «لمّا أهوى بإبراهيم إلى النار ، تلقّاه جبرئيل وقال له : ألك حاجة يا إبراهيم؟! فقال له إبراهيم ـ بكلّ عظمة وإكبار ـ : أمّا إليك فلا!!». (١١)

__________________

(١) النحل ١٦ : ١٢٠ ـ ١٢٢.

(٢) النجم ٥٣ : ٣٧.

(٣) البقرة ٢ : ١٣٠ ـ ١٣١.

(٤) الصافات ٣٧ : ٨٣.

(٥) التوبة ٩ : ١١٤.

(٦) هود ١١ : ٧٥.

(٧) الصافات ٣٧ : ١٠٩.

(٨) النساء ٤ : ١٢٥.

(٩) آل عمران ٣ : ٩٥.

(١٠) الزخرف ٤٣ : ٢٨.

(١١) البحار ١٢ : ٣٩ / ٢٤.

٣٦

ما أفخم هذا التوكّل وهذا الانقطاع إلى الله الكبير المتعال؟!

ومن ثمّ تداركته عناية ربّه الجليل : (قُلْنا يا نارُ كُونِي بَرْداً وَسَلاماً عَلى إِبْراهِيمَ)(١).

[٢ / ٣١٦٩] وروى ثقة الإسلام أبو جعفر محمّد بن يعقوب الكليني بالإسناد إلى زيد الشحّام قال : سمعت الإمام أبا عبد الله الصادق عليه‌السلام يقول : «إنّ الله ـ تبارك وتعالى ـ اتّخذ إبراهيم عبدا قبل أن يتّخذه نبيّا. وإنّ الله اتّخذه نبيّا قبل أن يتّخذه رسولا. وإنّ الله اتّخذه رسولا قبل أن يتّخذه خليلا. وإنّ الله اتّخذه خليلا قبل أن يجعله إماما. فلمّا جمعت له الأوصاف قال : (إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً). ومن عظمها قال إبراهيم : (وَمِنْ ذُرِّيَّتِي.) قال تعالى : (لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ). قال الإمام الصادق : لا يكون السفيه إمام التقيّ!» (٢)

* * *

قال أبو جعفر الطبري في قوله تعالى : (وَإِذِ ابْتَلى إِبْراهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِماتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قالَ إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً قالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قالَ لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ)

يعني ـ جلّ ثناؤه ـ بقوله : (وَإِذِ ابْتَلى) وإذا اختبر ، يقال منه : ابتليت فلانا أبتليه ابتلاء.

ومنه قول الله ـ عزوجل ـ : (وَابْتَلُوا الْيَتامى). يعني به : اختبروهم. وكان اختبار الله ـ تعالى ذكره ـ إبراهيم اختبارا بفرائض فرضها عليه ، وأمر أمره به ، وذلك هو الكلمات التي أوحاهنّ إليه وكلّفه العمل بهنّ امتحانا منه له واختبارا.

ثمّ أخذ في بيان تفاصيل الأقوال ، قال :

اختلف أهل التأويل في صفة الكلمات التي ابتلى الله بها إبراهيم نبيّه وخليله ـ صلوات الله عليه ـ فقال بعضهم : هي شرائع الإسلام ، وهي ثلاثون سهما.

[٢ / ٣١٧٠] كما حدّثنا محمّد بن المثنّى ، بالإسناد إلى عكرمة ، عن ابن عبّاس قال : لم يبتل أحد بهذا الدين فأقامه إلّا إبراهيم ، ابتلاه الله بكلمات فأتمّهنّ. قال : فكتب الله له البراءة ، فقال : (وَإِبْراهِيمَ الَّذِي وَفَّى). قال : عشر منها في الأحزاب ، وعشر منها في براءة ، وعشر منها في المؤمنين والمعارج

__________________

(١) الأنبياء ٢١ : ٦٩.

(٢) الكافي ١ : ١٧٥ / ٢ ، كتاب الحجة باب طبقات الأنبياء والرسل والأئمّة ؛ البحار ١٢ : ١٢ / ٣٦ و ٢٥ : ٢٠٥ ـ ٢٠٦ / ١٧. عن كتاب الاختصاص للمفيد : ٢٢.

٣٧

وقال : إنّ هذا الإسلام ثلاثون سهما.

