التفسير الأثري الجامع - ج ٤

الشيخ محمّد هادي معرفة

التفسير الأثري الجامع - ج ٤

المؤلف:

الشيخ محمّد هادي معرفة


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة التمهيد ـ قم
المطبعة: ستاره
الطبعة: ١
ISBN: 978-600-5079-05-0
ISBN الدورة:
978-600-5079-08-1

الصفحات: ٥٦٠

والهضم : الظلم الفاحش. يقال : هضم فلانا إذا ظلمه وأذلّه بانكسار شأنه.

* * *

٢ ـ وهكذا الفرقان في الآية : (٤٨ ـ الأنبياء) يحتمل إرادة الفاروق للحقّ عن الباطل. كما عن مجاهد وقتادة. أو البرهان الّذي أفحم به موسى فرعون وأذلّه ، أو الآيات البيّنات الّتي أجراها الله على يد نبيّه موسى عليه‌السلام.

قوله : (وَضِياءً) صفة أخرى للتوراة الّتي أنزلها الله على موسى وهارون. كما في قوله تعالى : (إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْراةَ فِيها هُدىً وَنُورٌ)(١).

قوله : (وَذِكْرى) عظات مذكّرات لمن تذكّر واتّقى (٢).

٣ ـ وكذلك قوله تعالى : (هُدىً لِلنَّاسِ وَبَيِّناتٍ مِنَ الْهُدى وَالْفُرْقانِ)(٣) أي الدلائل والأحكام اللائحات ، وفيها الفارق بين كلّ حقّ وباطل ، واضح ساطع البرهان (٤).

٤ ـ ومثله قوله تعالى : (نَزَّلَ الْفُرْقانَ عَلى عَبْدِهِ)(٥).

٥ ـ وقوله : (نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنْزَلَ التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ. مِنْ قَبْلُ هُدىً لِلنَّاسِ وَأَنْزَلَ الْفُرْقانَ)(٦). أراد به القرآن وفيه الدلائل على سبل السّلام واضحة لائحة ، قال أبو علي الطبرسيّ : إنّما كرّر ذلك ، لما اختلفت دلالات صفاته وإن كانت لموصوف واحد ، لأنّ في كلّ صفة فائدة غير فائدة الأخرى. فإنّ الفرقان هو الّذي يفرّق بين الحقّ والباطل فيما يحتاج إليه العباد من أمور الدين وسائر الأحكام. والكتاب ما كان من شأنه أن يكتب ويفرض على العباد.

[٢ / ٤٧٧٣] كما في الحديث عن الصادق عليه‌السلام قال : «الفرقان هو كلّ آية محكمة في الكتاب ، وهو الّذي جاء مصدّقا لمن كان قبله من الأنبياء» (٧).

وقال أبو مسلم : المراد بالفرقان الأدلّة الفاصلة بين الحقّ والباطل.

__________________

(١) المائدة ٥ : ٤٤.

(٢) مجمع البيان ٧ : ٥١.

(٣) البقرة ٢ : ١٨٥.

(٤) مجمع البيان ٢ : ٢٧٦ ـ ٢٧٧.

(٥) الفرقان ٢٥ : ١.

(٦) آل عمران ٣ : ٤.

(٧) انظر : الصافي ١ : ٣١٥.

٥٠١

وقيل : المراد الحجّة القاطعة لمحمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على من حاجّه في أمر عيسى عليه‌السلام. وقيل : المراد به النصر (١).

* * *

٦ ـ أمّا يوم الفرقان (الأنفال : ٢٩). فيعني به يوم بدر ، لأنّ الله تعالى فرّق فيه بين المسلمين والمشركين ، بإعزاز هؤلاء وإذلال أولئك فلم تقم لهم قائمة بعد ذلك اليوم الرهيب ، كان المسلمون وهم ثلاثمأة وبضعة عشر رجلا ، وعلى غير أهبة للحرب والنضال ، وكان المشركون بين تسعمأة إلى ألف نسمة من صناديد قريش وزعمائهم ، وعلى أهبة كاملة للقتال. فهزمهم المسلمون وشرّدوهم بإذن الله وقتلوا منهم زيادة على سبعين نفرا وأسروا منهم مثل ذلك. فكان يوم فخار للمسلمين وشنار على المشركين مع الأبد. وذلك سبع عشرة ليلة خلت من شهر رمضان من سنة اثنتين من الهجرة على رأس ثمانية عشر شهرا.

وقيل : لتسع عشرة مضت من رمضان. قال الطبرسيّ : وقد روي ذلك عن أبي عبد الله عليه‌السلام (٢).

قوله تعالى : (فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ)

قال أبو عليّ الطبرسيّ : فيه وجهان :

أحدهما : فمن شهد منكم المصر وحضر ولم يغب في الشهر ، فليصمه.

[٢ / ٤٧٧٤] قال : وهذا معنى ما رواه زرارة عن الإمام أبي جعفر الباقر عليه‌السلام لمّا سئل عن هذه الآية ، قال : «ما أبينها لمن عقلها! ـ ثمّ قال ـ : من شهد شهر رمضان فليصمه ، ومن سافر فيه فليفطر».

[٢ / ٤٧٧٥] قال : وقد روي أيضا عن الإمام أمير المؤمنين عليه‌السلام وابن عبّاس ومجاهد وجماعة من المفسّرين ، قالوا : «من شهد الشهر بأن دخل عليه الشهر وهو حاضر ، فعليه أن يصوم الشهر كلّه». أي يترجّح له البقاء من دون أن يعزم سفرا.

وهكذا ذكر الشيخ أبو جعفر الطوسيّ : أنّهم قالوا : من شهد الشهر ، بأن دخل عليه الشهر ، كره له أن يسافر حتّى يمضي ثلاث وعشرون من الشهر. إلّا أن يكون واجبا كالحجّ ، أو تطوّعا كالزيارة.

__________________

(١) مجمع البيان ٢ : ٢٣٥.

(٢) المصدر ٤ : ٤٦٩.

٥٠٢

فإن لم يفعل وخرج ، كان عليه الإفطار ولم يجزه الصوم (١).

ومعنى «كره له» الندب إلى البقاء لا الإلزام ، ومن ثمّ روي عن الحسن قال : لم يجعل الله رمضان قيدا (٢).

الوجه الثاني : من شاهد منكم الشهر مقيما مكلّفا فليصم الشهر بعينه. أي متعيّنا عليه الصوم من غير تخيير بينه وبين الفداء. قالوا : وبذلك نسخ التخيير بين الصوم والفداء ، على ما زعمه البعض.

قال الطبرسيّ : وأوّل الوجهين أقوى (٣).

* * *

وقال أبو جعفر محمّد بن جرير الطبري : اختلف أهل التأويل في معنى شهود الشهر ؛ فقال بعضهم : هو مقام المقيم في داره. قالوا : فمن دخل عليه شهر رمضان وهو مقيم في داره فعليه صوم الشهر كلّه ، غاب بعد فسافر أم أقام ولم يبرح.

[٢ / ٤٧٧٦] روى محمّد بن حميد ومحمّد بن عيسى بالإسناد إلى الضحّاك عن ابن عبّاس قال : هو إهلاله بالدار. يريد : إذا أهلّ وهو مقيم.

[٢ / ٤٧٧٧] وعنه أيضا قال : فإذا شهده وهو مقيم فعليه الصوم ، أقام أو سافر. وإن شهده وهو في سفر ، فإن شاء صام وإن شاء أفطر.

