التفسير الأثري الجامع - ج ٤

الشيخ محمّد هادي معرفة

التفسير الأثري الجامع - ج ٤

المؤلف:

الشيخ محمّد هادي معرفة


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة التمهيد ـ قم
المطبعة: ستاره
الطبعة: ١
ISBN: 978-600-5079-05-0
ISBN الدورة:
978-600-5079-08-1

الصفحات: ٥٦٠

ما وعدني ربّي حقّا ، فهل وجدت ما وعدك ربّك حقّا؟ ثمّ قال : أضجعوا كعبا (١). وسار قليلا فمرّ بطلحة بن عبد الله صريعا ، فقال : أجلسوه فقال : يا طلحة ، قد وجدت ما وعدني ربّي حقّا ، فهل وجدت ما وعدك ربّك حقّا؟ ثمّ أمر بإضجاعه. فقال له بعض أصحابه : يا أمير المؤمنين ، ما كلامك لقتيلين لا يسمعان منك؟! فقال : مه يا رجل ، فو الله لقد سمعا كلامي كما سمع أهل القليب كلام رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم».

قال المفيد : وهذا من الأخبار الدالّة على أنّ بعض من يموت تردّ إليه روحه لتنعيمه أو لتعذيبه ، وليس بعامّ في كلّ من يموت (٢).

[٢ / ٣٩٩٧] وهكذا خطابه عليه‌السلام مع أهل القبور وقد رجع من صفّين فأشرف على القبور بظاهر الكوفة ، قائلا : «يا أهل الديار الموحشة ، والمحالّ المقفرة ، والقبور المظلمة ، يا أهل التربة ، يا أهل الغربة ، يا أهل الوحدة ، يا أهل الوحشة! أنتم لنا فرط (٣) سابق ، ونحن لكم تبع لاحق ، أمّا الدور فقد سكنت ، وأمّا الأزواج فقد نكحت ، وأمّا الأموال فقد قسمت. هذا خبر ما عندنا ، فما خبر ما عندكم؟»

ثمّ التفت إلى أصحابه فقال : أما لو أذن لهم في الكلام لأخبروكم أنّ (خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوى)(٤).

[٢ / ٣٩٩٨] وروى الكليني بالإسناد إلى حبّة العرني (٥) قال : خرجت مع أمير المؤمنين عليه‌السلام إلى الظّهر فوقف بوادي السّلام (٦) كأنّه مخاطب لأقوام ، فقمت بقيامه حتّى أعييت ، فجلست وقمت عدّة مرّات ، ثمّ قلت : يا أمير المؤمنين ، إنّي أشفقت عليك من طول القيام ، فراحة ساعة؟ فطرحت الرداء ليجلس عليه ، فقال : «يا حبّة ، إن هو إلّا محادثة مؤمن أو مؤانسته! قلت : يا أمير المؤمنين ، وإنّهم لكذلك؟ قال : نعم ، ولو كشف لك لرأيتهم حلقا حلقا محتبين (٧) يتحادثون! فقلت : أجسام أم أرواح؟ فقال : أرواح. وما من مؤمن يموت في بقعة من بقاع الأرض إلّا قيل لروحه : الحقي بوادي

__________________

(١) ذكر ابن أبي الحديد : أنّه عليه‌السلام خاطب كعبا بعد ما أجلس ، فقال : ويل أمّك! لقد كان لك علم لو نفعك ، ولكنّ الشيطان أضلّك فأذلّك فعجّلك إلى النار. (شرح النهج ١ : ٢٤١).

(٢) تصحيح الاعتقاد : ٩٣.

(٣) الفرط : المتقدّم في الماء للارتواء.

(٤) نهج البلاغة ٤ : ٣١ ، قصار الكلم برقم ١٣٠.

(٥) هو أبو قدامة حبّة بن جوين العرني من أجلّة أصحاب عليّ عليه‌السلام ومن شيعته النجباء.

(٦) مقبرة عظيمة بظهر الكوفة ممّا يلي النجف الأشرف.

(٧) أي مجتمعين متمتّعين بالتحادث مع الأحبّاء.

٢٦١

السّلام. وإنّها لبقعة من جنّة عدن» (١).

[٢ / ٣٩٩٩] وروى بالإسناد إلى أحمد بن عمر رفعه عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : قلت له : إنّ أخي ببغداد ، وأخاف أن يموت بها! فقال : «ما تبالي حيثما مات ، أما إنّه لا يبقى مؤمن في شرق الأرض وغربها إلّا حشر الله روحه إلى وادي السلام! فقلت له : وأين وادي السّلام؟ قال : ظهر الكوفة. أما إنّي كأنّي بهم حلق حلق قعود يتحدّثون» (٢).

* * *

وهكذا يدلّ على بقاء الروح بعد مفارقة الجسد ، ما ورد من أنّ أرواح المؤمنين يزورون أهليهم صباح كلّ جمعة ، ليروا ما يبتهجون به ، وكذا بعض الأشقياء ليروا ما يكون حسرة عليهم (٣).

[٢ / ٤٠٠٠] روى الشيخ أبو جعفر الطوسي بالإسناد إلى عبد الله بن سليمان عن الإمام أبي جعفر الباقر عليه‌السلام قال : سألته عن زيارة القبور؟ قال : «إذا كان يوم الجمعة فزرهم ، فإنّه من كان منهم في ضيق وسّع عليه ما بين طلوع الفجر إلى طلوع الشمس ، يعلمون بمن أتاهم في كلّ يوم. فإذا طلعت الشمس كانوا سدى (٤). قلت : فيعلمون بمن أتاهم فيفرحون به؟ قال : نعم ، ويستوحشون له إذا انصرف عنهم» (٥).

[٢ / ٤٠٠١] وروى الكليني بالإسناد إلى حفص بن البختري عن الإمام الصادق عليه‌السلام قال : «إنّ المؤمن ليزور أهله فيرى ما يحبّ ، ويستر عنه ما يكره. وإنّ الكافر ليزور أهله فيرى ما يكره ، ويستر عنه ما يحبّ. قال : ومنهم من يزور كلّ جمعة ، ومنهم من يزور على قدر عمله» (٦).

[٢ / ٤٠٠٢] وروى بالإسناد إلى أبي بصير عن الإمام الصادق عليه‌السلام قال : «ما من مؤمن ولا كافر إلّا وهو يأتي أهله عند زوال الشمس ، فإذا رأى أهله بالصالحات حمد الله على ذلك. وإذا رأى الكافر

__________________

(١) الكافي ٣ : ٢٤٣ / ٤٧٣٤ ، باب أرواح المؤمنين ؛ البحار ٦ : ٢٦٧ ـ ٢٦٨ / ١١٧.

(٢) الكافي ٣ : ٢٤٣ / ٤٧٣٥ ؛ البحار ٦ : ٢٦٨ / ١١٨.

(٣) البحار ٦ : ٢٥٦ ـ ٢٥٨.

(٤) يقال : إبل سدى وسدى : مسيّبة تركت لشأنها ليكون معنى الحديث أنّ أرواح المؤمنين متقيّدة بمضاجعها إلى طلوع الشمس ، وبعد ذلك يطلق سراحهم فيذهبون إلى حيث ترتاح لها نفوسهم وتطيب خاطرهم. فزائر القبور إن تأخّر إلى ما بعد طلوع الشمس لعلّه لا يصادف حضور صاحب القبر ليرتاح به.

(٥) أمالي للطوسي : ٦٨٨ / ١٤٦٢ ـ ٥ ، المجلس ٣٩.

(٦) الكافي ٣ : ٢٣٠ / ٤٧٠٣ ـ ١ ، باب إنّ الميّت يزور أهله.

٢٦٢

أهله يعملون الصالحات كانت حسرة عليه» (١).

[٢ / ٤٠٠٣] وروى بالإسناد إلى إسحاق بن عمّار عن الإمام أبي الحسن الكاظم عليه‌السلام قال : «المؤمن يستأذن ربّه فيزور أهله على قدر منزلته وعلى قدر فضائله ، كلّ يوم أو يومين أو ثلاثة أيّام ، قال : وأدناهم منزلة يزور كلّ جمعة ، عند الزوال. وربما في الشهر وفي السنة على قدر منزلته. فيرجع إلى قرّة عين» (٢).

