هداية المسترشدين في شرح أصول معالم الدين - ج ٢

الشيخ محمد تقي الرازي النجفي الاصفهاني

هداية المسترشدين في شرح أصول معالم الدين - ج ٢

المؤلف:

الشيخ محمد تقي الرازي النجفي الاصفهاني


المحقق: مؤسّسة النشر الإسلامي
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
964-470-069-4

الصفحات: ٧٨٣

مجزيا عن الواجب وكان متّصفا بالوجوب بحسب الواقع وإن لم يأت به من جهة وجوبه.

سادسها : ما مرّ من الكلام في مقدّمة الواجب يجري بعينه في مقدّمات ترك الحرام أعني ما يتوقّف عليه ترك الحرام من الأفعال والتروك بل يندرج ذلك في مقدّمة الواجب ، نظرا إلى وجوب ترك الحرام ، وكما أنّ مقدّمة الواجب قد تكون مقدّمة لوجوده وقد تكون مقدّمة للعلم بحصوله ، فكذا مقدّمة ترك الحرام قد تكون مقدّمة لنفس الترك سواء كانت فعلا أو تركا ، وقد تكون مقدّمة للعلم به كما في الحلال المشتبه بالحرام ، كما إذا اشتبه الدرهم الحلال بالحرام فإنّه يتوقّف العلم بالاجتناب عن الحرام على التجنّب عن جميع ما وقع فيه الاشتباه ، فيجب الاجتناب عن الكلّ.

وذهب جماعة إلى عدم وجوب التجنّب ، نظرا إلى بعض الأخبار الدالّة على عدم وجوب الاجتناب عن الحرام إلّا مع العلم به بعينه دون المشتبه ، فلا يجب ترك الحرام مطلقا حتّى يجب مقدّمة العلم به ، وهو ضعيف كما سيجيء تفصيل القول فيه في محلّه إن شاء الله.

ثمّ الظاهر إنّ ما اختاره الجماعة من عدم وجوب التجنّب إلّا عن الحرام المعلوم إنّما هو بالنسبة إلى الماليّات ونحوها ، وأمّا بالنظر إلى الإقدام على سائر المحرّمات كما إذا اشتبه الكافر بالمسلم ومن يحلّ سبيه بمن لا يحلّ ومن يحلّ وطؤه بمن يحرم أو اشتبه الخمر بغيره أو السمّ بغيره ونحو ذلك فإنّ الظاهر : أنّ أحدا لا يقول بجواز الإقدام وتوقّف التحريم على العلم فيحكم في الأمثلة المذكورة بحلّ القتل والسبي والوطء والشرب والأكل بمجرّد الشبهة الحاصلة كيف وربما يعدّ المنع من ذلك من الضروريّات الواضحة المستغنية عن تجشّم ذكر الأدلّة هذا.

وقد علم ممّا ذكرنا حرمة السبب المفضي إلى الحرام ، لتوقّف ترك الحرام على تركه بل لا يبعد القول بتحريمه ولو على القول بعدم وجوب المقدّمة الشرطيّة نظرا

١٨١

إلى كونه في حكم المقدّمة السببيّة ، فكما يجب الأسباب المفضية إلى فعل الواجب كذا يحرم السبب المفضي إلى الحرام كما سيشير إليه المصنّف بل قد يقال بتحريمه ولو مع عدم القول بوجوب المقدّمة مطلقا لاستفادة ذلك من تتبّع موارد الشرع ، وأمّا سائر مقدّمات الحرام فلا وجه للقول بتحريمها ، لعدم استلزامها لحصول الحرام وعدم كونها معتبرة في ترك الحرام ليتوقّف تركه على تركها إلّا أن تكون جزءا أخيرا للعلّة التامّة فتحرم لما عرفت ولا يبعد إدراجها إذا في الأسباب.

نعم لو قصد بفعل المقدّمة التوصّل إلى الحرام كان محرّما ، لقيام الدليل على تحريم الأفعال الّتي يقصد بها المحرّمات وهو حينئذ حرام نفسي فلا ربط له بالمقام ، ولا فرق إذا بين ما إذا حصل التوصّل بها إلى الحرام أو لا.

سابعها : قد يتخيّل أنّ المقدّمة إذا كانت فعل امور يكون الإتيان بالواجب حاصلا في ضمنها كالصلاة إلى الجوانب الأربع والصلاة في الثوبين المشتبهين كانت واجبة على القولين :

قال في الوافية : وكأنّه لا خلاف في وجوبه ، لأنّه عين الإتيان بالواجب بل هو منصوص في بعض الموارد كالصلاة إلى أربع جهات عند اشتباه القبلة والصلاة في كلّ من الثوبين المشتبهين عند اشتباه الطاهر بالنجس وغير ذلك انتهى.

ويرد عليه : أنّه إن قيل بكون الأفعال المتعدّدة متقدّمة بالنسبة إلى نفس الواجب فهو بيّن الفساد ، لوضوح عدم الحاجة في وجوده إلى التكرار وإن اريد كون ذلك مقدّمة للعلم بأداء الواجب فإنّه كما يجب الإتيان بالفعل يجب العلم بتفريغ الذمّة أيضا فيكون التكرار واجبا لتوقّف وجود العلم الواجب عليه.

فدعوى كون الواجب حاصلا في ضمن المقدّمة غير ظاهرة ، فإنّ الواجب الّذي يكون التكرار مقدّمة بالنسبة إليه هو العلم بأداء الواجب وهو غير حاصل في ضمنها وأداء أصل الواجب الحاصل في ضمنها ليس ممّا يتوقّف حصوله على التكرار قطعا فليس ذلك مقدّمة بالنسبة إليه ، وحيث كان التكرار المفروض مقدّمة بالنسبة إلى وجود العلم الواجب كان الحال فيه كسائر المقدّمات من غير فرق.

