التفسير الأثري الجامع - ج ٤

الشيخ محمّد هادي معرفة

التفسير الأثري الجامع - ج ٤

المؤلف:

الشيخ محمّد هادي معرفة


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة التمهيد ـ قم
المطبعة: ستاره
الطبعة: ١
ISBN: 978-600-5079-05-0
ISBN الدورة:
978-600-5079-08-1

الصفحات: ٥٦٠

والانفراد ، فلا ينجيه غيره ، فالصبر على الانفراد أهون من الصبر على السكوت مع المخالطة.

وتختلف شدّة الصبر في آحاد المعاصي باختلاف داعية تلك المعصية في قوّتها وضعفها. وأيسر من حركة اللسان حركة الخواطر باختلاف الوساوس ، فلا جرم يبقى حديث النفس في العزلة ولا يمكن الصبر عنه أصلا إلّا بأن يغلب على القلب همّ آخر في الدين يستغرقه ، كمن أصبح وهمومه همّ واحد ، وإلّا فإن لم يستعمل الفكر في شيء معيّن لم يتصوّر فتور الوسواس عنه.

القسم الثاني : ما لا يرتبط هجومه باختياره ، وله اختيار في دفعه ، كما لو أوذي بفعل أو قول وجني عليه في نفسه أو ماله ، فالصبر على ذلك بترك المكافأة تارة يكون واجبا ، وتارة يكون فضيلة. قال بعض الصحابة رضوان الله عليهم : ما كنّا نعدّ إيمان الرجل إيمانا إذا لم يصبر على الأذى. وقال تعالى : (وَلَنَصْبِرَنَّ عَلى ما آذَيْتُمُونا وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ)(١). وقسّم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مرّة مالا ، فقال بعض الأعراب من المسلمين : هذه قسمة ما أريد بها وجه الله! فأخبر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فاحمرّت وجنتاه.

[٢ / ٣٨٦٠] ثمّ قال : «يرحم الله أخي موسى لقد أوذي بأكثر من هذا فصبر» (٢) وقال تعالى : (وَدَعْ أَذاهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ)(٣) وقال تعالى : (وَاصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْراً جَمِيلاً)(٤) وقال تعالى : (وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِما يَقُولُونَ. فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ)(٥) الآية وقال تعالى : (وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذىً كَثِيراً وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ)(٦) أي تصبروا عن المكافأة. ولذلك مدح الله تعالى العافين عن حقوقهم في القصاص وغيره فقال تعالى : (وَإِنْ عاقَبْتُمْ فَعاقِبُوا بِمِثْلِ ما عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ)(٧).

[٢ / ٣٨٦١] وقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «صل من قطعك ، وأعط من حرمك ، واعف عمّن ظلمك» (٨).

[٢ / ٣٨٦٢] ورأيت في الإنجيل : قال عيسى بن مريم عليه‌السلام : لقد قيل لكم من قبل : إنّ السنّ بالسنّ

__________________

(١) إبراهيم ١٤ : ١٢.

(٢) البخاري ٥ : ١٠٦ ؛ مسلم ٣ : ١٠٩ ؛ البيهقي ٨ : ١٦٧.

(٣) الأحزاب ٣٣ : ٤٨.

(٤) المزّمّل ٧٣ : ١٠.

(٥) الحجر ١٥ : ٩٧ ـ ٩٨.

(٦) آل عمران ٣ : ١٨٦.

(٧) النحل ١٦ : ١٢٦.

(٨) مكارم الأخلاق ، ابن أبي الدنيا : ٢٣ / ٢٠ ؛ مسند أحمد ٤ : ١٤٨ ؛ كنز العمّال ٢ : ٣١٢ / ٤٠٨٩.

٢٢١

والأنف بالأنف ، وأنا أقول لكم : لا تقاوموا الشرّ بالشرّ ، بل من ضرب خدّك الأيمن فحوّل إليه الخدّ الأيسر ، ومن أخذ رداءك فأعطه إزارك ، ومن سخّرك لتسير معه ميلا فسر معه ميلين. (١) وكلّ ذلك أمر بالصبر على الأذى. فالصبر على أذى الناس من أعلى مراتب الصبر ، لأنّه يتعاون فيه باعث الدين وباعث الشهوة والغضب جميعا.

القسم الثالث : ما لا يدخل تحت حصر الاختيار أوّله وآخره ؛ كالمصائب : مثل موت الأعزّة وهلاك الأموال ، وزوال الصحّة بالمرض ، وعمى العين وفساد الأعضاء. وبالجملة سائر أنواع البلاء ، فالصبر على ذلك من أعلى مقامات الصبر.

[٢ / ٣٨٦٣] قال ابن عبّاس رضي الله عنه : الصبر في القرآن على ثلاثة أوجه ؛ صبر على أداء فرائض الله تعالى ، فله ثلاثمائة درجة. وصبر عن محارم الله تعالى ، فله ستمائة درجة. وصبر على المصيبة عند الصدمة الأولى ، فله تسعمائة درجة. وإنّما فضّلت هذه الرتبة ، مع أنّها من الفضائل ، على ما قبلها ، وهي من الفرائض ، لأنّ كلّ مؤمن يقدر على الصبر عن المحارم. فأمّا الصبر على بلاء الله تعالى فلا يقدر عليه إلّا الأنبياء ، لأنّه بضاعة الصدّيقين ، فإنّ ذلك شديد على النفس.

[٢ / ٣٨٦٤] ولذلك قال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «أسألك من اليقين ما تهوّن عليّ به مصائب الدنيا» (٢) فهذا صبر مستنده حسن اليقين.

وقال أبو سليمان : والله ما نصبر على ما نحبّ فكيف نصبر على ما نكره؟

قال المولى الكاشاني : كلام أبي حامد هاهنا ينافي ما ذكره في أوائل هذا الفصل من أنّ الصبر على العافية أشدّ وأفضل من الصبر على البلاء ، وذلك هو الصحيح دون هذا ، وما نقله هاهنا عن ابن عبّاس يخالف ما رويناه بطريق أهل البيت عليهم‌السلام فقد روي في الكافي بإسناده إلى عليّ عليه‌السلام أنّه قال :

[٢ / ٣٨٦٥] قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «الصبر ثلاثة : صبر عند المصيبة ، وصبر على الطاعة ، وصبر عن المعصية ، فمن صبر على المصيبة حتّى يردّها بحسن عزائها كتب الله له ثلاثمائة درجة ما بين الدّرجة إلى الدّرجة كما بين السماء والأرض ، ومن صبر على الطاعة كتب الله له ستّمائة درجة ما بين الدّرجة إلى الدّرجة كما بين تخوم الأرض إلى العرش ، ومن صبر عن المعصية كتب الله له

__________________

(١) فيض القدير شرح الجامع الصغير ٤ : ٢٥٩ / ٥٠٠٤.

(٢) الحاكم ١ : ٥٢٨ ؛ النسائي ٦ : ١٠٦ / ١٠٢٣٤.

٢٢٢

تسعمائة درجة ما بين الدّرجة إلى الدّرجة كما بين تخوم الأرض إلى منتهى العرش» (١).

[٢ / ٣٨٦٦] وعن أبي جعفر الباقر عليه‌السلام : «الصبر صبران صبر على البلاء حسن جميل وأفضل الصبرين الورع عن محارم الله» (٢) وروي هذا عن أمير المؤمنين عليه‌السلام أيضا.

* * *

رجع الكلام إلى ما ذكره أبو حامد ، قال :

[٢ / ٣٨٦٧] وقال النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «قال الله ـ عزوجل ـ : إذا وجّهت إلى عبد من عبيدي مصيبة في بدنه أو ماله أو ولده ثمّ استقبل ذلك بصبر جميل ، استحييت منه يوم القيامة أن أنصب له ميزانا أو أنشر له ديوانا» (٣).

[٢ / ٣٨٦٨] وقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «انتظار الفرج بالصبر عبادة» (٤).

[٢ / ٣٨٦٩] وقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «ما من عبد مؤمن أصيب بمصيبة فقال كما أمر الله تعالى : (إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ)(٥) اللهمّ اؤجرني بمصيبتي وأعقبني خيرا منها ، إلّا فعل الله به ذلك» (٦).

