هداية المسترشدين في شرح أصول معالم الدين - ج ٢

الشيخ محمد تقي الرازي النجفي الاصفهاني

هداية المسترشدين في شرح أصول معالم الدين - ج ٢

المؤلف:

الشيخ محمد تقي الرازي النجفي الاصفهاني


المحقق: مؤسّسة النشر الإسلامي
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
964-470-069-4

الصفحات: ٧٨٣

معالم الدين :

أصل

الأكثرون على أنّ الأمر بالشيء مطلقا يقتضي إيجاب ما لا يتمّ إلّا به شرطا كان أو مسببا أو غيرهما مع كونه مقدورا ، وفصّل بعضهم فوافق في السبب وخالف في غيره ، فقال : بعدم وجوبه. واشتهرت حكاية هذا القول عن المرتضى رضى الله عنه وكلامه في الذريعة والشافي غير مطابق للحكاية. ولكنّه يوهم ذلك في بادئ الرأي ، حيث حكى فيهما عن بعض العامّة إطلاق القول بأنّ الأمر بالشيء أمر بما لا يتمّ إلّا به. وقال : «إنّ الصحيح في ذلك التفصيل بأنّه إن كان الّذي لا يتمّ الشيء إلّا به سببا ، فالأمر بالمسبّب يجب أن يكون أمرا به. وإن كان غير سبب ، وإنّما هو مقدّمة للفعل وشرط فيه ، لم يجب أن يعقل من مجرّد الأمر أنّه أمر به».

ثمّ أخذ في الاحتجاج لما صار إليه ، وقال في جملته : «إنّ الأمر ورد في الشريعة على ضربين : أحدهما يقتضي إيجاب الفعل دون مقدّماته ، كالزكاة والحجّ ، فإنّه لا يجب علينا أن نكتسب المال ، ونحصّل النصاب ، ونتمكّن من الزاد والراحلة. والضرب الآخر يجب فيه مقدّمات الفعل كما يجب هو في نفسه ، وهو الصلاة وما جرى مجراها بالنسبة إلى

٨١

الوضوء. فإذا انقسم الأمر في الشرع إلى قسمين ، فكيف نجعلهما قسما واحدا»؟

وفرّق في ذلك بين السبب وغيره ، بأنّه محال أن يوجب علينا المسبّب بشرط اتّفاق وجود السبب ؛ إذ مع وجود السبب لابدّ من وجود المسبّب ، إلّا أن يمنع مانع. ومحال أن يكلّفنا الفعل بشرط وجود الفعل ، بخلاف مقدّمات الأفعال. فإنّه يجوز أن يكلّفنا الصلاة بشرط أن يكون قد تكلّفنا الطهارة ، كما في الزكاة والحجّ. وبنى على هذا في الشافي نقض استدلال المعتزلة لوجوب نصب الإمام على الرعيّة ، بأنّ إقامة الحدود واجبة ، ولا يتمّ إلّا به.

وهذا كما تراه ، ينادي بالمغايرة للمعنى المعروف في كتب الأصول المشهورة لهذا الأصل. وما اختاره السيّد فيه محلّ تأمّل ، وليس التعرّض لتحقيق حاله هنا بمهمّ.

فلنعد إلى البحث في المعنى المعروف ، والحجّة لحكم السبب فيه : أنّه ليس محلّ خلاف يعرف ، بل ادّعى بعضهم فيه الإجماع ، وأنّ القدرة غير حاصلة مع المسبّبات فيبعد تعلّق التكليف بها وحدها. بل قد قيل إنّ الوجوب في الحقيقة لا يتعلّق بالمسبّبات ، لعدم تعلّق القدرة بها. أمّا بدون الأسباب فلامتناعها ، وأمّا معها فلكونها حينئذ لازمة لا يمكن تركها. فحيث ما يرد أمر متعلّق ظاهرا بمسبّب فهو بحسب الحقيقة متعلّق بالسبب ؛ فالواجب حقيقة هو ، وإن كان في الظاهر وسيلة له.

وهذا الكلام عندي منظور فيه ؛ لأنّ المسبّبات وإن كانت القدرة لا تتعلّق بها ابتداء ، لكنّها تتعلّق بها بتوسّط الأسباب ، وهذا القدر كاف في جواز التكليف بها. ثمّ إنّ انضمام الأسباب إليها في التكليف يرفع ذلك الاستبعاد المدّعى في حال الانفراد.

٨٢

ومن ثمّ حكى بعض الاصوليّين القول بعدم الوجوب فيه أيضا عن بعض. ولكنّه غير معروف.

وعلى كلّ حال ، فالذي أراه : أنّ البحث في السبب قليل الجدوى ، لأنّ تعلّق الأمر بالمسبّب نادر ، وأثر الشكّ في وجوبه هيّن.

وأمّا غير السبب ، فالأقرب عندي فيه قول المفصّل. لنا : أنّه ليس لصيغة الأمر دلالة على إيجابه بواحدة من الثلاث ، وهو ظاهر. ولا يمتنع عند العقل تصريح الآمر بأنّه غير واجب ، والاعتبار الصحيح بذلك شاهد. ولو كان الأمر مقتضيا لوجوبه لامتنع التصريح بنفيه.

احتجّوا : بأنّه لو لم يقتض الوجوب في غير السبب أيضا ، للزم امّا تكليف ما لا يطاق أو خروج الواجب عن كونه واجبا. والتالي بقسميه باطل. بيان الملازمة : أنّه مع انتفاء الوجوب ـ كما هو المفروض ـ يجوز تركه. وحينئذ فإن بقي ذلك الواجب واجبا لزم تكليف ما لا يطاق ؛ إذ حصوله حال عدم ما يتوقّف عليه ممتنع. وإن لم يبق واجبا خرج الواجب المطلق عن كونه واجبا مطلقا. وبيان بطلان كلّ من قسمي اللازم ظاهر. وأيضا ، فإنّ العقلاء لا يرتابون في ذمّ تارك المقدّمة مطلقا. وهو دليل الوجوب.

والجواب عن الأوّل ، بعد القطع ببقاء الوجوب : أنّ المقدور كيف يكون ممتنعا؟ والبحث إنّما هو في المقدور ، وتأثير الايجاب في القدرة غير معقول. والحكم بجواز الترك هنا عقليّ لا شرعيّ ؛ لأنّ الخطاب به عبث ، فلا يقع من الحكيم. وإطلاق القول فيه يوهم إرادة المعنى الشرعيّ فينكر. وجواز تحقّق الحكم العقليّ هنا دون الشرعيّ يظهر بالتأمّل.