[٢ / ٤٧٧٨] وعن عبيدة السلماني ، في الرجل يدركه رمضان ثمّ يسافر؟ قال : إذا شهدت أوّله فصم آخره ـ أي إلى آخره ـ ألا ترى يقول : (فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ!) وحسب حمّاد أنّ عبيدة نسبه إلى عليّ عليه‌السلام (٤).

[٢ / ٤٧٧٩] وعن أسباط عن السّدّي قال : أمّا من شهد منكم الشهر فليصمه. فمن دخل عليه رمضان وهو مقيم في أهله فليصمه ، وإن خرج فيه فليصمه ، فإنّه دخل عليه وهو في أهله.

وقال آخرون : معنى ذلك ، فمن شهد منكم الشهر فليصم ما شهد منه. ثمّ ذكر من شهد الشهر فسافر وأفطر ، كأبي ميسرة وعليّ عليه‌السلام والشعبي وسفيان والحكم وحمّاد والحسن وسعيد بن المسيّب ،

__________________

(١) التبيان ٢ : ١٢٣.

(٢) أخرجه عبد بن حميد عن الحسن. الدرّ ١ : ٤٦٢.

(٣) مجمع البيان ٢ : ٢٧٧.

(٤) وهكذا ذكر قتادة ناسبا ذلك إلى عليّ عليه‌السلام.

٥٠٣

ممّن أوجبوا الإفطار في السفر إطلاقا وتصريحا بشأن من أدركه شهر رمضان قبل أن يسافر ثمّ عرض له السفر. وقد مرّ حديثهم.

وقال بعض الفقهاء : من شهد الشهر عاقلا بالغا بلغ التكليف ، فعليه صومه ، فإن عرضه جنون أو عائق عن الصيام ، فعليه القضاء بعد الإفاقة. أمّا إذا جنّ قبل الشهر فأطبق الشهر كلّه ، فهذا لا قضاء عليه. قال بذلك أبو حنيفة وأصحابه.

قال الطبري : هذا تأويل لا معنى له ، لأنّ الجنون إن كان يسقط فرض الصوم فسبيله سبيل من فقد عقله جميع الشهر ، وقد أجمع الفقهاء على أنّ من فقد عقله جميع الشهر بإغماء أو برسام (١) ثمّ أفاق بعد ، أنّ عليه القضاء. لم يخالف في ذلك أحد. وهذا حجّة على بطلان هذا التأويل.

قال : وهكذا من زعم أنّ معناه : فمن شهد أوّله مقيما حاضرا فعليه صوم جميعه ، فتأويله أظهر بطلانا وأفسد ، لتظاهر الأخبار عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه خرج عام الفتح من المدينة في شهر رمضان بعد ما صام بعضه ، وأفطر وأمر أصحابه بالإفطار. ثمّ أخذ في سرد أحاديث بهذا الشأن.

قال : فالصحيح هو تأويل من قال : فمن شهد منكم الشهر فليصمه جميع ما شهد منه مقيما.

ومن كان مريضا أو على سفر فعدّة من أيّام أخر.

* * *

وقال أبو عبد الله القرطبي : فرض الله صيام شهر رمضان أي مدّة هلاله ، وبه سمّي الشهر ، كما جاء في الحديث : «فإن غمّي عليكم الشهر» أي الهلال ، وسيأتي. وقال الشاعر :

أخوان من نجد على ثقة

والشهر مثل قلامة الظّفر

حتّى تكامل في استدارته

في أربع زادت على عشر

وفرض علينا عند غمّة الهلال إكمال عدّة شعبان ثلاثين يوما ، وإكمال عدّة رمضان ثلاثين يوما ، حتّى ندخل في العبادة بيقين ونخرج عنها بيقين.

[٢ / ٤٧٨٠] وروى الأئمّة الأثبات عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : «صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته ، فإن غمّ عليكم فأكملوا العدد» (٢).

__________________

(١) الطبري ٢ : ١٩٨. (وط : بولاق ١ : ٨٥ ـ ٨٧).

(٢) البيهقي ٤ : ٢٤٧.

٥٠٤

[٢ / ٤٧٨١] وفي رواية : «فإن غمّي عليكم الشهر فعدّوا ثلاثين» (١).

وقد ذهب مطرّف بن عبد الله بن الشّخّير (٢) ـ وهو من كبار التابعين ـ وابن قتيبة ـ من اللغويّين ـ فقالا : يعوّل على الحساب (٣) عند الغيم ، بتقدير المنازل واعتبار حسابها في صوم رمضان ، حتّى أنّه لو كان صحوا لرؤي!

[٢ / ٤٧٨٢] لقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «فإن أغمي عليكم فاقدروا له» (٤) أي استدلّوا عليه بمنازله ، وقدّروا إتمام الشهر بحسابه (٥).

وقال الجمهور : معنى «فاقدروا له» فأكملوا المقدار ، يفسّره حديث أبي هريرة «فأكملوا العدّة» (٦).

وذكر الداوودي أنّه قيل في معنى قوله : «فاقدروا له» أي قدّروا المنازل.

قال القرطبي : وهذا لا نعلم أحدا قال به إلّا بعض أصحاب الشافعيّ أنّه يعتبر في ذلك بقول المنجّمين! والإجماع حجّة عليهم.

[٢ / ٤٧٨٣] وقد روى ابن نافع عن مالك ـ في «الإمام ، لا يصوم لرؤية الهلال ولا يفطر لرؤيته ، وإنّما يصوم ويفطر على الحساب» ـ : إنّه لا يقتدى به ولا يتّبع.

قال ابن العربيّ : وقد زلّ بعض أصحابنا فحكى عن الشافعيّ أنّه قال : يعوّل على الحساب ، وهي عثرة لا لعا لها (٧).

__________________

(١) مسلم ٣ : ١٢٢ ؛ سنن البيهقي ٤ : ٢٤٧.

(٢) كان من عبّاد أهل البصرة وزهّادهم وصاحب علم وجاه. ولد في أيّام حياة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ومات سنة ٨٧ في طاعون الجارف.

(٣) أي يعوّل على حساب منازل القمر وسيره عند المنجّمين لدى المحاق وخروجه عن تحت الشعاع.

(٤) مسلم ٣ : ١٢٢.

(٥) أي حسبما قدّره المنجّمون.

(٦) جاء في صحيح مسلم (٣ : ١٢٤) : فأكملوا العدد. وفي رواية : فصوموا ثلاثين يوما.

(٧) القرطبي ٢ : ٢٩٣ ـ ٢٩٤. قوله : لا لعا لها ، لعا بالتنوين كلمة يدعى بها للعاثر ومعناها : لا أنعشك الله عنها. أي عثرة لا موضع للعذر فيها والتخلّص عنها.

٥٠٥

وقال ابن العربي : (شَهْرُ رَمَضانَ ،) يعني : هلال رمضان. وإنّما سمّي الشهر شهرا لشهرته. ففرض الله علينا الصوم مدّة الهلال.

[٢ / ٤٧٨٤] وهذا قول النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته ، فإن غمّ عليكم فأكملوا عدّة شعبان ثلاثين» (١). ففرض علينا عند غمّة الهلال إكمال عدّة شعبان ثلاثين يوما ، وإكمال عدّة رمضان ثلاثين يوما عند غمّة هلال شوّال ، حتّى يدخل في العبادة بيقين ويخرج عنها بيقين.

[٢ / ٤٧٨٥] وكذلك ثبت عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مصرّحا به أنّه قال : «لا تصوموا حتّى تروا الهلال ، ولا تفطروا حتّى تروه» (٢).