[٢ / ٣٨٧٠] وقال أنس : حدّثني رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «إنّ الله ـ عزوجل ـ قال : يا جبريل ما جزاء من سلبت كريمتيه؟ قال : سبحانك لا علم لنا إلّا ما علّمتنا. قال الله تعالى جزاؤه الخلود في داري والنظر إلى وجهي» (٧).

[٢ / ٣٨٧١] وقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «يقول الله ـ عزوجل ـ إذا ابتليت عبدي ببلاء فصبر ولم يشكني إلى عوّاده أبدلته لحما خيرا من لحمه ودما خيرا من دمه ، فإذا أبرأته أبرأته ولا ذنب له وإن توفّيته فإلى رحمتي» (٨).

__________________

(١) الكافي ٢ : ٩١ / ١٥ ، باب الصبر.

(٢) المصدر / ١٤.

(٣) مسند الشهاب ٢ : ٣٣٠ / ١٤٦٢ ؛ كنز العمّال ٣ : ٢٨٢ / ٦٥٦١.

(٤) مسند الشهاب ١ : ٦٢ / ٤٦ و ٤٧ ؛ كنز العمّال ٣ : ٢٧٢ / ٦٥٠٧.

(٥) البقرة ٢ : ١٥٦.

(٦) مسلم ٣ : ٣٧ بتفاوت.

(٧) الأوسط ٨ : ٣٥٥ بتفاوت ؛ ورواه أبو يعلى (٤ : ٢٥٢ / ٢٣٦٥) بلفظ : «قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول الله : إذا أخذت كريمتي عبدي فصبر واحتسب لم أرض له ثوابا دون الجنّة».

(٨) البيهقي ٣ : ٣٧٥ ، بتفاوت ؛ الجامع الصغير ١ : ٥٢٨ / ٣٤٣٩ ؛ كنز العمّال ١٥ : ٨١٢ / ٤٣٢٢٧.

٢٢٣

[٢ / ٣٨٧٢] وقال داوود عليه‌السلام : يا ربّ ما جزاء الحزين الّذي يصبر على المصائب ابتغاء مرضاتك؟ قال : جزاؤه أن ألبسه لباس الإيمان فلا أنزعه عنه أبدا (١).

وقال عمر بن عبد العزيز في خطبته : ما أنعم الله على عبد نعمة فانتزعها منه وعوّضه منها الصبر ، إلّا كان ما عوّضه منها أفضل ممّا انتزع منه. وقرأ : (إِنَّما يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسابٍ)(٢).

وسئل فضيل عن الصبر فقال : هو الرضا بقضاء الله. قيل : وكيف ذلك؟ قال : الراضي لا يتمنّى فوق منزلته.

وقيل : حبس الشبلي رحمه‌الله في المارستان (٣) فدخل عليه جماعة فقال : من أنتم؟ قالوا : أحبّاؤك جاءوك زائرين ، فأخذ يرميهم بالحجارة فأخذوا يهربون ، فقال : لو كنتم أحبّائي لصبرتم على بلائي.

وكان بعض العارفين في جيبه رقعة يخرجها كلّ ساعة ويطالعها وكان فيها : (وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنا)(٤) ويقال إنّ امرأة فتح الموصلي عثرت فانقطع ظفرها فضحكت ، فقيل لها : أما تجدين الوجع؟ فقالت : إنّ لذّة ثوابه أزالت عن قلبي مرارة وجعه!

[٢ / ٣٨٧٣] وقال داوود لسليمان عليهما‌السلام : يستدلّ على تقوى المؤمن بثلاث : حسن التوكّل فيما لم ينل ، وحسن الرضى فيما قد نال ، وحسن الصبر فيما قد فات.

[٢ / ٣٨٧٤] وقال نبيّنا صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «من إجلال الله ومعرفة حقّه أن لا تشكو وجعك ولا تذكر مصيبتك» (٥).

ويروى عن بعض الصالحين أنّه خرج يوما وفي كمّه صرّة فافتقدها فإذا هي قد أخذت من

__________________

(١) فيض القدير شرح الجامع الصغير ٤ : ٦٤٠ / ٦٠٤٦.

(٢) الزمر ٣٩ : ١٠.

(٣) أي المستشفى الخاصّ بذوي الخبل والجنون (دار المجانين).

(٤) الطور ٥٢ : ٤٨.

(٥) حديث : «من إجلال الله ومعرفة حقّه أن لا تشكو وجعك ولا تذكر مصيبتك» لم أجده مرفوعا وإنّما رواه ابن أبي الدنيا في المرض والكفّارات من رواية سفيان عن بعض الفقهاء ، قال : «من الصبر أن لا تتحدّث بمصيبتك ولا بوجعك ولا تزّكي نفسك».

٢٢٤

كمّه! فقال : بارك الله له فيها ، لعلّه أحوج إليها منّي!

وروي عن بعضهم أنّه قال : مررت على سالم مولى أبي حذيفة في القتلى وبه رمق ، فقلت له :

أسقيك ماء؟ فقال : جرّني قليلا إلى العدوّ واجعل الماء في الترس فإنّي صائم ، فإن عشت إلى الليل شربته! فهكذا كان صبر سالكي طريق الآخرة على بلاء الله تعالى.

* * *

قال المولى الكاشاني :

[٢ / ٣٨٧٥] ومن طريق أهل البيت عليهم‌السلام ما رواه الكليني عن أبي جعفر عليه‌السلام قال : «قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : قال الله تعالى : من مرض ثلاثا فلم يشك إلى عوّاده أبدلته لحما خيرا من لحمه ودما خيرا من دمه ، فإن عافيته عافيته ولا ذنب له ، وإن قبضته قبضته إلى رحمتي» (١) وفي معناه أخبار أخر.

[٢ / ٣٨٧٦] وفي بعضها فسّر التبديل بخير بأن يبدله لحما ودما وبشرة لم يذنب فيها. (٢) وفسّر الشكاية بأن يقول : «ابتليت بما لم يبتل به أحد وأصابني ما لم يصب أحدا ، قال : وليس الشكوى أن يقول : سهرت البارحة وحممت اليوم ونحو هذا» (٣).

[٢ / ٣٨٧٧] وفي رواية عن الصادق عليه‌السلام : «من اشتكى ليلة فقبلها بقبولها وأدّى إلى الله شكرها كانت كعبادة ستّين سنة ، سئل : ما قبولها؟ قال : يصبر عليها ولا يخبر بما كان فيها فإذا أصبح حمد الله على ما كان» (٤).

[٢ / ٣٨٧٨] وسئل الباقر عليه‌السلام عن الصبر الجميل فقال : «ذاك صبر ليس فيه شكوى إلى الناس» (٥).

* * *

قال أبو حامد : فإن قلت : فبماذا تنال درجة الصبر في المصائب وليس الأمر إلى اختياره ، فهو مضطرّ شاء أم أبى؟ فإن كان المراد به أن لا تكون في نفسه كراهيّة المصيبة فذلك غير داخل في الاختيار؟

__________________

(١) الكافي ٣ : ١١٥ / ١.

(٢) المصدر : ١١٦ / ٦.

(٣) المصدر : ١١٦ / ١ ، باب حدّ الشكاية.

(٤) المصدر : ١١٦ / ٥.

(٥) المصدر ٢ : ٩٣ / ٢٣ ، باب الصبر.

٢٢٥

فاعلم أنّه إنّما يخرج عن مقام الصابرين بالجزع وشقّ الجيوب وضرب الخدود والمبالغة في الشكوى وإظهار الكآبة وتغيير العادة في الملبس والمفرش والمطعم ، وهذه الأمور داخلة تحت اختياره ، فينبغي أن يجتنب جميعها ويظهر الرضا بقضاء الله تعالى ويبقى مستمرا على عادته ويعتقد أنّ ذلك كان وديعة فاسترجعت.