[٢ / ٤٠٠٤] وروى السيّد ابن طاووس من كتاب أبي القاسم عبد الواحد بن عبد الله بن يونس الموصلي ، قال : أخبرنا محمّد بن عليّ عن أبي جعفر بن عبد الجبّار عن إبراهيم بن عبد الحميد ، قال : كان أبو الحسن موسى عليه‌السلام في دار أبيه فتحوّل منها بعياله. فقلت له : جعلت فداك ، أتحوّلت من دار أبيك؟ فقال : «إنّي أحببت أن أوسّع على عيال أبي ، إنّهم كانوا في ضيق ، فأحببت أن أوسّع عليهم حتّى يعلم أنّي وسّعت على عياله!

قلت : جعلت فداك ، هذا للإمام خاصّة أو للمؤمنين؟ قال : هذا للإمام وللمؤمنين. ما من مؤمن إلّا وهو يلمّ بأهله كلّ جمعة ، فإن رأى خيرا حمد الله عزوجل وإن رأى غير ذلك استغفر واسترجع».

قال السيّد : هذا الحديث يقتضي أنّ أرواح المؤمنين بعد وفاتهم ، بإذن الله ـ جلّ جلاله ـ لها أن تشاهد أهلها ، ويكون ذلك من جملة كراماتهم (٣).

السواد المخترم

كان المتحصّل من كلام شيخنا المفيد رحمه‌الله : أنّ الضرب الآخر من الناس ممّن لم يمحض الإيمان ولا الكفر ، أنّه يلهى عنه وتعدم نفسه عند فساد جسمه ، فلا يشعر بشيء حتّى يبعث يوم القيامة (٤).

ولازم ذلك أنّ الإلهاء عنه محدود وينتهي بقيام الساعة ، فيبعث ويعاد للحساب والجزاء.

__________________

(١) المصدر / ٤٧٠٤ ـ ٢.

(٢) مقتبس من ثلاث روايات كلّها عن الإمام أبي الحسن موسى عليه‌السلام. قوله : وأدناهم منزلة ، لعلّ المراد : أوسطهم شأنا. انظر : الكافي ٣ : ٢٣٠ ـ ٢٣١ / ٤٧٠٥ و ٤٧٠٦ و ٤٧٠٧ ؛ والبحار ٦ : ٢٥٧ / ٩١ و ٩٢ و ٩٣.

(٣) سعد السعود : ٢٣٦ ؛ البحار ٦ : ٢٥٨.

(٤) تصحيح الاعتقاد : ٨٩ (مصنّفات المفيد ٥).

٢٦٣

ولعلّ هذا التحديد مستفاد من قوله تعالى : (وَحَشَرْناهُمْ فَلَمْ نُغادِرْ مِنْهُمْ أَحَداً)(١) غير أنّ الآية ناظرة إلى القوم الجحود ممّن أنكر المعاد وأعرض بجانبه عن قبول الحقّ وقد رفض شريعة السماء ، فكانوا ممّن محضوا الكفر والعصيان محضا وعاندوا وأصرّوا واستكبروا في الأرض استكبارا.

أمّا الّذي لم يمحض الإيمان ولم يمحض الكفر ، فهو خارج عن محدودة الآية الكريمة.

نعم إنّ من الناس من يعيش لاهيا لا يهمّه سوى بطنه وفرجه ، ولا يعبأ بدين ولا شريعة سوى ما حمّلته عليه بيئته الخاصّة ، إن مسلما أو غيره من سائر النحل أو لا دين له. فهو يعيش همجا رعاعا حسب مجرى المحيط الّذي يعيش فيه ، لا رأي له ولا اعتقاد ، ولا عمل عن نيّة صادقة.

ولعلّ أكثرية الناس ـ من أتباع أيّ دين من الأديان ـ على هذا النمط غير الواعي ، يعيشون عيشة سائر الأحياء من حيوان وبهائم وديدان. فكما يلهى عن أولئك بالموت ، كذلك يلهى عن أناس لم يرتق مستواهم عن سائر الحيوان ، فيلهى عنهم أبديّا على غرار أشكالهم من الوحوش.

أمّا قوله تعالى : (وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ)(٢). فلا يعني البعث يوم النشور. بل هو من أشراط الساعة. قال تعالى : (إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ. وَإِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ. وَإِذَا الْجِبالُ سُيِّرَتْ. وَإِذَا الْعِشارُ عُطِّلَتْ. وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ. وَإِذَا الْبِحارُ سُجِّرَتْ)(٣) وبقية الآيات تعني الحوادث يوم الحشر.

والمراد بحشر الوحوش : ذعرها ونفورها عند زلزلة الساعة لأنّ الحشر خروج متبعثر عن إزعاج ونفور وهكذا تذهل الوحوش عند حدوث أهوال قيام الساعة وتهيم لوجهها من شدّة الخوف. كما أنّ الجبال تدكدك وتنسف نسفا من أهوالها.

قال ابن الأثير : وفي الحديث : «انقطعت الهجرة إلّا من ثلاث : جهاد أو نيّة أو حشر». أي جهاد في سبيل الله ، أو نيّة يفارق بها الرجل الفسق والفجور إذا لم يقدر على تغييره ، أو جلاء ينال الناس فيخرجون عن ديارهم.

قال : والحشر هو الجلاء عن الأوطان. وقيل : أراد بالحشر الخروج في النفير إذا عمّ (٤).

قال الله بشأن بني النضير أجلاهم النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن حصونهم : (هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مِنْ دِيارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ ما ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللهِ فَأَتاهُمُ اللهُ مِنْ

__________________

(١) الكهف ١٨ : ٤٧.

(٢) التكوير ٨١ : ٥.

(٣) التكوير ٨١ : ١ ـ ٦.

(٤) النهاية ١ : ٣٨٨.

٢٦٤

حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ ...)(١).

كانوا عاهدوا النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ عند مقدمه إلى المدينة ـ أن لا يساندوا عدوّا له ، فنقضوا العهد ، فأجلاهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن أوطانهم فتفرّقوا بعضا إلى الشام وبعضا إلى غيرها من سائر البلدان.

وعليه فحشر الوحوش تفرّقها ونفورها عن إزعاج داهمهم لدى أشراط الساعة.

وبعد فالكثرة من غوغاء الناس الهمج الرعاع. تنتهي حياتهم بالموت وتفسد نفوسهم مع الأبد. إذ لا فائدة في بعثهم ولا إمكان مؤاخذتهم وهم على تلك الحالة البهيميّة العشواء.

ولعلّ ما ورد في الدعاء المأثور من التعبير بالسواد المخترم ، يعني هذا النمط من الناس.

[٢ / ٤٠٠٥] كما جاء في دعاء الإمام زين العابدين عليه‌السلام كان إذا رأى جنازة يقول : «الحمد لله الّذي لم يجعلني من السواد المخترم» (٢).

والسواد من الناس عامّتهم أي من السواد الأعظم الّذين تذهب حياتهم سدى ، ولا خلاق لهم في الآخرة.

قال العلّامة المجلسي رحمه‌الله : ويمكن أن يراد بالسّواد عامّة الناس ، أي لم يجعلني من عامّة الناس الّذين يموتون على غير بصيرة ولا استعداد للموت.

قال : والمخترم : الهالك أو المستأصل (٣).

قال ابن الأثير : وفي حديث ابن الحنفيّة : «كدت أن أكون السواد المخترم».

يقال : اخترمهم الدهر وتخرّمهم أي اقتطعهم واستأصلهم (٤).

[٢ / ٤٠٠٦] وقال الإمام أمير المؤمنين ـ عليه صلوات المصلّين ـ : «فلا تعدّن عيشا منصرما عيشا. مالك منه إلّا لذّة تزدلف بك إلى حمامك ، وتقرّبك من أجلك ، فكأنّك قد صرت الحبيب المفقود والسواد المخترم» (٥).

السواد هنا : الشبح. يعني : قد صرت كالحبيب المفقود أثره. أو كالشبح يذهب عن البصر فلا شيء وراءه.

__________________

(١) الحشر ٥٩ : ٢.