[٢ / ٤٧٨٦] وقد روى الترمذي عن أبي هريرة عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه قال : «احصوا هلال شعبان لرمضان» (٣).

قال في قوله تعالى : (فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ) : هذا محمول على العادة بمشاهدة الشهر ، وهي رؤية الهلال. وكذلك روي عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّ الصيام وكذا الإفطار للرؤية ، كما مرّ.

وقد زلّ بعض المتقدّمين فقال : يعوّل على الحساب بتقدير المنازل ، حتّى يدلّ ما يجتمع حسابه ، على أنّه لو كان صحوا لرئي ، استنادا إلى قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «فإن غمّ عليكم فاقدروا له».

قال : معناه عند المحقّقين : فأكملوا المقدار. ولذلك قال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «فإن غمّ عليكم فأكملوا عدّة شعبان ثلاثين يوما».

[٢ / ٤٧٨٧] وفي رواية : «فإن غمّ عليكم فأكملوا صوم ثلاثين ثمّ أفطروا رواه البخاري ومسلم (٤).

وقد زلّ أيضا بعض أصحابنا فحكى عن الشافعي أنّه قال : يعوّل على الحساب. وهي عثرة لا لعا لها (٥).

وقفة عند قوله تعالى : (فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ)

قال الراغب : الشّهود والشّهادة ، الحضور مع المشاهدة ، إمّا بالبصر أو بالبصيرة. وقد يقال

__________________

(١) انظر : البخاري ٢ : ٢٢٩.

(٢) مسند أحمد ٢ : ٦٣ ؛ البخاري ٢ : ٢٢٩.

(٣) الترمذي ٢ : ٩٨ ؛ البيهقي ٤ : ٢٠٦.

(٤) البخاري ٢ : ٢٢٩ ؛ سنن النسائي ٤ : ١٣٣.

(٥) أحكام القرآن لابن العربي ١ : ٨٢.

٥٠٦

للحضور مفردا ، قال تعالى : (عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ)(١).

قال : لكن «الشهود» بالحضور المجرّد أولى ، و «الشهادة» مع المشاهدة أولى.

ويقال للمحضر : مشهد ، وجمع مشهد مشاهد. ومنه مشاهد الحجّ وهي مواطنه الشريفة الّتي يحضرها الملائكة والأبرار من الناس.

قال تعالى : (لِيَشْهَدُوا مَنافِعَ لَهُمْ)(٢). (وَلْيَشْهَدْ عَذابَهُما طائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ)(٣). (ما شَهِدْنا مَهْلِكَ أَهْلِهِ)(٤) أي ما حضرنا. (وَالَّذِينَ لا يَشْهَدُونَ الزُّورَ)(٥) أي لا يحضرونه بنفوسهم ، ولا بهمّهم وإرادتهم.

وقوله تعالى : (أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ)(٦) يعني مشاهدة البصر.

وقوله تعالى : (وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ)(٧) أي تعلمون. وقوله : (ما أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ)(٨) أي ما جعلتهم ممّن اطّلعوا ببصيرتهم على خلقها (٩).

* * *

وقال ابن منظور : شهده شهودا أي حضره ، فهو شاهد. وقوم شهود أي حضور. وهو في الأصل مصدر.

والشاهد والشهيد : الحاضر ، والجمع شهداء وشهّد وأشهاد وشهود. وأنشد ثعلب :

كأنّي ، وإن كانت شهودا عشيرتي ،

إذا غبت عنّي يا عثيم ، غريب

_________________

(١) الرعد ١٣ : ٩. أي العالم بالمغيّب عنكم والحاضر لديكم جميعا. قال الراغب : أي العالم بما يغيب عن حواسّ الناس وبصائرهم وما يشهدونه بهما.

(٢) الحجّ ٢٢ : ٢٨. قال السيّد شبّر : أي ليحضروا منافع لهم دينيّة ودنيويّة.

(٣) النور ٢٤ : ٢. أي وليحضروا ويشاهدوا عذابهما.

(٤) النمل ٢٧ : ٤٩. أي ما حضرنا مقتلهم ، فلا نعرف قاتليهم.

(٥) الفرقان ٢٥ : ٧٢. قال السيّد شبّر : لا يحضرون محاضر الباطل. أي لا يحضرون مجالس السوء والفسوق.

(٦) الزخرف ٤٣ : ١٩. قال السيّد شبّر : أي أحضروا؟

(٧) البقرة ٢ : ٨٤.

(٨) الكهف ١٨ : ٥١. وبقيّة الآية : (وَلا خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ وَما كُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُداً) أي أنا بوحدي خلقت الكون ولم يكن معي حين أوجدت وأبدعت شريك أو نظير ولا شاهد ولا ناظر مشير. وكذلك ما أشهدت بعضهم خلق بعض. وما كنت متّخذا من المضلّين عضدا : عونا أو مستشارا في أمر الخليقة. كيف وهو سبحانه غنيّ عن العالمين وهو المستعان.

(٩) المفردات ، مادّة شهد : ٢٦٧ ـ ٢٦٨.

٥٠٧

أي إذا غبت عنّي فإنّي لا أكلّم عشيرتي ولا آنس بهم ، حتّى كانّي غريب في الديار!

وقوله تعالى : (يَوْمٌ مَشْهُودٌ)(١) أي محضور يحضره أهل السماء والأرض. ومثله : (إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كانَ مَشْهُوداً)(٢) يعني صلاة الفجر يحضرها ملائكة اللّيل وملائكة النّهار.

وقوله تعالى : (أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ)(٣) أي أحضر سمعه وقلبه شاهد لذلك غير غائب عنه.

وقوله تعالى : (فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ ؛) معناه : من شهد منكم المصر في الشهر ، لا يكون إلّا ذلك ، لأنّ الشهر يشهده كلّ حيّ فيه. قال الفرّاء : نصب الشهر بنزع الصفة ولم ينصبه بوقوع الفعل عليه ؛ المعنى : فمن شهد منكم في الشهر أي كان حاضرا غير غائب في سفره. وشاهد الأمر والمصر كشهده (٤).

* * *

إذن فمعنى (فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ :) من حضر أي كان حاضرا غير مسافر في هذا الشهر.

يقال : فلان شهد بدرا وشهد أحدا أو شهد المشاهد كلّها مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أي حضرها.

والشهر على هذا ظرف (مفعول فيه) لفعل شهد أي حضر في الشهر ولم يكن مسافرا.

وهذا أنسب لقوله تعالى بعد : (وَمَنْ كانَ مَرِيضاً أَوْ عَلى سَفَرٍ) أي على متن سفر.

ومن ذلك يفهم : أنّ من حضر بعضه يصوم أيّام حضوره. كما فهمه ابن جرير الطبري (٥).

أمّا إذا أخذنا شهد بمعنى علم ـ شهودا بالبصيرة واليقين ، لا بالبصر والعيان صرفا ـ فيكون انتصاب الشهر على المفعول به بتقدير مضاف أي علم بحلول الشهر ، سواء كان برؤية الهلال ، فيكون الشهود بالإبصار سببا للشهود بالعلم واليقين أم كان بما أوتي من علم الحساب على ما يراه المنجّمون (٦).

__________________

(١) هود ١١ : ١٠٣. تمام الآية : (ذلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ وَذلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ).

(٢) الإسراء ١٧ : ٧٨.

(٣) سورة ق ٥٠ : ٢١.

(٤) لسان العرب ٣ : ٢٣٩ ـ ٢٤١.

(٥) راجع آخر ما نقلنا من كلامه.

(٦) وقد سبق عن بعض السلف.