١٨٢

نعم يندرج ذلك في المقدّمة السببيّة لكون التكرار سببا لحصول العلم فالحال فيه كسائر أسباب الواجبات ودلالة النصّ على وجوب التكرار في بعض الموارد لا يفيد شيئا في المقام كورود النصّ بوجوب غيره من المقدّمات كوجوب الوضوء والغسل للصلاة :

ويدفعه : أنّه لا شكّ في إتيانه بكلّ من الأفعال المتكرّرة على سبيل الوجوب نظرا إلى وجوب الاحتياط في مثله بعد اليقين بالاشتغال فلا وجه للقول بعدم وجوب ذلك بناءا على القول بنفي وجوب المقدّمة مطلقا ، كيف وليس الحال في ذلك إلّا كغيره من الاحتياط الواجب كوجوب الإتيان بالأجزاء المشكوكة على القول بكون أسامي العبادات موضوعة للصحيحة ، فإنّ وجوب الإتيان بها إنّما هو من جهة تحصيل العلم بالفراغ بعد اليقين بالاشتغال.

وقد يقال : بأنّ وجوبها من باب الاحتياط غير الوجوب من باب المقدّمة وذلك لاستصحاب بقاء الاشتغال قبل حصول التكرار أو الإتيان بالجزء المشكوك فيحكم بالوجوب من تلك الجهة لا بمجرّد كونها مقدّمة للعلم.

وفيه : أنّ ذلك إنّما يجري بالنسبة إلى الإتيان بالأجزاء المشكوكة وأمّا في المقام فلا يصحّ ذلك ، إذ لا وجه حينئذ في نيّة الوجوب في كلّ من الفعلين إلّا من باب المقدّمة وليس الوجه في وجوب الاحتياط حينئذ إلّا من جهة توقّف اليقين بالفراغ عليه ، فالقول بعدم وجوب التكرار على القول بعدم وجوب المقدّمة مع إطباق الأصحاب ظاهرا على الوجوب من الجهة المذكورة غير متّجه.

نعم مع الغضّ عن إطباقهم عليه يمكن المناقشة فيه بناءا على القول بعدم وجوب المقدّمة مطلقا إلّا أنّ اتفاقهم على الوجوب يدفع ذلك ، وفيه دلالة على ما ذكره المصنّف من الاتفاق على وجوب المقدّمة السببيّة ، إذ لا خصوصيّة للسبب المذكور بين أسباب الواجبات.

* * *

١٨٣
١٨٤

معالم الدين :

أصل

الحقّ أنّ الأمر بالشيء على وجه الإيجاب لا يقتضي النهي عن ضدّه الخاصّ لفظا ولا معنى.

وأمّا العامّ ؛ فقد يطلق ويراد به أحد الأضداد الوجوديّة لا بعينه ، وهو راجع إلى الخاصّ ، بل هو عينه في الحقيقة ، فلا يقتضي النهي عنه أيضا. وقد يطلق ويراد به الترك. وهذا يدلّ الأمر على النهي عنه بالتضمّن.

وقد كثر الخلاف في هذا الأصل ، واضطرب كلامهم في بيان محلّه من المعاني المذكورة للضدّ ؛ فمنهم : من جعل النزاع في الضدّ العامّ بمعناه المشهور ـ أعني الترك ـ وسكت عن الخاصّ. ومنهم : من أطلق لفظ الضدّ ولم يبيّن المراد منه. ومنهم : من قال : إنّ النّزاع إنّما هو في الضدّ الخاصّ. وأمّا العامّ بمعنى الترك فلا خلاف فيه ، إذ لو لم يدلّ الأمر بالشيء على النهي عنه ، لخرج الواجب عن كونه واجبا.

وعندي في هذا نظر ؛ لأنّ النزاع ليس بمنحصر في إثبات الاقتضاء ونفيه ، ليرتفع في الضدّ العامّ باعتبار استلزام نفي الاقتضاء فيه خروج الواجب عن كونه واجبا ، بل الخلاف واقع على القول بالاقتضاء في أنّه

١٨٥

هل هو عينه أو مستلزمه كما ستسمعه. وهذا النزاع ليس ببعيد عن الضدّ العامّ ، بل هو إليه أقرب.

ثمّ إنّ محصّل الخلاف هنا : أنّه ذهب قوم إلى أنّ الأمر بالشيء عين النهي عن ضدّه في المعنى. وآخرون إلى أنّه يستلزمه ، وهم : بين مطلق للاستلزام ، ومصرّح بثبوته لفظا. وفصّل بعضهم ، فنفى الدلالة لفظا وأثبت اللزوم معنى ، مع تخصيصه لمحلّ النزاع بالضدّ الخاصّ.

لنا على عدم الاقتضاء في الخاصّ لفظا : أنّه لو دلّ لكانت واحدة من الثلاث ، وكلّها منتفية.

أمّا المطابقة ، فلأنّ مفاد الأمر لغة وعرفا هو الوجوب ، على ما سبق تحقيقه. وحقيقة الوجوب ليست إلّا رجحان الفعل مع المنع من الترك. وليس هذا معنى النهي عن الضدّ الخاصّ ضرورة.

وأمّا التضمّن ، فلأنّ جزءه هو المنع من الترك. ولا ريب في مغايرته للأضداد الوجوديّة المعبّر عنها بالخاصّ.

وأمّا الالتزام ، فلأنّ شرطها اللزوم العقليّ أو العرفيّ. ونحن نقطع بأنّ تصوّر معنى صيغة الأمر لا يحصل منه الانتقال إلى تصوّر الضدّ الخاصّ ، فضلا عن النهي عنه.

ولنا على انتفائه معنى : ما سنبيّنه ، من ضعف متمسك مثبتيه ، وعدم قيام دليل صالح سواه عليه.

ولنا على الاقتضاء في العامّ بمعنى الترك : ما علم من أنّ ماهيّة الوجوب مركّبة من أمرين ، أحدهما المنع من الترك. فصيغة الأمر الدالّة على الوجوب دالّة على النهي عن الترك بالتضمّن ، وذلك واضح.

احتجّ الذاهب إلى أنّه عين النهي عن الضدّ : بأنّه لو لم يكن نفسه ، لكان إمّا مثله ، أو ضدّه ، أو خلافه ، واللازم بأقسامه باطل.