قلت : ما جاء في هذه السور لا تعدو عشر خصال مكرّرات في السور الأربع.

[٢ / ٣١٧١] وكما في رواية إسحاق بن شاهين ، بالإسناد عن ابن عبّاس قال : ما ابتلي أحد بهذا الدين فقام به كلّه غير إبراهيم ، ابتلي بالإسلام فأتمّه ، فكتب الله له البراءة ، فقال : (وَإِبْراهِيمَ الَّذِي وَفَّى) فذكر عشرا في براءة : (التَّائِبُونَ الْعابِدُونَ الْحامِدُونَ)(١) ، وعشرا في الأحزاب : (إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِماتِ)(٢) ، وعشرا في سورة المؤمنين ، إلى قوله : (وَالَّذِينَ هُمْ عَلى صَلَواتِهِمْ يُحافِظُونَ)(٣) ، وعشرا في سأل سائل : (وَالَّذِينَ هُمْ عَلى صَلاتِهِمْ يُحافِظُونَ)(٤).

قلت : وبذلك أصبحت الخصال أربعين!؟

قال : وقال آخرون : هي خصال عشر من سنن الإسلام.

[٢ / ٣١٧٢] كما حدّثنا الحسن بن يحيى ، بالإسناد عن ابن عبّاس قال : ابتلاه الله بالطهارة : خمس في الرأس ، وخمس في الجسد. في الرأس : قصّ الشارب ، والمضمضة ، والاستنشاق ، والسواك ، وفرق الرأس. وفي الجسد : تقليم الأظفار ، وحلق العانة ، والختان ، ونتف الإبط ، وغسل أثر الغائط والبول بالماء.

وروى المثنى ، بالإسناد إلى ابن عبّاس بمثله ، ولم يذكر أثر البول.

[٢ / ٣١٧٣] وعن أبي هلال قال : حدّثنا قتادة قال : ابتلاه بالختان ، وحلق العانة ، وغسل القبل والدبر ، والسواك ، وقصّ الشارب ، وتقليم الأظافر ، ونتف الإبط. قال أبو هلال : ونسيت خصلة.

[٢ / ٣١٧٤] وعن أبي الجلد قال : ابتلي إبراهيم بعشرة أشياء هنّ في الإنسان : سنّة الاستنشاق ، وقصّ الشارب ، والسواك ، ونتف الإبط ، وقلم الأظفار ، وغسل البراجم ، والختان ، وحلق العانة ، وغسل الدبر والفرج.

* * *

وقال بعضهم : بل الكلمات التي ابتلي بهنّ عشر خلال بعضهن في تطهير الجسد ، وبعضهنّ في مناسك الحجّ.

__________________

(١) التوبة ٩ : ١١٢. وهي تسع خصال.

(٢) الأحزاب ٣٣ : ٣٥. وهي إحدى عشرة خصلة.

(٣) المؤمنون ٢٣ : ٩. وهي ستّ خصال.

(٤) المعارج ٧٠ : ٣٤. وهي ثماني خصال.

٣٨

[٢ / ٣١٧٥] كما حدّثني المثنّى ، بالإسناد إلى حنش عن ابن عبّاس قال : ستّة في الإنسان ، وأربعة في المشاعر. فالّتي في الإنسان : حلق العانة ، والختان ، ونتف الإبط ، وتقليم الأظفار ، وقصّ الشارب ، والغسل يوم الجمعة. وأربعة في المشاعر : الطّواف ، والسعي بين الصفا والمروة ، ورمي الجمار ، والإفاضة.

* * *

وقال آخرون : بل ذلك : إنّي جاعلك للناس إماما في مناسك الحج.

[٢ / ٣١٧٦] كما حدّثنا أبو كريب بالإسناد إلى أبي صالح ـ مولى أمّ هانىء ـ قال : فمنهنّ : (إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً) ومنهنّ آيات النسك.