[٢ / ٣٨٧٩] كما روي عن الرّميصاء أمّ سليم أنّها قالت : توفّي ابن لي وزوجي أبو طلحة غائب فقمت فسجّيته في ناحية البيت ، فقدم أبو طلحة فقمت فهيّأت له إفطاره فجعل يأكل فقال : كيف الصبيّ فقلت : بأحسن حال بحمد الله ومنّه ، فإنّه لم يكن منذ اشتكى خيرا منه اللّيلة. ثمّ تصنّعت له أحسن ما كنت أتصنّع قبل ذلك حتّى أصاب منّي حاجته ، ثمّ قلت : ألا تعجب من جيراننا! قال : ما لهم؟ قلت : أعيروا عارية فلمّا طلبت منهم واسترجعت جزعوا! فقال : بئس ما صنعوا! فقلت : هذا ابنك كان عارية من الله تعالى وإنّ الله قد قبضه إليه ، فحمد الله واسترجع ، ثمّ غدا على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فأخبره ، فقال : «اللهمّ بارك لهما في ليلتهما» (١) قال الراوي : فلقد رأيت لهم بعد ذلك في المسجد سبعة كلّهم قد قرأوا القرآن.

[٢ / ٣٨٨٠] وروى جابر أنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله قال : «رأيتني دخلت الجنّة فإذا أنا بالرميصاء امرأة أبي طلحة».

وقد قيل : الصبر الجميل هو أن لا يعرف صاحب المصيبة من غيره ، ولا يخرجه عن حدّ الصابرين توجّع القلب ولا فيضان العين بالدمع ، إذ يكون من جميع الحاضرين لأجل الموت سواء ، ولأنّ البكاء توجّع القلب على الميّت ، فإنّ ذلك مقتضى البشريّة ولا يفارق الإنسان إلى الموت.

[٢ / ٣٨٨١] ولذلك لمّا مات إبراهيم ولد النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فاضت عيناه! فقيل له : أما نهيتنا عن هذا؟ فقال : «إنّ هذه رحمة وإنّما يرحم الله من عباده الرحماء» (٢).

__________________

(١) مسند أحمد ٣ : ٢٨٧ ؛ الكبير ٢٥ : ١١٦ والرميصاء بضم الراء صحابيّة.

(٢) رواه البزّار والطبراني من حديث عبد الرحمن بن عوف قال : بعثت ابنة لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّ ابنتي مغلوبة فقال للرسول : قل لها إنّ لله ما أخذ وله ما أعطى ثمّ بعثت إليه ثانية فقال لها مثل ذلك ، ثمّ بعثت إليه الثالثة فجاءها في ناس من أصحابه فأخرجت إليه الصبيّة ونفسها تقعقع (أي تضطرب) في صدرها ، فرقّ عليها فذرفت عيناه ففطن به بعض أصحابه وهم ينظرون إليه حين ذرفت عيناه ، فقال : «ما لكم تنظرون رحمة الله يضعها حيث يشاء إنّما يرحم الله من عباده الرحماء». راجع : مسند أحمد ٥ : ٢٠٤ والبخاري ٢ : ٨٠ ومجمع الزوائد ٣ : ١٨. وما عثرت على لفظ ما نقله المصنّف.

٢٢٦

بل ذلك أيضا لا يخرج عن مقام الرضا ، فالمقدم على الحجامة والفصد راض به وهو متألّم بسببه لا محالة ، وقد تفيض عيناه إذا عظم ألمه.

وكتب ابن أبي نجيح يعزّي بعض الخلفاء : إنّ أحقّ من عرف حقّ الله تعالى فيما أخذ منه ، من عظم حقّ الله تعالى عنده فيما أبقاه له ، واعلم أنّ الماضي قبلك هو الباقي لك والباقي بعدك هو المأجور فيك. واعلم أنّ أجر الصابرين به فيما يصابون به أعظم من النعمة عليهم فيما يعافون منه.

فإذن مهما دفع الكراهة بالتفكّر في نعمة الله تعالى عليه بالثواب ، نال درجة الصابرين. نعم من كمال الصبر كتمان المرض والفقر وسائر المصائب. وقد قيل : من كنوز البرّ كتمان المصائب والأوجاع والصدقة.

فقد ظهر لك بهذه التقسيمات أنّ وجوب الصبر عامّ في جميع الأحوال والأفعال ، فإنّ الّذي كفى الشهوات كلّها واعتزل وحده لا يستغني عن الصبر على العزلة والانفراد ظاهرا ، وعن الصبر عن وساوس الشيطان باطنا. فإنّ اختلاج الخواطر لا يسكن. وأكثر جولان الخواطر إنّما يكون في فائت لا تدارك له أو في مستقبل لا بدّ أن يحصل منه ما هو مقدّر ، فهو كيفما كان تضييع زمان. وآلة العبد قلبه وبضاعته عمره ، فإذا غفل القلب في نفس واحد عن ذكر يستفيد به أنسا بالله تعالى أو عن فكر يستفيد به معرفة بالله تعالى ليستفيد بالمعرفة محبّة الله تعالى فهو مغبون ، هذا إن كان فكره ووسواسه في المباحات مقصورا عليه ، ولا يكون ذلك غالبا ، بل يتفكّر في وجوه الحيل لقضاء الشهوات ، إذ لا يزال ينازع كلّ من تحرّك على خلاف غرضه في جميع عمره ، أو من يتوهّم أنّه ينازعه ويخالف أمره أو غرضه بظهور أمارة له منه ، بل يقدر المخالفة من أخلص الناس في حبّه حتّى في أهله وولده ، ويتوهّم مخالفتهم له ، ثمّ يتفكّر في كيفيّة زجرهم ، وكيفيّة قهرهم وجوابهم عمّا يتعلّلون به في مخالفته ، ولا يزال في شغل دائم ، فللشيطان جندان : جند يطير وجند يسير ، والوسواس عبارة عن حركة جنده الطيّار ، والشهوة عبارة عن حركة جنده السيّار. وهذا لأنّ الشيطان خلق من النار ، وخلق الإنسان من صلصال كالفخّار ، والفخّار قد اجتمع فيه مع النار الطين ، والطين طبيعته السكون والنار طبيعتها الحركة ، فلا يتصوّر نار مشتعلة لا تتحرّك بل لا تزال تتحرّك بطبعها. وقد كلّف المخلوق من النار أن يطمئنّ عن حركته ساجدا لما خلق الله من الطين ، فأبى

٢٢٧

واستكبر واستعصى وعبر عن سبب استعصائه بأن قال : (خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ)(١).

فإذن حيث لم يسجد إبليس لأبينا آدم عليه‌السلام فلا ينبغي أن يطمع في سجوده لأولاده. ومهما كفّ عن القلب وسواسه وعدوانه وطيرانه وجولانه فقد أظهر انقياده وإذعانه. وانقياده بالإذعان سجود منه ـ فهو روح السجود ـ وإنّما وضع الجبهة على الأرض قالبه وعلامته الدالّة عليه بالاصطلاح. ولو جعل وضع الجبهة على الأرض علامة استخفاف بالاصطلاح لتصوّر ذلك ، كما أنّ الانبطاح بين يدي المعظم المحترم يرى استخفافا بالعادة ، فلا ينبغي أن يدهشك صدف الجوهر عن الجوهر وقالب الروح عن الروح وقشر اللبّ عن اللبّ! فتكون ممّن قيّده عالم الشهادة بالكلّيّة عن عالم الغيب ، وتحقّق أنّ الشيطان من المنظرين ، فلا يتواضع لك بالكفّ عن الوسواس إلى يوم الدين إلّا أن تصبح وهمومك همّ واحد ، فتشغل قلبك بالله وحده فلا يجد الشيطان مجالا فيك ، فعند ذلك تكون من عباد الله المخلصين الداخلين في الاستثناء عن سلطنة هذا اللعين.

ولا تظنّنّ أنّه يخلو عنه قلب فارغ ، بل هو سيّال يجري من ابن آدم مجرى الدم ، وسيلانه مثل الهواء في القدح ، فإنّك إن أردت أن يخلو القدح عن الهواء من غير أن تشغله بالماء أو بغيره فقد طمعت في غير مطمع ، بل بقدر ما يخلو من الماء يدخل فيه الهواء لا محالة ، فكذلك القلب المشغول بفكر مهمّ في الدين لا يخلو عن جولان الشيطان ، وإلّا فمن غفل عن الله تعالى ولو في لحظة فليس له في تلك اللّحظة قرين إلّا الشيطان. ولذلك قال تعالى : (وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ)(٢).