١٨٦

بيان الملازمة : أنّ كلّ متغايرين إمّا أن يكونا متساويين في الصفات النفسيّة ، أو لا ـ والمراد بالصفات النفسيّة : ما لا يفتقر اتّصاف الذات بها إلى تعقّل أمر زائد ، كالإنسانيّة للإنسان. وتقابلها المعنويّة المفتقرة إلى تعقّل أمر زائد ، كالحدوث والتحيّز له ـ فإن تساويا فيها ؛ فمثلان ، كسوادين وبياضين. وإلّا ، فإمّا أن يتنافيا بأنفسهما ، بأن يمتنع اجتماعهما في محلّ واحد بالنظر إلى ذاتيهما ، أو لا. فإن تنافيا كذلك ، فضدّان ، كالسواد والبياض. وإلّا ، فخلافان ، كالسواد والحلاوة.

ووجه انتفاء اللازم بأقسامه : أنّهما لو كانا ضدّين أو مثلين لم يجتمعا في محلّ واحد ، وهما مجتمعان ؛ ضرورة أنّه يتحقّق في الحركة الأمر بها والنهي عن السكون الّذي هو ضدّها. ولو كانا خلافين لجاز اجتماع كلّ منهما مع ضدّ الآخر ، لأنّ ذلك حكم الخلافين ، كاجتماع السواد ـ وهو خلاف الحلاوة ـ مع الحموضة ، فكان يجوز أن يجتمع الأمر بالشيء مع ضدّ النهي عن ضدّه ، وهو الأمر بضدّه. لكن ذلك محال ، إمّا لأنّهما نقيضان ، إذ يعدّ «إفعل هذا» و «إفعل ضدّه» أمرا متناقضا ، كما يعدّ «فعله» و «فعل ضدّه» خبرا متناقضا ؛ وإمّا لأنّه تكليف بغير الممكن ، وأنّه محال.

والجواب : إن كان المراد بقولهم : «الأمر بالشيء طلب لترك ضدّه» على ما هو حاصل المعنى : أنّه طلب لفعل ضدّ ضدّه ، الّذي هو نفس الفعل المأمور به ، فالنزاع لفظيّ، لرجوعه إلى تسمية فعل المأمور به تركا لضدّه ، وتسمية طلبه نهيا عنه. وطريق ثبوته النقل لغة، ولم يثبت. ولو ثبت فمحصّله : أنّ الأمر بالشيء ، له عبارة اخرى ، كالاحجيّة ، نحو : «أنت وابن أخت خالتك». ومثله لا يليق أن يدوّن في الكتب العلميّة.

وإن كان المراد : أنّه طلب للكفّ عن ضدّه ، منعنا ما زعموا : أنّه لازم

١٨٧

للخلافين ـ وهو اجتماع كلّ مع ضدّ الآخر ـ لأنّ الخلافين : قد يكونان متلازمين ؛ فيستحيل فيهما ذلك ؛ إذ اجتماع أحد المتلازمين مع الشيء يوجب اجتماع الآخر معه ؛ فيلزم اجتماع كلّ مع ضدّه ، وهو محال. وقد يكونان ضدّين لأمر واحد ، كالنوم للعلم والقدرة ، فاجتماع كلّ مع ضدّ الآخر يستلزم اجتماع الضدّين.

حجّة القائلين بالاستلزام وجهان :

الأوّل ـ أنّ حرمة النقيض جزء من ماهيّة الوجوب. فاللفظ الدالّ على الوجوب يدلّ على حرمة النقيض بالتضمّن. واعتذر بعضهم ـ عن أخذ المدّعى الاستلزام ، واقتضاء الدليل التضمّن ـ بأنّ الكلّ يستلزم الجزء. وهو كما ترى.

واجيب : بأنّهم إن أرادوا بالنقيض ـ الّذي هو جزء من ماهيّة الوجوب ـ الترك ؛ فليس من محلّ النزاع في شيء ؛ إذ لا خلاف في أنّ الدالّ على الوجوب دالّ على المنع من الترك ، وإلّا ، خرج الواجب عن كونه واجبا. وإن أرادوا أحد الأضداد الوجوديّة ، فليس بصحيح ، إذ مفهوم الوجوب ليس بزائد على رجحان الفعل مع المنع من الترك ، وأين هو من ذاك؟

وأنت إذا أحطت خبرا بما حكيناه في بيان محلّ النزاع ، علمت أنّ هذا الجواب لا يخلو عن نظر ؛ لجواز كون الاحتجاج لاثبات كون الاقتضاء على سبيل الاستلزام في مقابلة من ادّعى أنّه عين النهي ، لا على أصل الاقتضاء. وما ذكر في الجواب إنّما يتمّ على التقدير الثاني.

فالتحقيق : أن يردّد في الجواب بين الاحتمالين ؛ فيتلقّى بالقبول على الأوّل ، مع حمل الاستلزام على التضمّن ، ويردّ بما ذكر في هذا الجواب على الثاني.

١٨٨

الوجه الثاني ـ أنّ أمر الايجاب طلب يذمّ تركه اتّفاقا ، ولا ذمّ إلّا على فعل ؛ لأنّه المقدور ، وما هو هاهنا إلّا الكفّ عنه ، أو فعل ضدّه ، وكلاهما ضدّ للفعل. والذمّ بأيّهما كان ، يستلزم النهي عنه ، إذ لا ذمّ بما لم ينه عنه ، لأنّه معناه.

والجواب : المنع من أنّه لا ذمّ إلّا على فعل ، بل يذمّ على أنّه لم يفعل. سلّمنا ، لكنّا نمنع تعلّق الذمّ بفعل الضدّ ، بل نقول : هو متعلّق بالكفّ ، ولا نزاع لنا في النهي عنه.

واعلم : أنّ بعض أهل العصر حاول جعل القول بالاستلزام منحصرا في المعنوي ؛ فقال : التحقيق أنّ من قال بأنّ الأمر بالشيء يستلزم النهي عن ضدّه لا يقول بأنّه لازم عقليّ له ، بمعنى أنّه لابدّ عند الأمر من تعقّله وتصوّره. بل المراد باللزوم : العقليّ مقابل الشرعيّ ، يعني : أنّ العقل يحكم بذلك اللزوم ، لا الشرع. قال : «والحاصل : أنّه إذا أمر الآمر بفعل ، فبصدور ذلك الأمر منه يلزم أن يحرم ضدّه ، والقاضي بذلك هو العقل. فالنهي عن الضدّ لازم له بهذا المعنى. وهذا النهي ليس خطابا أصليّا حتّى يلزم تعقّله ، بل إنّما هو خطاب تبعيّ ، كالأمر بمقدّمة الواجب اللازم من الأمر بالواجب ؛ إذ لا يلزم أن يتصوّره الآمر».