٥٠٨

وهذا المعنى الثاني أنسب لما ورد من تفسير الشهر بالهلال ، كما حكي عن الزجّاج (١) ، وأنشد في الأساس (٢) قول ذي الرمّة :

فأصبح أجلى الطرف ما يستزيده

يرى الشّهر قبل الناس وهو نحيل

أي يرى هلال الشّهر.

قيل : سمّي الشهر شهرا باسم الهلال إذا أهلّ أي شهر وظهر ، والعرب تقول : رأيت الشهر : أي رأيت هلاله ، كما في قول ذي الرمّة (٣).

وقال ابن الأثير : الشهر الهلال ، سمّي به لشهرته وظهوره.

[٢ / ٤٧٨٨] وفي الحديث : «صوموا الشّهر وسرّه» (٤) أراد صوموا أوّل الشهر وآخره. وقيل : سرّه وسطه.

[٢ / ٤٧٨٩] ومنه الحديث : «الشهر تسع وعشرون» (٥). وفي رواية «إنّما الشهر». أي إنّ فائدة ارتقاب الهلال ليلة تسع وعشرين ليعرف نقص الشهر قبله. وإن أريد به الشهر نفسه فتكون اللام فيه للعهد (٦).

* * *

وكلّ ما ورد من تعليق الصوم والإفطار على رؤية الهلال ، قد يكون تأييدا لهذا المعنى إن أريد به تفسير الآية ، لا مجرّد بيان ما يترتّب عليها من أحكام ، وعليه فتكون الرؤية رمزا للعلم بالإهلال من أيّ طريق كان لا مجرّد الإبصار بالعين.

ملحوظة

قد يزعم البعض أنّ تعليق وجوب الصوم على رؤية الهلال ، يفضي إلى اختصاص وجوب الصوم بمن شاهد الهلال بشخصه دون غيره ممّن لم يشاهد الهلال.

__________________

(١) قال الزجاج : سمّي الشهر شهرا لشهرته وبيانه. اللسان ٤ : ٤٣٢.

(٢) أساس البلاغة للزمخشري ١ : ٥١١. يقال : وطلع الشهر أي الهلال.

(٣) اللسان ٤ : ٤٣٢.

(٤) أبو داوود ١ : ٥٢٣ / ٢٣٢٩ ، عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

(٥) الأمّ ٢ : ١٠٣.

(٦) النهاية لابن الأثير ٢ : ٥١٥. «مادّة شهر».

٥٠٩

قال ابن عاشور : وليس «شهد» بمعنى «رأى» ؛ لأنّه لا يقال : شهد وإنّما يقال : شاهد. ولا الشهر هنا بمعنى هلاله ، لأنّ الهلال لا يصحّ أن يتعدّى إليه فعل «شهد» بمعنى حضر!

قال : ومن يفهم الآية على ذلك فقد أخطأ خطأ بيّنا ، وهو يفضي إلى أنّ كلّ فرد من الأمّة معلّق وجوب صومه على مشاهدته هلال رمضان ، فمن لم ير الهلال لا يجب عليه الصوم ، وهذا باطل (١).

قلت : تعليق وجوب الصوم على الرؤية ، لا يعني الرؤية الشخصيّة ، وإنّما المراد حصول الرؤية وتحقّقها خارجا ، بمعنى ثبوتها واقعا (٢) ، فعندها يجب الصوم على العموم. وهكذا في كلّ حكم من الأحكام الشرعيّة حيث كان مورد ابتلاء العموم وكانت صبغته صبغة جماعيّة ، وإن كان التكليف المترتّب موجّها إلى آحاد الأفراد.

فهناك فرق بين حكم الشارع : إذا رأيتم القذر لطّخ ثوبكم فاغسلوه. أو حكمه : إذا رأيتم الفجر طالعا فصلّوا الغداة. فإنّ الأوّل يخصّ أولئك الّذين تلطّخ ثوبهم بالنجس ولا يتعدّاهم. أمّا الثاني فيعمّ الجميع ، سواء من رأى ومن لم ير ، ويكفي بلوغه الرؤية.

* * *

على أنّ هناك مسألة أصوليّة فيما إذا أخذ «العلم وقبيله» موضوعا أو شرطا لثبوت حكم شرعيّ ، فإنّ العلم حينذاك قد لحظ طريقا إلى ثبوت الموضوع وليس بنفسه موضوعا.

فقول الشارع : (حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ) ، كان المناط : طلوع الفجر ذاته ، أمّا التبيّن فقد أخذ طريقا لإثباته ، ولا موضوعيّة له.

وهذا من إفادات سيّدنا الأستاذ الإمام الخوئي ـ طاب ثراه ـ وتفصيل الكلام موكول إلى مجاله في علم الأصول. وسنذكر كلامه بشأن مسألة الرؤية هنا.

* * *

[٢ / ٤٧٩٠] أخرج النسائي بالإسناد إلى عكرمة عن ابن عبّاس قال : «جاء أعرابيّ إلى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقال : إنّي أبصرت الهلال الليلة. قال : أتشهد أن لا إله إلّا الله وأنّ محمّدا رسول الله؟ قال : نعم. قال : يا بلال أذّن في الناس فليصوموا غدا» (٣).

__________________

(١) التحرير والتنوير ٢ : ١٧٢.

(٢) وتكفي إقامة حجّة شرعيّة على ثبوتها من بيّنة أو شهرة قاطعة ، ونحو ذلك.

(٣) النسائي ٢ : ٦٨ ؛ سنن النسائي ٤ : ١٣٢ ، باب قبول شهادة الرجل الواحد على هلال شهر رمضان.

٥١٠

[٢ / ٤٧٩١] وأخرج الحاكم ـ وصحّحه ـ عن عبد الله بن عمر قال : تراءى الناس الهلال ، فأخبرت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّي رأيته ، فصام وأمر الناس بصيامه (١).

[٢ / ٤٧٩٢] وهكذا أخرج الدارمي بالإسناد إلى نافع عن عبد الله بن عمر قال : تراءى الناس الهلال ، فأخبرت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّي رأيته ، فصام وأمر الناس بالصيام (٢).

[٢ / ٤٧٩٣] وأخرج عن عكرمة عن ابن عبّاس قال : «جاء أعرابيّ إلى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وقال : إنّي رأيت الهلال ، فقال : أتشهد أن لا إله إلّا الله وأنّي رسول الله؟ قال : نعم. قال : يا بلال ، ناد في الناس فليصوموا غدا» (٣).

وهكذا رواه الترمذي وقال : والعمل على هذا الحديث عند أكثر أهل العلم ، قالوا : تقبل شهادة رجل واحد في الصيام ، وبه يقول ابن المبارك والشافعيّ وأحمد وأهل الكوفة (٤).

[٢ / ٤٧٩٤] وأخرج أبو داوود عن سماك بن حرب عن عكرمة قال : إنّهم شكّوا في هلال رمضان مرّة ، فأرادوا أن لا يقوموا ولا يصوموا ، فجاء أعرابيّ من الحرّة ، فشهد أنّه رأى الهلال. فأتي به النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقال : «أتشهد أن لا إله إلّا الله وأنّي رسول الله؟ قال : نعم ، وشهد أنّه رأى الهلال ، فأمر بلالا فنادى في الناس أن يقوموا ويصوموا».

وهكذا أخرج حديث ابن عمر الآنف (٥).

[٢ / ٤٧٩٥] وأخرج البيهقي عن قتادة عن أنس أنّ عمومة له من الأنصار شهدوا عند النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على رؤية الهلال ، فأمر الناس أن يخرجوا لعيدهم من الغد (٦).

