هداية المسترشدين في شرح أصول معالم الدين - ج ٢

الشيخ محمد تقي الرازي النجفي الاصفهاني

هداية المسترشدين في شرح أصول معالم الدين - ج ٢

المؤلف:

الشيخ محمد تقي الرازي النجفي الاصفهاني


المحقق: مؤسّسة النشر الإسلامي
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
964-470-069-4

الصفحات: ٧٨٣

الاستدلال ظاهرا في إثبات أصل الدلالة في مقابلة من ينكرها كما هو ظاهر من ملاحظة قوله : (إذ لا ذمّ بما لم ينه عنه لأنّه معناه) فإنّ ذلك إنّما يقال : عند دفع توهّم عدم دلالته على النهي ، فلذا أجاب عنه المصنّف رحمه‌الله بانّه لا نزاع لنا في النهي عنه حسبما يفيده الدليل المذكور حيث لا يفيد سوى أصل الدلالة ، ووقوع النزاع في كون تلك الدلالة على سبيل العينيّة أو التضمّن أو الالتزام ممّا لا ربط له بهذا المقام ، وحينئذ فلا ينافي ذلك ما سبق من المصنّف رحمه‌الله من صحّة وقوع النزاع في الضدّ العامّ بالنسبة إلى كيفيّة الدلالة ولا حاجة حينئذ إلى أن يقال في الجواب : إنّ ذلك لا يفيد الاستلزام كما يدّعيه المستدلّ وإنّما يفيد التضمّن حسب ما ذكرناه ، والأولى توجيه العبارة بحملها على ذلك بأن يكون المراد منها : أنّه لا نزاع لنا في النهي عنه في الجملة ، وبمجرّد ذلك لا يتمّ ما ادّعيت من الاستلزام بل هو على سبيل التضمّن لبعد ذلك عن العبارة جدّا كيف ولو أراد ذلك لأشار إلى منع إفادته كون الدلالة على سبيل الاستلزام دون التضمّن ، ولا يدفعه بأنّ ما يفيده ممّا لا نزاع لنا فيه.

ويمكن تقرير الاستدلال بوجه يفيد كون الدلالة على سبيل التضمّن كما هو مقتضى الدليل الأوّل ، فإنّ الوجوب الّذي هو مدلول الأمر هو مطلوبيّة الفعل على وجه يذمّ تاركه وكونه بحيث يذمّ تاركه هو مفاد تعلّق النهي بتركه ، فإنّ المنهيّ عنه هو الّذي يذمّ فاعله أو يقال : إنّ تعريف الواجب بما يذمّ تاركه تعريف بالرسم ، وحدّه في الحقيقة هو طلب الفعل مع المنع من الترك وهو الباعث على استحقاق الذمّ على تركه والمنع من الترك هو عين مفاد النهي عنه إلى آخر ما ذكر وحينئذ فيمكن أن يراد من قوله : (ولا نزاع لنا في النهي عنه) تلقّيه له بالقبول لا دفعه بخروجه عن محلّ النزاع حسب ما مرّ في كلام المجيب المتقدّم ، وقد يحمل كلامه على إرادة إثبات الالتزام لكنه لا يوافق دليله السابق ، لظهوره بل صراحته في إثبات التضمّن ؛ ومع ذلك فأقصى ما يفيده ذلك هو الاستلزام العقلي دون الالتزام اللفظي، كما لا يخفى.

٢٢١

قوله : (يعني : أنّه لا بدّ عند الأمر من تعلّقه).

يعني : بذلك أنّه لا يريد به اللزوم العقلي بأن يكون العقل ظرفا للزومهما بأن يستحيل الانفكاك بينهما بحسب الذهن ليكون لازما بيّنا له بالمعنى الأخصّ ، بل يريد باللزوم العقلي : أنّ العقل يدرك ذلك اللزوم وإن توقّف ذلك على واسطة في الإثبات ليكون اللزوم غير بيّن ، أو اكتفى في إدراكه بمجرّد تصوّر الطرفين والنسبة بينهما لا أنّ الشرع يحكم به ، وليس المراد من عدم حكم الشرع به عدم انفراده في الحكم به ، كما هو الحال في الملزومات الثابتة بالشرع ممّا لا يستقلّ العقل بإدراكه وإلّا فمن الظاهر أنّه إذا حكم به العقل فقد حكم به الشرع أيضا.

قوله : (فالنهي عن الضدّ لازم له بهذا المعنى).

قضيّة ظاهر العبارة : أنّ ذلك بيان لكلام القائل بالاستلزام ، فالإيراد عليه بأنّه إن اريد به الضدّ العامّ فغير مفيد في استنباط الأحكام وإن اريد به الضدّ الخاصّ فغير مسلّم إذ ليس ترك الضدّ من جملة مقدّمات الفعل ، ليس في محلّه.

قوله : (وأنت إذا تأمّلت ... الخ).

لا يخفى : أنّه إن أراد القائل المذكور تنزيل كلام القائل بالدلالة على النهي عن الضدّ العامّ على ما ذكره فهو ممّا لا شاهد عليه ، إذ ذهاب البعض إلى حصول الدلالة اللفظيّة بالنسبة إليه ممّا لا بعد فيه ولا داعي إلى التنزيل بعد قضاء كلامه بذلك ، وإن أراد تنزيل كلام القائل بالدلالة على النهي عن الضدّ الخاص على ذلك فليس بالبعيد ، لبعد القول بالدلالة اللفظيّة بالنسبة إليه جدّا ، كيف والدلالة المذكورة على فرض ثبوتها ليست بيّنة بالمعنى الأعمّ أيضا بل يتوقّف إثباتها على قيام الدليل عليه ، فدعوى اللزوم البيّن بالمعنى الأخصّ كأنّه مصادم للضرورة ، وليس في كلام القوم على ما رأينا تصريح بإثبات الدلالة اللفظيّة وإن فرض إطلاق بعضهم حصول الدلالة اللفظيّة. فتنزيله على إرادة الضدّ العامّ ليس بذلك البعيد ، فاستنكار المصنّف رحمه‌الله لما قرّره القائل المذكور على إطلاقه ليس على ما ينبغي.

قوله : (أحدهما : أنّ فعل الواجب ... الخ).

٢٢٢

قد عرفت : أنّ جلّ القائلين بدلالة الأمر بالشيء على النهي عن ضدّه الخاصّ أو كلّهم إنّما يقولون به من جهة الدلالة العقليّة بملاحظة قيام الدليل العقلي القاطع عليه حسب ما صرّح به المفصّل المذكور ، كما يقتضيه هذه الحجّة المقرّرة وهي عمدة حججهم على المسألة والمعوّل عليها كما ستعرف الحال فيها وتقريرها : أن ترك كلّ من الأضداد الخاصّة من مقدّمات حصول الواجب نظرا إلى استحالة اجتماع كلّ منها مع فعل الواجب فيكون مانعا من حصولها وترك المانع من جملة المقدّمات ، وقد مرّ أنّ مقدّمة الواجب واجبة فيكون ترك الضدّ واجبا وإذا كان تركه واجبا كان فعله حراما وهو معنى النهي عنه.