وعن الثاني : منع كون الذمّ على ترك المقدّمة ، وإنّما هو على ترك الفعل المأمور به ، حيث لا ينفك عن تركها.

٨٣

قوله : (الأكثرون على أنّ الأمر بالشيء).

هذه المسألة إنّما ترتبط بالأوامر من جهة مدلولها الّذي هو الوجوب وإلّا فلا اختصاص لها بالأوامر ، إذ هو من أحكام الوجوب سواء كان الدالّ عليه أمرا أو غيره ، فالمقصود أنّ وجوب الشيء هل يستلزم وجوب ما لا يتمّ ذلك الشيء إلّا به فيكون ذلك قاضيا بدلالة ما يفيد ثبوت الأوّل على الثاني أو أنّه لا ملازمة بين الأمرين فلا دلالة؟ وإذا كان الحكم المذكور من أحكام الوجوب ولواحقه فهو من الأحكام المرتبطة بالمبادئ الأحكاميّة ، بل هو الصق بها ولذا اختار الحاجبي ذكرها هناك وتبعه شيخنا البهائي.

ويمكن إدراجها في الأدلّة العقليّة أيضا لاستقلال العقل بالملازمة بين الأمرين ، فكما أنّ العقل قد يدرك بعض الأحكام بنفسه مع قطع النظر من ورودها في الشرع فكذا قد يدرك ثبوت بعض الأحكام بعد حكم الشرع بثبوت حكم آخر لاستقلاله بالملازمة بين الأمرين ، فثبوت الملازمة حكم عقليّ صرف وثبوت المقدّمة شرعيّ ويتفرّع عليها ثبوت اللازم، فإثبات الملازمة بين الأمرين ـ كما هو محطّ البحث في المقام ـ ممّا يستقلّ به العقل وإن كان الحكم بثبوت اللازم بعد ورود الشرع بثبوت الملزوم وملفّقا من العقل والنقل ولذا أدرجها بعضهم في الأدلّة العقليّة.

وكيف كان فتحقيق الكلام في المسألة يتوقف على رسم مقدّمات :

أحدها : أنّ الواجب ما يذمّ تاركه في الجملة أو ما يستحقّ تاركه العقوبة كذلك. ولا يرد عليه المخيّر ، لوضوح استحقاق تاركه الذمّ أو العقاب على فرض ترك الجميع ، فإنّ لترك كلّ منها دخلا في الاستحقاق المفروض. ولا الموسّع ولو فرض موت المكلّف فجأة في أثناء الوقت ، نظرا إلى استحقاقه الذمّ أو العقوبة على ترك الطبيعة المأمور بها رأسا في تمام الوقت المضروب.

وقد يورد عليه وجوب المقدّمة على القول به ، إذ لا استحقاق للذمّ ولا العقوبة على تركها عند القائل بوجوبها ، كما سيجيء بيانه إن شاء الله تعالى ، وإنّما استحقاق الذمّ والعقاب على ترك ذيها.

٨٤

ويمكن الجواب : بأنّ المأخوذ في الحدّ هو استحقاق تاركه الذمّ أو العقوبة وهو يعمّ ما لو كان الاستحقاق المذكور على تركه أو ترك غيره وذلك حاصل في المقدّمة.

وفيه : أنّه لو بنى على التعميم المذكور لزم انتقاض الحدّ بسائر الأحكام لشمول الحد حينئذ للمندوب والمباح بل المكروه والحرام إذا جامع ترك أحدها ترك الواجب ، إذ يصدق حينئذ على كلّ منها أنّه ما يذمّ تاركه وإن لم يكن الذمّ على تركه بل على ترك غيره ، مضافا إلى أنّ البناء على التعميم المذكور خروج عن ظاهر العبارة ، فإنّ المستفاد ممّا يذمّ أو يعاقب تاركه أن يكون تركه سببا لذمّه أو عقابه لا ما إذا كان تاركه لغيره وكان استحقاق الذمّ أو العقوبة حاصلا من جهة ترك ذلك الغير من دون مدخليّة تركه فيه ، وهو ظاهر.

ويمكن دفع ذلك بأنّ تارك المقدّمة مستحقّ للذمّ أو العقوبة بسبب تركه لها لا على تركها بل على ترك ذيها ، فلها بعث على استحقاق الذمّ أو العقوبة لا أصالة بل إدّاء إلى ترك غيرها.

وتوضيح المقام : أنّ ترك الفعل إمّا أن يكون باعثا على استحقاق الذمّ أو العقوبة أو لا يكون باعثا على استحقاق ذلك وإنّما يكون مجامعا لترك فعل آخر يستحقّ الذمّ أو العقوبة على ترك ذلك الفعل ، فيمكن بملاحظة اتحاد العنوانين في المصداق الحكم باستحقاق ذلك الفعل للذمّ أو العقوبة.

وعلى الأوّل فإمّا أن يكون ترك الفعل المفروض باعثا على استحقاق الذمّ أو العقوبة ، من حيث كونه تركا له فيكون سببا للاستحقاق المذكور أصالة أو يكون باعثا على ذلك من جهة إدّائه إلى ترك فعل آخر يكون الاستحقاق المذكور من جهة ترتّب الترك عليه ، فيكون ترك ذلك الفعل سببا للاستحقاق المذكور تبعا لترك غيره من حيث إدّائه إليه فهذه وجوه ثلاثة.

ومن البيّن أنّه إذا لم يكن الترك باعثا على استحقاق الذمّ أو العقاب لا أصالة ولا تبعا لم يندرج في الحدّ المذكور ، لوضوح أنّه لا يقال عرفا : إنّ الزنا ما يذمّ

٨٥

تاركه يعني : إذا جامع ترك بعض الواجبات ، وإن صحّ الحكم المذكور في لسان العقل إلّا أنّه خارج عن الطريقة الجارية في المخاطبات العرفيّة.

وأمّا الوجهان الآخران فالظاهر اندراجهما في الحدّ ، ويكون الوجوب في أحدهما نفسيّا وفي الآخر غيريّا.