[٢ / ٤٧٩٦] وأخرج الدار قطني : أنّ رجلا شهد عند عليّ بن أبي طالب عليه‌السلام على رؤية هلال رمضان ، فصام ، وأمر الناس أن يصوموا. وقال : «أصوم يوما من شعبان أحبّ إليّ من أن أفطر يوما من رمضان» (٧).

__________________

(١) الحاكم ١ : ٤٢٣.

(٢) الدارمي ٢ : ٤.

(٣) المصدر : ٥.

(٤) الترمذي ٣ : ٧٥ / ٦٩١ ، ذيل الباب ٧.

(٥) أبو داوود ٢ : ٣٠٢.

(٦) البيهقي ٤ : ٢٤٩ ـ ٢٥٠ ، باب الشهادة على رؤية الهلال.

(٧) الدارقطني ٢ : ١٤٩ ، وفيه : أحسبه قال : وأمر الناس أن يصوموا ؛ القرطبي ٢ : ٢٩٤.

٥١١

[٢ / ٤٧٩٧] وروى ابن بابويه الصدوق بالإسناد إلى محمّد بن قيس عن الإمام أبي جعفر الباقر عليه‌السلام قال : قال أمير المؤمنين عليه‌السلام : «إذا رأيتم الهلال فافطروا ، أو شهد عليه عدل من المسلمين» (١)

وهكذا رواه الشيخ في التهذيب والاستبصار (٢). إلّا أنّه في الأخير : «أو تشهد عليه بيّنة عدول».

ورواه الحرّ العاملي : «أو شهد عليه بيّنة عدل من المسلمين» وعقّبه بقوله : العدل يطلق على الواحد والكثير ، فيحمل على الاثنين فصاعدا. بناء على سقوط لفظ «بيّنة». ومع وجوده أو وجود «عدول» كما في بعض النسخ ، لا شبهة فيه (٣).

[٢ / ٤٧٩٨] وروى أبو جعفر الكليني بالإسناد إلى حمّاد بن عثمان عن الحلبي عن الإمام أبي عبد الله عليه‌السلام أنّ عليّا عليه‌السلام كان يقول : «لا أجيز في الهلال إلّا شهادة رجلين عدلين» (٤).

[٢ / ٤٧٩٩] وروى الشيخ بإسناده إلى أبي أيّوب إبراهيم بن عثمان الخزّاز عن الإمام أبي عبد الله عليه‌السلام قال : قلت له : كم يجزى في رؤية الهلال؟ فقال : «إنّ شهر رمضان فريضة من فرائض الله ، فلا تؤدّوا بالتظنّي ، وليس رؤية الهلال أن يقوم عدّة فيقول واحد : قد رأيته ، ويقول الآخرون : لم نره! إذا رآه واحد رآه مائة ، وإذا رآه مائة رآه ألف! ولا يجزي في رؤية الهلال إذا لم يكن في السماء علّة أقلّ من شهادة خمسين. وإذا كانت في السماء علّة قبلت شهادة رجلين يدخلان ويخرجان من مصر» (٥).

[٢ / ٤٨٠٠] وهكذا روى بالإسناد إلى يونس بن عبد الرحمان عن حبيب الخزاعي قال : قال أبو عبد الله عليه‌السلام : «لا تجوز الشهادة في رؤية الهلال دون خمسين رجلا عدد القسامة ، وإنّما تجوز شهادة رجلين إذا كانا من خارج المصر وكان بالمصر علّة فأخبرا أنّهما رأياه» (٦).

[٢ / ٤٨٠١] وبالإسناد إلى عبد الله بن بكير بن أعين عن الإمام أبي عبد الله عليه‌السلام قال : «صم للرؤية وأفطر للرؤية ؛ وليس رؤية الهلال أن يجيء الرجل والرجلان فيقولان : رأينا ؛ إنّما الرؤية أن يقول القائل : رأيت ، فيقول القوم : صدق!» (٧)

__________________

(١) الفقيه ٢ : ٧٧ / ٤.

(٢) التهذيب ٤ : ١٥٨ / ١٢ ؛ الاستبصار ٢ : ٦٤ / ٢٠٧.

(٣) الوسائل ١٠ : ٢٨٨ / ٦.

(٤) الكافي ٤ : ٧٦ / ٢ ؛ الوسائل ١٠ : ٢٨٦ ، باب ١١.

(٥) التهذيب ٤ : ١٦٠ / ٤٥١ ؛ الوسائل ١٠ : ٢٨٩ / ١٠.

(٦) التهذيب ٤ : ١٥٩ / ٤٤٨ ؛ الاستبصار ٢ : ٧٤ / ٢٢٧ ؛ الوسائل ١٠ : ٢٩٠ ـ ٢٩١ / ١٣.

(٧) التهذيب ٤ : ١٦٤ / ٤٦٤.

٥١٢

[٢ / ٤٨٠٢] وبالإسناد إلى أبي بصير عن أبي عبد الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه سئل عن اليوم الّذي يقضى من شهر رمضان؟ فقال : «لا تقضه إلّا أن يثبت شاهدان عدلان من جميع أهل الصلاة متى كان رأس الشهر ...» (١).

[٢ / ٤٨٠٣] وبالإسناد إلى منصور بن حازم عنه عليه‌السلام قال : «صم لرؤية الهلال وأفطر لرؤيته ، فإن شهد عندك شاهدان مرضيّان بأنّهما رأياه فاقضه» (٢).

[٢ / ٤٨٠٤] وبالإسناد إلى عبد الرحمان قال : سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن هلال رمضان يغمّ علينا في تسع وعشرين من شعبان؟ فقال : «لا تصم ، إلّا أن تراه. فإن شهد أهل بلد آخر فاقضه» (٣).

* * *

قال سيّدنا الأستاذ الإمام الخوئي ـ طاب ثراه ـ : المستفاد من الآية المباركة (فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ) والروايات الكثيرة الناطقة بوجوب الصيام في شهر رمضان ، أنّ هذا الشهر بوجوده الواقعي موضوع لوجوب الصوم ، فلا بدّ من إحرازه بعلم أو علميّ (٤) في ترتّب الأثر ، كما هو الشأن في سائر الموضوعات الخارجيّة المعلّق عليها أحكام شرعيّة. وقد دلّت الروايات الكثيرة أيضا أنّ الشهر الجديد إنّما يتحقّق بخروج الهلال عن تحت الشعاع ، بمثابة يكون قابلا للرؤية. وعليه فإن رآه المكلّف بنفسه فلا إشكال.

[٢ / ٤٨٠٥] وفي صحيحة عليّ بن جعفر أنّه سأل أخاه موسى بن جعفر عليهما‌السلام عن الرجل يرى الهلال في شهر رمضان وحده ، لا يبصره غيره ، أله أن يصوم؟ قال : «إذا لم يشكّ فيه فليصم ، وإلّا فليصم مع الناس إذا صاموا» (٥).

ونحوه ما لو رآه غيره على نحو ثبتت الرؤية بالتواتر ، إذ يدلّ عليه حينئذ كلّ ما دلّ على تعليق الإفطار والصيام بالرؤية ، لوضوح عدم إرادة رؤية الشخص بنفسه ، إذ قد يكون أعمى أو يفوت عنه وقت الرؤية ونحو ذلك من الموانع. ويلحق به الشياع المفيد للعلم ، كما دلّت عليه النصوص المتظافرة.

__________________

(١) التهذيب ٤ : ١٥٧ / ٤٣٨ ؛ الوسائل ١٠ : ٢٨٧ / ٥.