(٢) الدعوات للراوندي : ٢٦٠ / ٧٤٠ ؛ البحار ٧٨ : ٢٦٦ / ٢٤.

(٣) البحار ٧٨ : ٢٦٦ ـ ٢٦٧.

(٤) النهاية ٢ : ٢٧.

(٥) تحف العقول : ٢٩٩ ؛ البحار ٧٥ : ١٧٩ ـ ١٨٠ / ٥٩.

٢٦٥

وإنسان هكذا ـ لا بصيرة له في الحياة ـ يموت فيذهب سدى ، مهملا لا موضع له هناك أبدا. فقد انقطع أصله واستؤصل جذره.

يدلّنا على ذلك :

[٢ / ٤٠٠٧] ما رواه الكليني إلى أبي بكر الحضرميّ عن الإمام أبي جعفر الباقر عليه‌السلام قال : «قلت له : أصلحك الله ، من المسؤولون في قبورهم؟ قال : من محض الإيمان ومن محض الكفر! قال : قلت : فبقيّة هذا الخلق؟ قال : يلهى ـ والله ـ عنهم ، ما يعبأ بهم!» (١).

فقوله عليه‌السلام : «ما يعبأ بهم!» إشارة إلى عدم الاهتمام بهم ، إذ لا موضع لهم في مجال الاعتبار ، بعد كونهم همج لا وزن لهم في الحياة. فلا يعتدّ بهم ولا يعتنى بشأنهم ، كما لا يعتنى بشأن الوحوش والبهائم والحشرات.

أبدان مثاليّة أم حواصل طيور؟

هل الأرواح ، بعد مفارقتها الأجساد ، تنتقل إلى أبدان برزخيّة تماثل أبدانها الدنيويّة ، كما يبدو ذلك من كلام شيخنا المفيد رحمه‌الله؟ أم هي في حواصل طيور خضر ، ترعى في الجنّة وتأوي إلى قناديل تحت العرش ، كما رواه أصحاب الحديث؟

أم لا ذا ولا ذاك ، وأنّما الأرواح تستقلّ في تشكلّها في الحياة البرزخيّة ، على هيأة أشكالها في الحياة الدنيا ، من غير حاجة إلى نشأة أبدان مثاليّة ولا حواصل طيور خضر؟!

[٢ / ٤٠٠٨] روى الكليني عن عليّ بن إبراهيم بالإسناد إلى أبي ولّاد الحنّاط عن الإمام أبي عبد الله عليه‌السلام قال : قلت له : جعلت فداك ، يروون أنّ أرواح المؤمنين في حواصل طيور خضر حول العرش؟! فقال : «لا! المؤمن أكرم على الله من أن يجعل روحه في حوصلة طير! ولكن في أبدان كأبدانهم» (٢).

[٢ / ٤٠٠٩] وروى بالإسناد إلى يونس بن ظبيان قال : كنت عند أبي عبد الله عليه‌السلام فقال : «ما يقول الناس في أرواح المؤمنين؟ فقلت : يقولون : تكون في حواصل طيور خضر في قناديل تحت العرش! فقال أبو عبد الله : سبحان الله! المؤمن أكرم على الله من أن يجعل روحه في حوصلة طير. يا

__________________

(١) الكافي ٣ : ٢٣٧ / ٤٧٢٠ ؛ البحار ٦ : ٢٦٢ / ١٠٤.

(٢) الكافي ٣ : ٢٤٤ / ٤٧٣٦ ؛ البحار ٦ : ٢٦٨ / ١١٩.

٢٦٦

يونس ، إذا كان ذلك (١) أتاه محمّد وعليّ وفاطمة والحسن والحسين والملائكة المقرّبون عليهم‌السلام. فإذا قبضه الله ، صيّر تلك الروح في قالب كقالبه في الدنيا ، فيأكلون ويشربون ، فإذا قدم عليهم القادم عرفوه بتلك الصورة الّتي كانت في الدنيا» (٢).

[٢ / ٤٠١٠] وروى بالإسناد إلى زرعة عن أبي بصير قال : قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام : إنّا نتحدّث عن أرواح المؤمنين أنّها في حواصل طيور خضر ، ترعى في الجنّة وتأوي إلى قناديل تحت العرش؟ فقال : «لا ، ما هي في حواصل طير! قلت : فأين هي؟ قال : في روضة كهيئة الأجساد في الجنّة» (٣).

[٢ / ٤٠١١] وروى بالإسناد إلى ابن مسكان عن أبي بصير عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : «إنّ الأرواح في صفة الأجساد في شجرة في الجنّة ، تعارف وتسائل ، فإذا قدمت الروح على الأرواح تقول : دعوها فإنّها قد أفلتت من هول عظيم.

ثمّ يسألونها : ما فعل فلان ، وما فعل فلان؟ فإن قالت لهم : تركته حيّا ارتجوه ، وإن قالت لهم : قد هلك ، قالوا : قد هوى هوى» (٤).

[٢ / ٤٠١٢] وروى عن عليّ بن إبراهيم بالإسناد إلى محمّد بن عثمان عن أبي بصير عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : سألته عن أرواح المؤمنين؟ فقال : «في حجرات في الجنّة ، يأكلون من طعامها ويشربون من شرابها ، ويقولون : ربّنا ، أقم لنا الساعة ، وأنجز لنا ما وعدتنا ، وألحق آخرنا بأوّلنا». (٥) وهكذا رواه بالإسناد إلى مثنّى الحنّاط عن أبي بصير عن أبي عبد الله عليه‌السلام (٦).

[٢ / ٤٠١٣] وروى بالإسناد إلى يونس بن يعقوب عن الصادق عليه‌السلام قال : «إذا مات المؤمن اجتمعوا [أي الأرواح] عنده يسألونه عمّن مضى وعمّن بقي ، فإن كان مات ولم يرد عليهم قالوا : قد هوى ويقول بعضهم لبعض : دعوه حتّى يسكن ممّا مرّ عليه من الموت» (٧).

إلى غيرها من روايات وهي كثيرة في الباب. وهي تنفي أن تكون أرواح المؤمنين في حواصل طيور خضر. لأنّه وهن بشأن المؤمن وهو أكرم على الله من أن يجعل ظرف مستقرّه طول البرزخ في

__________________

(١) يعني : إذا حضرته الوفاة.

(٢) الكافي ٣ : ٢٤٥ / ٤٧٤١ ؛ البحار ٦ : ٢٦٩ ـ ٢٧٠ / ١٢٤.

(٣) الكافي ٣ : ٢٤٥ / ٤٧٤٢ ؛ البحار ٦ : ٢٧٠ / ١٢٥.

(٤) الكافي ٣ : ٢٤٤ / ٤٧٣٨ ؛ البحار ٦ : ٢٦٩ / ١٢١.

(٥) الكافي ٣ : ٢٤٤ / ٤٧٣٩ ؛ البحار ٦ : ٢٦٩ / ١٢٢.

(٦) الكافي ٣ : ٢٤٤ / ٤٧٣٧ ؛ البحار ٦ : ٢٦٨ / ١٢٠.

(٧) الكافي ٣ : ٢٤٤ / ٤٧٤٠ ؛ البحار ٦ : ٢٦٩ / ١٢٣.

٢٦٧

حوصلة طير ، وهي كالمعدة للإنسان.

والّذي جاء في تعبير هذه الروايات : أنّهم في أبدان كأبدانهم (١).

أو في قالب كقالبه في الدنيا (٢).

أو في روضة كهيئة الأجساد في الجنّة (٣).

أو في صفة الأجساد في شجرة في الجنّة (٤).

أو في حجرات في الجنة (٥).

قال العلّامة المجلسي : إنّ الّذي يظهر من الآيات الكثيرة والأخبار المستفيضة والبراهين القاطعة ، هو أنّ النفس باقية بعد الموت ، إمّا معذّبة ، إن كان ممّن محض الكفر ، أو منعّمة إن كان ممّن محض الإيمان ، أو يلهى عنه إن كان من المستضعفين.

قال : ثمّ تتعلّق الروح بالأجساد المثاليّة اللطيفة الشبيهة بأجسام الجنّ والملائكة ، المضاهية في الصورة للأبدان الأصليّة ، فينعّم أو يعذّب فيها.