فالواجب الغيري أيضا ممّا يستحقّ تاركه الذمّ أو العقوبة من جهة تركه لكن لا لذاته ، بل لإدائه إلى ترك غيره ، فالتارك للذهاب إلى الحجّ مع الرفقة الأخيرة بعد حصول الاستطاعة مستحقّ للذمّ والعقوبة حين تركه له لأجل ترك الذهاب من حيث ذاته ، بل من حيث إدّائه إلى ترك الحجّ فهو عاص مخالف للأمر المتعلّق بالحجّ أصالة عند ترك المقدّمة وللطلب المتعلّق بالمقدّمة تبعا ، وإن فرض تعلّق الأمر بها أصالة ، كما سيجيء بيانه إن شاء الله تعالى.

ولا يمنع من تحقق العصيان بالنسبة إلى ذي المقدّمة عدم مجيء زمان أدائه ، إذ حقيقة العصيان مخالفة الأمر ، وكما يصدق المخالفة بترك الفعل الواجب في الزمان المضروب له كذا يصدق بترك المقدّمة الموصلة إليه ، بحيث لا يتمكّن منه بعد تركه ولو قبل مجيء الزمان المعيّن لأداء الفعل إذا تعلّق الوجوب به عند ترك مقدّمته ، فيكون عاصيا مستحقّا للعقوبة والعرف أقوى شاهد على ذلك.

نعم لابدّ في تحقّق المخالفة بحسب الواقع حصول سائر شرائط التكليف بالنسبة إليه في وقت الأداء ، وأمّا إذا حصل هناك مانع آخر من أداء الفعل انكشف عدم تعلّق الأمر به بحسب الواقع ، فلا مخالفة للأمر بحسب الواقع وإن كان عاصيا من جهة التجرّي وهو أمر آخر.

ثانيها : أنّ الواجب باعتبار ما يتوقّف عليه في الجملة قسمان :

أحدهما : أن يتوقّف وجوده عليه من غير أن يتوقّف عليه وجوبه كالصلاة بالنسبة إلى الطهارة.

وثانيهما : أن يتوقّف وجوبه عليه سواء توقّف عليه وجوده كالعقل بالنسبة إلى العبادات الشرعيّة أو لم يتوقّف عليه كالبلوغ بالنسبة إليها بناءا على القول بصحّة عبادات الصبيّ.

٨٦

ومن البيّن أنّ الثاني لا يتّصف بالوجوب قبل وجود مقدّمته ، إذ المفروض توقّف وجوبه على وجوده ، ولذا لا تأمّل لأحد في عدم (١) وجوب مقدّمته ، إذ لا يتعلّق الوجوب بذيها قبل حصولها ، وبعد حصولها لا يمكن تعلّق الوجوب بها.

وقد ظهر ممّا بيّنّا أنّ الواجب المطلق والمشروط إنّما يعتبران بالإضافة إلى خصوص كلّ مقدّمة فإن توقّف عليها الوجود دون الوجوب كان الواجب مطلقا بالنسبة إليها وإلّا كان مشروطا ، لوضوح أنّ الواجب لا يكون مطلقا بالنسبة إلى جميع مقدّماته ولا مشروطا بالنسبة إلى جميعها.

وقد ظهر بذلك أنّ ما ذكره جماعة في تعريف الواجب المشروط : من أنّه ما يتوقّف وجوبه على ما يتوقّف عليه وجوده والواجب المطلق ما لا يتوقّف وجوبه على ما يتوقّف عليه وجوده ، ليس على ما ينبغي ، إذ قد يتوقّف الوجوب على ما لا يتوقّف عليه الوجود ، فيلزم خروجه من المشروط واندراجه في المطلق ، فينتقض به حدّ المشروط جمعا والمطلق منعا.

وكيف كان فهل يكون إطلاق الواجب على المشروط قبل تحقّق مقدّمته مجازا أو حقيقة؟

نصّ جماعة منهم بالأوّل فجعلوه من باب تسمية الشيء باسم ما يؤول إليه ، وحينئذ فلا حاجة إلى تقييد الأمر والواجب في المقام بالمطلق للاكتفاء في ذلك بظاهر الاستعمال المنصرف إلى الحقيقة.

ويلوح من كلام السيّد كون إطلاق الواجب عليه على سبيل الحقيقة أيضا ولا يذهب عليك أنّ إطلاق الواجب عليه حينئذ إن كان من جهة ثبوت العنوان المذكور له حين الإطلاق بملاحظة تلبّسه به في المستقبل ، فلا ريب في كونه مجازا ، للاتّفاق على كون المشتقّ مجازا في المستقبل.

وإن كان بملاحظة حال تلبّسه به فيراد كونه واجبا عند حصول شرائط وجوبه

__________________

(١) لم يرد «عدم» في المطبوع.

٨٧

كان إطلاقه عليه حقيقة وإن لم تكن تلك الشرائط حاصلة عند الإطلاق ، كما تقول : «انّ الحجّ والزكاة من الواجبات في شريعة الإسلام» فإنّ المقصود بذلك وجوبها عند وجود شرائط الوجوب من غير أن يكون هناك تجوّز في الإطلاق.

فإطلاق جماعة ـ أنّ إطلاق الواجب عليه قبل حصول الشرط على سبيل المجاز ـ ليس على ما ينبغي.

وأبعد منه دعوى كون الأمر المطلق حقيقة في خصوص الواجب المطلق ، فإذا تعلّق الأمر بالواجب المقيّد كان مجازا استتنادا إلى تبادر الأمر حال إطلاقه في المطلق ، فيكون مجازا في غيره.

وهو ضعيف جدّا ، كيف ولو كان كذلك لكان جميع الأوامر الواردة في الشريعة مجازات؟ لوضوح كونها مقيّدة بشرائط عديدة : منها : البلوغ والعقل ؛ وتبادر إطلاق الأمر في المطلق إطلاقي حاصل من ظهور الإطلاق ، لكون التقييد على خلاف الأصل ، كما هو الحال في سائر الإطلاقات.

ومن البيّن : أنّ تقييد سائر الإطلاقات لا يلزم أن يكون على سبيل التجوّز وإن أمكن أن يكون مجازا أيضا فيما إذا أدرج التقييد في معنى اللفظ.