وقد يورد عليه بوجوه :

أحدها : المنع من كون ترك الضدّ من مقدّمات الفعل وإنّما هو من الامور المقارنة له وليس مجرّد استحالة اجتماع الضدّ مع أداء الواجب قاضيا بكونه من موانع الواجب ليكون تركه مقدّمة لفعله ، فإنّ الامور اللازمة للموانع ممّا يستحيل اجتماعها مع الفعل مع أنّها ليست مانعة منه ولا تركها مقدّمة لحصوله ، وقد يحتجّ على ذلك أيضا بوجوه :

أحدها : أنّه لو كان ترك الضدّ مقدّمة لفعل ضدّه لكان فعل الضدّ مقدّمة لترك ضدّه بالأولى ، إذ التوقّف المدّعى في الأوّل من قبيل توقّف المشروط على الشرط وفي الثاني من قبيل توقّف المسبّب على السبب ، فإنّ من البيّن أنّ فعل الضدّ مستلزم لترك الآخر وسبب لتركه والتوقّف على المقدّمة السببيّة أوضح من غيرها والتالي فاسد جدّا وإلّا لزم صحّة قول الكعبي بانتفاء المباح فالمقدّم مثله.

ثانيها : أنّه لو كان كذلك لزم الدور ، فإنّه لو كان فعل الضدّ من موانع فعل الواجب كان فعل الواجب مانعا منه أيضا ، ضرورة حصول المضادّة من الجانبين ، وكما أنّ ترك المانع من مقدّمات حصول الفعل فكذا وجود المانع سبب لارتفاع الفعل فيكون فعل الواجب متوقّفا على ترك الضدّ وترك الضدّ متوقّفا على فعل الواجب ، ضرورة توقّف المسبّب على سببه ؛ غاية الأمر اختلاف جهة التوقّف من

٢٢٣

الجانبين فإنّ أحدهما من قبيل توقّف المشروط على الشرط والآخر من توقّف المسبّب على السبب ، وهو غير مانع من لزوم الدور.

ثالثها : أنّ من المعلوم بالوجدان أنّه إذا حصل إرادة المأمور به وانتفى الصارف عنه حصل هناك كلّ من فعل المأمور به وترك ضدّه فيكونان إذا معلولي علّة واحدة فلا وجه إذن لجعل ترك الضدّ من مقدّمات الفعل ، فكما أنّ السبب الباعث على حصول أحد النقيضين هو الباعث على رفع الآخر فكذا السبب لحصول أحد الضدّين هو السبب لرفع الآخر ، فلا ترتّب بين ترك الضدّ والإتيان بالفعل ، لوضوح عدم حصول الترتّب بين معلولي علّة واحدة ، إذ هما موجودان في مرتبة واحدة لا تقدّم لأحدهما على الآخر في ملاحظة العقل.

ويرد على الأوّل : أنّه إن اريد بكون فعل الضدّ سبب لترك الآخر انحصار السبب فيه حتّى أنّه يتعيّن على المكلّف الإتيان به ليتفرّع عليه ما يجب عليه من ترك ضدّه فهو بيّن الفساد ، ضرورة أنّه كما يصحّ استناد الترك إلى وجود المانع كذا يصحّ استناده إلى عدم الشرط أو السبب. وإن اريد به كونه سببا للترك في الجملة وإن جاز أن يكون هناك سبب آخر لحصوله فلا يستلزم ذلك حينئذ ما يريده الكعبي من انتفاء المباح ، إذ مع استناد الترك إلى غيره لا يكون فعل الضدّ واجبا ، لظهور أنّ سبب الواجب إنّما يكون واجبا إذا كان هو المؤدّي إلى حصوله وأمّا إذا كان السبب المؤدّي إليه أمر آخر لم يكن ذلك السبب واجبا أصلا ، وإنّما يكون مقارنا لحصوله ؛ غاية الأمر : أنّه لو فرض كون ترك الضدّ المحرّم سببا عن فعل ضدّه لزم أن يكون ذلك الضدّ واجبا وذلك لا يقضي بانتفاء المباح مطلقا ، على أنّا نقول : بامتناع ذلك لأنّ فعل الضدّ مسبوق دائما بإرادته ، وهي كافية في حصول ترك الحرام سابقة على فعل الضدّ ، فلا يكون فعل الضدّ هو الباعث على ترك ضدّه في شيء من المقامات وسيجيء تفصيل القول في ذلك في دفع شبهة الكعبي.

وعلى الثاني : أنّ وجود الضدّ من موانع وجود الضدّ الآخر مطلقا ، فلا يمكن فعل الآخر إلّا بعد تركه وليس في وجود الآخر إلّا شأنيّة كونه سببا لترك ذلك

٢٢٤

الضدّ ، إذ لا ينحصر السبب في ترك الشيء في وجود المانع منه ، فإنّ انتفاء كلّ من أجزاء العلّة التامّة علّة تامّة لتركه ، ومع استناده إلى أحد تلك الأسباب لا توقّف له على السبب المفروض حتّى يرد الدور.

فإن قلت : إنّه مع فرض انتفاء سائر الأسباب وانحصار الأمر في السبب المفروض يجيء الدور وهو كاف في مقصود المجيب.

قلت : إنّه لا يمكن انحصار السبب المؤدّي إلى الترك في فعل الضدّ حسب ما عرفت لكونه مسبوقا بإرادته وهي كافية في تسبيبه الترك ، لوضوح أنّ السبب الداعي إلى أحد الضدّين صارف عن الآخر فلا يتحقّق استناد الترك إليه بالفعل في شيء من الصور. لا يقال : إنّه يجري الكلام المذكور حينئذ بالنسبة إلى ذلك السبب الداعي إلى المأمور به لمضادّته لضدّ المأمور به أيضا ، نظرا إلى امتناع اجتماعه معه ، فيقرّر لزوم الدور بالنسبة إليه ، لأنّا نمنع من ثبوت المضادّة بينهما ، ومجرّد امتناع الجمع بين الأمرين لا يقضي بالمضادّة ، إذ قد يكون الامتناع بالعرض كما في المقام فإنّ امتناع اجتماعه معه من جهة مضادّته للسبب الموصل إليه ـ أعني : إرادة ذلك الضدّ ـ نظرا إلى امتناع اجتماع الإرادتين ولذا كان صارفا عن ذلك الضدّ كيف ومن البيّن : أنّ إرادة أحد الضدّين لا يتوقّف على ترك الضدّ الآخر بوجه من الوجوه ، ولذا يصحّ استناد ذلك الترك إلى ترك الإرادة دون العكس.

لا يقال : إنّا نجري الكلام حينئذ بالنسبة إلى الإرادة المفروضة وإرادة ذلك الضدّ ، إذ لا شكّ في ثبوت المضادّة بينهما فنقول : إنّ حصول الإرادة المذكورة سبب لعدم إرادة ضدّه ، لما ذكر من أنّ وجود أحد الضدّين سبب لانتفاء الآخر مع أنّ وجودها يتوقّف على انتفاء الآخر ، بناءا على كون عدم الضدّ شرطا في حصول الضدّ الآخر.