(٢) التهذيب ٤ : ١٥٧ / ٤٣٦ ؛ الاستبصار ٢ : ٦٣ / ٧.

(٣) الاستبصار ٢ : ٦٤ / ٢٠٦ ـ ٧ ؛ التهذيب ٤ : ١٥٧ / ١١.

(٤) المقصود من العلميّ : قيام حجّة شرعيّة على الثبوت ، فإنّها بمنزلة العلم في حجّيته.

(٥) قرب الإسناد : ١٠٣ ؛ الوسائل ١٠ : ٢٦١ / ٢.

٥١٣

[٢ / ٤٨٠٦] منها موثّقة ابن بكير عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : «صم للرؤية وأفطر للرؤية ، وليس رؤية الهلال أن يجيء الرجل والرجلان فيقولان : رأينا ، إنّما الرؤية أن يقول القائل : رأيت ، فيقول القوم : صدق» (١).

فإنّ تصديق القوم كناية عن شياع الرؤية بينهم من غير نكير ، فيكون ذلك موجبا لليقين!

قال : أمّا إذا لم يره بنفسه ولم يتحقّق له العلم الوجداني بثبوت الهلال ، فلا محالة ينتقل الدّور إلى الطريق العلميّ الّذي هو حجّة شرعيّة.

وهل يثبت الهلال بإخبار عدل واحد؟

قال ـ طاب ثراه ـ : نحن وإن كنّا نعتبر خبر العدل ، بل خبر مطلق الثقة ، حجّة في الموضوعات كما في الأحكام ، استنادا إلى بناء العقلاء وسيرتهم على اعتباره ، سواء في الأحكام أم في الموضوعات ، ما عدا موارد خاصّة خرجت بالدليل ، كما في باب القضاء والحدود وسائر الجنايات.

إلّا أنّ هنا في مسألة الهلال ، استفاضت الروايات الناطقة بعدم ثبوت الهلال ـ كالطلاق ـ إلّا بشهادة عدلين (٢) ، وقد مرّت عليك وتجدها مجموعة في الوسائل (٣).

* * *

وذهب الشيخ الفقيه الأجلّ أبو يعلى حمزة بن عبد العزيز الملقّب بسلّار (٤) ، إلى ثبوت الهلال بشهادة العدل الواحد. قال : ويعرف دخول شهر رمضان برؤية الأهلّة ، إذا تظاهرت ، أو شهد بها في أوّله واحد عدل. وفي آخره اثنان عدلان. وإن تعذّرت رؤية الأهلّة ، فالعدد (٥).

__________________

(١) الوسائل ١٠ : ٢٩١ / ١٤ ، باب ١١.

(٢) مستند العروة الوثقى (محاضرات السيد الأستاذ ـ) بقلم الفاضل البروجردي ـ كتاب الصوم ـ ٢ : ٦٣ ـ ٦٥.

(٣) الوسائل ١٠ : ٢٨٦ ـ ٢٨٩ ، باب ١١.

(٤) كان متكلّما أصوليّا فقيها أديبا نحويّا ذا شهرة واسعة بين العلماء ، يقفون عند أقواله وينقلونها في كتبهم. قال السيّد الأمين : وحسبك أن يكون من أجلّة تلامذة المفيد والمرتضى. وقال العلّامة في الخلاصة : شيخنا المتقدّم في الفقه والأدب. كان ثقة وجها. توفّي : ٤٦٣. (أعيان الشيعة ٧ : ١٧٠).

(٥) المراسم العلويّة : ٩٤.

٥١٤

وذكر العلّامة الحلّي ـ سندا لهذا القول ـ أمورا :

[٢ / ٤٨٠٧] منها : ما رواه ابن بابويه الصدوق ، وأبو جعفر الطوسي بالإسناد إلى محمّد بن قيس عن الإمام أبي جعفر الباقر عليه‌السلام قال : قال أمير المؤمنين عليه‌السلام : «إذا رأيتم الهلال فأفطروا ، أو شهد عليه عدل من المسلمين» (١).

ولأنّه خبر من وقت فريضة ، فيما طريقه المشاهدة ، فيقبل من الواحد كالخبر بدخول وقت الفريضة.

ولأنّه خبر عن أمر دينيّ يشترك فيه المخبر والمخبر ، فيقبل من الواحد كالرواية.

ولأنّ شهادة الواحد تفيد الرجحان لكونه من رمضان ، ومرجوحيّة كونه من شعبان ، ولا يجوز عقلا العمل بالمرجوح ، فيتعيّن العمل بالراجح ؛ إذ لا خروج عن النقيضين عملا وإبطالا (٢).

ثمّ أخذ في الإجابة عليها بأنّ محمّد بن قيس مشترك بين جماعة ، منهم : أبو أحمد ، روى عن أبي جعفر عليه‌السلام وهو ضعيف. فلعلّه هذا ، فلا حجيّة فيه. سلّمنا صحّة السند ، لكنّ العدل كما يصدق على الواحد ، يصدق على الكثير. والقياسان ضعيفان. والأصل ممنوع. ونمنع إفادة خبر الواحد هنا الرجحان ، لأنّ مشاركة الغير في الإبصار مع عدم الرؤية ، واستصحاب حال الشهر ، يفيدان ظنّ الاشتباه على الرائي (٣).

قلت : محمّد بن قيس ، وإن كان مشتركا بين عدّة رجال ، لكن المنصرف عند الإطلاق هو أبو عبد الله البجلي ـ في الأكثر ـ أو أبو نصر الأسدي. وهما ثقتان جليلان لا موضع للغمز فيهما. ذكر سيّدنا الأستاذ أسانيد الشيخ إلى محمّد بن قيس ـ ومنها هذه الرواية ـ وقال : محمّد بن قيس هذا مشترك بين أبي عبد الله البجلي وأبي نصر الأسدي. وهما مشهوران معروفان (٤).

وذكر محمّد بن قيس البجلي وقال : ثقة عين (٥). وقال : طريق الصدوق إليه صحيح (٦). وذكر محمّد بن قيس الأسدي فنقل عن الشيخ أنّه قال : ثقة ثقة (٧). ثمّ قال : لا شكّ في انصراف محمّد بن

__________________

(١) الفقيه ٢ : ٧٧ / ٣٣٧ ـ ٤.

(٢) راجع : المختلف ، للعلامة الحلّي ٣ : ٣٥٥ ـ ٣٥٦.

(٣) راجع : المختلف ٣ : ٣٥٦ ، وتذكرة الفقهاء ٦ : ١٢٩ ـ ١٣٠.

(٤) معجم رجال الحديث ١٨ : ١٧٦ و ١٧٨.

(٥) المصدر : ١٨٠.

(٦) المصدر : ١٨١.

(٧) المصدر : ١٨٢.

٥١٥

قيس ـ عند الإطلاق ـ إلى أحدهما (١).

* * *

وذكر الشيخ أبو عبد الله المفيد رواية الأجلّاء بأنّ شهر رمضان قد يكون تسعة وعشرين يوما وقد يكون ثلاثين يوما ، وعدّهم من فقهاء أصحاب الأئمّة والأعلام الرؤساء المأخوذ عنهم الحلال والحرام ، والفتيا والأحكام ، الّذين لا يطعن عليهم ، ولا طريق إلى ذمّ واحد منهم. وهم أصحاب الأصول المدوّنة ، والمصنّفات المشهورة ، وكلّهم قد أجمعوا نقلا وعملا على أنّ شهر رمضان قد ينقص وقد يتمّ ، وعرفوه في عقيدتهم واعتمدوه في ديانتهم.