قال : فالمراد بالقبر ـ في أكثر الأخبار ـ ما يكون الروح فيه في عالم البرزخ. وهذا يتمّ على تجسّم الروح وتجرّده!

قال : وإن كان يمكن تصحيح بعض الأخبار بالقول بتجسّم الروح أيضا ، بدون الأجساد المثاليّة! لكن مع ورود الأجساد المثاليّة في الأخبار المعتبرة المؤيّدة بالأخبار المستفيضة ، لا محيص عن القول بها (٦).

* * *

قلت : والأوفق بدليل الاعتبار وظهور اللفظ : أنّ الأرواح ـ بعد مفارقة الأجساد ـ تصبح مستقلّة في مزاولة الحياة البرزخيّة ، من غير حاجة إلى أبدان تحلّ فيها ، ذلك لأنّها ـ كالملائكة ـ ذوات مجرّدة أو أجسام لطيفة ، لها أن تتشكّل في أشكالها الدنيويّة.

وعليه فالتعبير بأنّها في روضة في الجنّة كهيأة أجسادها في الدنيا ، تعبير دقيق. وهكذا التعبير

__________________

(١) الكافي ٣ : ٢٤٤ / ٤٧٣٦ ؛ البحار ٦ : ٢٦٨ / ١١٩.

(٢) الكافي ٣ : ٢٤٥ / ٤٧٤١ ؛ البحار ٦ : ٢٦٩ ـ ٢٧٠ / ١٢٤.

(٣) الكافي ٣ : ٢٤٥ / ٤٧٤٢ ؛ البحار ٦ : ٢٧٠ / ١٢٥.

(٤) الكافي ٣ : ٢٤٤ / ٤٧٣٨ ؛ البحار ٦ : ٢٦٩ / ١٢١.

(٥) الكافي ٣ : ٢٤٤ / ٤٧٣٩ ؛ البحار ٦ : ٢٦٨ / ١٢٠.

(٦) البحار ٦ : ٢٧٠ ـ ٢٧١.

٢٦٨

بأنّها في صفة الأجساد.

أمّا التعبير بأنّهم في أبدان كأبدانهم أو في قالب كقالبه في الدنيا. فلعلّ المراد : أنّها في هيأة أبدان كأبدانهم ، وفي قالب أي في تشكّل كقالبه في الدنيا. لا أنّها تحلّ في أبدان أو في قوالب كما يفرّغ الفلذّ المذاب في قوالب.

فقول المجلسي رحمه‌الله : تتعلّق الروح بأجساد مثاليّة لطيفة نظير أجسام الملائكة والجنّ. لا موضع له بعد أن لم تكن للملائكة والجنّ أجسام وراء وجوداتها الذاتيّة المجرّدة.

وعليه فقوله الأخير بتجسّم الروح ذاتيّا بلا حاجة إلى أجساد مثاليّة هو الأقرب والأوفق للاعتبار وظواهر التعابير الواردة في الروايات.

ويؤيّد ذلك أنّ الروايات خلو عن شأن أرواح الكفّار ، بماذا تتعلّق بعد مفارقة الحياة؟!

فلا بدّ أنّها تستقلّ في مزاولة حياتها البرزخيّة المعذّبة ، وهكذا تستقلّ أرواح المؤمنين في حياتها البرزخيّة المنعّمة.

واستقصاء البحث بحاجة إلى مجال أوسع.

* * *

أمّا جسمانيّة المعاد ، فتعني إنشاء أبدان لها من نفس العناصر الّتي كان تركّب منها أبدانهم في الحياة الدنيا ، لا أنّ نفس الجسد الّذي فارقه وتركه في القبر ، يعود عودا. الأمر الّذي لا موضع له ولا هو ثابت بدليل ، وسيأتي عنه الكلام مفصّلا في مجاله المناسب.

وبذلك يمكننا دفع شبهات منها شبهة الآكل والمأكول وغيرها ، ومن الله التوفيق.

وبعد ، فإليك من روايات الباب غير الّتي سبقت :

[٢ / ٤٠١٤] أخرج مسلم بالإسناد إلى الأعمش عن عبد الله بن مرّة عن مسروق بن الأجدع ، قال : سألنا عبد الله [ابن مسعود](١) عن هذه الآية : (وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْواتاً بَلْ أَحْياءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ)(٢)؟ قال : أما إنّا قد سألنا عن ذلك (٣) فقال : «أرواحهم في جوف طير خضر لها قناديل معلّقة بالعرش ، تسرح من الجنّة حيث شاءت ، ثمّ تأوي إلى تلك القناديل ، فاطّلع إليهم ربّهم

__________________

(١) كما صوّبه النووي في الشرح ١٣ : ٣١.

(٢) آل عمران ٣ : ١٦٩.

(٣) أي سألنا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فهو حديث مرفوع.

٢٦٩

اطّلاعة ، فقال : هل تشتهون شيئا؟ قالوا : أيّ شيء نشتهي ونحن نسرح من الجنّة حيث شئنا! ففعل ذلك بهم ثلاث مرّات ، فلمّا رأوا أنّهم لن يتركوا من أن يسألوا ، قالوا : يا ربّ ، نريد أن يردّ أرواحنا في أجسادنا حتّى نقتل في سبيلك مرّة أخرى. فلمّا رأى أن ليس لهم حاجة تركوا» (١).

حديث غريب ولا تخفى مواضع الغرابة منه!!

ورواه ابن كثير أيضا بما يقرب منه :

[٢ / ٤٠١٥] إنّ أرواح الشهداء في حواصل طيور خضر تسرح في الجنّة حيث شاءت ، ثمّ تأوي إلى قناديل معلّقة تحت العرش ، فاطّلع عليهم ربّك اطّلاعة فقال : ماذا تبغون؟ فقالوا : يا ربّنا وأيّ شيء نبغي وقد أعطيتنا ما لم تعط أحدا من خلقك؟ ثمّ عاد عليهم بمثل هذا ، فلمّا رأوا أنّهم لا يتركون من أن يسألوا ، قالوا : نريد أن تردّنا إلى الدار الدنيا ، فنقاتل في سبيلك حتّى نقتل فيك مرّة أخرى ـ لما يرون من ثواب الشهادة ـ! فيقول الربّ ـ جلّ جلاله ـ : إنّي كتبت أنّهم لا يرجعون!

[٢ / ٤٠١٦] قال : وفي الحديث الّذي رواه أحمد عن الشافعي عن مالك عن الزّهري عن عبد الرحمان بن كعب بن مالك عن أبيه ، قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «نسمة المؤمن طائر تعلّق في شجر الجنّة حتّى يرجعه الله إلى جسده يوم بعثه» ، ففيه دلالة لعموم المؤمنين أيضا ، وإن كان الشهداء قد خصّصوا بالذكر في القرآن تشريفا لهم وتكريما وتعظيما (٢).

وذكر النووي نقلا عن القاضي قال : قال هنا أرواح الشهداء ، وقال في حديث مالك : إنّما نسمة المؤمن ، والنسمة تطلق على ذات الإنسان جسما وروحا ، وتطلق على الروح مفردة ، وهو المراد بها في هذا التفسير في الحديث الآخر بالروح. قال : ولعلمنا بأنّ الجسم يفنى ويأكله التراب. ولقوله في الحديث : حتّى يرجعه الله تعالى إلى جسده يوم القيامة.

قال النووي : في هذا الحديث [الّذي رواه مسلم] : «في جوف طير خضر». وفي غير مسلم : بطير خضر. وفي حديث آخر : بحواصل طير. وفي الموطّأ : إنّما نسمة المؤمن طير. وفي حديث آخر عن قتادة : في صورة طير أبيض.

قال القاضي : قال بعض المتكلّمين : على هذا ، الأشبه صحّة قول من قال : طير أو صورة

__________________

(١) مسلم ٦ : ٣٨ ـ ٣٩ ، باب أنّ أرواح الشهداء في الجنّة.

(٢) ابن كثير ١ : ٢٠٣. والنسمة : نفس الروح.

٢٧٠

طير (١) ، وهو أكثر ما جاءت الرواية ، لا سيّما مع قوله : تأوي إلى قناديل تحت العرش.