[٢ / ٣١٧٧] وهكذا روى ابن أبي نجيح ، عن مجاهد قال : قال الله لإبراهيم : إنّي مبتليك بأمر ، فما هو؟ قال : تجعلني للناس إماما. قال : نعم. قال : ومن ذرّيّتي؟ قال : لا ينال عهدي الظالمين. قال : تجعل البيت مثابة للناس! قال : نعم. وأمنا! قال : نعم. وتجعلنا مسلمين لك ، ومن ذرّيّتنا أمّة مسلمة لك! قال : نعم. وترينا مناسكنا وتتوب علينا! قال : نعم. قال : وتجعل هذا البلد آمنا! قال : نعم. قال : وترزق أهله من الثمرات من آمن منهم! قال : نعم. وهكذا ذكر عكرمة. قال ابن جريج : فاجتمع على هذا القول مجاهد وعكرمة جميعا.

[٢ / ٣١٧٨] وعن مجاهد أيضا قال : ابتلي بالآيات التي بعدها : (إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً. قالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قالَ لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ).

[٢ / ٣١٧٩] وهكذا روى عن الربيع قال ، فالكلمات هي قوله : (إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً) وقوله : (وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثابَةً لِلنَّاسِ) وقوله : (وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقامِ إِبْراهِيمَ مُصَلًّى) وقوله : (وَعَهِدْنا إِلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ) الآية ، وقوله : (وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْراهِيمُ الْقَواعِدَ مِنَ الْبَيْتِ) الآية. قال : فذلك كلمة من الكلمات التي ابتلي بهنّ إبراهيم.

* * *

وقال آخرون : بل ذلك مناسك الحجّ خاصّة.

[٢ / ٣١٨٠] كما حدّثنا ابن بشّار ، بالإسناد إلى قتادة ، عن ابن عبّاس في قوله : (وَإِذِ ابْتَلى إِبْراهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِماتٍ) قال : مناسك الحجّ.

٣٩

وفي أخرى قال : منهنّ مناسك الحجّ.

* * *

وقال آخرون : هي أمور منهنّ الختان.

[٢ / ٣١٨١] كما حدّثني محمّد بن بشّار ، بالإسناد إلى الشعبي : (وَإِذِ ابْتَلى إِبْراهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِماتٍ) قال : منهنّ الختان.

[٢ / ٣١٨٢] وهكذا سأله أبو إسحاق عن قول الله : (وَإِذِ ابْتَلى إِبْراهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِماتٍ) قال : منهنّ الختان يا أبا إسحاق.

* * *

وقال آخرون : بل ذلك الخلال الستّ : الكوكب والقمر والشمس والنار والهجرة والختان ، التي ابتلي بهنّ فصبر عليهنّ.

[٢ / ٣١٨٣] كما حدّثني يعقوب بن إبراهيم ، عن ابن علية ، عن أبي رجاء ، قال : قلت للحسن : (وَإِذِ ابْتَلى إِبْراهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِماتٍ) قال : ابتلاه بالكوكب فرضي عنه ، وابتلاه بالقمر فرضي عنه ، وابتلاه بالشمس فرضي عنه ، وابتلاه بالنار فرضي عنه ، وابتلاه بالهجرة ، وابتلاه بالختان.

[٢ / ٣١٨٤] وأيضا ، عن قتادة قال : كان الحسن يقول : إي والله ابتلاه بأمر فصبر عليه ، ابتلاه بالكوكب والشمس والقمر ، فأحسن في ذلك وعرف أنّ ربّه دائم لا يزول ، فوجّه وجهه للذي فطر السماوات والأرض حنيفا وما كان من المشركين ، ثمّ ابتلاه بالهجرة ، فخرج من بلاده وقومه حتّى لحق بالشام مهاجرا إلى الله ، ثمّ ابتلاه بالنار قبل الهجرة فصبر على ذلك ، فابتلاه الله بذبح ابنه وبالختان فصبر على ذلك.

وقال آخرون بما :

[٢ / ٣١٨٥] حدّثنا به موسى بن هارون بالإسناد عن السدّي : الكلمات التي ابتلى بهن إبراهيم ربّه :

(رَبَّنا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ رَبَّنا وَاجْعَلْنا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنا مَناسِكَنا وَتُبْ عَلَيْنا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ. رَبَّنا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ).

قال ابن جرير : والصواب من القول في ذلك عندنا أن يقال : إنّ الله ـ عزوجل ـ أخبر عباده أنّه اختبر إبراهيم خليله بكلمات أوحاهنّ إليه ، وأمره أن يعمل بهنّ وأتمّهنّ ، كما أخبر الله ـ جلّ ثناؤه ـ

٤٠