لأنّا نقول : إنّ إرادة الفعل وعدمها إنّما يتفرّع عن حصول الداعي وعدمه ، فقد لا يوجد الداعي إلى الضدّ أصلا ، فيتفرّع عليه عدم إرادته من غير أن يتسبّب ذلك عن إرادة ضدّه بوجه من الوجوه ، وقد يكون الداعي إليه موجودا لكن يغلبه

٢٢٥

الداعي إلى المأمور به ، وحينئذ فلا يكون عدم إرادة الضدّ مستندا أيضا إلى إرادة المأمور به ليكون توقّف إرادة المأمور به على عدم إرادة ضدّه موجبا للدور ، بل إنّما يستند إلى ما يتقدّمها من غلبة الداعي إلى المأمور به ومغلوبيّة الجانب الآخر الباعث على إرادة المأمور به وعدم إرادة الآخر ، فيكون وجود أحد الضدّين وانتفاء الآخر مستندا في الجملة إلى علّة واحدة من غير أن يكون وجود أحدهما علّة في دفع الآخر ليلزم الإيراد ، ولا ينافي ذلك توقّف حصول الفعل على عدم إرادة ضدّه ، حسب ما سيجيء بيانه إن شاء الله تعالى.

فإن قلت : إنّا نجري الإيراد حينئذ بالنسبة إلى غلبة الداعي إلى المأمور به وغلبة الداعي إلى ضدّه ، لكونهما ضدّين أيضا وقد صار رجحان الداعي إلى الفعل سببا لانتفاء رجحان الداعي إلى ضدّه ، والمفروض توقّف حصول الضدّ على انتفاء الآخر ، فيلزم الدور المذكور.

قلت : لا سببيّة بين الأمرين بل رجحان الداعي إلى الفعل إنّما يكون بمرجوحيّة الداعي إلى الضدّ ، فهو حاصل في مرتبة حصول الآخر من غير توقّف بينهما يقدّم ذلك أحدهما على الآخر في الرتبة ، فرجحان الداعي إلى المأمور به مكافؤ في الوجود لمرجوحيّة الداعي إلى ضدّه ، إذ الرجحانيّة والمرجوحيّة من الامور المتضايفة ، ومن المقرّر : عدم تقدّم أحد المتضايفين على الآخر في الوجود ، ورجحان الداعي إلى الضدّ مع رجحان الداعي إلى المأمور به وإن لم يكونا متضايفين إلّا أنّ رجحان الداعي إلى الضدّ منفي بعين مرجوحيّة الداعي إليه من غير ترتّب بينهما ، فإنّ مرجوحيته عين عدم رجحانه على الآخر فرجحان الداعي إلى المأمور به مكافؤ لمرجوحيّة الداعي إلى ضدّه الّذي هو مفاد عدم رجحانه من غير حصول توقّف بين الامور المذكورة.

وتوضيح المقام : أنّ الأمرين المتقابلين إن كان تقابلهما من قبيل تقابل الإيجاب والسلب فلا توقّف لحصول أحد الطرفين على ارتفاع الآخر ، إذ حصول كلّ من الجانبين عين ارتفاع الآخر ، وكذا الحال في تقابل العدم والملكة ، وقد

٢٢٦

عرفت عدم التوقّف في تقابل التضايف أيضا ، وأمّا المتقابلين على سبيل التضادّ فيتوقّف وجود كلّ على عدم الآخر إلّا أن يرجع الأمر فيهما إلى أحد الوجوه الاخر ، كما في المقام.

وعلى الثالث : أنّ القول بكون فعل المأمور به وترك ضدّه معلولين لعلّة واحدة فاسد، لوضوح كون كلّ من الضدّين مانعا من حصول الآخر وظهور كون ارتفاع المانع من مقدّمات الفعل ، والفرق بين الضدّ والنقيض ظاهر ، لظهور أنّ حصول كلّ من النقيضين بعينه رفع للآخر ، فليس هناك أمران يعدّان معلولين لعلّة واحدة بخلاف المقام ، إذ ليس حيثيّة وجود أحد الضدّين هي بعينها مفاد رفع الآخر وإنّما يستلزمه ، وما يتراءى من حصول الأمرين بإرادة الفعل وانتفاء الصارف عنه لا يفيد كونهما معلولين لعلّة واحدة ، لإمكان كون ذلك سببا أوّلا لانتفاء الضدّ ثمّ كون المجموع سببا لحصول الفعل فيكون عدم الضدّ متقدّما في الرتبة على حصول الفعل وإن كان مقارنا له في الزمان.

فإن قلت : إذا كان ترك الضدّ لازما للإرادة الملزمة للفعل حاصلا بحصولها فلا داعي للقول بوجوبه بعد وجوب ملزومه ، فالحال فيه كسائر لوازم المقدّمات ، وقد عرفت : أنّه لا وجوب لشيء منها وإن لم تكن منفكّة عن الواجب.

قلت : قد عرفت أنّ انتفاء أحد الضدّين من مقدّمات حصول الآخر ؛ غاية الأمر أن يكون من لوازم مقدّمة اخرى للفعل ، فإنّ ذلك لا يقضي بعدم وجوبه قبل وجوب ملزومه ، إذ أقصى الأمر عدم اقتضاء كونه من لوازم المقدّمة وجوبه من جهة وجوب الفعل وهو لا ينافي اقتضاء وجوب الفعل وجوبه من حيث كونه مقدّمة له إلّا أن يقال : باختصاص ما دلّ على وجوب المقدّمة بغيره وهو فاسد ، لما عرفت من إطلاق أدلّة القول بوجوب المقدّمة ، وإذا عرفت تفصيل ما قرّرناه ظهر لك فساد ما ذكر من منع كون ترك الضدّ مقدّمة ومنع اقتضاء استحالة الاجتماع مع الفعل قاضيا بكون تركه مقدّمة لما عرفت من الدليل المثبت للتوقّف ، وما ذكر من النقض سندا للمنع الأخير واضح الفساد ، للفرق البيّن بين الأضداد والموانع وما

٢٢٧

يلازمها فإنّ استحالة الاجتماع هناك ذاتية وهنا بالعرض والمانعية إنّما يتمّ بالأوّل دون الأخير.