قال : واستبعد بعضهم هذا ، ولم ينكره آخرون ، وليس فيه ما ينكر ، ولا فرق بين الأمرين ، بل رواية طير أو جوف طير أصحّ معنى ، وليس للأقيسة والعقول في هذا حكم ، وكلّه من المجوّزات ، فإذا أراد الله أن يجعل هذه الروح إذا خرجت من المؤمن أو الشهيد في قناديل أو أجواف طير أو حيث يشاء ، كان ذلك ووقع ولم يبعد ، لا سيّما مع القول بأنّ الأرواح أجسام (٢).

قلت : وهذا هو التحجّر الأشعري البحت ، المتنافي مع شريعة العقل المتفتّحة؟!

* * *

وقال أبو عليّ الطّبرسيّ : لمّا أمر الله سبحانه بالصبر والصلاة للازدياد في القوّة (قوّة الإيمان) بهما على الجهاد ، قال : (وَلا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْواتٌ بَلْ أَحْياءٌ وَلكِنْ لا تَشْعُرُونَ). فنهى أن يسمّى من قتل في الجهاد أمواتا ، بل أحياء. وفيه أقوال :

أحدها ـ وهو الصحيح ـ : أنّهم أحياء على الحقيقة إلى أن تقوم الساعة. وهو قول ابن عبّاس وقتادة ومجاهد. وإليه ذهب الحسن وعمرو بن عبيد وواصل بن عطاء. واختاره الجبّائي والرمّاني وجميع المفسّرين.

الثاني : أنّ المشركين كانوا يقولون : إنّ أصحاب محمّد سوف يقتلون في الحروب فيفنون عن آخرهم. فردّ الله عليهم بأنّهم سوف يحيون يوم القيامة ويثابون قاله البلخي.

الثالث : أنّهم أحياء بالطاعة والهدى ، كما في قوله تعالى : (أَوَمَنْ كانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْناهُ)(٣). فجعل الضلال موتا والهداية حياة. قاله الأصمّ.

الرابع : أنّهم أحياء بجميل الذكر والثناء المتواصل.

[٢ / ٤٠١٧] كما قال الإمام أمير المؤمنين عليه‌السلام : «هلك خزّان الأموال ، والعلماء باقون ما بقي الدهر ؛ أعيانهم مفقودة ، وآثارهم في القلوب موجودة» (٤).

قال الطبرسي : والمعتمد هو القول الأوّل ، لأنّ عليه إجماع المفسّرين. ولأنّ الخطاب للمؤمنين

__________________

(١) أي الروح بذاتها تتشكّل بصورة طير ، لا أنّها تحلّ في جوف طير. وهذا هو الّذي رجّحناه كما عرفت.

(٢) شرح النووي على مسلم ١٣ : ٣١ ـ ٣٢.

(٣) الأنعام ٦ : ١٢٢.

(٤) نهج البلاغة ٤ : ٣٦ ؛ قصار الحكم ١٤٧. وفيه «أمثالهم» بدل «آثارهم».

٢٧١

وكانوا يعلمون أنّ الشهداء على الحقّ والهدى ، وأنّهم ينشرون يوم البعث ، فلا يجوز أن يقال عنهم : ولكن لا تشعرون.

قال : ووجه تخصيص الشهداء بكونهم أحياء ، وإن كان غيرهم من المؤمنين قد يكونون أحياء في البرزخ ، أنّه على جهة التقديم بالبشارة.

قال : وأمّا المتنعّم بالحياة البرزخيّة ، فإنّما هو الروح الّذي هو حقيقة الإنسان. فقد ذهب بعض أصحابنا إلى أنّه تعالى يجعل لهم أجساما كأجسامهم في دار الدنيا يتنعّمون فيها ، دون أجسامهم الّتي في القبور ، فإنّ النعيم والعذاب إنّما يصل عنده إلى النفس الّتي هي الإنسان المكلّف عنده ، دون الجثّة.

قال : ويؤيّد ذلك ما رواه الشيخ أبو جعفر في كتاب التهذيب مسندا إلى عليّ بن مهزيار عن القاسم بن محمّد عن الحسين بن أحمد عن يونس بن ظبيان.

[٢ / ٤٠١٨] قال : كنت عند أبي عبد الله عليه‌السلام جالسا ، فقال : ما يقول الناس في أرواح المؤمنين؟ قلت : يقولون : في حواصل طير خضر في قناديل تحت العرش! فقال أبو عبد الله عليه‌السلام : «سبحان الله ، المؤمن أكرم على الله أن يجعل روحه في حوصلة طائر أخضر ، يا يونس ، المؤمن إذا قبضه الله تعالى صيّر روحه في قالب كقالبه في الدنيا ، فيأكلون ويشربون ، فإذا قدم عليهم القادم عرفوه بتلك الصورة الّتي كانت في الدنيا» (١).

[٢ / ٤٠١٩] وعنه عن ابن أبي عمير عن حمّاد عن أبي بصير قال : سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن أرواح المؤمنين؟ فقال : «في الجنّة على صور أبدانهم ، لو رأيته لقلت : فلان» (٢).

قال : فأمّا على مذهب من قال من أصحابنا : إنّ الإنسان هذه الجملة المشاهدة ، وأنّ الروح هو النفس المتردّد في مخارق الحيوان ، وهو أجزاء الجوف ، فالقول : أنّه يلطف أجزاء من الإنسان لا يمكن أن يكون الحيّ حيّا بأقلّ منها ، يوصل إليها النعيم ، وإن لم تكن تلك الجملة بكمالها ، لأنّه لا معتبر بالأطراف وأجزاء السمن في كون الحيّ حيّا ، فإنّ الحيّ لا يخرج بمفارقتها من كونه حيّا!

قال : وربما قيل بأنّ الجثّة يجوز أن تكون مطروحة في الصورة ، ولا تكون ميتة ، فتصل إليها اللّذات ، كما أنّ النائم حيّ وتصل إليه اللذّات ، مع أنّه لا يحسّ ولا يشعر بشيء من ذلك ، فيرى في

__________________

(١) التهذيب ١ : ٤٦٦ / ١٥٢٧ ـ ١٧٢.

(٢) المصدر / ١٥٢٦ ـ ١٧١.

٢٧٢

النوم ما يجد به السرور والالتذاذ ، حتّى أنّه يودّ أن يطول نومه فلا ينتبه.

[٢ / ٤٠٢٠] وقد جاء في الحديث : «أنّه يفسح له مدّ بصره ويقال له : نم نومة العروس» (١).

قال : وقوله : (وَلكِنْ لا تَشْعُرُونَ) أي لا تعلمون أنّهم أحياء. وفي هذه الآية دلالة على صحّة مذهبنا في سؤال القبر وإثابة المؤمن فيه وعقاب العصاة ، على ما تظاهرت به الأخبار (٢). وإنّما حمل البلخي الآية على حياة الحشر ، لإنكاره عذاب القبر! (٣)

* * *

جاء في تفسير المنار : أنّه لا بدّ أن تكون هذه الحياة (حياة الشهداء) حياة خاصّة غير الّتي يعتقدها جميع الملّيين في جميع الموتى ، من بقاء أرواحهم بعد مفارقة أشباحهم ولذلك ذهب بعض الناس إلى أنّ حياة الشهداء تتعلّق بهذه الأجساد ، وإن فنيت أو احترقت أو أكلتها السباع أو الحيتان. وقالوا : إنّها حياة لا نعرفها!

قال الشيخ محمّد عبده : ونحن نقول مثلهم : إنّنا لا نعرفها ، ونزيد أنّنا لا نثبت ما لا نعرف!!

وقال بعضهم : إنّها حياة يجعل الله بها الروح في جسم آخر يتمتّع به ويرزق. ورووا في هذا روايات ، منها الحديث المعروف وهو : «أنّ أرواح الشهداء عند الله في حواصل طيور خضر تسرح في الجنّة» (٤).

__________________

(١) البحار ٦ : ٢٠٤.

(٢) انظر : الكافي ٣ : ٢٣٥ ـ ٢٤١ ، باب المسألة في القبر ومن يسأل ومن لا يسأل.

(٣) مجمع البيان ١ : ٤٣٧ ـ ٤٣٩.