هذا كلامه. وأنت إذا تأمّلت كلام القوم رأيت أنّ هذا التوجيه إنّما يتمشّى في قليل من العبارات الّتي أطلق فيها الاستلزام. وأمّا الأكثرون فكلامهم صريح في إرادة اللزوم باعتبار الدلالة اللفظيّة. فحكمه على الكلّ بإرادة المعنى الّذي ذكره تعسّف بحت ، بل فرية بيّنة.

واحتجّ المفصّلون على انتفاء الاقتضاء لفظا ، بمثل ما ذكرناه في برهان ما اخترناه ، وعلى ثبوته معنى بوجهين :

أحدهما : أنّ فعل الواجب الّذي هو المأمور به لا يتمّ إلّا بترك ضدّه ، وما لا يتمّ الواجب إلّا به فهو واجب ، وحينئذ فيجب ترك فعل

١٨٩

الضدّ الخاصّ. وهو معنى النهي عنه.

وجوابه يعلم ممّا سبق آنفا ؛ فإنّا نمنع وجوب ما لا يتمّ الواجب إلّا به مطلق ، بل يختصّ ذلك بالسبب ، وقد تقدّم.

والثاني : أنّ فعل الضدّ الخاصّ مستلزم لترك المأمور به ، وهو محرّم قطعا ؛ فيحرم الضدّ أيضا ؛ لأنّ مستلزم المحرّم محرّم.

والجواب : إن أردتم بالاستلزام : الاقتضاء والعلّيّة ، منعنا المقدّمة الاولى ، وإن أردتم به مجرّد عدم الانفكاك في الوجود الخارجيّ على سبيل التجوّز ، منعنا الأخيرة.

وتنقيح المبحث : أنّ الملزوم إذا كان علّة للازم لم يبعد كون تحريم اللازم مقتضيا لتحريم الملزوم ، لنحو ما ذكر في توجيه اقتضاء إيجاب المسبّب إيجاب السبب ، فإنّ العقل يستبعد تحريم المعلول من دون تحريم العلّة. وكذا إذا كانا معلولين لعلّة واحدة ؛ فإنّ انتفاء التحريم في أحد المعلولين يستدعي انتفاءه في العلّة ، فيختصّ المعلول الآخر الّذي هو المحرّم بالتحريم من دون علّته. وأمّا إذا انتفت العلّيّة بينهما والاشتراك في العلّة ، فلا وجه حينئذ لاقتضاء تحريم اللازم تحريم الملزوم ؛ إذ لا ينكر العقل تحريم أحد أمرين متلازمين اتّفاقا ، مع عدم تحريم الآخر.

وقصارى ما يتخيّل : أنّ تضادّ الأحكام بأسرها يمنع من اجتماع حكمين منها في أمرين متلازمين.

ويدفعه : أنّ المستحيل إنّما هو اجتماع الضدّين في موضوع واحد. على أنّ ذلك لو أثّر ، لثبت قول الكعبيّ بانتفاء المباح ، لما هو مقرّر من أنّ ترك الحرام لابدّ وأن يتحقّق في ضمن فعل من الأفعال ، ولا ريب في وجوب ذلك الترك ، فلا يجوز أن يكون الفعل المتحقّق في ضمنه

١٩٠

مباحا ؛ لأنّه لازم للترك ويمتنع اختلاف المتلازمين في الحكم.

وبشاعة هذا القول غير خفيّة. ولهم في ردّه وجوه في بعضها تكلّف ، حيث ضايقهم القول بوجوب ما لا يتمّ الواجب إلّا به مطلقا ؛ لظنّهم أنّ الترك الواجب لا يتمّ إلّا في ضمن فعل من الأفعال ؛ فيكون واجبا تخييريّا.

والتحقيق في ردّه : أنّه مع وجود الصارف عن الحرام ، لا يحتاج الترك إلى شيء من الأفعال ، وإنّما هي من لوازم الوجود ، حيث نقول بعدم بقاء الأكوان واحتياج الباقي إلى المؤثّر. وإن قلنا بالبقاء والاستغناء ، جاز خلوّ المكلّف من كلّ فعل ؛ فلا يكون هناك إلّا الترك.

وأمّا مع انتفاء الصارف وتوقّف الامتثال على فعل منها ـ للعلم بأنّه لا يتحقّق الترك ولا يحصل إلّا مع فعله ـ فمن يقول بوجوب ما لا يتمّ الواجب إلّا به مطلقا ، يلتزم بالوجوب في هذا الفرض ، ولا ضير فيه ، كما أشار إليه بعضهم. ومن لا يقول به فهو في سعة من هذا وغيره.

إذا تمهّد هذا فاعلم : أنّه إن كان المراد باستلزام الضدّ الخاصّ لترك المأمور به ، أنّه لا ينفكّ عنه ، وليس بينهما علّيّة ولا مشاركة في علّة ، فقد عرفت : أنّ القول بتحريم الملزوم حينئذ لتحريم اللازم ، لا وجه له. وإن كان المراد أنّه علّة فيه ومقتض له ، فهو ممنوع ، لما هو بيّن ، من أنّ العلّة في الترك المذكور إنّما هي وجود الصارف عن فعل المأمور به وعدم الداعي إليه ، وذلك مستمرّ مع فعل الأضداد الخاصّة ؛ فلا يتصوّر صدورها ممّن جمع شرائط التكليف مع انتفاء الصارف ، إلّا على سبيل الإلجاء ، والتكليف معه ساقط.

وهكذا القول بتقدير أن يراد بالاستلزام اشتراكهما في العلّة ، فإنّه ممنوع أيضا ؛ لظهور أنّ الصارف الّذي هو العلّة في الترك ليس علّة لفعل الضدّ. نعم هو مع إرادة الضدّ من جملة ما يتوقّف عليه فعل الضدّ ،

١٩١

فإذا كان واجبا كانا ممّا لا يتمّ الواجب إلّا به.

