هداية المسترشدين في شرح أصول معالم الدين - ج ٢

الشيخ محمد تقي الرازي النجفي الاصفهاني

هداية المسترشدين في شرح أصول معالم الدين - ج ٢

المؤلف:

الشيخ محمد تقي الرازي النجفي الاصفهاني


المحقق: مؤسّسة النشر الإسلامي
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
964-470-069-4

الصفحات: ٧٨٣

أئمّة اللغة والنحو والتفسير والاصول ، ولم ينقل عن أحد من القائلين بدليل الخطاب والمنكرين له إنكارها سوى الحنفيّة ، وكفى به دليلا على ذلك. فقد تكرّر في كلماتهم إسناد القول بها إلى واضعي اللغة وأهل العربيّة مؤذنين بالاتّفاق عليه ، بل صرّح غير واحد منهم بإجماعهم عليه. ويدلّ عليه مع ذلك القطع بتبادر المعنى المذكور منه ، حتّى قال التفتازاني : إنّ إنكار دلالة «ما قام إلّا زيد» على ثبوت القيام لزيد يكاد يلحق بإنكار الضروريّات ، والقطع بعدم جواز تشريك المستثنى مع المستثنى منه في الحكم لتناقض الكلامين ، كقولك : جاء القوم إلّا زيدا ، وزيد ، والقطع باكتفاء الشارع والمتشرّعة في الحكم بالإسلام بكلمة التوحيد ، وقد تكثّر في كلامهم نقل الإجماع عليه ، ولو لا ما ذكرناه لم يكن فيها دلالة على إثبات الإله الحقّ جلّ ذكره. وعن كتب الحنفيّة إنكار الدلالة المذكورة في النفي والإثبات جميعا ، قائلين : إنّ معناه إخراج المستثنى والحكم على الباقي من غير حكم عليه بشيء من النفي والإثبات فقول القائل : «ليس له عليّ إلّا سبعة» ليس إقرارا بالسبعة ، وقوله : «له عليّ عشرة إلّا ثلاثة» سكوت عن الثلاثة.

وعن الشافعيّة دعوى الوفاق على أنّه من الإثبات نفي ، وأنّ الخلاف إنّما هو في العكس. قال العضدي : الاستثناء من الإثبات نفي اتّفاقا وبالعكس إثبات خلافا لأبي حنيفة ، ثمّ قال : إنّهم لا يفرّقون بينهما من جهة الدلالة الوضعيّة ، ولا يرون شيئا منهما يدلّ على المخالفة فيما يفيده من النسبة الخارجيّة ، بل في النسبة النفسيّة. فإن كان ذلك مدلول الجملة فالمخالفة فيها عدم الحكم النفسي وهم يقولون به فيهما ، وإن كان مدلوله الخارجيّة فالاستثناء إعلام بعدم التعرّض له ، والسكوت عنه من غير حكم بالمخالفة فيهما ، إلّا أنّ السكوت عن إثبات الحكم يستلزم نفيه بالبراءة الأصليّة ، بخلاف النفي ، إذ لا مقتضى معه للإثبات. وكأنّه حاول بذلك الجمع بين النقلين المختلفين عن أبي حنيفة ، وكيف كان ففساده معلوم من اللغة والعرف.

نعم ، إن كان المستثنى منه الاعتقاد النفساني أو النسبة اللفظيّة كقولك :

٥٦١

«علمت» أو «ظننت» أو «أخبرت» أو أمّرت بالأمر الفلاني إلّا الشيء الفلاني فمفاده انتفاء أحدهما عن المستثنى وإن وافق المستثنى منه في الحكم الخارجي مع احتمالها الاستثناء عن متعلّقهما ، بخلاف ما إذا كان مدلوله النسبة الخارجيّة فالاستثناء منها يدلّ على انتفائها عن المستثنى بحسب الخارج ، إذ لا يتحقّق خروجه عمّا قبله ومخالفته له إلّا بذلك.

واقتضى ما للحنفيّة أنّ مثل «لا صلاة إلّا بطهور» (١) و «لا نكاح إلّا بوليّ» (٢) و «لا علم إلّا بحياة» و «لا ملك إلّا بالرجال» و «لا رجال إلّا بالمال» و «لا مال إلّا بالسياسة» إنّما تدلّ على أنّ المستثنى منه مشروط بالمذكور لا يتحقّق بدونه ، وأمّا أنّه يتحقّق معه فلا. ولو كان الاستثناء من النفي إثبات للزم الثبوت معه البتّة ، وأنّ دلالة الألفاظ على الامور الخارجيّة إنّما يكون بتوسّط الصور المرتسمة في الأذهان ، فصرف الاستثناء إلى الحكم الذهني أولى ، لتعلّق اللفظ به ودلالته عليه من غير واسطة ، ومقتضاه في الإخبار إخراج المستثنى عن الإسناد السابق ، وفي الإنشاء رفع الحكم السابق عنه ، لا الحكم عليه بالخروج في الواقع.