ثمّ أخذ في ذكر أحاديثهم. ومنها : ما رواه محمّد بن قيس :

[٢ / ٤٨٠٨] قال : أخبرني أبو القاسم جعفر بن محمّد بن قولويه عن محمّد بن همام عن عبد الله بن جعفر عن إبراهيم بن مهزيار عن الحسين بن سعيد عن يوسف بن عقيل عن محمّد بن قيس عن أبي جعفر محمّد بن علي عليهما‌السلام قال : «قال أمير المؤمنين عليه‌السلام إذا رأيتم الهلال فأفطروا أو شهد عليه عدل (٢) من المسلمين» (٣).

هكذا ذكره الشيخ في التهذيب (٤) شرحا لمقنعة شيخه المفيد ، وكذا الصدوق في «من لا يحضره الفقيه» (٥) ، بلفظ «عدل» مفردا.

* * *

أمّا قول العلّامة إنّ لفظة «عدل» تطلق على الواحد والكثير ، فصحيح ، ولكن للمستدلّ أن يأخذ بإطلاق الكلام ، ليشمل الواحد أيضا كما يشمل الكثير.

أمّا قياس الإخبار بالهلال بالإخبار بدخول الوقت ، فحقّ ؛ إذ لا فرق بين الأمرين ، وكلاهما إخبار عن دخول وقت الفريضة! فإن صحّ أحدهما صحّ الآخر ، لصحّة الاعتماد على إخبار الثقة في الموضوعات ، إذا لم يكن موضع اتّهام.

__________________

(١) المصدر : ١٨٣.

(٢) كانت النسخة «عدول». وصحّحناه على نسخة الفقيه والتهذيب. وقد عرفت أنّه المشهور المنقول.

(٣) الرسالة العدديّة : ٢٥ ـ ٢٦ و ٢٨ ـ ٢٩. (المجلّد التاسع) مصنّفات الشيخ المفيد.

(٤) التهذيب ٤ : ١٥٨ / ٤٤٠ ـ ١٢.

(٥) الفقيه ٢ : ٧٧ / ٤ ـ ٣٣٧.

٥١٦

وكذا قياس الخبر عن الموضوعات بالخبر عن الأحكام ، فإنّ الراوي للحديث في الأحكام الشرعيّة ، مصدّق لدى الجميع إذا كان ثقة أمينا. وهو أهمّ (١) من موضوع حكم بالذات. فلو صدّق في الأهمّ فلا مجال لعدم تصديقه في غير الأهمّ.

وأمّا استصحاب الحال ، فينقضه وجود الدليل القاطع ، وهو خبر العدل ، الّذي سبق أن نبّهنا على حجيّته ، باعتباره بيّنة شرعية ، على الإطلاق.

وما ورد من اعتبار التعدّد وربما بلغ الخمسين ، فإنّما هو لمكان الاتّهام ـ كما جاءت الإشارة إليه في نفس الروايات ـ لا ما إذا حصل الاطمئنان واليقين لدى العرف والوجدان السليم.

قوله تعالى : (فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ) أي يقضى بعدد الأيّام الّتي أفطر ، مخيّرا بين أن يوصلها أو يفرّقها .. وذلك لإطلاق الدليل :

[٢ / ٤٨٠٩] أخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي في سننه عن ابن عبّاس في قضاء رمضان قال : إن شاء تابع وإن شاء فرّق ، لأنّ الله تعالى يقول : (فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ)(٢).

[٢ / ٤٨١٠] وأخرج ابن أبي شيبة عن عكرمة : (فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ) قال : إن شاء وصل وإن شاء فرّق (٣).

[٢ / ٤٨١١] وأخرج مالك وابن أبي شيبة عن ابن عمر قال : يصوم شهر رمضان متتابعا من أفطره من مرض أو سفر (٤).

[٢ / ٤٨١٢] وأخرج ابن المنذر والدارقطني ـ وصحّحه ـ والبيهقي في سننه عن عائشة قالت : نزلت الآية هكذا : «فعدّة من أيّام أخر متتابعات» فسقطت «متتابعات» (٥).

__________________

(١) لأنّه إسناد حكم شرعيّ إلهي إلى معصوم ، ويكون مورد الابتلاء أبدا. وهذا على خلاف موضوع خارجيّ بالذات لو أخطأ فيه ، لم يترتّب عليه أثر فادح.

(٢) الدرّ ١ : ٤٦٣ ؛ ابن أبي حاتم ١ : ٣٠٦ ـ ٣٠٧ / ١٦٣٣ ؛ البيهقي ٤ : ٢٥٨.

(٣) الدرّ ١ : ٤٦٣ ؛ المصنّف ٢ : ٤٤٩ / ١٥ ، باب ٢٦.

(٤) الدرّ ١ : ٤٦٣ ؛ الموطّأ ١ : ٣٠٤ / ٤٥ ؛ المصنّف ٢ : ٤٤٩ / ٢ ، باب ٢٧ ؛ القرطبي ٢ : ٢٨٢.

(٥) الدرّ ١ : ٤٦٤ ؛ الدارقطني ٢ : ١٩٢ / ٦٠ ؛ سنن البيهقي ٤ : ٢٥٨ ؛ القرطبي ٢ : ٢٨١.

٥١٧

قولها : «فسقطت ...» يشي بتحريف أثيم حصل بعد. الأمر الّذي تأباه طبيعة القرآن المصونة عن تناول أيدى المبطلين. فلعلّ الأمر قد اشتبه عليها فحسبت من التفسير نصّا ، نظير ما حسبته من تشريع الرضعات آية قرآنيّة أكلها داجن البيت؟!

وعبثا حاول بعضهم تأويل مثل ذلك إلى كونه من منسوخ التلاوة أو الإنساء (١) وقد أسلفنا الكلام فيهما عند مباحثنا عن مسألة «صيانة القرآن من التحريف».

[٢ / ٤٨١٣] وأخرج وكيع وابن أبي حاتم عن أبي هريرة ، أنّ امرأة سألته : كيف تقضي رمضان؟ فقال : صومي كيف شئت وأحصي العدّة ، فإنّما (يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ)(٢).

قوله تعالى : (يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ)

تعليل لطيف لرخصه تعالى بشأن هذه الأمّة ، حيث السهولة والسماح في شريعتها بصورة عامّة ، وذلك بفضل عنايته تعالى بشأن عباده المؤمنين.

[٢ / ٤٨١٤] روى الشيخ أبو جعفر الطوسي بالإسناد إلى أبي أسود الدّئلي عن أبي ذرّ ـ رضوان الله عليه ـ قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ : «بعثت بالحنيفيّة السّمحة ...» (٣).

[٢ / ٤٨١٥] وروى أبو جعفر البرقي بالإسناد إلى أبي عبد الله عليه‌السلام قال : «إنّ الله ـ تبارك وتعالى ـ أعطى محمّدا شرائع نوح وإبراهيم وموسى وعيسى عليهم‌السلام : التوحيد ، والإخلاص ، وخلع الأنداد ، والفطرة الحنيفيّة (٤) السّمحة ، لا رهبانيّة ولا سياحة (٥). أحلّ فيها الطيّبات ، وحرّم فيها الخبيثات ، ووضع عنهم إصرهم والأغلال الّتي كانت عليهم ، فعرف فضله بذلك» (٦).

__________________

(١) قال البيهقي ـ بعد نقل كلامها ـ : أي فنسخت. يعني : نسخ التلاوة. وهو باطل بالإجماع. راجع : الجزء الثامن من التمهيد : ٢٤ ـ ٣٣.