ثانيها : أنّ القول بوجوب المقدّمة لا يقضي بوجوب ترك الضدّ مطلقا وإنّما يقضي بوجوب ترك الضدّ الموصل إلى أداء الواجب ، فإنّ ما دلّ على وجوب المقدّمة إنّما يفيد وجوبها من حيث إيصالها إلى الواجب لا مطلقا ، فإذا لم يكن المكلّف مريدا لفعل الواجب لم يكن ترك الضدّ موصلا إلى الواجب فلا يكون الحكم بوجوب المقدّمة قاضيا بوجوب ذلك ، نظرا إلى انتفاء التوصّل به حينئذ إلى الواجب وإذا لم يكن حينئذ ترك الضدّ واجبا فمن أين يجيء النهي عنه؟

ويدفعه ما عرفت من أنّ ما دلّ على وجوب المقدّمة إنّما يفيد وجوبها من حيث كونها موصلة إلى الواجب لا خصوص ما هو الموصل إليه ، وقضيّة ذلك وجوب ترك الضدّ في المقام من حيث إيصاله إلى أداء الواجب بأن يجتمع مع إرادة الواجب وسائر مقدّماته ليتفرّع عليها أداء الواجب ، ولا يمنع من وجوبه مقارنته لانتفاء سائر المقدّمات ، إذ مطلوب الأمر حينئذ إيجاد الجميع وعدم إقدام المكلّف على إيجادها لا يقضي بخروج شيء منها عن الوجوب ، فعدم حصول الإيصال بها فعلا لا ينافي وجوبها من حيث حصول الإيصال بها بأن يأتي بسائر المقدّمات أيضا فيتبعه الإيصال ، فحينئذ إذا لم يأت بغيرها كان تاركا لما لم يأت بها من المقدّمات دون ما أتى به أيضا ، حسب ما يقتضيه التقرير المذكور.

ثالثها : المنع من وجوب المقدّمة مطلقا أو خصوص المقدّمة الغير السببيّة كما اختاره المصنّف رحمه‌الله وقد أشار إليه ب قوله : (فإنّا نمنع وجوب المقدّمة ... الخ) وجوابه ما تبيّن من ثبوت وجوب المقدّمة مطلقا وبطلان القول بنفي وجوبها على الإطلاق أو على التفصيل حسب ما مرّ القول فيه.

رابعها : أنّ المقدّمة إنّما تجب للتوصّل إلى الواجب كما يقتضيه الدليل الدالّ عليه ، وقضيّة ذلك اختصاص الوجوب بحال إمكان حصول التوصّل بها لا مطلقا ، ولا ريب أنّه مع وجود الصارف عن المأمور به وعدم الداعي إليه المستمرّين مع الأضداد الخاصّة لا يمكن التوصّل بها فلا وجوب لها.

٢٢٨

خامسها : أنّ حجّة القول بوجوب المقدّمة على تقدير تسليمها إنّما ينهض دليلا على الوجوب عند التأمّل فيها حال كون المكلّف مريدا للفعل المتوقّف عليها دون ما إذا لم يكن مريدا له ، كما هو الحال عند اشتغاله بفعل الضدّ وهذان الوجهان يأتي الإشارة إليهما في كلام المصنّف في آخر المسألة ، ويأتي الإشارة إلى ما يزيّفهما.

قوله : (وهو محرّم قطعا).

لما عرفت من الاتّفاق على دلالة الأمر بالشيء على النهي عن ضدّه العامّ بمعنى الترك وإن وقع الكلام في كيفيّة تلك الدلالة حسب ما مرّ.

قوله : (لأنّ مستلزم المحرّم محرّم).

هذا إمّا مبنيّ على ما مرّ من وجوب المقدّمة السببيّة ، فكما يكون السبب الواجب واجبا فكذا يكون سبب المحرّم محرّما لاتّحاد المناط فيهما ، وهذا هو الّذي بنى عليه المصنّف رحمه‌الله في الجواب. أو مبنيّ على ثبوت تحريم الأسباب المفضية إلى الحرام ، إمّا من تتبّع موارد حكم الشرع بحيث يعلم بناء الشرع على تحريم تلك الأسباب ، أو لدعوى الإجماع على ذلك بالخصوص ، فلا ربط له إذا بالقول بوجوب المقدّمة.

قوله : (فإنّ العقل يستبعد).

قد عرفت : أنّ مجرّد استبعاد العقل لا ينهض حجّة شرعيّة على إثبات الحكم في الشريعة فالاستناد إليه في المقام ممّا لا وجه له أصلا.

ثمّ إن المراد بالعلّة في المقام هو المقتضي لحصول الحرام إذا صادف اجتماع الشرائط ، ولا يريد به خصوص العلّة التامّة لخروجه عن المصطلح ، كيف ولو أراد به ذلك لزمه القول بوجوب الشروط ، فإنّها من أجزاء العلّة التامّة ، ومن البيّن : أنّ تحريم الكلّ يستدعي تحريم أجزائه ، ولا يقول المصنّف رحمه‌الله به ، ويمكن أن يريد به الجزء الأخير من العلّة التامّة ، فإنّه الّذي يتفرّع عليه حصول الحرام ، فما يقال : من أنّ ما ذكره إنّما يوجّه إذا كان علّة تامّة للّازم ليس على ما ينبغي ، والمراد بتحريمه

٢٢٩

كونه محظورا في الشريعة مطلوبا تركه على ما هو المقصود من الحرام ، وليس المراد به أن يترتّب عليه عقوبة اخرى سوى العقوبة المترتّبة على اللازم ، لوضوح فساده في المقام ، وليس استحقاق العقوبة كذلك من لوزام التحريم مطلقا حتّى يلزم القول بحصوله بعد القول بتحريمه، والمراد بكون تحريم المعلول مقتضيا لتحريم علّته هو قضاؤه بتحريم علّته المفضية إلى الحرام بأن يكون وجود الحرام مسبّبا عنه ، لا مجرّد ما يكون من شأنه العلّيّة وإن لم يستند وجود الحرام إليه.

هذا إذا تسبّب الحرام عن إحدى تلك العلل فقارنها وجود غيرها من غير أن يتسبّب ذلك الحرام عنها ، وأمّا إذا لم يأت به وكان له أسباب عديدة فظاهر ما ذكره المصنّف تحريم الجميع ، لكون كلّ منها سببا لحصول الحرام ، فقضيّة قضاء تحريم المعلول بتحريم علّته هو حرمة جميع تلك الأسباب.

وقد يورد في المقام : بأنّ تسليم المصنّف كون تحريم المعلول قاضيا بتحريم علّته يستلزم قوله بوجوب المقدّمة الغير السببيّة أيضا ، لكون ترك الواجب محرما قطعا ، وكون ترك كلّ من مقدّماته علّة لترك الواجب ومستلزما له وإن لم يكن هناك استلزام من جانب الوجود ، وتخصيص العلّة والمعلول بالوجوديّين تحكّم صرف ، لاطّراد العلّة ، وكذا القول بتخصيص أحدهما بذلك ، فلا يصحّ له حينئذ نفي وجوب غير السبب حسبما اختاره.

قلت : وقد مرّ تفصيل الكلام في ذلك عند ذكر الدليل المذكور في عداد أدلّة القول بوجوب المقدّمة ، فلا حاجة إلى إعادته وبملاحظته يتبيّن الحال في الإلزام المذكور.

قوله : (فإنّ انتفاء التحريم في أحد المعلولين ... الخ).