(٤) ففي رواية مسلم (٦ : ٣٨ ـ ٣٩) والترمذي (٤ : ٢٩٨ ـ ٢٩٩ / ٤٠٩٨) من حديث ابن مسعود : «إنّها في حواصل طيور خضر تسرح من أنهار الجنّة حيث شاءت ، ثمّ تأوي إلى قناديل تحت العرش ...».

وفي رواية عبد الرزّاق (المصنّف ١ : ٢٩٨ / ١٤٩) من حديث عبد الله بن كعب بن مالك : «إنّ أرواح الشهداء في صور طيور خضر معلّقة في قناديل الجنّة حتّى يرجعها الله يوم القيامة إلى جسده» ، ممّا يدلّ على أنّها محبوسة في مكان خاصّ ، والأوّل يفيد أنّها مطلقة تسرح حيث تشاء. ثمّ إنّ لها مأوى تأوي إليه حين تشاء.

وفي رواية مالك (الموطّأ ١ : ٢٤ / ٤٩) وأصحاب السنن ، ما عدا أبا داوود : «أنّها في أجواف طيور خضر تعلف من ثمر الجنّة أو شجر الجنّة»!! (هامش المنار ٢ : ٣٨).

٢٧٣

قال الشيخ محمّد عبده ـ بعد ذكر الخلاف ـ : وقال بعض العلماء الباحثين في الروح : إنّ الروح إنّما تقوم بجسم لطيف «أثيري» في صورة هذا الجسم المركّب الّذي يكون عليه الإنسان في الدنيا ، وبواسطة ذلك الجسم الأثيري تجول الروح في هذا الجسم المادّي ، فإذا مات المرء وخرجت روحه ، فإنّما تخرج بالجسم الأثيري ، وتبقى معه ، وهو جسم لا يتغيّر ولا يتبدّل ولا يتحلّل. وأمّا هذا الجسم المحسوس فإنّه يتحلّل ويتبدّل في كلّ بضع سنين.

قال : ويقرب هذا القول من مذهب المالكيّة. فقد روي عن مالك أنّه قال : «أنّ الروح صورة كالجسد» ، أي لها صورة ، وما الصورة إلّا عرض ، وجوهر هذا العرض هو الّذي سمّاه العلماء بالأثير. وإذا كان من خواصّ الأثير النفوذ في الأجسام اللطيفة والكثيفة ـ كما يقولون ـ حتّى أنّه هو الّذي ينقل النور من الشمس إلى طبقة الهواء ، فلا مانع أن تتعلّق به الروح المطلقة في الآخرة ، ثمّ هو يحلّ بها جسما آخر تنعم به وترزق ، سواء كان جسم طير أو غيره.

قال : وهذا القول يقرّب معنى الآية من العلم! (١)

* * *

[٢ / ٤٠٢١] وهكذا أخرج ابن جرير بالإسناد إلى الربيع في قوله : (وَلا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْواتٌ بَلْ أَحْياءٌ) قال : في صور طير خضر ، يطيرون في الجنّة حيث شاؤوا منها ، يأكلون من حيث شاؤوا (٢).

[٢ / ٤٠٢٢] وأخرج عبد الرزّاق في المصنّف عن عبد الله بن كعب بن مالك قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «أرواح الشهداء في صور طير خضر معلّقة في قناديل الجنّة حتّى يرجعها الله يوم القيامة» (٣).

[٢ / ٤٠٢٣] وأخرج عبد الرزّاق عن معمر عن قتادة قال : بلغنا أنّ أرواح الشهداء في صور طير بيض تأكل من ثمار الجنّة ، وقال الكلبي عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «في صورة طير بيض تأوي إلى قناديل

__________________

(١) تفسير المنار ٢ : ٣٨ ـ ٣٩.

(٢) الطبري ٢ : ٥٤ / ١٩٢٥.

(٣) الدرّ ١ : ٣٧٦ ؛ المصنّف عبد الرزّاق ٥ : ٢٦٤ / ٩٥٥٦ ؛ تفسير عبد الرزّاق ١ : ٢٩٨ / ١٤٩ ، بلفظ : أنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : «إنّ نسمة المؤمن طير تعلّق في شجر الجنّة حتّى يرجعها الله إلى جسده» ؛ ابن كثير ١ : ٢٠٣.

٢٧٤

معلّقة تحت العرش» (١).

[٢ / ٤٠٢٤] وأخرج ابن أبي شيبة والبيهقي في البعث والنشور عن كعب قال : جنّة المأوى فيها طير خضر ، ترتقي فيها أرواح الشهداء ، تسرح في الجنّة (٢).

[٢ / ٤٠٢٥] وأخرج هنّاد بن السريّ في الزهد عن هزيل قال : أرواح الشهداء في أجواف طير خضر ، وأولاد المسلمين الّذين لم يبلغوا الحنث عصافير من عصافير الجنّة ، ترعى وتسرح (٣).

[٢ / ٤٠٢٦] وأخرج عبد بن حميد وابن جرير عن قتادة (وَلا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْواتٌ بَلْ أَحْياءٌ وَلكِنْ لا تَشْعُرُونَ) قال : ذكر لنا أنّ أرواح الشهداء تعارف في طير بيض تأكل من ثمار الجنّة ، وأنّ مساكنهم السدرة ، وأنّ الله أعطى المجاهد ثلاث خصال من الخير. من قتل في سبيل الله كان حيّا مرزوقا ، ومن غلب آتاه الله أجرا عظيما ، ومن مات رزقه الله رزقا حسنا (٤).

[٢ / ٤٠٢٧] وأخرج ابن أبي شيبة في المصنّف وابن جرير عن عكرمة في قوله تعالى : (وَلا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْواتٌ) الآية. قال : أرواح الشهداء طير بيض فقاقيع في الجنّة (٥).

[٢ / ٤٠٢٨] وأخرج ابن أبي حاتم والبيهقي في شعب الإيمان عن أبي العالية في قوله : (وَلا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْواتٌ بَلْ أَحْياءٌ ...) قال : يقول : هم أحياء في صدور طير خضر ، يطيرون في الجنّة حيث شاؤوا ، ويأكلون من حيث شاؤوا (٦).

[٢ / ٤٠٢٩] وأخرج مالك وأحمد والترمذي وصحّحه والنسائي وابن ماجة عن كعب بن مالك : أنّ

__________________

(١) الدرّ ١ : ٣٧٥ ؛ عبد الرزّاق ١ : ٢٩٨ / ١٤٧ ، نقلا عن قتادة بلفظ : قال : إنّ أرواح الشهداء في صور طير بيض. و ١٤٨ ، نقلا عن الكلبي بلفظ : في صور طير خضر تأكل من ثمار الجنّة وتأوي إلى قناديل تحت العرش ؛ الطبري ٢ : ٥٣ ـ ٥٤ / ١٩٢٤ ، نقلا عن قتادة بلفظ : أرواح الشهداء في صور طير بيض.

(٢) الدرّ ١ : ٣٧٥ ؛ المصنّف ٨ : ٩٠ / ١٦٣ ، باب ١ ؛ البعث والنشور : ١٥٤ / ٢٠٦.

(٣) الدرّ ١ : ٣٧٥ ؛ هنّاد (٣٦٦).

(٤) الدرّ ١ : ٣٧٥ ـ ٣٧٦ ؛ الطبري ٢ : ٥٣ / ١٩٢٣ ، وفيه : أنّ مساكنهم سدرة المنتهي.

(٥) الدرّ ١ : ٣٧٥ ؛ المصنّف ٤ : ٥٩٠ / ١٨٨ ، باب ١ (ما قالوا في فضل الجهاد) ؛ الطبري ٢ : ٥٤ / ١٩٢٦ ، بلفظ : أرواح الشهداء في طير خضر في الجنّة.

(٦) الدرّ ١ : ٣٧٥ ؛ ابن أبي حاتم ١ : ٢٦٣ / ١٤١٢ ؛ الشعب ٧ : ١١٥ / ٩٦٨٦.

٢٧٥

رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : «إنّ أرواح الشهداء في أجواف طير خضر تعلّق من ثمر الجنّة أو شجر الجنّة» (١).