[٢ / ٣٨٨٢] وقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «إنّ الله تعالى يبغض الشابّ الفارغ» (٣) وهذا لأنّ الشابّ إذا تعطّل عن عمل يشغل باطنه بمباح يستعين به على دينه ، كان ظاهره فارغا ولم يبق قلبه فارغا ، بل يعشّش فيه الشيطان ويبيض ويفرخ ، ثمّ تزدوج أفراخه أيضا وتبيض مرّة أخرى وتفرخ ، وهكذا يتوالد نسل الشيطان توالدا أسرع من توالد سائر الحيوانات ، لأنّ طبعه من النار ، وإذا وجد الحلفاء اليابسة (٤) كثر توالده ، فلا يزال تتوالد النار من النار ولا تنقطع البتّة بل تسري شيئا فشيئا على

__________________

(١) الأعراف ٧ : ١٢.

(٢) الزخرف ٤٣ : ٣٦.

(٣) الكافي ٥ : ٨٤ / ٢ ، باب كراهيّة النوم والفراغ ، عن الإمام الكاظم عليه‌السلام بلفظ : «إنّ الله يبغض العبد النوّام الفارغ».

(٤) الحلفاء : نبت يشبه سعف النخل ينبت في مغايض المياه.

٢٢٨

الاتّصال. فالشهوة في نفس الشابّ للشيطان كالحلفاء اليابسة للنار ، وكما لا تبقى النار إذا لم يبق لها قوت وهو الحطب ، فلا يبقى للشيطان مجال إذا لم تكن شهوة. فإذن إذا تأمّلت علمت أنّ أعدى عدوّك شهوتك وهي صفة نفسك ، ولذلك قال الحسين بن منصور الحلّاج حين كان يصلب ـ وقد سئل عن التصوّف ما هو؟ ـ فقال : هي نفسك إن لم تشغلها شغلتك.

فإذن حقيقة الصبر وكماله : الصبر عن كلّ حركة مذمومة ، وحركة الباطن أولى بالصبر عن ذلك ، وهذا صبر دائم لا يقطعه إلّا الموت. نسأل الله حسن التوفيق بمنّه وكرمه.

دواء الصبر

اعلم أنّ الّذي أنزل الداء أنزل الدواء ووعد الشفاء ، فالصبر وإن كان شاقّا أو ممتنعا فتحصيله ممكن بمعجون العلم والعمل. فالعلم والعمل هما الأخلاط الّتي منها تركّب الأدوية لأمراض القلوب كلّها ، ولكن يحتاج كلّ مرض إلى علم آخر وعمل آخر ، وكما أنّ أقسام الصبر مختلفة فأقسام العلل المانعة منه مختلفة ، وإذا اختلفت العلل اختلف العلاج ، إذ معنى العلاج مضادّة العلّة وقمعها. واستيفاء ذلك ممّا يطول ولكنّنا نعرف الطريق في بعض الأمثلة :

فنقول : إذا افتقر إلى الصبر عن شهوة الوقاع مثلا وقد غلبت عليه الشهوة بحيث ليس يملك معها فرجه ، أو يملك فرجه ولكن ليس يملك عينه ، أو يملك عينه ولكن ليس يملك قلبه ونفسه ، إذ لا تزال تحدّثه بمقتضيات الشهوات ويصرفه ذلك عن المواظبة على الذكر والفكر والأعمال الصالحة. فنقول : قد قدّمنا أنّ الصبر عبارة عن مصارعة باعث الدين مع باعث الهوى ، وكلّ متصارعين أردنا أن يغلب أحدهما الآخر فلا طريق لنا فيه إلّا تقوية من أردنا أن تكون له اليد العليا وتضعيف الآخر ؛ فلزمنا هاهنا تقوية باعث الدين وتضعيف باعث الشهوة.

فأمّا باعث الشهوة فسبيل تضعيفه ثلاثة أمور :

أحدها : أن ننظر إلى مادّة قوّتها وهي الأغذية الطيّبة المحرّكة للشهوة ـ من حيث نوعها ومن حيث كثرتها ـ فلا بدّ من قطعها بالصوم الدائم مع الاقتصاد عند الإفطار على طعام قليل في نفسه ، ضعيف في جنسه ، فيحترز عن اللحم والأطعمة المهيّجة للشهوة.

الثاني : قطع أسبابه المهيّجة في الحال فإنّه إنّما يهيّج بالنظر إلى مظانّ الشهوة ، إذ النظر يحرّك

٢٢٩

القلب والقلب يحرّك الشهوة ، وهذا يحصل بالعزلة والاحتراز عن مظانّ وقوع البصر على الصور المشتهاة ، والفرار منها بالكلّية.

[٢ / ٣٨٨٣] قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «النظرة سهم من سهام إبليس» (١) وهو سهم يسدّده الشيطان ولا ترس يمنع منه إلّا تغميض الأجفان أو الهرب من صوب رميه. فإنّه إنّما يرمي هذا السهم عن قوس الصور فإذا انقلبت عن صوب الصور لم يصبك سهمه.

الثالث : تسلية النفس بالمباح من الجنس الّذي تشتهيه وذلك بالنكاح ، فإنّ كلّ ما يشتهيه الطبع ففي المباحات من جنسه ما يغني عن المحظورات منه. وهذا هو العلاج الأنفع في حقّ الأكثر ، فإنّ قطع الغذاء يضعف عن سائر الأعمال ، ثمّ قد لا يقمع الشهوة في حقّ أكثر الرجال.

[٢ / ٣٨٨٤] ولذلك قال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «عليكم بالباءة فمن لم يستطع فعليه بالصوم فإنّ الصوم له وجاء» (٢).

فهذه ثلاثة أسباب ، فالعلاج الأوّل وهو قطع الطعام ، يضاهي قطع العلف عن البهيمة الجموح وعن الكلب الضاري ليضعف فتسقط قوّته. الثاني : يضاهي تغييب اللحم عن الكلب وتغييب الشعير عن البهيمة حتّى لا تتحرّك بواطنها بسبب مشاهدتها. والثالث : يضاهي تسليتها بشيء قليل ممّا يميل إليه طبعها حتّى يبقى معها من القوّة ما تصبر به على التأديب.

وأمّا تقوية باعث الدين فإنّما تكون بطريقين ، أحدهما : إطماعه في فوائد المجاهدة وثمراتها في الدين والدنيا ، وذلك بأن يكثر فكره في الأخبار الّتي أوردناها في فضل الصبر وفي حسن عواقبه في الدنيا والآخرة. وفي الأثر : إنّ ثوابّ الصبر على المصيبة أكثر ممّا فات ، وإنّه بسبب ذلك مغبوط بالمصيبة ، إذ فاته ما لا يبقى معه إلّا مدّة الحياة ، وحصل له ما يبقى بعد موته أبد الدهر. ومن أسلم خسيسا في نفيس فلا ينبغي أن يحزن لفوات الخسيس في الحال. وهذا من باب المعارف وهو من الإيمان ، فتارة يضعف وتارة يقوى ، فإن قوي قوّى باعث الدين وهيّجه تهييجا شديدا ، وإن ضعف ضعّفه. وإنّما قوّة الإيمان يعبّر عنها باليقين ، وهو المحرّك لعزيمة الصبر ، وأقلّ ما أوتي الناس اليقين وعزيمة الصبر.

والثاني : أن يعوّد هذا الباعث مصارعة باعث الهوى تدريجا قليلا قليلا حتّى يدرك لذّة الظفر

__________________

(١) الحاكم ٤ : ٣١٤.

(٢) الأوسط ٨ : ١٣٧ ؛ الكبير ١٠ : ١٢٢ / ١٠١٧١.

٢٣٠

بها ، فيستجرئ عليها وتقوى منّته (١) في مصارعتها ، فإنّ الاعتياد والممارسة للأعمال الشاقّة تؤكّد القوى الّتي تصدر منها تلك الأعمال ، ولذلك تزيد قوّة الحمّالين والفلّاحين والمقاتلين. وبالجملة فقوّة الممارسين للأعمال الشاقّة تزيد على قوّة الخيّاطين والعطّارين والفقهاء والصالحين ، وذلك لأنّ قواهم لم تتأكّد بالممارسة.

فالعلاج الأوّل : يضاهي إطماع المصارع بالخلعة عند الغلبة ووعده بأنواع الكرامة ، كما وعد فرعون سحرته عند إغرائه إيّاهم بموسى حيث قال : (وَإِنَّكُمْ إِذاً لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ)(٢).