وضعف الوجهين في غاية الظهور ، إذ الأوّل إنّما يرد على من يدّعي دلالة الاستثناء من عموم النفي على عموم الإثبات والمدّعى دلالته على الإثبات في الجملة. فإن كان هناك ما يفيد العموم ـ من دليل الحكمة أو غيره ـ دلّ عليه وإلّا فلا. ففي الأمثلة المذكورة لا بدّ من تقدير المستثنى إن كان الظرف مستقرّا متعلّقا بمحذوف صفة له أي لا صلاة إلّا صلاة بطهور ، أو المستثنى منه إن كان لغوا أي لا صلاة بوجه من الوجوه إلّا باقترانها بطهور ، فيكون من الاستثناء المفرّغ. وعلى الوجهين فمدلوله تحقّق الصلاة بالطهور في الجملة أي من تلك الجهة ، فالمراد حيث يكون مستجمعة لسائر ما يعتبر فيها كما لا يخفى.

ولو قلنا بدلالته على عموم الإثبات أمكن أن يقال بخروج ما ثبت فساده

__________________

(١) الوسائل ١ : ٢٥٦ باب ١ من أبواب الوضوء الحديث ١ ، ٦.

(٢) الدعائم ٢ : ٢١٨.

٥٦٢

بما دلّ عليه ، على أنّ المنفيّ هو الصلاة الصحيحة والنكاح الصحيح ـ مثلا ـ فالمستثنى هو الصحيح منهما الواقع بالطهور والوليّ. ولو فرض إرادة الأعمّ فالمستثنى أيضا هو الماهيّة الواقعة معهما مطلقا ، فأين موضع الدلالة على استلزام الطهور والوليّ لحصولهما كما توهّم؟ والأمر في سائر الأمثلة المذكورة أوضح.

وأمّا الثاني فهو اجتهاد في مقابلة النصّ المعلوم من أهل اللغة مع وضوح فساده ، إذ لا شكّ في أنّ مدلول الألفاظ هو الامور الخارجيّة ، ولو قلنا بوضعها للصور الذهنيّة فباعتبار انطباقها عليها. وكيف كان فلا شبهة في تعلّق الاستثناء بمدلول الجملة ، فإذا كان هو النسبة الخارجيّة دلّ على خروج المستثنى عنها ، كما لا يخفى. وقد تبنى المسألة على أنّ الإسناد اللفظي في الجملة الاستثنائيّة هل يتحقّق بعد الإخراج فيحكم على ما عدا المستثنى بالنفي أو الإثبات ، سواء قيل بكون المجموع من المستثنى والمستثنى منه ، والأداة اسما مركّبا بإزاء الباقي ، أو بكونه قرينة على إرادته من اللفظ العامّ كما زعمه كثير منهم ، أو يتحقّق قبله فيكون العامّ مستعملا في معناه الحقيقي ثمّ اخرج عنه المستثنى واسند الحكم في المغيّا إلى الباقي؟

فعلى الأوّل لا دلالة فيها على حكم المستثنى ، لاتّحاد الحكم والإسناد فيها ، فقولك: «أكرم العلماء إلّا الفسّاق» يجري مجرى قولك : أكرم من عدا الفساق منهم ، فكأنّه قال: أكرم العدول منهم ، ونحوه قولك : «لا تكرم إلّا العلماء» في معنى قولك : لا تكرم الجهّال ، فيكون الاستثناء إخراجا عن الموضوع أوّلا ، ثمّ الحكم عليه ثانيا ، فلا يكون إخراجا عن الحكم ، وإنّما يرجع المفهوم في ذلك إلى الوصف.

ألا ترى أنّ المفهوم في مثل قولك : «أكرم غير زيد» من مفهوم الوصف ، وليس مفاد الاستثناء على الوجه المذكور إلّا ذلك ، بخلاف الوجه الثاني. وضعفه ظاهر ، إذ ليس اختلافهم في ذلك خلافا في مدلول الأداة ، إنّما هو كلام ذكروه توجيها لدفع التناقض المتوهّم في الجملة المذكورة ، كما يأتي القول فيه إن شاء الله تعالى والدلالة ثابتة على الوجهين ، بل ولو جيء به وصفا كقولك : «من عدا زيد يجب

٥٦٣

إكرامه» و «غير زيد جاء» فقد عرفت في مفهوم الوصف خروجه عن محلّ الكلام في تلك المسألة ، وثبوت المفهوم فيه غالبا على كلا القولين فيها ، ومساواته مع الاستثناء في المدلول العرفي. ويشهد به أنّه لم ينقل من أحد من القائلين بالوجه الأوّل إنكار الدلالة المذكورة سوى الحنفية.

نعم ، قد يفرّق بين الوجهين المذكورين في كون الدلالة على الثاني وضعيّة دون الأوّل ، كما في التعليق على وصف الغير ونحوه ممّا يدلّ على المعنى المذكور ، من غير لزوم تجوّز في اللفظ عند التصريح بخلافه ، كما لو قيل : أكرم زيدا وغير زيد.