وإذ قد أثبتنا سابقا عدم وجوب غير السبب من مقدّمة الواجب ، فلا حكم فيهما بواسطة ما هما مقدّمة له ، لكنّ الصارف باعتبار اقتضائه ترك المأمور به ، يكون منهيّا عنه ، كما قد عرفت. فإذا أتى به المكلّف عوقب عليه من تلك الجهة. وذلك لا ينافي التوصّل به إلى الواجب ، فيحصل ، ويصحّ الإتيان بالواجب الّذي هو أحد الأضداد الخاصّة. ويكون النهي متعلّقا بتلك المقدّمة ومعلولها ، لا بالضدّ المصاحب للمعلول.

وحيث رجع حاصل البحث هاهنا إلى البناء على وجوب ما لا يتمّ الواجب إلّا به وعدمه ، فلو رام الخصم التعلّق بما نبّهنا عليه ، بعد تقريبه بنوع من التوجيه ، كأن يقول : «لو لم يكن الضدّ منهيّا عنه ، لصحّ فعله وإن كان واجبا موسّعا. لكنّه لا يصحّ في الواجب الموسّع ؛ لأنّ فعل الضدّ يتوقّف على وجود الصارف عن الفعل المأمور به ، وهو محرّم قطعا. فلو صحّ مع ذلك فعل الواجب الموسّع ، لكان هذا الصارف واجبا باعتبار كونه ممّا لا يتمّ الواجب إلّا به. فيلزم اجتماع الوجوب والتحريم في أمر واحد شخصيّ ، ولا ريب في بطلانه» لدفعناه ، بأنّ صحّة البناء على وجوب ما لا يتمّ الواجب إلّا به ، تقتضي تماميّة الوجه الأوّل من الحجّة ، فلا يحتاج إلى هذا الوجه الطويل.

على أنّ الّذي يقتضيه التدّبر ، في وجوب ما لا يتمّ الواجب إلّا به مطلقا ، على القول به ، أنّه ليس على حدّ غيره من الواجبات. وإلّا لكان اللّازم ـ في نحو ما إذا وجب الحجّ على النائي فقطع المسافة أو بعضها على وجه منهيّ عنه ـ أن لا يحصل الامتثال حينئذ ؛ فيجب عليه إعادة السعي بوجه سائغ ، لعدم صلاحيّة الفعل المنهيّ عنه للامتثال ، كما سيأتي بيانه. وهم لا يقولون بوجوب الاعادة قطعا ؛ فعلم أنّ الوجوب فيها إنّما هو للتوصّل بها إلى الواجب. ولا ريب أنّه بعد الإتيان بالفعل

١٩٢

المنهيّ عنه يحصل التوصّل ؛ فيسقط الوجوب ، لانتفاء غايته.

إذا عرفت ذلك ، فنقول : الواجب الموسّع كالصلاة مثلا يتوقّف حصوله ـ بحيث يتحقّق به الامتثال ـ على إرادته وكراهة ضدّه ؛ فإذا قلنا بوجوب ما يتوقّف عليه الواجب كانت تلك الإرادة وهاتيك الكراهة واجبتين ، فلا يجوز تعلّق الكراهة بالضدّ الواجب ؛ لأنّ كراهته محرّمة ، فيجتمع حينئذ الوجوب والتحريم في شيء واحد شخصيّ. وهو باطل ، كما سيجيء.

لكن قد عرفت : أنّ الوجوب في مثله إنّما هو للتوصّل إلى ما لا يتمّ الواجب إلّا به. فإذا فرض أنّ المكلّف عصى وكره ضدّا واجبا ، حصل له التوصّل إلى المطلوب ؛ فيسقط ذلك الوجوب ؛ لفوات الغرض منه ، كما علم من مثال الحجّ.

ومن هنا يتّجه أن يقال بعدم اقتضاء الأمر للنهي عن الضدّ الخاصّ ، وإن قلنا بوجوب ما لا يتمّ الواجب إلّا به ؛ إذ كونه وجوبه للتوصّل يقتضي اختصاصه بحالة إمكانه ، ولا ريب أنّه ، مع وجود الصارف عن الفعل الواجب وعدم الداعي ، لا يمكن التوصّل ؛ فلا معنى لوجوب المقدّمة حينئذ. وقد علمت أنّ وجود الصارف وعدم الداعي مستمرّان مع الأضداد الخاصّة.

وأيضا : فحجّة القول بوجوب المقدّمة ـ على تقدير تسليمها ـ إنّما ينهض دليلا على الوجوب في حال كون المكلّف مريدا للفعل المتوقّف عليها ، كما لا يخفى على من أعطاها حقّ النظر. وحينئذ فاللازم عدم وجوب ترك الضدّ الخاصّ في حال عدم إرادة الفعل المتوقّف عليه من حيث كونه مقدّمة له ؛ فلا يتمّ الاستناد في الحكم بالاقتضاء إليه. وعليك بامعان النظر في هذه المباحث ؛ فإنّي لا أعلم أحدا حام حولها.

١٩٣

قوله : (الحقّ أنّ الأمر بالشيء ... الخ).

الخلاف في هذه المسألة كالمسألة المتقدّمة ليس من جهة دلالة صيغة الأمر على ذلك وعدمها وإنّما الكلام في قضاء ما دلّ على إيجاب الفعل بذلك سواء كان الدالّ عليه صيغة الأمر أو غيرها على وجه الحقيقة أو المجاز بل لو دلّ العقل على وجوب شيء جرى فيه البحث فإدراج المسألة في بحث الأوامر إنّما هو من جهة مدلولها ، وقد أدرجها بعضهم في الأدلّة العقليّة كالمسألة المتقدّمة من جهة كونها من جملة الملازمات الثابتة بحكم العقل.

قوله : (عن ضدّه الخاصّ ... الخ).