لا يخفى : أنّ قضيّة ما ذكره من قضاء تحريم المعلول بتحريم العلّة أنّه مع انتفاء التحريم عن المعلول لا قضاء فيه بتحريم العلّة ، وأمّا قضاؤه بانتفاء التحريم عن العلّة فلا ، لوضوح أنّ انتفاء الملزوم لا يقضي بانتفاء اللازم ، وأقصى ما يفيده انتفاء السبب الخاصّ انتفاء المسبّب من تلك الجهة لا مطلقا ، وهو لم يقم حجّة

٢٣٠

على أنّ إباحة المعلول قاضية بإباحة العلّة ، كما أنّ تحريمه قاض بحرمتها ؛ فغاية الأمر عدم تحريمها من تلك الجهة وهو لا ينافي حرمتها من جهة اخرى ، إذ نفي التحريم عن الفعل من جهة خاصّة لا يستلزم نفيه مطلقا ، كيف ومن البيّن أنّ شيئا من المحرّمات لا تحريم فيها من جميع الجهات ، وإنّما يحرم من الجهة المقبّحة له وكذا الحال في المقام ، فإنّ القبح الحاصل في العلّة من جهة قبح معلوله وأدائه إلى القبيح منفي بانتفاء القبح عن معلوله ، وأين ذلك من قضاء ذلك بالحكم بإباحته.

فما ذكره من أنّ انتفاء التحريم في أحد المعلولين يستدعي انتفاءه في العلّة ليختصّ المعلول الآخر بالتحريم من دون علّته ضعيف جدّا ، إذ قد عرفت : أنّ قضيّة انتفاء التحريم في أحد المعلولين عدم تحريم علّته من تلك الجهة ، وهو لا ينافي تحريمه من جهة اخرى وهي حرمة المعلول الآخر.

ثمّ إنّ قضيّة ما ذكره من قضاء انتفاء التحريم عن المعلول بانتفاء التحريم عن علّته على فرض تسليمه دلالة حرمة العلّة على تحريم المعلول ، ضرورة دلالة انتفاء المعلول على انتفاء العلّة ، ولا يقتضي ذلك كون تحريم العلّة سببا لتحريم المعلول ، كما يستفاد من كلام المدقّق المحشّي ، إذ الإفادة المذكورة إنّما تجيء من جهة اقتضاء ارتفاع الحرمة عن المعلول ارتفاعها عن العلّة ، فإذا حرمت العلّة كشف ذلك عن تحريم المعلول ، إذ لو لم يكن محرّما لقضى بعدم تحريم علّته وقد فرض خلافه ، هذا.

ولا يخفى عليك : أنّ ما ادّعاه المصنّف من لزوم اتّحاد العلّة والمعلول في الحكم وكذا معلولا علّة واحدة ، إن أراد به حصول محرّمات عديدة يستحقّ الآتي بها عقوبات متعدّدة على حسبها فهو واضح الفساد ، إذ لا يزيد ما ذكره على حكم المقدّمة وقد عرفت : أنّه لا عقوبة مستقلّة على ترك المقدّمات ولا قائل به كذلك في المقام. وكذا إن أراد به ثبوت التحريم الغيري كذلك بعد ثبوت التحريم النفسي لأحدهما ، فإنّه إنّما يتمّ بالنسبة إلى علّة المحرّم دون معلوله ، إذ لا قائل بكون ما يتفرّع على الحرام من اللوازم محرّما آخر. والحاصل : أنّه إذا تعلّق التحريم بشيء

٢٣١

كان المحرّم هو ذلك الشيء دون غيره ممّا يتبعه ويلحقه ؛ غاية الأمر أن يكون السبب المفضى إليه محرّما من جهة الإيصال إليه ـ حسب ما قرّره ـ ولا دليل على تحريم غيره أصلا ، كيف ولو صحّ ما توهّم لكان إيجاب الأسباب قاضيا بإيجاب مسبّباتها لتحريم ترك السبب الواجب القاضي بتحريم مسبّبه مع أنّ الأمر بالعكس ، بل ربما قيل : بأنّ التكاليف لا يتعلّق بالمسبّبات ، وإنّما يتعلّق بأسبابها ، كما مرّت الإشارة إليه.

وإن أراد به استناد التحريم إلى ما ذكر بالعرض نظرا إلى عدم انفكاكه عن الحرام نظير ما مرّ في مقدّمة الواجب من وجوبها بالعرض لوجوب ذيها فهو كذلك قطعا ، وقد مرّ هناك : أنّ ذلك ممّا لا ينبغي النزاع فيه ولا في جريانه في لوازم الواجب ولوازم المقدّمات والأسباب إلّا أنّ حمل العبارة على ذلك بعيد جدّا ، كما هو ظاهر من ملاحظة كلامه ، إذ ليس الحرام حينئذ إلّا شيئا واحدا يتعلّق به التحريم بالذات وغير ذلك ممّا يلزمه ويتبعه إنّما يحرم بتحريمه بالتبع والعرض ، فليس هناك إلّا تحريم واحد وهو لا يلائم ما ذكره ، كيف ولو أراد ذلك لمّا جاز له إنكاره في القسم الآتي ، لوضوح جريانه فيه أيضا لدوران الحال فيه مدار عدم جواز الانفكاك ولو بحسب العادة؟ فلا يعقل منعه من ذلك بالنسبة إليه.

قوله : (وأمّا إذا انتفت العلّيّة بينهما ... الخ).

لا يخفى : أنّ الأمرين المتلازمين في الوجود إمّا أن يكونا علّة ومعلولا بلا واسطة أو معها ، كمعلول مع علّة العلّة أو يكونا معلولي علّة واحدة كذلك ، وهذه العلّيّة إمّا بحسب العقل فالتلازم بينهما عقلي أو بحسب العادة فالملازمة عادية ، ومن الظاهر : أنّ العلّيّة العادية بمنزلة العقليّة في تفريع الأحكام في المقام من غير تفاوت ، ولذا نصّوا في باب مقدّمة الواجب على تعميم السبب للعقلي والعادي. فإن اريد بالعلّة في المقام ما يعمّ ذلك ـ كما هو الظاهر ـ فلا إشكال إلّا أنّ حكمه بحصول التلازم في غير هذه الصورة ممّا لا وجه له ، إذ لا يصحّ الملازمة وعدم الانفكاك بين الشيئين من دون ذلك على سبيل الاتفاق وعدم الانفكاك بين

٢٣٢

الشيئين على سبيل الاتفاق ممّا لا يعقل بالنسبة إلى أفعال المكلّفين ، إذ مع إمكان الانفكاك عقلا أو عادة يكون للمكلّف التفريق بينهما وإن ادرجت العلّيّة العادية في القسم الثاني ، فالحكم بعدم جريان حكم المتلازمين فيه كما ترى.

قوله : (إنّ تضادّ الأحكام بأسرها يمنع ... الخ).

لا يخفى : أنّه كما يمنع تضادّ الأحكام من اجتماع اثنين منها في محلّ واحد كذا يمنع منه قبح التكليف بما لا يطاق ، وذلك ظاهر فيما إذا أوجب الإتيان بأحد المتلازمين وحرم الإتيان بالآخر ، فإنّه يتعذّر على المكلّف امتثال الأمرين ، ومن البيّن : أنّه كما يستحيل التكليف بما لا يطاق بالنسبة إلى تكليف واحد كذلك يستحيل بالنسبة إلى تكليفين أو أكثر ، فحرمة ترك المأمور به وإن لم يناف إباحة فعل الضدّ إلّا أنّه ينافي وجوبه على ما هو مورد ثمرة المسألة بل ينافي استحبابه أيضا ، لاستحالة الامتثال له بعد تحريم ما يلازمه ، فدفع الوجه المذكور بأنّ قضيّة التضادّ امتناع اجتماعهما في موضع واحد لا موضعين لا يدفع ما ذكرناه ، فالحكم بجواز حصول حكمين من الأحكام الخمسة مطلقا في المتلازمين المفروضين ليس على ما ينبغي.