وفيه : أنّ حرف الاستثناء على كلا الوجهين يدلّ بوضعه اللغوي على مخالفة ما بعده لما قبله ، لاتّفاق أهل اللغة والعرف عليه كما عرفت ، ولا يلزم منه تعدّد الحكم والإسناد بمنطوق اللفظ. ألا ترى أنّ لوازم المعنى الموضوع له مداليل وضعيّة للألفاظ ، أي مستندة إلى الوضع ولو بتوسّط اللزوم بحيث لو صرّح المتكلّم بخلافها لزم استعمالها في غير ملزوماتها على سبيل التجوّز ، مع عدم وقوع الحكم بها والإسناد فيها باللفظ ، وإنّما حصل النطق بملزوماتها ، فلا فرق بين الوجهين المذكورين في الدلالة الوضعيّة.

نعم ، دلالة التعليق على وصف الغير ونحوه ليست وضعيّة وإن كانت مشاركة للوضعيّة في المدلول ، نظرا إلى جريانه مجرى الاستثناء بحسب العرف ، كما مرّت الإشارة إليه.

نعم ، يمكن التفرقة في المقام بين القولين المذكورين بوجه ثالث ، وهو : أنّ الدلالة المذكورة على الوجه الأوّل من باب المفهوم ، لعدم وقوع النطق حينئذ إلّا بحكم الباقي بعد الاستثناء كما في الوصف.

غاية الأمر أن يكون للوضع مدخليّة هنا في أصل الدلالة بخلاف الوصف ، وذلك لا يقضي باندراجه في المنطوق كما في الشرط والغاية وغيرهما ، بخلاف الوجه الثاني ، لحصول النطق بإخراج المستثنى عن الحكم المذكور قبله. وقد يقال

٥٦٤

باندراجه في المنطوق على الوجهين ، أمّا إذا قلنا بكون المدار فيه على ذكر الموضوع كما يظهر من بعض الحدود فظاهر ، لأنّ موضوع الحكم المقصود هو المستثنى بعينه. وأمّا إذا قلنا بكون المدار فيه على ذكر كلّ من الموضوع والمحمول ولو تقديرا ـ كما مرّ بيانه ـ فلأنّ الأداة المذكورة دالّة بوضعها على مخالفة المستثنى لما قبله على التقديرين كما ذكر ، فيكون حكما منطوقا به لذكر الموضوع وهو المستثنى والمحمول ، وهو نفي الحكم السابق عنه بحرف الاستثناء ولو تقديرا ، كما يقدّر المستثنى في قولهم : ليس إلّا ، أو المستثنى منه في المفرّغ. وقد يقال باندراجه في المفهوم كذلك ، كما هو ظاهر قولهم بمفهوم الاستثناء ، حتّى قال بعض المحقّقين : إنّ ما وقف عليه من كلماتهم متّفقة على تسميته مفهوما ، وزعم أنّ عرفهم إنّما يساعد على تسميته مفهوما لا منطوقا ، حتّى أنّهم نقلوا الخلاف في القصر المفهوم من «إنّما» و «الحصر» فإنّ بعضهم عدّه منطوقا ، ولم نظفر منهم بنقل مثله في المقام ، وأنّ عدم مساعدة حدودهم عليه إنّما يوجب القدح فيها ، لا في تسميته مفهوما.

وقد توجّه أيضا تارة بأنّ الموضوع وإن كان مذكورا في الكلام إلّا أنّ حكمه في مخالفة المستثنى منه بالنفي أو الإثبات إنّما يلازم المعنى الموضوع له ـ كملازمة الانتفاء عند الانتفاء لمعنى الغاية والشرط والحصر وغيرها ـ فحرف الاستثناء موضوع لإخراج ما لولاه لدخل ، ويلزمه الإثبات في السالبة والنفي في الموجبة ، فلا يكون أحدهما منطوقا به.

واخرى بأنّ المعنى المذكور لو كان واقعا في محل النطق لزم أن تكون الأداة موضوعة للنفي تارة ، وللإثبات اخرى ، إذ ليس هناك قدر جامع بين المتناقضين فيلزم الاشتراك ، وهو واضح الفساد ، فيكون لازما للمعنى المنطوق به كما ذكر.

ويرد على الأوّل : أنّ الاستثناء على الوجه الأوّل إنّما يفيد إخراج المستثنى عن موضوع ما تقدّمه ، وإنّما هناك حكم واحد ورد على الباقي ، فنفيه عن المستثنى غير مذكور في الكلام ولو تقديرا.

٥٦٥

وقد عرفت في تعريف المنطوق اعتبار النطق بالحكم أيضا ولو تقديرا.