والحاصل أنّ تقييد الأمر بشرط أو شرائط لا يزيد على تقييد المأمور بذلك مع إطلاق الأمر ، فكما أنّ الثاني يكون على وجه الحقيقة فكذا الأوّل من غير فرق أصلا وربما يقال : إنّ لفظ الواجب قد تجرّد بحسب الاصطلاح عن معناه الوضعي وصار حقيقة فيما تعلّق به الخطاب في الجملة ، فيكون إطلاقه على المشروط حقيقة من تلك الجهة وهو كما ترى وحينئذ فالأولى ذكر القيد المذكور في المقام ، لإخراج الواجب المشروط ، كما صنعه المصنّف وجماعة.

ثالثها : أنّ الواجب باعتبار تعلّق الخطاب به وعدمه ينقسم إلى أصلي وتبعي ، وباعتبار كونه مرادا في نفسه وعدمه إلى نفسي وغيري ، فالواجب الأصليّ : ما تعلّق به الخطاب أصالة. والواجب التبعي : ما يكون وجوبه لازما للخطاب تابعا له من غير أن يتعلّق به الخطاب أصالة.

٨٨

والظاهر أنّ اللوازم المقصودة بالإفادة في الخطاب بحسب فهم العرف ـ كما في مفهوم الموافقة والمخالفة ودلالة الاقتضاء ـ في حكم الخطاب الأصليّة ، لاندراجها في المداليل اللفظيّة وإن لم يكن على سبيل المطابقة.

والواجب النفسي : ما يكون مطلوبا لنفسه ، والغيري : ما يكون مطلوبا لأجل غيره أي : لحصول الغير والإتيان به.

ولا يرد في المقام كون الواجبات المأمور بها في الشريعة مطلوبة لغيرها من الفوائد الاخرويّة أو الدنيويّة ، فلو بنى على ما ذكر لزم أن يكون الجميع واجبات غيريّة.

وهو بيّن الفساد ، لوضوح الفرق بين تعلّق الطلب بالشيء لثمرة مترتّبة عليه وتعلّق الطلب به من جهة كونه وصلة إلى أداء مطلوب آخر ووسيلة إليه من غير أن يكون ذلك الفعل مطلوبا في نفسه ، والواجب الغيري إنّما هو الثاني.

ثمّ إنّ كلّا من القسمين المذكورين ممّا يصحّ اجتماعه مع كلّ من الآخرين ، فالأقسام المتصوّرة أربعة ، وحينئذ فالنسبة بين كلّ منهما مع كلّ من الآخرين من قبيل العموم من وجه إلّا أنّ اجتماع الواجب النفسي مع التبعي غير ظاهر بعد استقراء الواجبات.

وقد يجعل من ذلك وجوب الفرد بعد تعلّق الأمر بالطبيعة. وفيه تأمّل.

وكيف كان فالواجب النفسي ما يترتّب على تركه استحقاق الذمّ أو العقاب بملاحظة ذاته ، والغيري لا يمكن أن يترتّب عليه ذلك بملاحظة ذاته وإلّا لوجب الاجتناب عن تركه من حيث إنّه تركه ، فيكون واجبا مع قطع النظر عن غيره ، هذا خلف.

والحاصل : أنّ الواجب الغيري وإن كان أصليّا لا يمكن ترتّب استحقاق الذمّ أو العقاب على تركه من حيث إنّه تركه ، وإنّما يكون استحقاق ذلك على ترك ذلك الغير ، فالوجوب فيه تابع لوجوب الغير وآت من قبله وإن كان متعلّقا للخطاب أصالة فإنّ تعلّق الخطاب به إنّما هو من جهة إيصاله إلى الغير ، ومثل ذلك الوجوب ليس قابلا لاستحقاق عقوبة مستقلّة من جهة مخالفته كما لا يخفى.

٨٩

فهناك استحقاق واحد إذا نسب إلى ذلك الغير كان استحقاقه من جهة تركه في نفسه ، وإذا نسب إلى الواجب المفروض كان استحقاقه من جهة إدّائه إلى ترك الآخر ، بل الظاهر أنّ هناك عصيانا واحدا ينسب أصالة إلى الأمر المتعلّق بذي المقدّمة وتبعا إلى المقدّمة، حتّى أنّه لا يختلف الحال في عصيانه إذا ترك الواجب وأتى بالمقدّمات أو تركها.

وبالجملة أنّه لمّا كان تعلّق الأمر بها من جهة الإيصال إلى واجب آخر والأداء إليه لا من جهة الإتيان بها في نفسها لم يكن تحقّق العصيان بمخالفته إلّا من جهة عدم الوصول إلى ذلك الغير والإتيان به ، فليس هناك إلّا جهة واحدة للعصيان وهي مخالفة ذلك الأمر النفسي ، فيكون استناد العصيان إليه على سبيل الأصالة وإلى الأمر الغيري على وجه التبعيّة له ، من حيث كونه سببا موصلا إليه.

وكذا الحال في أجزاء الواجب فإنّها وإن كانت واجبة تبعا عند تعلّق الأمر بالكلّ أو أصالة عند تعلّق الأمر بكلّ منها من حيث إدّائه إلى أداء الكلّ فلا عصيان أصالة إلّا في ترك الكلّ ، ولو فرض حينئذ تعدّد المعصية فلا ريب في كون جهة العصيان فيها واحدة فلا يكون الجهة المقبّحة لتلك المعاصي إلّا واحدة ، فلا يزيد القبح الحاصل عند ترك الكلّ على القبح المتفرّع على ترك نفس الواجب وإن أتى بشرائطها وكثير من أجزائها.

فظهر بما قرّرنا ضعف ما تخيّله بعضهم من ترتّب استحقاق عقوبة مستقلّة على مخالفة الواجبات الغيريّة زاعما أنّ ذلك من اللوازم العقليّة أو الشرعيّة لها فيما إذا ثبت وجوب اتّباع الأمر ، وما دلّ شرعا على استحقاق العصيان للعقاب مطلق ، لتعليقه على حصول المعصية الحاصلة بمخالفة الأمر وعدم الإتيان بما هو مطلوب الأمر ، سواء كان ذلك مطلوبا لنفسه أو لغيره.

وأضعف منه ما ذكره بعض الأفاضل من ترتّب استحقاق الذمّ أو العقاب على ترك الواجب الغيري إذا كان متعلّقا للخطاب أصالة ، دون ما إذا كان الخطاب به

٩٠

تبعا ، لاشتراكه مع الأوّل في الحكم باستحقاق عقوبة مستقلّة [للخطاب](١) على ترك الواجبات الغيريّة في الجملة واختصاصه بالتفصيل بين الغيري الأصلي والتبعي.