[٢ / ٤٠٣٠] وأخرج ابن جرير عن عبدة بن سليمان بالإسناد إلى محمود بن لبيد عن ابن عبّاس قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «الشهداء على بارق نهر بباب الجنّة في قبّة خضراء» [أو قال عبدة : في روضة خضراء] يخرج عليهم رزقهم من الجنّة بكرة وعشيّا» (٢).

[٢ / ٤٠٣١] وأخرج الثعلبي عن الحسن قال : إنّ الشهداء أحياء ، عند الله تعالى تعرض أرزاقهم على أرواحهم فيصل الروح والفرح كما تعرض النار على أرواح آل فرعون غدوة وعشيّة فيصل إليهم الوجع (٣).

[٢ / ٤٠٣٢] وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن مجاهد في قوله (بَلْ أَحْياءٌ) قال : كان يقول : يرزقون من ثمر الجنّة ، ويجدون ريحها وليسوا فيها (٤).

[٢ / ٤٠٣٣] وأخرج ابن جرير عن ابن بشّار السلمي أو أبي بشّار ـ شكّ أبو جعفر ـ قال : أرواح الشهداء في قباب بيض من قباب الجنّة في كلّ قبّة زوجتان ، رزقهم في كلّ يوم طلعت فيه الشمس

__________________

(١) الدرّ ١ : ٣٧٦ ؛ الموطّأ ١ : ٢٤ / ٤٩ ، وفيه : «... كعب بن مالك كان يحدّث : أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : إنّما نسمة المؤمن طير يعلّق في شجر الجنّة ، يرجعه الله إلى جسده يوم يبعثه» ؛ مسند أحمد ٦ : ٣٨٦ ؛ الترمذي ٣ : ٩٦ / ١٦٩١ ، باب ١٣ (ما جاء في ثواب الشهيد) ؛ النسائي ١ : ٦٦٥ / ٢٢٠٠ ، باب ١١٧ (أرواح المؤمنين) بنحو ما رواه مالك ؛ ابن ماجة ١ : ٤٦٦ / ١٤٤٩ ، بلفظ : عن عبد الرحمان بن كعب بن مالك ، عن أبيه ، قال : لمّا حضرت كعبا الوفاة ، أتته أمّ بشر بنت البراء بن معرور ، فقالت : يا أبا عبد الرحمان ، إن لقيت فلانا فاقرأ عليه منّى السّلام! قال : غفر الله لك يا أمّ بشر ، نحن أشغل من ذلك. قالت : يا أبا عبد الرحمان ، أما سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول : إنّ أرواح المؤمنين في طير خضر ، تعلّق بشجر الجنّة؟ ؛ كنز العمّال ٤ : ٣٩٩ / ١١١٠٧ ؛ الثعلبي ٢ : ٢١ ـ ٢٢ بلفظ : إنّ أرواح الشهداء في أجواف طير خضر تسرح في ثمار الجنّة وتشرب من أنهارها وتأوي بالليل إلى قناديل من نور معلّقة تحت العرش.

(٢) الطبري ٢ : ٥٥ / ١٩٢٧ ؛ مسند أحمد ١ : ٢٦٦ ؛ الحاكم ٢ : ٧٤ ، كتاب الجهاد ؛ أبو الفتوح ٢ : ٢٣٧ ، بتفاوت.

(٣) الثعلبي ٢ : ٢٢ ؛ البغوي ١ : ١٨٥.

(٤) الدرّ ١ : ٣٧٦ ؛ الطبري ١ : ٥٣ / ١٩٢٢ ؛ ابن أبي حاتم ٣ : ٨١٣ / ٤٤٩٥ ، ذيل الآية ١٦٩ من آل عمران ؛ أبو الفتوح ٢ : ٢٣٧ ؛ القرطبي ٤ : ٢٦٩ ، ذيل الآية ١٦٩ من سورة آل عمران.

٢٧٦

ثور وحوت ، فأمّا الثور ففيه طعم كلّ ثمرة في الجنّة ، وأمّا الحوت ففيه طعم كلّ شراب في الجنّة (١).

[٢ / ٤٠٣٤] وأخرج أحمد عن شهر بن حوشب عن أبي هريرة أنّه قال : ذكر الشهيد عند النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقال : «لا تجفّ الأرض من دم الشهيد حتّى تبتدره زوجتاه كأنّهما ظئران أضلّتا فصيليهما ببراح من الأرض ، بيد كلّ واحدة منهما حلّة خير من الدنيا وما فيها» (٢).

[٢ / ٤٠٣٥] وعن مكحول عن كثير بن مرّة عن قيس الجدامي [رجل كانت له صحبة] قال : قال النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «يعطى الشهيد ستّ خصال : عند أوّل قطرة من دمه يكفّر عنه كلّ خطيئة ، ويرى مقعده من الجنّة ، ويزوّج من الحور العين ، ويؤمن من الفزع الأكبر ، ومن عذاب القبر ، ويحلّى حلّة الإيمان» (٣).

[٢ / ٤٠٣٦] وأخرج النسائي والحاكم وصحّحه عن أنس قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «يؤتى بالرجل من أهل الجنّة فيقول الله له : يا ابن آدم كيف وجدت منزلك؟ فيقول : أي ربّ خير منزل. فيقول : سل وتمنّ. فيقول : وما أسألك وأتمنّى؟ أسألك أن تردّني إلى الدنيا فأقتل في سبيل الله عشر مرّات! لما يرى من فضل الشهادة» (٤).

[٢ / ٤٠٣٧] وأخرج أحمد ومسلم والنسائي والحاكم عن أنس قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «يؤتى بالرجل من أهل الجنّة فيقول الله له : يا ابن آدم كيف وجدت منزلك؟ فيقول : أي ربّ خير منزل. فيقول : سل وتمنّه. فيقول : ما أسألك وأتمنّى؟ أسألك أن تردّني إلى الدنيا فأقتل في سبيلك عشر مرّات. لما رأى من فضل الشهادة.

قال : ويؤتى بالرجل من أهل النار ، فيقول الله : يا ابن آدم! كيف وجدت منزلك؟ فيقول : أي ربّ ، شرّ منزل. فيقول : فتفتدي منه بطلاع الأرض ذهبا؟ فيقول : نعم. فيقول : كذبت قد سألتك

__________________

(١) الطبري ٢ : ٥٥ / ١٩٢٨ ؛ الدرّ ١ : ٣٧٤ ، سورة آل عمران.

(٢) مسند أحمد ٢ : ٢٩٧ ؛ أبو الفتوح ٢ : ٢٣٨.

(٣) مسند أحمد ٤ : ٢٠٠ ؛ الثعلبي ٢ : ٢٢ ؛ أبو الفتوح ٢ : ٢٣٨ ، عن عبادة بن الصامت عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، بزيادة فيه.

(٤) الدرّ ١ : ٣٧٦ ؛ النسائي ٣ : ٢٤ ـ ٢٥ / ٤٣٦٨ ؛ الحاكم ٢ : ٧٥ ، كتاب الجهاد ؛ كنز العمّال ٤ : ٤٠٦ / ١١١٣٥ ؛ ابن كثير ١ : ٣٨٨ ذيل الآية ٩١ من آل عمران.

٢٧٧

دون ذلك فلم تفعل» (١).

[٢ / ٤٠٣٨] وروى الشيخ أبو جعفر الطوسي بالإسناد إلى يونس بن ظبيان قال : كنت عند أبي عبد الله عليه‌السلام جالسا فقال : ما يقول الناس في أرواح المؤمنين؟ قلت : يقولون : تكون في حواصل طيور خضر في قناديل تحت العرش! فقال أبو عبد الله عليه‌السلام : «سبحان الله! المؤمن أكرم على الله من أن يجعل روحه في حوصلة طائر أخضر ، يا يونس ، المؤمن إذا قبضه الله تعالى صيّر روحه في قالب كقالبه في الدنيا فيأكلون ويشربون ، فإذا قدم عليهم القادم عرفوه بتلك الصورة الّتي كانت في الدنيا» (٢).

[٢ / ٤٠٣٩] وعن ابن أبي عمير عن حمّاد عن أبي بصير قال : سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن أرواح المؤمنين؟ فقال : «في الجنّة على صور أبدانهم لو رأيته لقلت فلان» (٣).