قوله : (على أنّ ذلك لو أثّر).

أشار بقوله : «ذلك» إلى التلازم بين الشيئين يعني : لو كان التلازم بين الشيئين مطلقا قاضيا بعدم حصول حكمين منها في المتلازمين لثبت قول الكعبي ، وقد يجعل قوله : «لو أثّر» بمنزلة : لو صحّ ، فيكون قوله «ذلك» إشارة إلى كون مطلق التلازم بين الشيئين مانعا من اتّصاف المتلازمين بحكم غير حكم الآخر ، فلو صحّ ذلك لثبت قول الكعبيّ بانتفاء المباح ، والأوّل أظهر.

قوله : (لثبت قول الكعبي بانتفاء المباح ... الخ).

لا يخفى : أنّ شبهة الكعبي على تقريره المشهور مبنيّة على عكس هذه المسألة أي : قضاء النهي عن الشيء بالأمر بضدّه ، وهو إنّما يتبيّن بإثبات توقّف ترك الحرام على فعل ضدّه ، ووجوب مقدّمة الواجب ، كما سيأتي بيانه إن شاء الله ، وأمّا الوجه

٢٣٣

الّذي ذكره المصنّف في الشبهة فلا توقف له على كون فعل الضدّ من مقدّمات ترك الحرام ليتوقّف تركه عليه ولا على وجوب مقدّمة الواجب وإنّما يبتنى على عدم اختلاف المتلازمين في الحكم بعد ثبوت الملازمة بين ترك الحرام والإتيان بفعل من الأفعال.

وتقريرها على البيان المذكور : أنّ ترك الحرام يلازم فعلا من الأفعال المضادّة للحرام وترك الحرام واجب فيكون ما يلازمه واجبا ، لعدم جواز اختلاف المتلازمين في الحكم ، فإذا ثبت وجوب ذلك قضى بوجوب كلّ من تلك الأفعال على سبيل التخيير ، وهذا التقرير كتقريره المشهور مبنيّ على عدم إمكان خلوّ المكلّف عن فعل من الأفعال ، ومن يقول بجواز خلوّ المكلّف عن الأفعال فهو في سعة عن هذه الشبهة ونحوها ، ومع البناء على عدم إمكان خلوّه عن الأفعال فالجواب عنه على مذاق المصنّف ما سيجيء بيانه في كلامه ، وسنقرّر ما يرد عليه.

والحقّ في الجواب عنه حينئذ هو المنع من لزوم اتّحاد المتلازمين في الحكم ، وأقصى ما يقال في المقام : إنّ الأمر الثابت لأحد المتلازمين من رجحان أو مرجوحيّة أو منع ترك أو منع فعل ثابت للآخر بالتبع والعرض من غير أن يتحقّق هناك شيئان ، بل يكون الثابت شيئا واحدا ينسب إلى أحدهما بالذات وإلى الآخر بالعرض ـ على حسب ما مرّ تفصيل القول فيه ـ فغاية الأمر أن يكون أحد الأفعال الوجوديّة واجب الحصول بتبعيّة وجوب ترك الحرام يعني : أنّه يلزم الإتيان به من جهة لزوم ترك الحرام لعدم انفكاكه عنه فهو واجب بوجوبه ، فهو في نفسه غير واجب لا لنفسه ولا لغيره ، فليس في ذلك نفي للمباح بوجه من الوجوه ، أقصى الأمر ثبوت الوجوب بالعرض والمجاز للكلّيّ المفروض الملازم لترك الحرام فيثبت ذلك للجزئيّات المندرجة تحته تبعا ، فإن أراد القائل بوجوب المباح ما ذكرناه فلا خلاف في المعنى ، وإن أراد ثبوت الوجوب له بنفسه سواء كان نفسيّا أو غيريّا فقد عرفت عدم نهوض الدليل المذكور عليه أصلا ، بل يمكن أن يقال : إن الوجوب بالعرض على الوجه المذكور لا يثبت لخصوص شيء من الأضداد وإنّما

٢٣٤

يثبت للكلّيّ الشامل لتلك الجزئيّات ، حيث إنّه الّذي لا ينفكّ عن ترك الحرام بخلاف كلّ من الجزئيّات ، لحصول الانفكاك بالنسبة إلى كلّ منها ، فلا وجه للقول بوجوب شيء منها بالتبع ، فإنّه إنّما يتبع عدم الانفكاك وهو غير حاصل بالنسبة إلى تلك الخصوصيّات ، فثبوت الحكم على الوجه المذكور للكلّيّ لا يستتبع ثبوته للفرد ، نظرا إلى عدم حصول الجهة الباعثة لثبوته بالنسبة إلى شيء من الأفراد ، فلا وجوب إذا لشيء من الأضداد الخاصّة بالعرض أيضا وإن وجب الأمر العامّ على الوجه المذكور. فتأمّل.

قوله : (ولهم في ردّه وجوه : في بعضها تكلّف حيث ضايقهم القول ... الخ).

أراد بذلك : ردّهم لقوله بالنظر إلى الشبهة المعروفة المبتنية على وجوب المقدّمة دون التقرير الّذي ذكره ، إذ لا ربط له بوجوب المقدّمة حتّى يتضايق عليهم الأمر من جهة القول بوجوب المقدّمة.

وتقرير شبهته المعروفة : أنّ ترك الحرام واجب وهو لا يتمّ إلّا بفعل من الأفعال وما لا يتمّ الواجب إلّا به فهو واجب ، أمّا الاولى : فظاهرة. والثالثة : قد قرّرت في المسألة المتقدّمة. وأمّا الثانية : فيحتجّ عليها تارة : بأنّ فعل الضدّ سبب لترك الحرام حيث إنّ وجود أحد الضدّين سبب لرفع الآخر فيتوقّف عليه توقّف المسبّب على سببه واخرى : بأنّه لمّا لم يمكن خلوّ المكلّف عن الفعل توقف تركه لفعل الحرام على التلبس بفعل آخر لئلّا يلزم خلوّه عن الأفعال.

واجيب عنه بوجوه :

أحدها : منع المقدّمة الثانية. وما ذكر في الاحتجاج عليها لا يفيد توقّف ترك الحرام على فعل المباح ، إذ قد يحصل ذلك بفعل الواجب.

ويدفعه : أنّ ذلك لا يقضي بعدم وجوب المباح إذ أقصى الأمر حصول ذلك الواجب بما يعمّ الواجب والمباح ، فيتخيّر المكلّف بين الأمرين ، فالواجب إذا هو الإتيان بفعل من الأفعال الغير المحرّمة سواء كان واجبا أو غيره ، غاية الأمر : أن يتحقّق في الواجب جهتان للوجوب.