مع أنّه لا فارق بينهما من جهة العصيان والمخالفة أصلا ، فلو فرض ترتّب استحقاق العقوبة على الواجبات الغيريّة فلا وجه للفرق بين ما تعلّق به الخطاب أصالة أو تبعا ، إذ الفرق بين الوجهين إنّما هو في مدرك الحكم دون الحكم نفسه ، فإنّ الوجوب في الأصلي مدلول الخطاب أصالة وفي التبعي مدلوله بملاحظة حكم العقل ، واختلاف الدليل مع اتّحاد المدلول لا يقضي باختلاف الأحكام المترتّبة على المدلول.

ثمّ إنّ كلّا من الوجوه المذكورة من أقسام الوجوب على سبيل الحقيقة ، فيندرج الفعل المتّصف بالوجوب على أيّ وجه منها في الواجب على وجه الحقيقة ، لصدق مفهومه عليه من غير توسّع ، وإن كان إطلاق الوجوب والواجب منصرفا إلى بعضها فإنّ مجرد ذلك لا يقضي بخروج الآخر عن الحقيقة.

نعم قد يتّصف بعض الأفعال بالوجوب على سبيل العرض دون الحقيقة فلا يكون الوجوب من عوارضه على سبيل الحقيقة ، وإنّما يكون من عوارض الغير ويكون اتّصافه به بالعرض والمجاز كما هو الحال في لوازم الواجب ، فإنّه إذا وجب الملزوم اتّصف اللازم بالوجوب من جهته بمعنى كونه غير جائز الترك ، لعدم جواز ترك ملزومه المؤدّى إلى تركه ، وليس ذلك من حقيقة الوجوب في شيء ، إذ لا يقوم الوجوب حقيقة إلّا بالملزوم ، وليس اللازم واجبا في ذاته لا لنفسه ولا لغيره إلّا أنّه لما كان السبب المؤدّى إليه واجبا ولم يتصوّر انفكاكه عنه صحّ لذلك إسناد الوجوب إليه بالعرض والمجاز ، فهناك وجوب واحد يتّصف به الملزوم بالذات على وجه الحقيقة واللازم بالعرض على وجه التبعيّة والمجاز.

__________________

(١) أثبتناه من نسخة ف.

٩١

ولذا لا يصحّ إطلاق الأمر حينئذ بتجويز ترك اللازم ، نظرا إلى عدم جواز تركه من جهة عدم جواز ترك ملزومه وإن صحّ الحكم بجواز تركه في نفسه ، فوجوب الفعل على الوجه المذكور ليس من أقسام الوجوب على الحقيقة ، ولا يندرج الفعل من جهته في الواجب إلّا على سبيل التوسّع.

فتأمّل حتّى لا يختلط عليك الأمر في الفرق بين الواجب الغيري والواجب على النحو المذكور ، فإنّ هذا واجب بالغير وذاك واجب للغير ، ولذا كان اتّصاف الأوّل بالوجوب مجازا دون الثاني.

وقد ظهر بما ذكرناه أنّ عدّ الوجوب على الوجه المذكور من أقسام الوجوب وجعل الواجب على ذلك الوجه واجبا على الحقيقة ـ كما يستفاد من كلام بعض الأفاضل ـ بعيد عن التحقيق.

رابعها : أنّ المقدّمة كما عرفت قد تكون مقدّمة للوجوب وقد تكون مقدّمة للوجود ؛ والنسبة بينهما من قبيل العموم من وجه ؛ فقد يجتمع الأمران كما في اشتراط العقل بالنسبة إلى العبادات ؛ وقد ينفرد الأوّل كما في البلوغ بالنسبة إلى الصلاة ونحوها بناء على شرعيّة عبادات الصبيّ المميّز ؛ وقد ينفرد الثاني كما في قطع المسافة بالنظر إلى الحجّ.

وقد تكون مقدّمة للصحّة كما في الطهارة بالنسبة إلى الصلاة ومرجع ذلك إلى مقدّمة الوجود ، لتوقّف وجود الصلاة الصحيحة عليه وعلى القول بخروج الفرد الفاسد عن أصل الحقيقة فالأمر أوضح.

وقد تكون مقدّمة للعلم كغسل جزء من الرأس ، لحصول العلم بغسل الوجه ، وتكرار الصلاة في الثوبين المشتبهين ، ومرجع ذلك إلى مقدّمة الوجود بالنسبة إلى العلم ، فإنّ تحصيل العلم بأداء الواجب واجب آخر ووجود ذلك الواجب يتوقّف على ذلك وهو ظاهر.

وأيضا ينقسم المقدّمة إلى عقليّة كتوقّف العلوم النظريّة على المقدّمتين ، وعاديّة كتوقّف الصعود على السطح على السلّم ونحوه ، وشرعيّة كتوقّف الصلاة على الطهارة.

٩٢

وأيضا المقدّمة قد تكون سببا وقد تكون شرطا وقد تكون مانعا وقد تكون معدّا والأوّلان مأخوذان في حصول الواجب وجودا ، والثالث عدما ، والرابع وجودا وعدما ؛ وقد عرفوا السبب بأنّه ما يلزم من وجوده الوجود ومن عدمه العدم ، والشرط بأنّه ما يلزم من عدمه العدم ولا يلزم من وجوده الوجود ، والمانع بأنّه ما يلزم من وجوده العدم ولا يلزم من عدمه الوجود ، والمعدّ ما يلزم من كلّ من وجوده وعدمه المطلق العدم فيعتبر كلّ من وجوده وعدمه في الوجود فيؤخذ كلّ من مفهومي الشرط والمانع.

وقد اورد على تعريف السبب بأنّ السبب قد يجامع عدم الشرط أو وجود المانع فلا يلزم من وجوده الوجود ، وقد يخلف السبب سبب آخر ، فلا يلزم من عدمه العدم.

وقد زاد بعضهم في الحدّ التقييد بقوله : «لذاته» ليحترز من ذلك ، وأنت خبير بأنّ أقصى ما يستفاد من التقييد المذكور التحرّز عن التخلّف الحاصل من وجود المانع ، وأمّا ما يكون بفقدان الشرط فالاستلزام غير حاصل مع عدمه ، إذ ذات المقتضي مع قطع النظر عن وجود الشرط غير كاف في الوجود.