نعم ، قد يتمّ ما ذكر بناء على الوجه الثاني ، لكونه حينئذ إخراجا عن الحكم ، فيكون كما ذكر من كونه نفيا للحكم السابق عنه.

وعلى الثاني المنع من توافقهم على عدّه مفهوما ، لتصريح جماعة منهم باندراجه في المنطوق. ويؤيّده عدم تعرّضهم لهذه المسألة في باب المفاهيم إنّما ذكروها في مبحث التخصيص والاستثناء ، بل لم نقف في كلام أكثرهم على التصريح بكونه من المفهوم. وبالجملة : فالخلاف في ذلك أوضح وأظهر من الخلاف في مفهوم «إنّما» ودعوى التبادر العرفي في ذلك ليست بيّنة ولا مبيّنة. وأما التوجيه الأوّل فإنّما يتمّ على القول الأوّل.

أمّا إذا قلنا باستعمال الأداة في إخراج المستثنى عن الحكم والإسناد الواقع قبله فيكون الحكم بانتفائه عنه واقعا في محلّ النطق ، لأنّه معنى خروجه عمّا قبله. وأمّا الثاني فواضح الفساد ، ألا ترى أنّه قد يقع التصريح بانتفاء النسبة المذكورة عن المستثنى فيكون نطقا بالإثبات في السالبة ، وبالنفي في الموجبة قطعا مع انتفاء الاشتراك ، فإن كان الاستثناء بهذا المعنى كان مدلوله من المنطوق ، وإن كان ملزوما للمعنى المذكور كان من المفهوم ، فبناؤه على القولين المذكورين وجه وجيه ، وسيأتي في مبحثه تحقيق القول فيه إن شاء الله تعالى.

[مفهوم الحصر]

ومنها : مفهوم الحصر ، فكلّ ما دلّ عليه من اسم أو حرف أو هيئة فإنّه يدلّ على انتفاء الحكم أو الوصف المذكور عن غير الموضوع المذكور فيه أو انتفاء غيره عن نفس الموضوع. وقد تقدم الوجه في اندراج كلّ من القسمين في حدّ المفهوم ، وذلك أنّ الحصر قد يكون بقصر الصفة على الموصوف ، وقد يكون بالعكس. ثمّ قد يقع على وجه الحقيقة ، وقد يرد على سبيل التجوّز أو الادّعاء أو الإضافة على اختلاف المقامات بحسب اختلاف القرائن الحاليّة أو المقاليّة ،

٥٦٦

فيكون الدلالة على المفهوم في كلّ مقام على حسب مقتضاه. وهذا المفهوم ممّا لا شكّ في ثبوته بعد إثبات معنى الحصر بصريح لفظه أو ظاهره عن غير الموضوع المذكور ، فإنّه لازم بيّن لمعنى الحصر لا ينفكّ تصوّره عنه. وكأنّه لذا لم يتعرّض المصنّف له ولما قبله ، إذ بعد فرض الحصر لا مجال للكلام في مدلوله ، إلّا أنّ جماعة منهم زعموا اندراجه في المنطوق. فإن أرادوا أنّ معنى الحصر مدلول اللفظ المنطوق به من غير واسطة ، كما أنّ معنى الشرط والغاية مدلول عليهما بحرفي «إن» و «إلى» كذلك فهو أمر واضح ، سواء كان الدالّ عليه اسما كلفظ «الحصر» و «القصر» أو حرفا كلفظ «إنّما» أو هيئة كتقديم الوصف العامّ المعرّف على الموصوف الخاصّ [ولا يلزم منه خروج ما يلزمه من الحكم من الحكم المذكور](١) وذلك أنّ شيئا من موضوع الحكم المذكور ومحموله لم يقع في محلّ النطق.

وبالجملة : وإن زعموا أنّ انتفاء الحكم من غير المذكور من المنطوق به ففيه اشتباه اللازم بالملزوم ، وعليهما مدار المنطوق والمفهوم ، كما في الشرط والغاية وغيرهما ، فإنّ دلالة اللفظ عليها بالمنطوق وعلى لازمها بالمفهوم كما قد يقع التصريح بالشرط أيضا في قولك : يجب الصيام بشرط البلوغ والعقل.

وزعم جدّي الفقيه قدس‌سره (٢) أنّه لو صرّح بالحصر أو الشرط أو الغاية أو البداية أو العلّة أو غيرها عاد (٣) من المنطوق ، وأنّ المعتبر في تلك المفاهيم أن يكون الدالّ عليها صيغة تفيدها على نحو المفهوم. والوجه فيه غير معلوم ، إذ التفرقة بين كون الدالّ عليها نصّا أو ظاهرا أو حقيقة أو مجازا أو اسما أو حرفا أو وصفا كما ترى. وغاية ما يوجّه به : أنّ الدالّ عليها إن كان من الأسماء كان مدلولها منطوقا ، لتضمّنها معنى الانتفاء المقصود في المقام ، سواء كان على وجه الحقيقة أو المجاز

__________________

(١) زيادة تصحيحيّة من هامش المطبوع.