والثاني : يضاهي تعويد الصبيّ الّذي يراد منه المصارعة والمقاتلة بمباشرة أسباب ذلك منذ الصبا ، حتّى يأنس به ويستجرئ عليه وتقوى فيه منّته. فمن ترك بالكلّيّة المجاهدة بالصبر ضعف فيه باعث الدين ولا يقوى على الشهوة وإن ضعفت ، ومن عوّد نفسه مخالفة الهوى غلبها مهما أراد.

فهذا منهاج العلاج في جميع أنواع الصبر ولا يمكن استيفاؤه ، وإنّما أشدّها كفّ الباطن عن حديث النفس ، وإنّما يشتدّ ذلك على من تفرّغ له ، بأن قمع الشهوات الظاهرة وآثر العزلة وجلس للمراقبة والذكر والفكر ، فإنّ الوسواس لا يزال يجاذبه من جانب إلى جانب. وهذا لا علاج له البتّة إلّا قطع العلائق كلّها ظاهرا وباطنا بالفرار عن الأهل والولد والمال والجاه والرفقاء والأصدقاء ، ثمّ الاعتزال إلى زاوية بعد إحراز قدر يسير من القوت وبعد القناعة به. ثمّ كلّ ذلك لا يكفي ما لم تصر الهموم همّا واحدا وهو الله تعالى. ثمّ ، إذا غلب ذلك على القلب فلا يكفي ذلك ما لم يكن له مجال في الفكر وسير بالباطن في ملكوت السماوات والأرض وعجائب صنع الله تعالى وسائر أبواب معرفة الله تعالى ، حتّى إذا استولى ذلك على قلبه دفع اشتغاله بذلك مجاذبة الشيطان ووسواسه ، وإن لم يكن له سير بالباطن فلا ينجيه إلّا الأوراد المتواصلة المترتّبة في كلّ لحظة ، من القراءة والأذكار والصلوات ، ويحتاج مع ذلك إلى تكليف القلب الحضور ، فإنّ الفكر بالباطن هو الّذي يستغرق القلب دون الأوراد الظاهرة. ثمّ إذا فعل ذلك كلّه لم يسلم له من الأوقات إلّا بعضها ؛ إذ لا يخلو في جميع أوقاته عن حوادث تتجدّد فتشغله عن الفكر والذكر من مرض وخوف وإيذاء من إنسان وطغيان من مخالط ، إذ لا يستغني عن مخالطة من يعينه في بعض أسباب المعيشة. فهذا أحد الأنواع الشاغلة.

__________________

(١) المنّة : القوّة.

(٢) الشعراء ٢٦ : ٤٢.

٢٣١

وأمّا النوع الثاني : فهو ضروريّ أشدّ ضرورة من الأوّل ، وهو اشتغاله بالمطعم والملبس وأسباب المعاش ، فإنّ تهيئة ذلك أيضا تحوج إلى شغل إن تولّاه بنفسه ، وإن تولّاه غيره فلا يخلو عن شغل قلب بمن يتولّاه. ولكن بعد قطع العلائق كلّها يسلم له أكثر الأوقات إن لم تهجم به ملمّة أو واقعة ، وفي تلك الأوقات يصفو القلب ويتيسّر له الفكر ، وينكشف فيه من أسرار الله تعالى في ملكوت السماوات والأرض ما لا يقدر على عشر عشيرة في زمان طويل لو كان مشغول القلب بالعلائق. والانتهاء إلى هذا هو أقصى المقامات الّتي يمكن أن تنال بالاكتساب والجهد. فأمّا مقادير ما ينكشف مبالغ ما يرد من لطف الله تعالى في الأحوال والأعمال فذلك يجري مجرى الصيد وهو بحسب الرزق. فقد يقلّ الجهد ويجلّ الصيد ، وقد يطول الجهد ويقلّ الحظّ ، والمعوّل وراء هذا الاجتهاد على جذبة من جذبات الرحمان فإنّها توازي أعمال الثقلين وليس ذلك باختيار العبد. نعم اختيار العبد في أن يتعرّض لتلك الجذبة بأن يقطع عن قلبه جواذب الدنيا ، فإنّ المجذوب إلى أسفل سافلين لا ينجذب إلى أعلى عليّين. وكلّ مهموم بالدنيا فهو منجذب إليها.

فقطع العلائق الجاذبة هو المراد بقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :

[٢ / ٣٨٨٥] «إنّ لربّكم في أيّام دهركم نفحات ألا فتعرّضوا لها» (١) وذلك لأنّ تلك النفحات والجذبات لها أسباب سماويّة إذ قال الله تعالى : (وَفِي السَّماءِ رِزْقُكُمْ وَما تُوعَدُونَ)(٢). وهذا من أعلى أنواع الرزق. والأمور السماويّة غائبة عنّا فلا ندري متى ييسّر الله تعالى أسباب الرزق. فما علينا إلّا تفريغ المحلّ والانتظار لنزول الرحمة وبلوغ الكتاب أجله. كالّذي يصلح الأرض وينقّيها من الحشيش ويبثّ البذر فيها ، وكلّ ذلك لا ينفعه إلّا بمطر ولا يدري متى يقدّر الله أسباب المطر ، إلّا أنّه يثق بفضل الله تعالى ورحمته أنّه لا يخلى سنة عن مطر ، فكذلك قلّما تخلو سنة وشهر ويوم عن جذبة من الجذبات ونفحة من النفحات ، فينبغي أن يكون العبد قد طهّر القلب عن حشيش الشهوات وبذر فيه بذر الإرادة والإخلاص وعرّضه لمهابّ رياح الرحمة. وكما يقوى انتظار الأمطار في أوقات الربيع وعند ظهور الغيم ، فيقوى انتظار تلك النفحات في الأوقات الشريفة وعند اجتماع الهمم وتساعد القلوب ، كما في يوم عرفة ويوم الجمعة وأيّام رمضان ، فإنّ الهمم والأنفاس أسباب.

__________________

(١) قال الهيثمي في «مجمع الزوائد» (١٠ / ٢٣١) رواه الطبراني في الأوسط ٣ : ١٨٠ والكبير ١٩ : ٢٣٤ بنحوه.

(٢) الذاريات ٥١ : ٢٢.

٢٣٢

بحكم تقدير الله تعالى لاستدرار رحمته حتّى تستدرّ بها الأمطار في أوقات الاستسقاء ، وهي لاستدرار أمطار المكاشفات ولطائف المعارف من خزائن الملكوت أشدّ مناسبة منها لاستدرار قطرات الماء واستجرار الغيوم من أقطار الجبال والبحار ، بل الأحوال والمكاشفات حاضرة معك في قلبك ، وإنّما أنت مشغول عنها بعلائقك وشهواتك فصار ذلك حجابا بينك وبينها ، فلا تحتاج إلّا إلى أن تنكسر الشهوة ويرفع الحجاب فتشرق أنوار المعارف من باطن القلب. وإظهار ماء الأرض بحفر القنى أسهل وأقرب من استرسال الماء إليها من مكان بعيد منخفض عنها. ولكونه حاضرا في القلب ومنسيّا بالشغل عنه سمّى الله تعالى جميع معارف الإيمان تذكّرا ، فقال تعالى : (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ)(١) وقال تعالى : (وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُوا الْأَلْبابِ)(٢) وقال تعالى : (وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ)(٣) فهذا هو علاج الصبر عن الوساوس والشواغل وهو آخر درجات الصبر ، وإنّما الصبر عن العلائق كلّها مقدّم على الصبر عن الخواطر.

قال الجنيد رحمه‌الله : السير من الدنيا إلى الآخرة سهل على المؤمن ، وهجران الخلق في حبّ الحقّ شديد ، والسير من النفس إلى الله تعالى صعب شديد ، والصبر مع الله أشدّ. فذكر شدّة الصبر عن شواغل القلب ثمّ شدّة هجران الخلق.