وأيضا فالتحرّز به عن قيام سبب مقام آخر غير ظاهر ، إذ لا اقتضاء لانتفاء السبب الخاصّ في انتفاء المسبّب حتّى يكون قيام السبب الآخر مقامه خروجا عن مقتضى ذلك السبب ، لوضوح أنّ اللازم قد يكون أعمّ ، ومن المقرّر عدم اقتضاء انتفاء الملزوم انتفاء اللازم.

ويرد عليه : صدق الحدّ المذكور على العلّة التامّة الجامعة للمقتضي والشرائط وانتفاء الموانع وهو خلاف ظاهر اصطلاح أرباب المعقول ، كيف وقد قابلوا السبب بالشرط والمانع وهو ظاهر في عدم اندراج أحدهما في الآخر؟

وقد أورد أيضا على الحدّ المذكور بأنّ كثيرا من الأسباب الشرعيّة معرّفات للحكم ، وليست بمقتضيات حقيقة لثبوت الأحكام المتفرّعة عليها ، فلا يندرج في الحدّ المذكور ، لظهوره في كون السبب هو الباعث على وجود المسبّب لا مجرّد

٩٣

كون العلم بحصوله باعثا على العلم بحصول مسبّبه كما هو الحال في المعرّفات ، فإنّ السببية حينئذ انّما تكون بين العلم بأحدهما والعلم بالآخر دون أنفسهما فارجاع السببية إلى ذلك بعيد جدّا.

ويمكن دفعه : بأنّ لزوم أحد الشيئين للآخر لا يستدعي كون أحدهما علّة للآخر ولذا صرّحوا بكون المتلازمين إمّا علّة ومعلولا أو معلولي علّة واحدة ، فوجود أحد المعلولين لازم لوجود المعلول الآخر ، وهو معرّف لوجوده مع انتفاء العلّيّة بينهما.

ويرد على تعريف الشرط : بأنّ كثيرا من الشروط ممّا يخلفه شرط آخر فلا يندرج في الحدّ ، إذ لا يلزم من عدمه العدم ؛ وأيضا فالشرط الواقع جزء أخيرا للعلّة التامّة ممّا يلزم من وجوده الوجود فلا يندرج في حدّ الشرط بل يلزم اندراجه في السبب فينتقض كلّ من الحدّين.

ويمكن دفع الأوّل بأنّ الشرط هناك إنّما هو أحد الأمرين لا خصوص كلّ منهما ، والثاني بأنّ الشرط الواقع جزءا أخيرا [للعلّة](١) إنّما يلزمه الوجود إذا وقع أخيرا ، وأمّا إذا لم يقع في الأخير فلا يلزمه الوجود فلا يندرج في الحدّ المذكور.

نعم قد يورد عليه بصدق الحدّ المذكور على الجزء الأخير من العلّة التامّة ، إذ يلزم من وجوده الوجود ومن عدمه العدم ، بل هو أولى بصدق الحدّ المذكور عليه من الأسباب الشرعيّة ؛ مع أنّه ليس سببا في الاصطلاح وإن اطلق عليه السبب أحيانا ، فالظاهر أنّه إطلاق مجازي.

ويمكن الإيراد على حدّ المانع تارة بنحو ما مرّ فإنّ بعض الموانع ممّا يلزم من عدمه الوجود فيما إذا وقع جزء أخيرا للعلّة التامّة. ويدفعه ما عرفت. واخرى بأنّ الضدّ من الموانع وقد يكون ارتفاع أحد الضدّين قاضيا بوجود الآخر فيما إذا لم يكن لهما ثالث ، كالحركة والسكون.

__________________

(١) أثبتناه من نسخة ف.

٩٤

وقد يوجّه بأنّ المقصود من الحدّ أنّه لا يعتبر فيه أن يلزم من عدمه الوجود وإن اتّفق لزوم ذلك في بعض الموارد ، وهو تكلّف بعيد عن العبارة جدّا. والبناء على ذلك في حدّ المانع يقضي بالبناء عليه في حدّ الشرط أيضا ، وهو ممّا يقطع بفساده وإلّا لزم أن يكون الشرط أعمّ من السبب وهو بيّن الفساد.

خامسها : لا إشكال في إطلاق الواجبات بالنسبة إلى أسبابها ، إذ لا يعقل الأمر بالشيء بعد كونه واجب الحصول ، فإنّه نظير الأمر بتحصيل الحاصل.

وأمّا بالنسبة إلى الشرائط ونحوها فالّذي نصّ عليه غير واحد من المتأخّرين أنّ الأصل في الواجب الإطلاق إلى أن يثبت التقييد. وظاهر كلام السيّد رحمه‌الله لزوم التوقّف إلى أن يظهر الإطلاق أو التقييد ، فعلى هذا إذا لم يثبت احد الأمرين أخذ بأصالة عدم الوجوب مع انتفاء الشرط.

والّذي يقتضيه التحقيق في المقام أن يقال : إنّ وجوب الشيء إمّا أن يثبت بالأدلّة اللفظيّة أو غيرها من الإجماع أو العقل ، وعلى الأوّل فإمّا أن يكون ما تعلّق الطلب به مطلقا أو مجملا ، فهذه وجوه ثلاثة :

أحدها : أن يكون الوجوب ثابتا من غير الدليل اللفظي ، وحينئذ فإذا دار الأمر فيه بين أن يكون مطلقا أو مشروطا فالظاهر التوقّف بين الأمرين في مقام الاجتهاد والحكم بإلزام القيد وانتفاء الوجوب مع انتفاء القيد المفروض في مقام الفقاهة.

أمّا الأوّل فلأنّ القدر الثابت من الإجماع أو العقل هو القدر الجامع المشترك بين الأمرين ولا دلالة للعامّ على خصوص شيء من قسميه فلابدّ في التعيين من قيام دليل آخر عليه.

والقول بأنّ الواجب المشروط قبل حصول شرطه ليس من أنواع الواجب على الحقيقة فالدليل الدالّ على الوجوب من الإجماع أو العقل لا يحتمل الانصراف إليه بيّن الاندفاع ، لوضوح أنّ الحكم بوجوب شيء على فرض حصول بعض مقدّماته ليس حكما بوجوب ما ليس بواجب حتّى يقال : بعدم انصراف

٩٥

الدليل إليه ؛ مضافا إلى ما عرفت من كون الواجب المشروط أحد قسمي ال واجب على سبيل الحقيقة ولو قبل حصول شرطه على الوجه الّذي بيّنا ، ومع الغضّ عنه فليس هناك إطلاق لفظي حتّى يحمل على الحقيقة ، والمفروض كون القدر الثابت من الإجماع أو العقل هو ما يعمّ الأمرين ، سواء كان ذلك وجوبا على الحقيقة أو أعمّ منه ومن غيره.