قد يفسّر مطلق الضدّ في المقام الشامل للخاصّ والعامّ بما ينافي الفعل المأمور به ويستحيل اجتماعه معه في الخارج ، فيعمّ ذلك ما يكون مقابلته للمأمور به من قبيل تقابل الإيجاب والسلب ، كما في الضدّ العامّ أو من قبيل تقابل التضادّ ، كما في الضدّ الخاصّ ، وما يكون منافيا له بالذات أو بالعرض بأن لا ينفكّ عمّا ينافيه بالذات ، كالامور الملازمة لأضداده فإنّ منافاتها للمأمور به تبعيّة من جهة ملازمتها لما يضادّه من غير أن يكون هناك مضادّة بينهما مع قطع النظر عن ذلك وهذا التفسير للضدّ العامّ لا يخلو عن ضعف ، فإنّ اندراج الأخير في محلّ البحث غير متّجه ، إذ لا يزيد الحال فيها على لوازم الواجب ولوازم مقدّماته بالنسبة إلى البحث السابق ولا يندرج شيء منها في عنوان المقدّمة كما عرفت الحال فيها ، أقصى الأمر أن يثبت لها هناك وجوب بالعرض نظرا إلى وجوب ما يلازمها.

والظاهر أنّ المعنى المذكور ممّا لا يقبل النزاع حسب ما مرّ بيانه ، والكلام في هذه المسألة نظير البحث في مقدّمة الواجب من غير تفاوت فلا إشكال في حصول النهي عنها على الوجه المذكور من غير أن يكون هناك نهيان بل نهي واحد متعلّق بالمنهيّ عنه بالذات وبما يلازمه بالعرض بعين النهي المتعلّق بذلك الشيء ولا ربط له بما هو المتنازع فيه في المقام وفي بحث المقدّمة كما مرّ القول فيه.

فالأولى تفسير الضدّ هنا بما ينافي المأمور به بالذات سواء كان يناقضه ،

١٩٤

كما في الضدّ العامّ بمعنى الترك فيقابله تقابل الإيجاب والسلب أو كان مضادّا له ملازما لنقيضه ، كما في سائر الأضداد الخاصّة المنافية للمأمور به بالذات الملازمة لما يناقضه ـ أعني: الترك ـ.

وقد يعدّ منافاتها للمأمور به حينئذ عرضيّة وهو غير متّجه لوضوح كون المنافاة بين الضدّين ذاتية ولذا يعدّ تقابل التضادّ من أقسام التقابل من غير أن يرجع إلى تقابل الإيجاب والسلب وكان القائل المذكور يسلم ذلك ، وما ذكره مبنيّ على المسامحة في التعبير وإلّا فالفرق بين الضدّ ولوازمه أمر غنيّ عن البيان. هذا.

وأمّا الضدّ الخاصّ فقد يطلق على كلّ من الأفعال الوجودية المنافية للمأمور به بالذات والوجه في إطلاق الخاصّ عليها ظاهر وقد يطلق على المفهوم الجامع بين تلك الأضداد ـ أعني : الفعل الوجودي الخاصّ الّذي لا يجامع المأمور به بالذات ـ وهو حينئذ عنوان لكلّ من تلك الأضداد وآلة لملاحظتها بخصوصيّاتها على وجه كلّي ، والنهي في الحقيقة إنّما يتعلّق بتلك الجزئيّات وإن لوحظت بالعنوان العامّ ولا منافاة وهو بهذا المعنى وإن كان شاملا لجميع الأضداد الخاصّة ، فربما يتوهّم كون المناسب عدّه ضدّا عاما نظرا إلى ذلك لكن لما كانت الخصوصيّة ملحوظة في المفهوم المذكور على وجه الإجمال ، بل كان المنهيّ عنه في الحقيقة هو كلّ واحد من الأضداد الخاصّة وكان ذلك العنوان العامّ آلة لملاحظتها صحّ عدّه خاصا.

وقد يؤخذ المعنى المذكور بإسقاط ملاحظة الخصوصيّة فيقال : إنّه الفعل الوجودي الّذي لا يجامع المأمور به بالذات فيكون مفاده حينئذ أمرا كلّيّا منطبقا على الجزئيّات الخاصّة من غير أن يكون شيء من تلك الخصوصيّات مأخوذة في مفهوم الضدّ ، وهو بهذا الاعتبار أيضا ضدّ خاصّ ، وإن كان أقرب إلى العموم من الوجه السابق لتعلّق النهي أيضا بتلك الجزئيّات الخاصّة من حيث انطباق ذلك عليها وإن لم يكن شيء من تلك الخصوصيّات متعلّقة للنهي بملاحظة خصوصيّاتها بل إنّما يتعلّق النهي بها من جهة كونها فعلا وجوديّا مضادّا للمأمور به

١٩٥

فهي أضداد خاصّة يتعلّق النهي بها من جهة كونها من جزئيّات المنهيّ عنه ، فلا وجه أيضا لاندراج ذلك في الضدّ العامّ ، كيف ولا يتعلّق النهي في الضدّ العامّ بشيء من جزئيّات الأفعال ، وإنّما يتعلّق بأمر عامّ يقارن تلك الجزئيّات حسب ما نشير إليه إن شاء الله.

والظاهر : أنّ القائل باقتضاء الأمر بالشيء النهي عن ضدّه الخاصّ إنّما يعني به أحد الوجهين المذكورين ، إذ لا يعقل القول بدلالة الأمر على النهي عن خصوص كلّ من الاضداد الخاصّة بعنوانه الخاصّ به.

قوله : (وأمّا العامّ فقد يطلق ... الخ).

يمكن أن يلحظ الأضداد الوجوديّة حينئذ على كلّ من الوجهين المتقدّمين فتكون خصوصيّة الضدّ الخاصّ ملحوظة في أحدها على أحد ذينك الوجهين غير ملحوظة في الآخر على حسب ما مرّ ، وعلى كلّ منهما فأحد الأضداد إمّا أن يلحظ على وجه يعتبر فيه الوحدة فيكون المنهيّ عنه هو واحد منها دون ما يزيد عليه وإمّا أن يلحظ على وجه اللاشتراط فيكون النهي عن أحدها نهيا عن جميع آحادها فيكون بمنزلة النكرة في سياق النفي ، وعلى جميع التقادير فليس المنهيّ عنه إلّا الضدّ الخاصّ إلّا أنّه مع دلالته على الاستغراق يكون المنهيّ عنه جميع الأضداد الخاصّة ومع عدمها يكون ضدّا خاصّا لها من غير تعيين وكأنّ المقصود به النهي عن إيقاع ضدّ مكان الواجب أيّ ضدّ كان منها ، فلا يعمّ النهي كلّا من ضدّي المأمور به لو أمكن الإتيان بهما في زمان واحد وإنّما المحرّم واحد منهما.