(٢) يشهد هذا التعبير بأنّ هذه المباحث صدر من قلم نجله المحقّق الشيخ محمّد باقر سبط الشيخ الكبير كاشف الغطاء قدس‌سرهما إذ لم يعهد للشارح قدس‌سره جدّ فقيه. ويأتي في الصفحة ٥٩٥ التصريح بذلك بقوله : «وقد ذكر جدّي الفقيه قدس‌سره في كشف الغطاء».

(٣) كذا ، والظاهر : عدّ.

٥٦٧

بطريق التنصيص أو الظهور. وإن كان من الحروف والهيئات اندرج مدلولها في المفهوم ، فإنّها ليست موضوعة لتلك المفاهيم المستقلّة ، وإلّا عادت أسماء ، وهو أيضا كما ترى ، فإنّ دلالة الأسماء المذكورة على الانتفاء ليست بالتضمّن ، بل بالالتزام ، ولو سلّم فاندراج المدلول التضمّني في المنطوق غير لازم ، كما مرّ ، ولو سلّم لزم اندراج مدلول الحروف والهيئات الدالّة عليها فيه أيضا ، فإنّها وإن لم تكن مستقلّة في معانيها لكنّها مع متعلّقاتها وموادّها موضوعة لتلك المعاني بعينها فمداليلها أيضا من المنطوق ، وإلّا لزم اندراج المعاني المستقلّة المستفادة من الحروف والهيئات في المفاهيم مطلقا ، وهو واضح الفساد.

ويمكن إرجاع الكلام المذكور إلى ما مرّ في تعريف المفهوم من الفرق بين قولنا : الطهارة شرط في الصلاة ، وقولنا : تصحّ الصلاة بشرط الطهارة ، فإنّ الدلالة على الانتفاء في الأوّل من المنطوق ، دون الثاني ، وكذا الحال في سائر المفاهيم ، فليس الغرض التفصيل بين التصريح بلفظ «الشرط» وعدمه ، أو بين دلالة الاسم عليه ، أو الحرف ، لوضوح فساده ، بل الغرض من التصريح وعدمه الفرق بين كون الجملة مسوقة لبيان تلك المعاني على الاستقلال وعدمه.

وبالجملة : فبعد فرض الحصر لا ينبغي الكلام في مفهومه ، وإنّما وقع الكلام هنا في بعض الامور المفيدة له ، وهو أمر آخر مرجعه اللغة والعرف ، ويعرف الحال في ما اشتبه من ذلك بالرجوع إلى كتب العربيّة. فدلالة الحصر على معنى الانتفاء عند الانتفاء وإن كانت من الامور البديهيّة إلّا أنّ الحال في ذلك يختلف باختلاف أدلّة الحصر وضوحا وخفاء ، فقد يكون باعتباره أضعف من أكثر المفاهيم ، وقد يكون أقوى. والّذي تداول على ألسنة القوم منها في المقام تقديم الوصف العامّ المعرّف بالإضافة ، أو اللام على الموصوف الخاصّ ، كقولك : العالم زيد ، وصديقي عمرو ، فقد اشتهر في كلامهم التعبير عن مدلوله بمفهوم الحصر ، وعبّروا عن الحصر ب «إنّما» بمفهوم إنّما ، واختلفوا في حجّيته وعدمها ، أي في إثباته ونفيه على أقوال :

فعن الغزالي وجماعة من الفقهاء إثباته ، وبه قال العلّامة وأكثر من تأخّر عنه

٥٦٨

من علمائنا. وعن الحنفيّة والقاضي أبي بكر وجماعة من المتكلّمين نفيه. وعن بعضهم التوقّف فيه.

ثمّ اختلف المثبتون في الدلالة ـ فأكثرهم على أنّها من المفهوم وعن بعضهم القول بكونها من المنطوق ـ وفيما هو المناط فيها. فيظهر من بعضهم أنّ الوجه فيه مخالفة الترتيب الطبيعي : إمّا لجعل اسم الذات خبرا والوصف مبتدء ، أو لتقديم الخبر على المبتدأ على اختلاف الوجهين فيه. فينسحب الحكم في تقديم كلّ ما كان من حقّه التأخير ـ كتقديم الفاعل والمفعول على الفعل ، والحال والتميز على ذيهما ، وغير ذلك ـ وعليه فلا حاجة إلى القيود المذكورة في العنوان ، ولا يجري في مثل : زيد العالم ، والكرم في العرب ، والأئمّة من قريش ، والأعمال بالنيّات ، ونحوها.

ومنهم من جعل المناط فيه كون المبتدأ أعمّ من خبره بحسب المفهوم ، فيدلّ على انحصار مصاديقه فيه ، وعليه فلا فرق بين مخالفة الترتيب وعدمها ، فلو جعلنا العالم في المثال خبرا مقدّما لم يندرج في هذا العنوان.