وأشدّ العلائق على النفس علاقة الخلق وحبّ الجاه. فإنّ لذّة الرياسة والغلبة والاستعلاء والاستتباع أغلب اللّذّات في الدنيا على نفوس العقلاء ، وكيف لا تكون أغلب اللّذّات ومطلوبها صفة من صفات الله تعالى وهي الربوبيّة؟ والربوبيّة محبوبة ومطلوبة بالطبع للقلب ، لما فيه من المناسبة لأمور الربوبيّة ، وعنه العبارة بقوله تعالى : (قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي)(٤) وليس القلب مذموما على حبّه ذلك وإنّما هو مذموم على غلط وقع له بسبب تغرير الشيطان المبعد عن عالم الأمر ، إذ حسده ، على كونه من عالم الأمر. فأضلّه وأغواه ، وكيف يكون مذموما عليه وهو يطلب سعادة الآخرة؟ فليس يطلب إلّا بقاء لا فناء فيه. وعزّا لا ذلّ فيه ، وأمنا لا خوف فيه ، وغنى لا فقر فيه ، وكمالا لا نقصان فيه! وهذه كلّها من أوصاف الربوبيّة. وليس مذموما على طلب ذلك ، بل حقّ كلّ عبد أن يطلب ملكا عظيما لا آخر له. وطالب الملك طالب للعلوّ والعزّ والكمال لا محالة. ولكن

__________________

(١) الحجر ١٥ : ٩.

(٢) سورة ص ٣٨ : ٢٩.

(٣) القمر ٥٤ : ١٧.

(٤) الإسراء ١٧ : ٨٥.

٢٣٣

الملك ملكان : ملك مشوب بأنواع الآلام وملحوق بسرعة الانصرام ، ولكنّه عاجل وهو في الدنيا. وملك مخلّد دائم لا يشوبه كدر ولا ألم ولا يقطعه قاطع ولكنّه آجل ... وقد خلق الإنسان عجولا راغبا في العاجلة ، فجاء الشيطان وتوسّل إليه بواسطة العجلة ـ الّتي في طبعه ـ فاستغواه بالعاجلة وزيّن له الحاضرة ، وتوسّل إليه بواسطة الحمق فوعده بالغرور في الآخرة ومنّاه مع ملك الدنيا ملك الآخرة.

[٢ / ٣٨٨٦] كما قال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «والأحمق من اتّبع نفسه هواها وتمنّى على الله الأماني» (١) فانخدع المخذول بغروره واشتغل بطلب عزّ الدنيا وملكها على قدر إمكانه. ولم يتدلّ الموفّق بحبل غروره إذ علم مداخل مكره فأعرض عن العاجلة ، فعبر عن المخذولين بقوله تعالى : (كَلَّا بَلْ تُحِبُّونَ الْعاجِلَةَ. وَتَذَرُونَ الْآخِرَةَ)(٢) وقال تعالى : (إِنَّ هؤُلاءِ يُحِبُّونَ الْعاجِلَةَ وَيَذَرُونَ وَراءَهُمْ يَوْماً ثَقِيلاً)(٣) وقال تعالى : (فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنا وَلَمْ يُرِدْ إِلَّا الْحَياةَ الدُّنْيا. ذلِكَ مَبْلَغُهُمْ مِنَ الْعِلْمِ)(٤).

ولمّا استطار مكر الشيطان في كافّة الخلق أرسل الله الملائكة إلى الرسل وأوحوا إليهم ما تمّ على الخلق من إهلاك العدوّ وإغوائه ، فاشتغلوا بدعوة الخلق إلى الملك الحقيقي عن الملك المجازي الّذي لا أصل له أصلا فنادوا فيهم : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ما لَكُمْ إِذا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَياةِ الدُّنْيا مِنَ الْآخِرَةِ فَما مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ)(٥).

فالتوراة والإنجيل والزبور والفرقان وصحف موسى وإبراهيم وكلّ كتاب منزل ما أنزل إلّا لدعوة الخلق إلى الملك الدائم المخلد ، والمراد منهم أن يكونا ملوكا في الدنيا ، ملوكا في الآخرة. أمّا ملك الدنيا : فالزهد فيها والقناعة باليسير منها. وأمّا ملك الآخرة : فبالقرب من الله تعالى يدرك بقاء لا فناء فيه وعزّا لا ذلّ فيه وقرّة عين أخفيت في هذا العالم لا تعلمها نفس من النفوس.

والشيطان يدعوهم إلى ملك الدنيا ، لعلمه بأنّ ملك الآخرة يفوت به ، إذ الدنيا والآخرة ضرّتان ، ولعلمه بأنّ الدنيا لا تسلم له أيضا ، ولو كانت تسلم له لكان يحسده أيضا ، ولكن ملك الدنيا لا يخلو عن المنازعات والمكدرات وطول الهموم في التدبيرات ، وكذا سائر أسباب الجاه. ثمّ مهما تسلّم

__________________

(١) فيض القدير ٢ : ٤٤٥ / ٢٠٢٥.

(٢) القيامة ٧٥ : ٢٠ ـ ٢١.

(٣) الإنسان ٧٦ : ٢٧.

(٤) النجم ٥٣ : ٢٩ ـ ٣٠.

(٥) التوبة ٩ : ٣٨.

٢٣٤

وتتمّ الأسباب ينقضي العمر : (حَتَّى إِذا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَها وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُها أَنَّهُمْ قادِرُونَ عَلَيْها أَتاها أَمْرُنا لَيْلاً أَوْ نَهاراً فَجَعَلْناها حَصِيداً كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ)(١) فضرب الله تعالى لها مثلا فقال تعالى : (وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَياةِ الدُّنْيا كَماءٍ أَنْزَلْناهُ مِنَ السَّماءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَباتُ الْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيماً تَذْرُوهُ الرِّياحُ)(٢) والزهد في الدنيا لمّا أن كان ملكا حاضرا حسده الشيطان عليه فصدّه عنه.

ومعنى الزهد أن يملك العبد شهوته وغضبه فينقادان لباعث الدين وإشارة الإيمان ، وهذا ملك بالاستحقاق إذ به يصير صاحبه حرّا. وباستيلاء الشهوة عليه يصير عبدا لفرجه وبطنه وسائر أغراضه ، فيكون مسخّرا مثل البهيمة مملوكا يستجرّه زمام الشهوة آخذا بمختنقه إلى حيث يريد ويهوى. فما أعظم اغترار الإنسان إذ ظنّ أنّه ينال الملك بأنّه يصير مملوكا! وينال الربوبيّة بأن يصير عبدا! ومثل هذا هل يكون إلّا معكوسا في الدنيا منكوسا في الآخرة؟

ولهذا قال بعض الملوك لبعض الزهّاد : هل من حاجة؟ قال : كيف أطلب منك حاجة وملكي أعظم من ملكك؟ فقال : كيف؟ قال : من أنت عبده فهو عبد لي! فقال : كيف ذلك؟ قال : أنت عبد شهوتك وغضبك وفرجك وبطنك ، وقد ملكت هؤلاء كلّهم فهم عبيد لي.

فهذا إذن هو الملك في الدنيا وهو الّذي يسوق إلى الملك في الآخرة. فالمخدوعون بغرور الشيطان خسروا الدنيا والآخرة جميعا ، والّذين وفّقوا للاشتداد على الصراط المستقيم فازوا بالدنيا والآخرة جميعا.

فإذا عرفت الآن معنى الملك والربوبيّة ، ومعنى التسخير والعبوديّة ، ومدخل الغلط في ذلك وكيفيّة تعمية الشيطان وتلبيسه ، يسهل عليك النزوع عن الملك والجاه ، والإعراض عنه والصبر عند فواته ؛ إذ تصير بتركه ملكا في الحال وترجو به ملكا في الآخرة.

ومن كوشف بهذه الأمور بعد أن ألف الجاه وأنس به ورسخت فيه بالعادة مباشرة أسبابه فلا يكفيه في العلاج مجرّد العلم والكشف ؛ بل لا بدّ أن يضيف إليه العمل ، وعمله في ثلاثة أمور :

أحدها : أن يهرب عن موضع الجاه كي لا يشاهد أسبابه فيعسر عليه الصبر مع الأسباب ، كما يهرب من غلبته الشهوة من مشاهدة الصور المحرّكة ، ومن لم يفعل هذا فقد كفر نعمة الله في سعة

__________________

(١) يونس ١٠ : ٢٤.

(٢) الكهف ١٨ : ٤٥.

٢٣٥

الأرض إذ قال تعالى : (أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللهِ واسِعَةً فَتُهاجِرُوا فِيها)(١).