وما قد يتوهّم من أنّه بعد ثبوت مطلق الوجوب فالأصل عدم تقييده بشيء فإنّ اعتبار القيد على خلاف الأصل ، مدفوع بأنّ الأصل المذكور إنّما يفيد مع وجود إطلاق في المقام ، إذ الأصل المذكور أصل اجتهادي ومقتضاه الأخذ بظاهر إطلاق اللفظ إلى أن يثبت التقييد ، وأمّا مع عدم وجود إطلاق كما هو المفروض في المقام فليس هناك أصل يرجع إليه في مقام الاجتهاد.

وأمّا الثاني فلأنّ أقصى ما يفيده الدليل المفروض هو حصول الوجوب مع وجود ذلك القيد ، وأمّا مع انتفائه فالمفروض الشكّ في حصول الوجوب وتعلّق التكليف فالأصل عدمه، وذلك ظاهر ولا فرق بين ما إذا وجد القيد المفروض ثمّ انتفى وبين ما إذا لم يحصل من أوّل الأمر.

والتمسّك بالاستصحاب في الصورة الاولى فاسد ، لدوران الأمر المستصحب بين ما يقبل البقاء وبين ما لا يقبله ، ومثل ذلك لا يجري فيه الاستصحاب حسب ما فصّل في محلّه.

وثانيها : أن يكون الوجوب مستفادا من اللفظ ويكون ما تعلّق الوجوب به مجملا ، وحينئذ فإن كان ما يشكّ في كونه شرطا للوجود ممّا يشكّ في كونه شرطا للوجوب أيضا ، فإن تمكّن من الشرط المفروض فقضيّة الأصل حينئذ إطلاق الوجوب حسب ما سيجيء في الصورة الثالثة فيجب الإتيان بالشرط المشكوك ، أخذا بيقين الفراغ بعد اليقين بالاشتغال ، وإن لم يتمكّن منه فمقتضى الأصل البناء على فراغ الذمّة ، لعدم ثبوت الاشتغال مع انتفائه ، وكذا لو فرض التمكّن منه أوّلا ثمّ اتّفق عدمه.

٩٦

واستصحاب اشتغال الذمّة في المقام ضعيف لكونه من قبيل استصحاب الجنس ؛ ومن ذلك يظهر الحال في صلاة الجمعة بالنسبة إلى اعتبار المنصوب الخاصّ في وجوبها أو تعيّن وجوبها.

وثالثها : أن يكون اللفظ مطلقا وحينئذ فلا إشكال في كون الوجوب المتعلّق به مطلقا أيضا ، أخذا بمقتضى إطلاق اللفظ إلى أن يثبت التقييد ؛ وبالجملة كون قضيّة إطلاق اللفظ إطلاق الوجوب ، وحجّيّة المطلق ممّا لا مجال للريب في شيء منهما ولا أظنّ أنّ أحدا يتأمّل فيه.

نعم قد يتراءى من ظاهر إطلاق السيّد البناء على التوقّف في المقام ، نظرا إلى ورود كلّ من الوجهين في الشريعة فلا يحمل الإطلاق على خصوص أحدهما [إلّا](١) بدليل.

وضعفه ظاهر ، إذ الخروج عن الظاهر من جهة قيام الدليل عليه غير عزيز في الشريعة ، ولا يقضي ذلك بالتوقّف مع انتفاء الدليل المخرج وإلّا لما صحّ التمسّك بشيء من الظواهر ، وحينئذ فلا وجه للتوقّف في إطلاق الوجوب مع إطلاق الأمر ، لوضوح قضاء إطلاقه بإطلاق الوجوب ، فالواجب هو البناء عليه حتى يثبت خلافه.

ومن البعيد إنكار السيّد لما ذكرناه فلا وجه لتوقّفه في المقام ، ويمكن توجيه عبارة السيّد بما يرجع إلى المشهور وإن حملها جماعة على ظاهر ما يتراءى منها.

وتوضيح ذلك : أنّه بعد إطلاق المأمور به وعدم إجماله إمّا أن لا يثبت تقييد وجوبه أو وجوده بشيء من الأمور الخارجة عنه ، ممّا يحتمل اعتباره فيه على أحد الوجهين المذكورين أو يثبت ذلك ، فعلى الأوّل لا إشكال في البناء على الإطلاق في المقامين ، أخذا يظاهر اللفظ إلى أن يثبت المخروج عنه حسب ما أشرنا إليه ، وعلى الثاني فإن ثبت تقييده على أحد الوجهين المذكورين بخصوصه فلا

__________________

(١) أثبتناه من نسخة ف وق.

٩٧

إشكال أيضا ، لوجوب الخروج عن مقتضى الإطلاق على حسب ما دلّ الدليل عليه وإن لم يثبت ذلك لكن علم ورود التقييد على أحد الوجهين المذكورين من دون علم بخصوص أحدهما فهل يجب التوقف إلى أن يعلم الحال من الخارج أو يحكم برجحان أحدهما؟

وبالجملة لو دارت المقدّمة بين كونها للوجوب أو الوجود فهل هناك أصل يقتضي البناء على أحد الوجهين أو لابدّ من التوقّف والأخذ بمقتضى اصول الفقاهة؟

فالّذي يقتضيه ظاهر القواعد هو التوقّف في مقام الاجتهاد والبناء على مقتضى مقدّمة الوجوب في مقام العمل.

أمّا الأوّل فللقطع بورود التقييد على أحد الإطلاقين ـ أعني إطلاق الأمر وإطلاق الفعل المأمور به ـ ولا مرجّح لأحد الوجهين فيتوقّف التعيين على قيام الدليل عليه.

وأمّا الثاني فلأنّ غاية ما يثبت بعد ملاحظة ذلك هو وجوب الفعل عند حصول الشرط المذكور ، وأمّا مع عدمه فلا دليل على الوجوب ، لما عرفت فينتفي بالأصل.

وما قد يتخيّل من أنّ تقييد الأمر قاض بتقييد المأمور به أيضا بخلاف العكس فيترجّح البناء على الثاني مدفوع بالفرق بين ظاهر ورود التقييد على الإطلاق ورجوع الأمر إلى وجوب المقيّد.