٢٣٥

ثانيها : المعارضة بأنّه لو تمّ ما ذكر من الدليل لزم أن يكون الحرام واجبا فيما إذا حصل به ترك حرام آخر ، فيلزم اجتماع الوجوب والتحريم في شيء واحد وأنّه محال. وردّ ذلك بأنّه إنّما يقضي ذلك باجتماع الحكمين من جهتين ولا مانع منه.

ويدفعه : أنّ الإيراد مبنيّ على جواز اجتماع الأمر والنهي من جهتين فلا يتمّ على المشهور المنصور من المنع منه ، وعليه مبنى الجواب ؛ فالحقّ في الإيراد عليه أن يقال : إنّ ذلك مسقط إذا للواجب وليس الإتيان بالحرام من أفراد الواجب وإن حصل به الأداء إلى ترك حرام آخر إذ ليس كلّ موصل إلى الواجب مندرجا في المقدّمة الواجبة كما مرّت الإشارة إليه.

ثالثها : المنع من وجوب مقدّمة الواجب وهو أوضح الأجوبة بناءا على القول بنفي وجوب المقدّمة ، وأمّا القائل بوجوبها مطلقا فلابدّ له من التزام غيره من الاجوبة لينحلّ به الإشكال ، وقد استصعب ذلك على الآمدي فعجز عن حلّ الإشكال لاختياره وجوب المقدّمة قائلا : إنّه لا خلاص عنه إلّا بمنع وجوب ما لا يتمّ الواجب إلّا به ، وفيه خرق للقاعدة الممهّدة على اصول الأصحاب ، ثمّ إنّ ما ذكره الكعبي في غاية الغموض والإشكال وعسى أن يكون عند غيري حلّه ، ولذا أشار المصنّف إلى ضيق الأمر على الجماعة من جهة القول بوجوب ما لا يتمّ الواجب إلّا به مطلقا مشيرا بذلك إلى أنّ من لا يقول به مطلقا فهو في سعة من ذلك ، كالمصنّف المانع من وجوب غير المقدّمة السببيّة والحاجبي حيث اختار في الجواب عن الشبهة منع وجوب المقدّمة مطلقا نظرا إلى اختياره اختصاص الوجوب بالشروط الشرعيّة دون العقلية والعادية ، ولا ريب أنّ ترك الضدّ من المقدّمات العقليّة.

نعم لو كانت المضادّة بينهما ممّا ثبت بحكم الشرع أمكن قوله بالمنع منه ولا يلزم منه القول بنفي المباح ، وقضيّة كلامه توقّف دفع الشبهة على المنع المذكور والتحقيق خلافه ، كما سنبيّن الحال فيه إن شاء الله.

وربما يورد في المقام : بأنّ بعض تقريرات شبهة الكعبي لا يتوقّف على

٢٣٦

وجوب المقدّمة مطلقا ولا على عدم اختلاف المتلازمين في الحكم حسب ما اعتبر في التقرير الأوّل ، فإنّه ذكر العلّامة رحمه‌الله في تقرير شبهته : أنّ المباح ترك للحرام وترك الحرام واجب فالمباح واجب ، أمّا الثاني فظاهر ، وأمّا الأوّل فلأنّه ما من مباح إلّا وهو ضدّ الحرام ، فإنّ السكوت ترك للقذف والسكون ترك للفعل ، وكما أنّ الإتيان بالفعل رفع لتركه فكذا الإتيان بضدّه رفع لفعله ، فإمّا أن يراد من كون فعل المباح تركا للحرام أنّه عينه أو أنّه سبب لتركه حيث إنّ الإتيان بأحد الضدّين سبب لرفع الآخر ، وعلى كلّ حال فلا توقّف لها على وجوب مقدّمة الواجب مطلقا ، أمّا على الأوّل : فظاهر ، إذ لا ربط لها بوجوب المقدّمة حتّى يتسع الأمر من جهتها على من ينكره وأمّا على الثاني : فلكونه إذا سببا لحصول الواجب ، فلا اتّساع على المجيب من جهة إنكاره وجوب المقدّمة مطلقا إذا كان قائلا بوجوب السبب ، كما هو ملحوظ المصنّف.

وفيه : أنّ التقرير المذكور لشبهة الكعبي أوهن الوجوه ، أمّا على الأوّل فواضح ، ضرورة أنّ الإتيان بالضدّ ليس عين رفع الفعل وإنّما يلابسه ويقارنه وإنّما الواجب هو الترك المقارن له ، فلا قاضي بوجوب الضدّ المقارن لذلك الواجب. وأمّا على الثاني فبأنّ ترك الحرام لا يتسبّب عن فعل الضدّ ، وإنّما السبب المؤدّي إليه هو الصارف عن فعل الحرام ـ أعني : عدم إرادته من أصله أو لإرادة ضدّه المفروض المتقدّمة على فعله ـ ولو سلّم كون فعل الضدّ سببا فهو من أحد الأسباب ، إذ كما يستند عدم الشيء إلى وجود المانع فقد يستند إلى عدم المقتضي أو انتفاء أحد الشرائط فلا يتوقّف ترك الحرام على خصوص الإتيان بفعل الضدّ ولا يقضي ذلك بوجوب كلّ من تلك الأسباب على وجه التخيير ليعود المحذور ، إذ مع استناد الترك إلى بعض تلك الأسباب لا وجوب لغيرها أصلا ، فليس مقصود المصنّف من وقوع القائل بوجوب المقدّمة في الضيق من جهة التقرير المذكور ، لما عرفت من سهولة اندفاعه بل وضوح فساده ، وإنّما الباعث على الضيق هو تقريره المتقدّم ، لوقوع الإشكال في دفعه ، وقد عرفت

٢٣٧

اعتراف الآمدي وغيره بصعوبة الأمر في رفعه وعدم ظهور اندفاعه بغير منع وجوب المقدّمة مطلقا.

قوله : (والتحقيق في ردّه أنّه مع وجود الصارف ... الخ).

ملخّص ما ذكره في الجواب : أنّه إن تحقّق الصارف عن الحرام تفرّع عليه الترك ولم يتوقّف على أمر آخر من الإتيان بالضدّ أو غيره ، وإن لم يتحقّق الصارف عنه وتوقّف الترك على فعل ضدّ من أضداده لزم القول بوجوبه بناءا على القول بوجوب المقدّمة ، ولا يلزم منه نفي المباح رأسا ـ حسب ما يدّعيه المستدلّ ـ غاية الأمر وجوب الضدّ في تلك الصورة الخاصّة ، ولا مانع للقائل المذكور به منه ، سيّما مع ندور تلك الصورة.