الثاني : أن يكفّ نفسه في أعماله أفعالا تخالف ما اعتاده ، فيبدّل التكلّف بالتبذّل ، وزيّ الحشمة بزيّ التواضع ، وكذلك كلّ هيئة وحال وفعل ، في مسكن وملبس ومطعم وقيام وقعود كان يعتاده وفاء بمقتضى جاهه ، فينبغي أن يبدّلها بنقائضها حتّى يرسخ باعتياد ذلك ضدّ ما رسخ فيه من قبل باعتياد ضدّه ، فلا معنى للمعالجة إلّا المضادّة.

الثالث : أن يراعي في ذلك التلطّف والتدريج ، فلا ينتقل دفعة واحدة إلى الطرف الأقصى من التبذّل ، فإنّ الطبع نفور ، ولا يمكن نقله عن أخلاقه إلّا بالتدريج ، فيترك البعض ويسلّي نفسه بالبعض ، ثمّ إذا قنعت نفسه بذلك البعض ابتدأ بترك البعض من ذلك البعض ، إلى أن يقنع بالبقيّة. وهكذا يفعل شيئا فشيئا إلى أن يقمع تلك الصفات الّتي رسخت فيه.

[٢ / ٣٨٨٧] وإلى هذا التدريج الإشارة بقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «إنّ هذا الدين متين فأوغل فيه برفق ولا تبغض إلى نفسك عبادة الله ، فإنّ المنبتّ (٢) لا أرضا قطع ولا ظهرا أبقى» (٣).

[٢ / ٣٨٨٨] وإليه الإشارة بقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «لا تشادّوا هذا الدين فإنّ من يشادّه يغلبه» (٤).

ومن راعى التدريج ترقى به الصبر إلى حال يشقّ عليه الصبر دونه ، كما كان يشقّ عليه الصبر معه ، فتنعكس أموره ، فيصير ما كان محبوبا عنده ممقوتا وما كان مكروها عنده مشربا هنيئا لا يصبر عنه. وهذا لا يعرف إلّا بالتجربة والذوق. وله نظير في العادات ، فإنّ الصبيّ يحمل على التعلّم في الابتداء قهرا. فيشقّ عليه الصبر عن اللعب والصبر مع العلم ، حتّى إذا انفتحت بصيرته وأنس بالعلم انقلب الأمر ، فصار يشقّ عليه الصبر عن العلم والصبر على اللعب. وإلى هذا يشير ما حكي عنى بعض العارفين أنّه سأل الشبليّ عن الصبر أيّه أشدّ؟ فقال : الصبر في الله تعالى؟ فقال : لا ، فقال : الصبر لله؟ فقال : لا ، فقال : الصبر مع الله؟ فقال : لا ، فقال : فأيش؟ قال : الصبر عن الله ، فصرخ الشبليّ صرخة كادت روحه تتلف.

__________________

(١) النساء ٤ : ٩٧.

(٢) المنبتّ : من انقطع في سفره وعطبت راحلته. أي بقي عاجزا عن بلوغ مقصده ولم يقض حاجته.

(٣) البيهقي ٣ : ١٨ ؛ مجمع الزوائد ١ : ٦٢.

(٤) انظر : البيهقي ٣ : ١٨ والحاكم ١ : ٣١٢. والمشادّة : المغالبة.

٢٣٦

وقد قيل في معنى قوله تعالى : (اصْبِرُوا وَصابِرُوا وَرابِطُوا)(١) اصبروا في الله وصابروا بالله ورابطوا مع الله. وقيل الصبر لله غناء والصبر بالله بقاء والصبر مع الله وفاء والصبر عن الله جفاء. وقد قيل في معناه :

والصبر عنك فمذموم عواقبه

والصبر في سائر الأشياء محمود

وقيل أيضا :

الصبر يجمل في المواطن كلّها

إلّا عليك فإنّه لا يجمل (٢)

* * *

وبعد فإليك ما روي بالإسناد إلى أئمّة أهل البيت عليهم‌السلام زيادة على ما أسلفناه عن الكافي الشريف :

[٢ / ٣٨٨٩] وروى عليّ بن إبراهيم القمي بالإسناد إلى ابن أبي عمير عن ابن مسكان عن الإمام أبي عبد الله الصادق عليه‌السلام قال : «اصبروا على المصائب. وقال : إذا كان يوم القيامة نادى مناد : أين الصابرون؟ فيقوم فئام من الناس. ثمّ ينادي : أين المتصبّرون؟ فيقوم فئام من الناس. قيل له : ما الصابرون وما المتصبّرون؟ قال : الصابرون على أداء الفرائض ، والمتصبّرون على اجتناب المحارم!» (٣).

[٢ / ٣٨٩٠] وقال الإمام أمير المؤمنين عليه‌السلام في خطبة خطبها :

«أمّا بعد ، فإنّ الأمر ينزل من السماء إلى الأرض كقطرات المطر ، إلى كلّ نفس بما قسم لها من زيادة أو نقصان ، فإن راى أحدكم لأخيه غفيرة (٤) في أهل أو مال أو نفس ، فلا تكوننّ له فتنة ، فإنّ المرء المسلم ما لم يغش دناءة تظهر ، فيخشع لها إذا ذكرت ، ويغرى بها لئام الناس ، كان كالفالج (٥) الياسر (٦) الّذي ينتظر أوّل فوزة من قداحه توجب له المغنم ، ويرفع بها عنه المغرم. وكذلك المرء

__________________

(١) آل عمران ٣ : ٢٠٠.

(٢) راجع : إحياء علوم الدين ٤ : ٩٠ ـ ١١٨ ، والمحجّة البيضاء ٧ : ١٠٥ ـ ١٤٠.

(٣) القمي ١ : ١٢٩ ذيل الآية ٢٠٠ من سورة آل عمران. والفئام : الجماعة من الناس ؛ البحار ٦٨ : ٨٣ ـ ٨٤ / ٢٥.

(٤) أي زيادة وكثرة.

(٥) هو الظافر الفائز.

(٦) أي اللاعب بقداح الميسر ، أي المقامر.

٢٣٧

المسلم البريء من الخيانة ينتظر من الله إحدى الحسنين : إمّا داعي الله فما عند الله خير له. وإمّا رزق الله فإذا هو ذو أهل ومال ، ومعه دينه وحسبه. وإنّ المال والبنين حرث الدنيا ، والعمل الصالح حرث الآخرة ، وقد يجمعهما الله تعالى لأقوام. فاحذروا من الله ما حذّركم من نفسه ، واخشوه خشية ليست بتعذير (١) واعملوا في غير رياء ولا سمعة ، فإنّه من يعمل لغير الله يكله الله لمن عمل له. نسأل الله منازل الشهداء ، ومعايشة السعداء ، ومرافقة الأنبياء» (٢).

وهكذا روى عبد الله بن جعفر الحميري بالإسناد إلى بكر بن محمّد الأزدي عن الإمام الصادق عليه‌السلام إلى قوله : «وقد يجمعهما الله ـ عزوجل ـ لأقوام» (٣).

[٢ / ٣٨٩١] وروى عن الحسن بن ظريف عن ابن علوان عن الإمام جعفر بن محمّد الصادق عليه‌السلام قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «إنّ الله تبارك وتعالى ينزل المعونة على قدر المؤونة ، وينزل الصبر على قدر شدّة البلاء» (٤).

[٢ / ٣٨٩٢] وروى بالإسناد إلى أبي عبد الله عن أبيه عن عليّ عليهم‌السلام قال : «لا يذوق المرء من حقيقة الإيمان ، حتّى يكون فيه ثلاث خصال : الفقه في الدين ، والصبر على المصائب ، وحسن التقدير في المعيشة» (٥).

[٢ / ٣٨٩٣] وهكذا روى أبو جعفر الصدوق بالإسناد إلى الحارث بن الأعور قال : قال أمير المؤمنين ـ عليه صلوات المصلّين ـ : «ثلاث بهنّ يكمل المسلم : التفقّه في الدين ، والتقدير في المعيشة ، والصبر على النوائب» (٦).