ومنهم من جعل المدار على التعريف في مقام الحمل وكون المعرّف أعمّ بحسب المفهوم ، سواء كان موضوعا أو محمولا ، فلا فرق حينئذ بين قولك : «العالم زيد» على كلا الوجهين فيه وقولك : «زيد العالم». وعلى الوجهين فلا فرق في المحمول بين الأوصاف وأسماء الأجناس ، ولا في المحمول عليه بين العلم وغيره ، كما في قولك : الرجل زيد ، والكرم في العرب ، والأئمّة من قريش ، وغيرها ، ولا بين التعريف باللام والإضافة. وعلى هذا فينبغي عدم الفرق بين قولك : «صديقي زيد» و «زيد صديقي» في الدلالة ، كما يظهر من التفتازاني وغيره مع ظهور الفرق بينهما من العرف ، إذ لا يكاد يفهم الحصر من قولك : زيد صديقي.

وقد يعلّل بدعوى ظهوره في الإضافة اللفظيّة ، أي : هو صديق لي ، فلا يفيد التعريف وهو مشترك الورود.

وقد يدّعى اختصاص المسألة بالتعريف باللام ، وهو ينافي تمثيلهم بمثل صديقي زيد.

٥٦٩

إذا عرفت ذلك فنقول : احتجّ المثبتون بوجوه :

الأوّل : التبادر ، فإنّ المفهوم من الأمثلة المذكورة وأمثالها هو الحصر والقصر ، حيث لا يكون هناك عهد ينصرف إليه اللفظ ، من غير فرق بين التقديم والتأخير ، ولا بين الوصف واسم الجنس ، كما في قولك : «الصديق زيد» و «زيد الصديق» و «الرجل بكر» و «بكر الرجل».

ويؤيّده : أنّه قد يؤكّد الحكم بلفظ «الكلّ» كما في قولك : أنت الرجل كلّ الرجل، أي الكامل في الرجوليّة بصفاتها وآثارها ، كما قال الشاعر :

هم القوم كلّ القوم يا امّ خالد ...

فيكون الأوّل مفيدا لمعنى الثاني ، إلّا أنّ الثاني أصرح ، فتقييد العنوان بتقديم الوصف لبيان أظهر الفردين في إفادة الحصر ، لاشتماله على تقديم ما حقّه التأخير أيضا ، أو للجمع بين وجهي الدلالة.

وقد يفرّق به في أصل الدلالة في بعض المقامات ، كما في قولك : «صديقي زيد» و «زيد صديقي» و (إِيَّاكَ نَعْبُدُ) و «نعبدك».

الثاني : أنّ التفتازاني نفى الخلاف بين علماء المعاني في إفادة الحصر إذا عرّف المبتدأ بحيث يكون ظاهرا في العموم ، وجعل الخبر ما هو أخصّ منه بحسب المفهوم ، ومثل : «العالم زيد» و «الرجل بكر» و «صديقي عمرو» و «الكرم في العرب» تمسّكا باستعمال الفصحاء ، وفي عكسه أيضا مثل : زيد العالم. قال صاحب المفتاح (١) : المنطلق زيد أو زيد المنطلق ، كلاهما يفيد حصر الانطلاق في زيد. لكن حكى عن المنطقيّين أنّهم يجعلونه في قوّة الجزئيّة ، أي بعض المنطلق زيد أخذا بالأقلّ المتيقّن على ما هو قانون الاستدلال ، وذلك لا يقدح في الاتّفاق المذكور ، فإنّ اتّفاق علماء المعاني حجّة في المقام ، وحكايته من مثل التفتازاني مسموعة ، لأنّه من أئمّة هذا الفنّ.

__________________

(١) أي مفتاح العلوم للسكّاكي.

٥٧٠

الثالث : أنّ المراد من الوصف المحلّى وشبهه في الأمثلة المذكورة إن كان هو الجنس امتنع حمل الفرد عليه وحمله على الفرد ، لأنّه يقتضي الاتّحاد. ومن البيّن أنّ الفرد الخاصّ ليس عين حقيقة الجنس ، إذ لا يعقل اتّحاد الجزئي مع الطبيعة الكلّية ، فلا يصحّ الإخبار عنها بأنّها هو أو هو إيّاها ، فينبغي أن يكون المراد منه مصداقه ، فإمّا أن يراد منه الفرد المعيّن ، أو المبهم ، أو الاستغراق ، وحيث إنّ المفروض انتفاء العهد بقسميه وانتفاء القرينة المفيدة للتعيين فلا يجوز حمله على الأوّل ، وإلّا لزم خروج الكلام عن الإفادة.