ويرد عليه : أنّ الصارف عن الحرام إن كان خارجا عن قدرة المكلّف واختياره كان الإتيان بالمحرّم ممتنعا بالنسبة إليه ، ومعه يرتفع التكليف فلا تحريم ، وهو خروج عن الفرض إذ المأخوذ في الاحتجاج ثبوت التحريم على ما هو معلوم من تعلّق التحريم بالمكلّفين وإن كان تحت قدرته ، فقضيّة التقرير المذكور كون كلّ من الصارف وفعل الضدّ كافيا في أداء الواجب ـ أعني : ترك الحرام ـ فاللازم من ذلك تخيير المكلّف بين الأمرين ، فيكون الإتيان بالضدّ المباح أحد قسمي الواجب التخييري ، وهو عين مقصود المستدلّ.

وقد يجاب عنه : بأنّه إذا حصل أحد الأمرين الواجبين على سبيل التخيير ـ أعني : الصارف من المنهي عنه ـ انتفى وجوب الآخر فيبقى سائر الأضداد الخاصّة على إباحتها.

ويدفعه : أنّه إنّما يتمّ ذلك بالنسبة إلى حال وجود الصارف وأمّا بالنظر إلى الزمان الّذي يليه فالتخيير على حاله ، فيجب عليه في كل حال أحد أمرين من تحصيل الصارف عن المنهيّ عنه أو إيجاد ضدّه ، فإذا حصل الصارف سقط عنه إيجاد الضدّ بالنسبة إلى حال حصوله لا بالنظر إلى ما بعده ، لتخييره إذا بين الأمرين وإن علم إذا ببقاء الصارف إلى الزمان المتأخّر ، فإنّ مجرّد العلم بحصول

٢٣٨

أحد الواجبين المخيّرين في الزمان الثاني لا يقضي بسقوط الآخر قبل حصوله ، على أنّ ذلك لو تمّ لكان جوابا مستقلّا عن الاحتجاج ، من غير حاجة إلى التمسّك بحصول الصارف ، فإنّ اختيار أحد الأضداد الخاصّة قاض بسقوط الوجوب عن البواقي فتكون باقية على إباحتها ، فلا يفيد ذلك نفي المباح رأسا كما هو المدّعى.

ويمكن دفع الإيراد المذكور بوجه آخر وذلك بأن يقال : إنّ حصول الصارف ليس عن اختيار المكلّف مع كون الفعل أو الترك الحاصل منه اختياريّا ، بيان ذلك : أنّ حصول الفعل في الخارج إنّما يتبع مشيئة المكلّف وإرادته له في الخارج ، فإن شاء المكلّف حصل الفعل وإن لم يشأ لم يحصل وذلك عين مفاد قدرته عليه ، لكن حصول المشيئة وعدمها إنّما يكون بالوجوب والامتناع ، نظرا إلى الدواعي القائمة عليه في نظر الفاعل من أوّل الأمر أو بعد التأمّل في لوازمه وآثاره وما يترتّب عليه من ثمراته وغاياته ، فميل النفس إلى أحد الجانبين بعد ملاحظة الداعيين والغايات المترتّبة على الأمرين من الفعل والترك الّذي هو عين الإرادة إنّما يتبع ما عليه نفسه من السعادة والشقاوة وغلبة جهة الحقّ والباطل وغير ذلك من الصفات المناسبة لتلك الأفعال ، فيترجّح عنده أحد الجانبين من جهتها ، وظاهر أنّ ذلك غير موكول إلى اختياره بل لا مدخليّة لإرادته ومشيئته في حصوله بل الإرادة تابعة له ، وكون ذلك الداعي خارجا عن اختيار المكلّف لا يقضي بكون الفعل أو الترك المترتّب عليه خارجا عن قدرته واختياره كما توهّمه المورد ، ضرورة كون الفعل تابعا لمشيئته واختياره وليست حقيقة القدرة والاختيار إلّا ذلك ، فإذا كان كلّ من الفعل والترك موكولا إلى مشيئة الفاعل لا غير فإن شاء فعل وإن شاء ترك كان ذلك الفاعل قادرا مختارا بالضرورة ، وإن كانت مشيئته لأحد الطرفين بالوجوب نظرا إلى ما ذكرناه ، فإنّ ذلك لا ينافي صدق الشرطيّة المذكورة الّتي هي من اللوازم البيّنة لحقيقة القدرة أو عين حقيقتها ، فكون الفعل مقدورا عليه لا يقضي بكون الدواعي أيضا مقدورا عليها داخلة تحت اختيار المكلّف ، وإنّما الاختيار متعلّق بالأفعال الصادرة منه المتعلّقة لمشيئته من جهة إناطتها بها وجودا

٢٣٩

وعدما ، وأمّا المشيئة فهي مقدور عليها بنفسها صادرة عن اختيار المشيء بخلاف الدواعي الباعثة عليها ، فإذا كانت الدواعي خارجة عن اختيار المكلّف لم تكن متعلّقة للتكليف وان تعلّق التكليف بالفعل المقدور عليه فحينئذ نقول : إن كان الصارف عن الفعل حاصلا حصل الترك من غير أن يتوقّف حصوله على الإتيان بضدّ من الأضداد ، وإنّما يكون الإتيان به من لوازم وجود المكلّف إن قيل بامتناع خلوّه عن الفعل ، وإن لم يكن حاصلا وتوقّف الترك على الإتيان بالضدّ وجب ذلك من باب المقدّمة ، حسب ما قرّره.

وقد يورد عليه : بأنّ خروج الداعي عن اختيار المكلّف لا ينافي تخييره بين ذلك وما يكون حصوله باختياره ، نظرا إلى قيام الوجوب في المخيّر بأحدهما ومن الظاهر : أنّه إذا كان واحد منهما مقدورا عليه كان القدر الجامع بينهما مقدورا عليه أيضا ، فيصحّ التكليف به ، فإن حصل غير المقدور عليه اكتفى به في سقوط الواجب بالنسبة إلى زمان حصوله ، على ما هو الشأن في المخيّر وإلّا وجب عليه الإتيان بالآخر ، ولا ينافي ذلك وجوب القدر الجامع عليه عند دوران الأمر بينهما بالنسبة إلى الزمان المتأخّر ـ حسب ما قرّر في الجواب المتقدّم ـ فبذلك يتمّ الاحتجاج أيضا.

ويرد عليه : أنّ تعلّق التكليف بغير المقدور ولو على سبيل التخيير سفه لا يقع من الحكيم ، ألا ترى أنّه لا يصحّ التكليف بالجمع بين النقيضين أو صلاة ركعتين وإن كان القدر الجامع بينهما مقدورا عليه فلا وجه للالتزام به في المقام.

وفيه : أنّه يصحّ التكليف بالطبائع المطلقة مع أنّه يندرج فيها الأفراد الكثيرة ممّا لا يتعلّق بها القدرة ، ولا يمنع ذلك من تعلّق الأمر بالمطلق إلّا أنّه يجب من أفراده على سبيل التخيير ما يتعلّق القدرة بها من جهة الأمر بالمطلق ، فكذا الحال في المقام فليس المقصود وجوب غير المقدور على سبيل التخيير بل المدّعى وجوب أحد الأمرين من المقدور وغيره ، فيتعلّق الوجوب بالمقدور منه.

ويدفعه : أنّ ذلك إنّما يصحّ في الطبائع المطلقة ممّا يتحصّل في ضمن الأفراد

٢٤٠