[٢ / ٣٨٩٤] وروى بالإسناد إلى أبي حمزة الثّمالي عن الإمام أبي جعفر الباقر عليه‌السلام قال : «العبد بين ثلاثة : بلاء ، وقضاء ، ونعمة. فعليه في البلاء من الله ، الصبر فريضة. وعليه في القضاء من الله ، التسليم فريضة. وعليه في النعمة من الله ، الشكر فريضة» (٧).

__________________

(١) يقال : عذّر إذا لم يثبت له عذر ، وذلك إذا لم يأت بعذر صدق.

(٢) نهج البلاغة ١ : ٦١ ، الخطبة ٢٣.

(٣) قرب الإسناد : ٣٨ / ١٢٣ ؛ البحار ٦٨ : ٨٤ / ٢٨.

(٤) قرب الإسناد : ١١٦ / ٤٠٧.

(٥) البحار ٦٨ : ٨٥ / ٢٩.

(٦) الخصال ١ : ١٢٤ / ١٢٠ ، أبواب الثلاثة ؛ البحار ٦٨ : ٣١.

(٧) الخصال ١ : ٨٦ / ١٧ ، أبواب الثلاثة ؛ البحار ٦٨ : ٣٠.

٢٣٨

[٢ / ٣٨٩٥] وروى العيّاشيّ بالإسناد إلى الفضيل عن الإمام أبي جعفر الباقر عليه‌السلام قال : «يا فضيل ، بلّغ من لقيت من موالينا عنّا السّلام ، وقل لهم : إنّي لا أغني عنكم من الله شيئا إلّا بورع ؛ فاحفظوا ألسنتكم ، وكفّوا أيديكم ، وعليكم بالصبر والصلاة ، إنّ الله مع الصابرين» (١).

[٢ / ٣٨٩٦] وبالإسناد إلى عبد الله بن طلحة عن الإمام أبي عبد الله الصادق عليه‌السلام قال : «الصبر هو الصوم» (٢).

قلت : يعني أنّ الصوم هو أتمّ مصداق الصبر ، الواقع قرين الصلاة في الآية الكريمه هنا.

[٢ / ٣٨٩٧] وقال الإمام عليّ بن الحسين زين العابدين عليه‌السلام : «إذا جمع الله الأوّلين والآخرين ينادي مناد : أين الصابرون ليدخلوا الجنّة قبل الحساب؟ قال : فيقوم عنق (٣) من الناس فيتلقّاهم الملائكة ، فيقولون : إلى أين يا بني آدم؟ فيقولون : إلى الجنّة ، فيقولون : وقبل الحساب؟ قالوا : نعم ، قالوا : ومن أنتم؟ قالوا : نحن الصابرون ، قالوا : وما كان صبركم؟ قالوا : صبرنا على طاعة الله وصبرنا عن معصية الله حتّى توفّانا الله ، قالوا : أنتم كما قلتم ادخلوا الجنّة ، فنعم أجر العاملين». قال ابن كثير : ويشهد لهذا قوله تعالى : (إِنَّما يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسابٍ)(٤)(٥).

[٢ / ٣٨٩٨] وروى الصدوق بالإسناد إلى حمّاد بن عيسى ، عمّن ذكره ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : قال أمير المؤمنين عليه‌السلام في وصيّته لابنه محمّد بن الحنفيّة : «إيّاك والعجب ، وسوء الخلق ، وقلّة الصبر ، فإنّه لا يستقيم لك على هذه الخصال الثلاثة صاحب ، ولا يزال لك عليها من الناس مجانب» (٦).

[٢ / ٣٨٩٩] وبالإسناد إلى الرضا ، عن آبائه عليهم‌السلام قال : قال عليّ بن الحسين عليهما‌السلام : «أخذوا الناس ثلاثة من ثلاثة : أخذوا الصبر عن أيّوب عليه‌السلام والشكر عن نوح عليه‌السلام ، والحسد عن بني يعقوب عليه‌السلام» (٧).

__________________

(١) العيّاشيّ ١ : ٨٧ / ١٢٤ ؛ دعائم الإسلام ١ : ١٣٣ ؛ البحار ٦٧ : ٣٠٨ / ٣٦ ، باب ٥٧ ، و ٧٩ : ٢٣٢ / ٥٧ ، باب ١ ؛ نور الثقلين ١ : ١٤١ ؛ البرهان ١ : ٣٥٩ / ١ ؛ السرائر ٣ : ٥٨٧ ـ ٥٨٨.

(٢) العيّاشيّ ١ : ٦٢ / ٤٠ ، و ٨٧ / ١٢٥ ؛ البحار ٩٣ : ٢٥٤ / ٢٩ ؛ نور الثقلين ١ : ٧٦ / ١٨١ ؛ البرهان ١ : ٣٥٩.

(٣) العنق : الجماعة.

(٤) الزمر ٣٩ : ١٠.

(٥) ابن كثير ١ : ٢٠٢.

(٦) الخصال : ١٤٧ / ١٧٨.

(٧) عيون الأخبار ٢ : ٤٩.

٢٣٩

[٢ / ٣٩٠٠] وبالإسناد إلى عيسى بن جعفر العلويّ عن آبائه ، عن عمر بن عليّ ، عن أبيه عليّ بن أبي طالب عليه‌السلام أنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : «علامة الصابر في ثلاث ، أوّلها : أن لا يكسل ، والثانية : أن لا يضجر ، والثالثة : أن لا يشكو من ربّه ـ عزوجل ـ ؛ لأنّه إذا كسل فقد ضيّع الحقّ ، وإذا ضجر لم يؤدّ الشكر ، وإذا شكا من ربّه ـ عزوجل ـ فقد عصاه» (١).

[٢ / ٣٩٠١] وروى أبو جعفر الطوسي بالإسناد إلى أبي حمزه الثمالي ، عن الإمام أبي جعفر الباقر ، عن آبائه عليهم‌السلام قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «إذا كان يوم القيامة جمع الله ـ عزوجل ـ الخلائق في صعيد واحد ، ونادى مناد من عند الله يسمع آخرهم كما يسمع أوّلهم ، يقول : أين أهل الصبر؟ قال : فيقوم عنق من الناس فتستقبلهم زمرة من الملائكة فيقولون لهم : ما كان صبركم هذا الّذي صبرتم؟ فيقولون : صبّرنا أنفسنا على طاعة الله ، وصبّرناها عن معصيته ، قال : فينادي مناد من عند الله : صدق عبادي ، خلّوا سبيلهم ليدخلوا الجنّة بغير حساب» (٢).

[٢ / ٣٩٠٢] وبالإسناد إلى أبي الحسن الثالث ، عن آبائه عليهم‌السلام قال : قال الصادق عليه‌السلام في قول الله ـ عزوجل ـ : في قول يعقوب : (فَصَبْرٌ جَمِيلٌ)(٣) قال : بلا شكوى (٤).

[٢ / ٣٩٠٣] وروى الصدوق بالإسناد إلى سعد ، عن البرقيّ عن أبيه رفعه قال : «سأل النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم جبرئيل عليه‌السلام ما تفسير الصبر؟ قال : تصبر في الضرّاء كما تصبر في السرّاء ، وفي الفاقة كما تصبر في الغنى ، وفي البلاء كما تصبر في العافية ، فلا يشكو خالقه عند المخلوق بما يصيبه من البلاء» (٥).

[٢ / ٣٩٠٤] وروى القمي بالإسناد إلى حفص قال : قال أبو عبد الله عليه‌السلام : «يا حفص ، إنّ من صبر صبر قليلا وإنّ من جزع جزع قليلا. ثمّ قال : عليك بالصبر في جميع أمورك ، فإنّ الله بعث محمّدا صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأمره بالصبر والرفق فقال : (وَاصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْراً جَمِيلاً)(٦) وقال : (ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) السيّئة (فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَداوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ)(٧) فصبر رسول الله حتّى قابلوه بالعظام

__________________

(١) علل الشرائع ٢ : ٤٩٨ ، باب ٢٥٣ (علّة علامات الصبر).

(٢) الأمالي للطوسي : ١٠٣ / ١٥٨ ـ ١٢.

(٣) يوسف ١٢ : ١٨.

(٤) الأمالي للطوسي : ٢٩٤.

(٥) معاني الأخبار : ٢٦١.

(٦) المزّمّل ٧٣ : ١٠.

(٧) فصّلت ٤١ : ٣٤.

٢٤٠