قوله : (وقد يطلق ويراد به الترك).

هذا هو المعروف في إطلاق الضدّ العامّ وإنّما أطلق عليه الضدّ لعدم إمكان اجتماعه مع المأمور به ولا ينافيه كونه عدميّا ، إذ اعتبار كون الضدّ وجوديّا من اصطلاح أرباب المعقول ولا ربط له بإطلاق علماء الاصول أو اطلق عليه لفظ الضدّ من جهة مقارنته للأضداد الخاصّة فيكون الإطلاق المذكور مجازا من جهة المجاورة.

١٩٦

وأمّا كونه عامّا فظاهر لمقارنته لكلّ من الأضداد الوجوديّة أو لشموله ما يقارن الأضداد الخاصّة وما لا يقارنها بناءا على إمكان خلوّ المكلّف عن الأفعال أو لكون المنهيّ عنه حينئذ أمرا عامّا لا يقتضي تعلّق النهي بشيء من الأضداد الخاصّة ، كما يقضي به تعلّق النهي بالضدّ الخاصّ على أحد الوجوه المتقدّمة ، ونحو ذلك إطلاقه على الكفّ عن فعل المأمور به فهو أيضا فعل عامّ يغاير كلّا من الأضداد الخاصّة ويقارنها ، والقائل بكون متعلّق النهي هو الكفّ دون الترك ينبغي أن يعتبر في الضدّ العامّ في المقام الكفّ المذكور ، وحينئذ فإطلاق الضدّ عليه ظاهر بالنظر إلى الاصطلاح أيضا.

قوله : (وهذا يدلّ الأمر على النهي عنه بالتضمّن ... الخ).

وذلك لكون مدلول الصيغة طلب الفعل مع المنع من الترك فتكون دلالتها على المنع من الترك بالتضمّن وسيجيء تفصيل القول فيه إن شاء الله.

قوله : (واضطرب كلامهم في بيان محلّه).

إعلم : أنّ الكلام في بيان محلّ النزاع في المقام يقع في امور :

أحدها : أنّ المراد بالنهي عن الضدّ الّذي وقع الكلام في دلالة الأمر عليه هل هو النهي الأصلي أو التبعي؟ وهل يراد به النهي النفسي أو الغيري؟

فإنّه كما ينقسم الواجب إلى أصلي وتبعي ونفسي وغيري كذلك الحرام ينقسم إلى الأقسام الأربعة المذكورة ، فما يتعلّق غرض الشارع بعدمه في نفسه فهو حرام أصلي ، وما يتعلّق غرضه بعدمه لأدائه إلى محرّم آخر وأداء عدمه إلى واجب من غير أن يكون له مطلوبيّة مع قطع النظر عن ذلك فهو حرام غيري ، وما يكون متعلّقا للخطاب على نحو ما مرّ في الواجب الأصلي فهو حرام أصلي ، وما يلزم حرمته من تعلّق الخطاب بشيء آخر من غير أن يتعلّق به أصالة فهو حرام تبعي.

وحينئذ نقول : إنّه على القول بكون الأمر بالشيء عين النهي عن ضدّه ليس هناك تكليفان صادران عن المكلّف ، بل الحاصل هناك تكليف واحد يكون أمرا بالشيء وهو بعينه نهي عن ضدّه ، فمفاد وجوب الشيء عند هذا القائل هو حرمة

١٩٧

ضدّه حسب ما يأتي بيانه إن شاء الله ، وأمّا على القول بمغايرة الأمر بالشيء النهي عن ضدّه واستلزامه له فمن البيّن التزام القائل المذكور حينئذ بحصول تكليفين يكون أحدهما ملزوما والآخر لازما له ، لكن لابدّ من القول بكون أحدهما نفسيّا والآخر غيريّا ، إذ لا يعقل القول بحصول تكليفين مستقلّين في المقام يكون الأخذ بكلّ منهما مطلوبا في نفسه وفي حيال ذاته ليتفرّع عليهما ثوابان على تقدير امتثالهما وعقابان على فرض العصيان حسب ما مرّ القول فيه في مقدّمة الواجب.

والظاهر على هذا المذهب كون الخطاب به تبعيّا ، لوضوح عدم دلالة الخطاب أصالة إلّا على تكليف واحد هو إيجاب ذلك الشيء وإنّما يستفاد التكليف بالترك من جهة استلزامه له كما هو شأن الأحكام التبعيّة.

نعم لو قيل بحصول الدلالة اللفظيّة الالتزاميّة وسلّم تنزيلها منزلة الدلالة المطابقيّة في تعلّق الخطاب بمدلوله كان النهي عنه أصليّا ، لكنّ القول بحصول الالتزام اللفظي ـ في محلّ الخلاف على فرض ثبوت القائل به ـ موهون جدّا كما ستعرفه إن شاء الله ، ومع ذلك لا يترتّب ثمرة على القول بتعلّق الخطاب به أصالة والبناء على ثبوته تبعا حسب ما مرّ الكلام فيه في مقدّمة الواجب ، وحينئذ فما ذكره بعض الأفاضل ـ من أنّ الخلاف في المسألة في النهي الأصلي المتعلّق بالضدّ دون التبعي فهو ليس من محطّ النزاع في شيء ـ بيّن الوهن ، وهو نظير ما ذكره في مقدّمة الواجب من كون الخلاف في وجوبها الأصلي بل النفسي أيضا ، حسب ما مرّت الإشارة إليه ، وقد بيّنّا هناك ما يرد عليه.