والثاني أيضا لا معنى له ، لامتناع وجود المبهم ، فتعيّن الثالث. فقولك : «أنت الرجل» في معنى قولك : «كلّ الرجل» ، ولذا يؤكّد به. ومن المعلوم أنّ الحمل في ذلك ممّا لا يصحّ إلّا مع انحصار مصداقه في الفرد ، لامتناع حمل الكثيرين على الواحد ، وذلك :

إمّا حقيقة كما في قولك : زيد الأمير ، أو على سبيل المبالغة والادّعاء ، كما في قولك : الشجاع بكر ، فالمراد هو المصداق الكامل. وهذا الوجه كما ترى يعمّ صورتي تقدّم المبتدأ أو تأخّره ، وحمل الوصف أو الجنس على العلم أو غيره وعكسه ، وينبغي اختصاصه بالمحلّى باللام ، لتعيّن حملها بعد تعذّر الجنس ، وانتفاء العهد على الاستغراق وإن أمكن إجراؤه في غيره. ولا يخفى عليك ضعف الوجه المذكور.

أمّا أوّلا فلأنّ الحمل إنّما يقتضي الاتّحاد في الوجود الخارجي ، لا في المفهوم ، بل لا بدّ فيه من التغاير في الجملة ولو بحسب الاعتبار ، لئلّا يكون من باب حمل الشيء على نفسه ، فلا مانع من حمل المحلّى على الجنس على الفرد.

وأمّا ثانيا فلأنّ حمل اللام في تلك الأمثلة وغيرها على الاستغراق في غاية البعد والركاكة وإن ذكره التفتازاني وتبعه المحقّق الشريف وغيره وجها في المقام ، لوضوح أنّه لا يفهم من قولك : «أنت الرجل» أنّك كلّ فرد من أفراده ، وليس المراد بقولك : «كلّ الرجل» ذلك وإن زعمه الفاضل المذكور إنّما يراد به أنّه استكمل تلك الحقيقة وحاز تمام ما يكون في الرجل من مرضيّات الخصال.

٥٧١

وقد يورد عليه أيضا بإمكان حمله على العهد ، والمنع من انتفاء موجبه ، لوجود القرينة بملاحظة المحمول أو المحمول عليه ، وخصوصا مع تقديمه في الذكر ، كقولك : زيد العالم ، وهو كما ترى ، إذ لا بدّ في القضيّة من تحصيل معنى الطرفين وتعقّله ، ثمّ إيقاع النسبة بينهما ، فلا يجوز أن يكون تحصيل المعنى المحكوم به وتعقّله بمعونة إسناده إلى المحكوم عليه بعد ذكره ، أو بالعكس على ما توهّمه المعترض ، بخلاف ما إذا ظهر العهد من قرينة اخرى ، كأن تقول : أكرمت عالما ، والعالم زيد ، أو زيد العالم.

الرابع : أنّ اللام حقيقة في تعريف الجنس ، والمفرد المحلّى ظاهر في الطبيعة الجنسيّة ، فإن وقع مبتدأ في الكلام دلّ على كونه مصداقا للمحمول ، كما تقول : الكرم في العرب ، فمعناه أنّ جنس الكرم مصداق للوصف الثابت في العرب فلا يعمّ الغير. وإن كان المحمول من الأعلام لزم توجيهه ، لعدم جواز حمل العلم الجزئي على غيره. إمّا بتأويل الاسم بالمسمّى فيدلّ على الحصر كما ذكر ، أو بجعله من باب حمل أحد المترادفين على الآخر ، كما تقو : الليث الأسد ، وزيد أبو عبد الله ، فدلالته على الحصر أظهر ، لأنّه يفيد اتّحاده معه في الماهيّة والوجود في الذهن والخارج ، فيكون الغرض من الحمل المبالغة. وإن وقع خبرا مقدّما أو مؤخّرا دلّ حمله على موضوعه على اتّحاده معه في الخارج فلا يتجاوزه.

وأورد عليه أوّلا بالنقض بالمنكر ، فإنّه لو تمّ الوجه المذكور لجرى في المحمول المنكر أيضا ، كقولك : زيد عالم ، وعمرو صديق ، وبكر أمير ، وهكذا فيكون مفاد الحمل اتّحاده معه في الخارج ، فلا يصدق إلّا حيث يصدق فيكون منحصرا فيه ، وهو خلاف الضرورة.

واجيب عنه تارة : بأنّ المحمول فيه ليس عين الجنس ، بل هو فرد من أفراده فلا يجري فيه ما ذكر. واخرى بالتزام الدلالة فيه أيضا من حيث نفسه ، إلّا أنّ كثرة استعمال المنكر في الفرد وندرة إرادة الحصر منه ممّا يوهن الدلالة فيه ، بل يقوي خلاف ذلك ، بخلاف المعرّف باللام إذ الأمر فيه بالعكس ، لشيوع استعماله في الحصر فيقوى مدلوله.

٥٧٢

ويرد على الأوّل : أنّ المحمول على ما هو طريقة الحمل عين المنكر ، وهو حقيقة الفرد المنتشر دون الفرد الخاصّ ، فقضيّة الحمل على ما ذكره المستدلّ اتّحاد الموضوع المذكور مع المحمول الّذي هو الفرد المنتشر ، فينبغي أن لا يصدق إلّا حيث يصدق.