[٢ / ٤٠٤٠] وفي الحديث : أنّه يفسح له مدّ بصره ، ويقال له : نم نومة العروس! (٤)

__________________

(١) مسند أحمد ٣ : ١٣١ ، إلى قوله : فضل الشهادة ، والباقي في الصفحة ٢٠٨ ؛ النسائي ٣ : ٢٥ / ٤٣٦٨ ؛ الحاكم ٢ : ٧٥ ؛ البرهان ١ : ٣٦٠ / ٣ ؛ الدرّ ١ : ٣٧٦ ، إلى قوله : فضل الشهادة ؛ الدّر ٢ : ٣٧٧ ، ذيل الآية ١٧١ من سورة آل عمران.

(٢) التهذيب ١ : ٤٦٦ / ١٥٢٦ ـ ١٧١ ، باب ٢٣ (تلقين المحتضرين) ؛ الكافي ٣ : ٢٤٥ / ٤٧٤١ ـ ٦ ، كتاب الجنائز ، باب آخر في أرواح المؤمنين ؛ نور الثقلين ١ : ١٤٢ و ٣ : ٥٥٩ / ١٣٨ ، سورة المؤمنون ؛ مجمع البيان ١ : ٤٣٨ ـ ٤٣٩ ؛ البرهان ١ : ٣٥٩ ـ ٣٦٠ / ١ ؛ البحار ٦ : ٢٢٩ / ٣٢ ، أبواب الموت ، باب ٨ ؛ الزهد للحسين بن سعيد الكوفي : ٨٩ / ٢٤١.

(٣) نور الثقلين ١ : ١٤٢ / ٤٤٤ ؛ مجمع البيان ١ : ٤٣٩ ؛ البرهان ١ : ٣٦٠ / ٢ ؛ الصافي ١ : ٣٠٦ ؛ التهذيب ١ : ٤٦٦ / ١٥٢٧ ـ ١٧٢ ، باب ٢٣.

(٤) مجمع البيان ١ : ٤٣٩ ؛ الكافي ٣ : ١٣١ / ٤ ، كتاب الجنائز ، باب ما يعاين المؤمن والكافر. ولها صدر وذيل طويل ، بلفظ : «ثمّ يفسح له عن أمامه مسيرة شهر وعن يمينه وعن يساره ثمّ يقال له : نم نومة العروس» ؛ الزهد للحسين بن سعيد الكوفي : ٨٢ / ٢١٩ ، (بلفظ الكافي) ؛ البحار ٦ : ١٩٨ / ٥١ ، باب ٧. عن الكافي وبلفظه. وعن كتاب الحسين بن سعيد ؛ فتح الباري ٣ : ١٨٩.

٢٧٨

قال تعالى :

(وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَراتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ (١٥٥) الَّذِينَ إِذا أَصابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ (١٥٦) أُولئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَواتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ (١٥٧))

وإذ جاء ذكر الشهداء ورفيع منزلتهم عند الله كانت المناسبة تستدعي المضيّ في بيان التعبئة لمواجهة الأحداث ـ وهي متوافرة في هذه الحياة ـ وفي تقويم التصوّر لحقيقة الأحداث ـ ولعلّ وراءها مصلحة وحكمة ومن ثمّ فإنّ البلاء موكّل بالأنبياء ثمّ الأمثل فالأمثل (١) فلا بدّ من تربية النفوس بالبلاء ، ومن امتحان التصميم على معركة الحقّ بالمخاوف والشدائد ، وبالجوع ونقص الأموال والأنفس والثمرات لا بدّ من هذا البلاء ليؤدّي المؤمنون تكاليف العقيدة ، كي تعزّ على نفوسهم بمقدار ما أدّوا في سبيلها من تكاليف. أمّا العقائد الرخيصة الّتي لا يؤدّي أصحابها تكاليفها لا يعزّ عليهم التخلّي عنها عند الصدمة الأولى. فالتكاليف هنا هي الثمن النفسي الّذي تعزّ به العقيدة في نفوس أهلها قبل أن تعزّ في نفوس الآخرين.

نعم ، لا بدّ من البلاء ، ليصلب عود أصحاب العقيدة ويقوى. فالشدائد تستجيش مكنون القوى ومذخور الطاقة ، وتفتح في القلب منافذ ومسارب ما كان ليعلمها المؤمن في نفسه إلّا تحت مطارق الشدائد. والقيم والموازين والتصوّرات ما كانت لتصحّ وتدقّ وتستقيم إلّا في جوّ المحنة الّتي تزيل الغبش عن العيون والران عن القلوب!

وأهمّ من هذا كلّه ، أو القاعدة الأساسيّة لهذا كلّه ، الالتجاء إلى الله وحده ، حين تهتزّ الأسناد كلّها ، وتتوارى الأوهام وهي شتّى ، ويخلو القلب إلى الله وحده ، لا يجد سندا إلّا سنده. وفي هذه اللحظة فقط تنجلي الغشاوات ، وتنفتح البصيرة ، وينجلي الأفق على مدّ البصر ، لا شيء إلّا الله ، لا قوّة

__________________

(١) البحار ١١ : ٦٩ / ٢٩ ؛ مسند أحمد ١ : ١٧٢ ؛ الكافي ٢ : ٢٥٩ / ٢٩ ؛ النسائي ٤ : ٣٥٢ / ٧٤٨١ ؛ علل الشرائع ١ : ٤٤ / ١ ، باب ٤٠.

٢٧٩

إلّا قوّته ، لا حول إلّا حوله ، لا إرادة إلّا إرادته ، لا ملجأ إلّا إليه وعندئذ تلتقي الروح بالحقيقة الواحدة الّتي يقوم عليها تصوّر صحيح!

والنصّ القرآني هنا يصل بالنفس إلى هذه النقطة على الأفق :

(وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ. الَّذِينَ إِذا أَصابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ).

إنّا لله ، كلّنا ، كلّ ما فينا ، كلّ كياننا وذاتيّتنا لله وإليه المرجع والمآب في كلّ أمر ، وفي كلّ مصير ، التسليم ، التسليم المطلق ، تسليم الالتجاء الأخير المنبثق من الالتقاء وجها لوجه بالحقيقة الوحيدة ، وبالتصوّر الصحيح.

هؤلاء هم الصابرون ، الّذين يبلغهم الرسول الكريم بالبشرى من المنعم الجليل وهؤلاء هم الّذين يعلن المنعم الجليل مكانهم عنده جزاء بالصبر الجميل :

(أُولئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَواتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ).

صلوات من ربّهم ، يرفعهم بها إلى المشاركة في نصيب نبيّه الّذي يصلّي عليه هو وملائكته سبحانه ، وهو مقام كريم ، ورحمة ، وشهادة من الله بأنّهم هم المهتدون وكلّ أمر من هذه هائل عظيم!! (١)

وهكذا جاء في الآثار عن السلف الصالح :

[٢ / ٤٠٤١] أخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والطبراني والبيهقي في شعب الإيمان عن ابن عبّاس في قوله : (وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ) الآية. قال : أخبر الله المؤمنين أنّ الدنيا دار بلاء ، وأنّه مبتليهم فيها وأمرهم بالصبر ، وبشّرهم فقال : (وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ). وأخبر أنّ المؤمن إذا سلّم لأمر الله ورجّع واسترجع عند المصيبة كتب الله له ثلاث خصال من الخير : الصلاة من الله ، والرحمة ، وتحقيق سبل الهدى.

وقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «من استرجع عند المصيبة جبر الله مصيبته ، وأحسن عقباه ، وجعل له خلفا صالحا يرضاه» (٢).

__________________

(١) راجع : في ظلال القرآن ١ : ٢٠٢ ـ ٢٠٤.

(٢) الدرّ ١ : ٣٧٦ ـ ٣٧٧ ؛ الطبري ٢ : ٥٦ و ٥٨ ـ ٥٩ / ١٩٢٩ و ١٩٣٢ ؛ ابن أبي حاتم ١ : ٢٦٣ و ٢٦٤ ـ ٢٦٥ / ١٤١٦ و ـ

٢٨٠