والمرجوح بملاحظة ظاهر اللفظ انّما هو الأوّل. وأمّا الثاني فلا مرجوحيّة فيه بعد قيام الدليل عليه ، ألا ترى أنّ تقييد متعلق الوجوب قاض بتقييد الوجوب من حيث المتعلق إلّا أنّ ذلك لا يعدّ تقيدا آخر وخروجا عن الظاهر من جهة أخرى ، كما لا يخفى.

إذا تقرر ذلك فنقول : تنزيل كلام السيّد على الصورة المفروضة غير بعيد عن سياق كلامه فيكون مقصوده أنّه لو دلّ دليل على اشتراط الواجب بشيء ودار الأمر في المقدّمة بين الوجهين المذكورين لابدّ من التوقّف بالنسبة إلى غير

٩٨

السبب ، كما هو الحال فيما هو بصدده من ردّ استدلال المعتزلة فانّ إقامة الحدود ممّا يعتبر فيه إذن الإمام في الجملة ، لكن لم يقم دليل على كونه شرطا في وجوبها أو وجودها ، ولا يتمّ الاحتجاج إلّا بعد إثبات كونه من الثاني ، وحيث لا دليل فلابدّ من التوقّف وعدم الحكم بتعيين أحد الوجهين إلى أن يدلّ عليه دليل من الخارج.

إذا تمهّد تلك المقدّمات فنقول : لا كلام في أنّ المقدّمة لابدّ من حصولها في أداء الواجب ويعبّر عنه مجازا بالوجوب العقلي ، بل ليس ذلك إلّا مفاد كونها مقدّمة فهو في الحقيقة مقوّم لمفهوم الموضوع لا أنّه حكم من أحكامه ، ويصحّ لذلك استناد الوجوب إليها بالعرض والمجاز ، فإنّه لمّا لم يمكن انفكاك الواجب عنها لم يجز تركها ، نظرا إلى عدم جواز ترك ما لا ينفكّ عنها حسب ما ذكرنا في لوازم الوجود ؛ فالظاهر أنّه لا كلام أيضا في وجوبها على الوجه المذكور.

فما اختاره بعض الأفاضل من القول بوجوب المقدّمة على النحو المذكور ـ نظرا إلى عدم إمكان انفكاك الواجب عنها لا من جهة أدائها إلى أداء الواجب وتوقّف وجود الواجب عليها ولذا لم يفرق بينها وبين لوازم الوجود وقال بوجوب الكلّ ـ هو عين القول بعدم وجوبها مطلقا ، إذ وجوبها على الوجه المذكور ممّا لا ينبغي الخلاف فيه ، ولا يظهر من كلام المنكرين لوجوبها إنكار ذلك أصلا ، إذ ليس ذلك من وجوب المقدّمة في شيء كما عرفت. فما يستفاد من كلامه من كون ذلك قولا بوجوب المقدّمة على الحقيقة وأنّ المنكر لوجوبها مطلقا ينكر ذلك ، ليس على ما ينبغي.

هذا ، ولا كلام أيضا في عدم اقتضاء وجوب الشيء وجوب مقدّمته وجوبا نفسيّا بأن يكون المقدّمة واجبة لنفسها على سبيل الاستقلال كوجوب ذيها ، لوضوح عدم دلالة وجوب الشيء على وجوب ما يتوقّف عليه على الوجه المذكور بحيث لا يرتاب فيه ذو مسكة ولا يحوم حوله ريب وشبهة ، إذ لا يعقل ربط بين الوجوبين على النحو المذكور ؛ ويدلّ عليه مع غاية وضوحه أنّ ذلك هو المستفاد ممّا قرّر من الأدلّة على الوجوب فيكون ذلك هو مقصود القائل به.

٩٩

نعم يوجد في كلام بعض الأفاضل استحقاق العقاب على ترك المقدّمة بناءا على القول بالوجوب وعدمه على القول الآخر.

وفرّع عليه أيضا استحقاق الثواب على فعلها وعدمه ، وبه قطع بعض الأفاضل ممّن عاصرناه وأيّد ما أسند إليهم من الحكم بثبوت العقاب باستدلالهم في دلالة الأمر بالشيء على النهي عن الضدّ بأنّ ترك الضدّ واجب من باب المقدّمة ، فيكون فعله حراما فيثبت حرمته ويترتّب عليه أحكامه من الفساد وغيره.

فإنّ القائل بأنّ الأمر بالشيء يقتضي النهي عن الضدّ ليس مراده طلب الترك التبعي كما سنحقّقه ، بل مراده الخطاب الأصلي ، قال : «ووجه التأييد أنّ النهي المستلزم للفساد ليس إلّا ما كان فاعله معاقبا». وأنت خبير بما فيه ، إذ كون النهي المستلزم للفساد خصوص ما يكون فاعله معاقبا دون غيره غير متّجه ، فإنّ اقتضاء النهي المتعلّق بالعبادة للفساد إنّما يجيء من جهة عدم جواز اجتماعه مع الطلب المتعلّق بفعلها المقوّم لماهيّة العبادة ، وذلك ممّا لا يختلف فيه الحال بين ما يترتّب عليه العقاب أو لا.

نعم هناك فرق بين النهيين من جهة اخرى لا يترتّب من جهته الفساد على النواهي الغيريّة في بعض الصور ولو كانت أصليّة كما سيأتي بيانه إن شاء الله تعالى.

وأيضا لو سلّم ذلك فكون المستدلّ المذكور قائلا بذلك غير معلوم فلعلّه يتخيّل عدم جواز اجتماع الأمر والنهي في العبادة مطلقا ، ومجرّد فساد الدعوى المذكورة على فرض تسليمه لا يقضي بحمل كلامه على ما ذكر مع فساده أيضا ؛ مضافا إلى أنّ ما ذكره لو تمّ لقضى بكون النهي المتعلّق بالمقدّمة نفسيّا لا غيريّا ، ل ما عرفت من عدم ترتّب عقاب مستقلّ على ترك الواجبات الغيريّة.

ومن الغريب نصّ الفاضل المذكور بكون النزاع في المقام في الوجوب الأصلي النفسي حيث قال : «وأمّا القائل بوجوب المقدّمة فلابدّ أن يقول بوجوب آخر غير الوجوب التوصّلي ، ويقول بكونه مستفادا من الخطاب الأصلي وإلّا فلا

١٠٠