وما يتوهّم في المقام : من أنّ ما فرّع على الخلاف المذكور من فساد الضدّ إذا كان عبادة موسّعة يدلّ على إرادة التحريم الأصلي لعدم ترتّب الفساد على النهي التبعي ، مدفوع بأنّه إن كان عدم ترتّب الفساد على النهي التبعي من جهة عدم تعلّق صريح النهي به فهو بيّن الفساد ، لوضوح أنّ الفساد المستفاد من النهي المتعلّق بالعبادة ليس من جهة دلالة اللفظ عليه ابتداءا بل من جهة منافاة التحريم لصحّة العبادة وحينئذ فأيّ فرق بين استفادة التحريم من اللفظ ابتداءا ومن العقل بواسطة

١٩٨

اللفظ ـ كما في المقام ـ أو من العقل المستقلّ ، وإن كان من جهة كون النهي المتعلّق به حينئذ غيريّا ، إذ لا منافاة فيه للرجحان المعتبر في العبادة ليكون قاضيا بفسادها.

ففيه : أوّلا : أنّ دعوى كون النهي المتعلّق بالضدّ الخاصّ نفسيّا ليكون هناك تكليفان أصليان مستقلّان ممّا يشهد الوجدان السليم بفساده ، بل هو واضح الفساد بحيث لا مجال لتوهّم الخلاف فيه كما مرّت الإشارة إليه.

وثانيا : أنّه لا داعي إلى حمل كلامهم على هذا الوجه السخيف ، ومجرّد ما ذكر من الوجه لا يقضي به ، إذ التزام دلالة النهي الغيري المتعلّق بالعبادة على الفساد أهون من ذلك بمراتب بل لا غبار عليه في ظاهر النظر ، نظرا إلى أنّ صحّة العبادة يتوقّف على تعلّق الأمر بها ومع فرض تعلّق النهي الغيري بها لا مجال لتعلّق الأمر لاستحالة تعلّق الأمر والنهي بشيء واحد ولو من جهتين على ما هو المعروف بينهم وكون النهي غيريّا لا يقضي بجواز الاجتماع ، إذ الجهة القاضية بالمنع في غيره قاضية بالنسبة إليه أيضا لاتّحاد المناط في المنع ، إذ مع كون ترك العمل مطلوبا للشارع ولو لأجل الغير لا يعقل أن يكون فعله مطلوبا له أيضا.

نعم هناك وجه دقيق لعدم ترتّب الفساد على النهي الغيري في المقام غير ما يتخيّل في بادئ النظر يأتي بيانه إن شاء الله ، ولا يقضي ذلك بصرف كلامهم في المقام عن ظاهره وحمله على ذلك الوجه الفاسد.

والحاصل : أنّه لو فرض فساد الدعوى المذكورة فمن الظاهر أنّه ليس أمرا ظاهرا وعلى فرض ظهوره فليس في الوضوح كوضوح فساد التزام تكليفين نفسيّين حاصلين في المقام حتّى يصحّ جعل ذلك شاهدا على حمل كلامهم على ذلك الاحتمال الّذي لا ينبغي وقوع الخلاف فيه بين أهل العلم ، غاية الأمر أن يقال : بفساد ما بنوا عليه من الثمرة بعد التأمّل حسب ما يأتي بيانه إن شاء الله.

فتلخّص ممّا قرّرنا أنّ النزاع في المقام في تعلّق النهي الغيري التبعي بالضدّ فالقائل بكون الأمر بالشيء مستلزما للنهي عن ضدّه إنّما يعني به ذلك والقائل

١٩٩

بعدمه يمنع عن حصول النهي عن الضدّ من أصله ، غاية الأمر أن يقول : بكون الضدّ ممّا لابدّ من تركه أو كون تركه مطلوبا لمطلوبيّة المأمور به ، لعدم انفكاكه عنه بأن يكون هناك طلب واحد يتعلّق بالمأمور به بالذات وبترك الضدّ بالعرض ، على ما مرّت الإشارة إلى نظيره في مقدّمة الواجب.

ثانيها : أنّه لا خلاف لأحد في كون صيغة الأمر مغايرة لصيغة النهي وأنّه لا اتّحاد بين الصيغتين في الوجود حتّى يكون صيغة «إفعل» عين صيغة «لا تفعل» وكذا في عدم حصول الملازمة بين الصيغتين ، لوضوح خلافه بالحسن فلا يقع في مثله التشاجر بين العلماء وإنّما الخلاف في المقام في كون صيغة الأمر بالشيء قاضيا بمفاد النهي عن الضدّ حتّى يكون الحاصل بصيغة الأمر أمرين ـ أعني الأمر بالشيء والنهي عن ضدّه ـ سواء كانا حاصلين بحصول واحد أو حصولين يتبع الثاني منهما للأوّل في الوجود أو أنّه ليس الحاصل هناك إلّا الأمر بالشيء لا غير.

ثمّ إنّه لا تأمّل في وقوع الخلاف بينهم في اقتضاء الأمر للنهي بالنسبة إلى الأضداد الخاصّة ، كما هو ظاهر كلماتهم ، وفي وقوع الخلاف بالنسبة إلى الضدّ العامّ بمعنى الترك تأمّل ، نظرا إلى وضوح اقتضاء الأمر له بحيث لا مجال للريب فيه فيبعد وقوع النزاع في مثله إلّا أن يكون الخلاف فيه في كيفيّة الاقتضاء حسب ما يشير إليه المصنّف ، ولذا حكى الإجماع على ثبوت أصل الاقتضاء ، لكن يظهر من كلمات جماعة من الاصوليين وقوع الخلاف فيه أيضا منهم : السيّد العميدي في المنية حيث عنون البحث في الضدّ العامّ بمعنى الترك وجعله مضادّا للمأمور به بالذات وما يشتمل على الترك من أحد الأضداد الوجوديّة مضادّا له بالعرض فقال : بكون الأمر بالشيء قاضيا بالنهي عن ضدّه العامّ بالمعنى المذكور بالذات وعن سائر الأضداد الوجوديّة بالعرض ، وقد حكى الخلاف فيه عن جمهور المعتزلة وكثير من الأشاعرة وعزى اختياره إلى محقّقي الفريقين من المتأخّرين وهذا كما ترى صريح في وقوع الخلاف في الأمرين.

وربما يلوح ذلك من العلّامة في النهاية وقد استقرب القول بافادة الأمر بالشيء النهي عن ضده العام بمعنى الترك إذا لم يكن الآمر غافلا عنه.

٢٠٠