(٢) الدرّ ١ : ٤٦٣ ؛ ابن أبي حاتم ١ : ٣١٣ / ١٦٦١.

(٣) الأمالي ٢ : ١٤١ ، مجلس يوم الجمعة ٤ / المحرم / ٤٥٧ ، في وصيّته صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لأبي ذرّ ؛ البحار ٧٩ : ٢٣٣ / ٥٨ و ٨٧ : ٣٣٣ / ٢.

(٤) أي الفطرة المستقيمة ، المائلة عن كلّ زيف وحيف.

(٥) الرهبانيّة : الاعتزال عن الجماعة إلى الإنزواء للعبادة. والسياحة الممقوتة هنا هي الّتي يدور صاحبها في البلاد للاستجداء والتكدّي. تاركا الاشتغال بالكسب والتجارة والارتزاق بجهد العمل. واصطلح أخيرا تسميتهم بالدراويش.

(٦) المحاسن ١ : ٢٨٧ / ٤٣١ ؛ البحار ١٦ : ٣٣٠ / ٢٦ و ٦٥ : ٣١٧ / ١ ، باب ٢٦.

٥١٨

ورواه أبو جعفر الكليني بنفس الإسناد (١).

[٢ / ٤٨١٦] وروى أبو جعفر الكليني بالإسناد إلى ابن القدّاح عن الإمام أبي عبد الله عليه‌السلام قال : جاءت امرأة عثمان بن مظعون إلى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقالت : يا رسول الله ، إنّ عثمان يصوم النهار ويقوم الليل! فخرج رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مغضبا يحمل نعليه حتّى جاء إلى عثمان ، فوجده يصلّي! فانصرف عثمان (٢) حين رأى رسول الله. فقال له : «يا عثمان ، لم يرسلني الله بالرّهبانيّة ، ولكن بعثني بالحنيفيّة السهلة السمحة ؛ أصوم وأصلّي ، وألمس أهلي. فمن أحبّ فطرتي فليستنّ بسنّتي ، ومن سنّتي النكاح» (٣).

[٢ / ٤٨١٧] وروى بالإسناد إلى جابر بن عبد الله الأنصاري قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «ألا أخبركم بخير رجالكم؟ قلنا : بلى ، يا رسول الله ، قال : إنّ من خير رجالكم التقيّ النقيّ السّمح الكفّين ، النقيّ الطرفين ، البرّ بوالديه ، ولا يلجىء عياله إلى غيره» (٤).

قوله : النقيّ الطرفين ، أي البطن والفرج ، عن أكل الحرام وارتكاب الفحشاء. أو الفرج والفم ، عن الشبهة والخنى. قال ابن الأثير : طرفا الإنسان ، لسانه وذكره. ومنه قولهم : لا يدرى أيّ طرفيه أطول؟! (٥)

[٢ / ٤٨١٨] وقد روي عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : «إن أكثر ما يدخل به النار من أمّتي الأجوفان! قالوا : يا رسول الله ، وما الأجوفان؟ قال : الفرج والفم. قال : وأكثر ما يدخل به الجنّة تقوى الله وحسن الخلق» (٦).

[٢ / ٤٨١٩] وقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «من ضمن لي ما بين لحييه وما بين رجليه ، ضمنت له الجنّة» (٧).

[٢ / ٤٨٢٠] وأخرج عبد الرزّاق عن معمر عن الزهري عن عروة عن عائشة قالت : والله لقد رأيت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقوم على باب حجرتي ، والحبشة يلعبون بالحراب (٨) في المسجد ، ورسول الله

__________________

(١) الكافي ٢ : ١٧ ، باب الشرائع.

(٢) أي عن الصلاة ، بمعنى أتمّ الّتي كانت بيده ولم يستأنف أخرى.

(٣) الكافي ٥ : ٤٩٤ ، باب كراهيّة الرهبانيّة ؛ البحار ٢٢ : ٢٦٤ / ٣.

(٤) الكافي ٢ : ٥٧.

(٥) النهاية ٣ : ١٢٠ «مادّة طرف».

(٦) الخصال ١ : ٧٨ / ١٢٦ ؛ البحار ٦٧ : ٣٧٦.

(٧) معاني الأخبار : ٤١١ / ٩٩ ، باب معنى نوادر المعاني.

(٨) حراب جمع حربة : آلة شبه رمح صغير.

٥١٩

يسترني بردائه لأنظر إلى لعبهم من بين أذنه وعاتقه ، ثمّ يقوم (أي يديم وقوفه) من أجلي ، حتّى أكون أنا الّتي أنصرف! قالت : فاقدروا قدر الجارية الحديثة السنّ الحريصة للهو (١).

وأخرجه أحمد عن طريق عبد الرزّاق بنفس الإسناد (٢). والبخاري من طريق معمر (٣) وكذا مسلم من طريق ابن شهاب (٤).

[٢ / ٤٨٢١] وأخرج عبد الرزّاق عن معمر عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة قالت : كنت ألعب باللعب فتأتيني صواحبي ، فإذا دخل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فررن منه ، فيأخذهنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فيرددهنّ إليّ (٥).

وأخرجه أحمد (٦) والبخاري (٧) ومسلم من طريق هشام (٨).

[٢ / ٤٨٢٢] وأخرج عبد الرزّاق عن أنس قال : لمّا قدم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم المدينة ، لعب الحبش بحرابهم فرحا بقدومه (٩).

وأخرجه أبو داوود (١٠) وأحمد (١١) وعبد بن حميد (١٢) من طريق عبد الرزّاق.

[٢ / ٤٨٢٣] وأخرج عن المطّلب بن عبد الله عمّن سمع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول : «ألهوا والعبوا ، فإنّي أكره أن يرى في دينكم غلظة» (١٣).

[٢ / ٤٨٢٤] وهكذا أخرج أحمد ـ بعد حديث عائشة ـ أنّها قالت : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يومئذ :

__________________

(١) كنز العمّال ١٥ : ٢١٢ / ٤٠٦١٦.

(٢) مسند أحمد ٦ : ١٦٦.

(٣) البخار ٦ : ١٤٧. وفيه : فاقدروا قدر الجارية الحديثة السّنّ تسمع اللهو.

(٤) مسلم ٣ : ٢٢.

(٥) المصنّف ١٠ : ٦٩.

(٦) مسند أحمد ٦ : ١٦٦.

(٧) البخاري ٧ : ١٠٢. وفيه «وكان لي صواحب يلعبن معي ، فكان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إذا دخل يتقمّعن منه فيسرّبهنّ إليّ فيلعبن معي!». يتقمّعن أي أمسكن عن اللعب واختفين ؛ البيهقي ٧ : ٩٢.

(٨) مسلم ٧ : ١٣٥ ، باب في فضل عائشة.

(٩) المصنّف ١٠ : ٤٦٦ / ١٩٧٢٣.

(١٠) أبو داوود ٢ : ٤٦١ / ٤٩٢٣ ؛ البيهقي ٧ : ٩٢.

(١١) مسند أحمد ٣ : ١٦١.

(١٢) منتخب مسند عبد بن حميد : ٣٧١ / ١٢٣٩.

(١٣) أورده المتّقي الهندي في كتاب اللهو واللعب من كنز العمّال (١٥ : ٢١٢ / ٤٠٦١٦) نقلا عن الجامع الكبير لعبد الرزّاق ؛ وراجع : نهج الفصاحة ٢ : ٨٤٣ / ٥٢٢٦ والجامع الصغير ١ : ٢٣٩ / ١٥٨٢.

٥٢٠