وعلى الثاني : أنّ التزام دلالة المحمول المنكر على الحصر من حيث نفسه ظاهر الفساد ، إذ مع قطع النظر عمّا ذكر من شيوع الاستعمال لا يكاد يفهم منه معنى الحصر أيضا في شيء من الاستعمالات ، ولا توهّمه متوهّم في شيء من المقامات ، وهو الوجه في عدم وقوع استعماله في الحصر ، لا أنّه الوجه في عدم إفادة الحصر.

وثانيا بالحلّ ، وهو : أنّ الحمل والصدق إنّما يستدعيان الاتّحاد في الوجود الخارجي ، ومن البيّن اتّحاد الكلّي مع كلّ فرد من أفراده في الخارج ، وانّما يختلفان بحسب المفهوم ، فالحكم بأنّ جنس الكرم ـ مثلا ـ موصوف بكونه حاصلا في العرب لا يستلزم انحصار أفراده فيهم ، لجواز أن يثبت لهم في ضمن فرد ولغيرهم في ضمن فرد آخر.

وقد يجاب عنه : بأنّ ما ذكر إنّما يتمّ في المحمول المنكر ، ولذا لم يقل أحد بإفادته للحصر كما ذكر. وأمّا التعريف باللام فإنّه يقتضي الإشارة إلى مدخولها على وجه التعيين ، وليس المراد منه الحقيقة الجنسيّة من حيث هي ، إنّما يراد به تلك الحقيقة مقيّدة باعتبار الخارج. ومن المعلوم أنّ الماهيّة الخارجيّة عند عدم العهد لا تعيّن لها إلّا باعتبارها من حيث تمام تحقّقها وتحصّلها في الخارج ، فحملها على الفرد المخصوص يدلّ على أنّه قد حاز تمام تلك الحقيقة الخارجيّة ، فلم يبق لغيره حظّ منها ، وإلّا لم يكن جائزا للكلّ ، بل للبعض ، فيدلّ على الحصر.

وفيه : أنّ لام التعريف إنّما يقتضي الإشارة إلى الحقيقة الجنسيّة من حيث تعيّنها في نفسها وامتيازها عن سائر الحقائق ، ولو اقتضى الإشارة إلى تمام الأفراد الخارجيّة من حيث إنّها تمام تحصّلها في الخارج لدلّ على الاستغراق ، وقد عرفت ضعف البناء عليه.

٥٧٣

غاية الأمر عدم استعماله فيه بنفسه ، ودلالته عليه بالالتزام ، وهو فاسد ، والوجه المذكور لا يفي بإثباته ، إذ ليس تعيّنها في ضمن جميع الأفراد الموجودة في الخارج تعيّنا لتلك الماهيّة على الحقيقة لاحتمالها للأفراد الفرضية القابلة للوجود أيضا ، بل تعيّنها من حيث وقوعها في الخارج في ضمن تلك الأفراد بمجموعها ليس بأولى من تعيّنها في ضمن الفرد المعيّن. وكما أنّ الفرد لا يتعيّن من غير عهد ولا قرينة كذا المجموع لا يتعيّن إلّا بإقامة القرينة عليه ، وكلّ ذلك خارج عن مدلول الجنس المحلّى من حيث نفسه ، وإنّما يقتضي اللام تعريف مدخولها من حيث نفسه وهو الطبيعة الجنسيّة من حيث هي.

فالوجه أن يقال : إنّ التعريف باللام يقتضي الإشارة إلى نفس الحقيقة الجنسيّة ، فحمل الفرد عليها يدلّ على غاية المبالغة في إفادة الحصر فتكون دلالتها عليه أقوى من أداة الحصر ، فإنّك تدّعي اتّحاد تلك الحقيقة مع الفرد المخصوص فكأنّها هو بعينه كما تقول هل سمعت بالأسد وتعرّفت حقيقته؟ فزيد هو هو بعينه ، كما ذكره الشيخ عبد القاهر في الخبر المحلّى باللام ، ويظهر ذلك من كلام الزمخشري في قوله تعالى : (وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ). ومحصّله : أنّ تعريف المحمول باللام قرينة على أنّ المقصود به الحمل الذاتي ، أي حمل «هو هو» دون الحمل المتعارف ، إنّما يقع الحمل المتعارف في المحمول المنكر ، لأنّه الّذي تعارف فيه حمل الكلّي على الفرد دون المعرّف ، فيحمل فيه على حقيقة الحمل المقتضي للاتّحاد المستلزم للحصر ، لوضوح أنّ الشيء لا يتجاوز عن نفسه ، وحيث لا اتّحاد هناك على الحقيقة فيكون الحمل فيه من باب المبالغة في الحصر بادّعاء أنّ الموضوع ليس له حقيقة سوى حقيقة المحمول.

الخامس : أنّ الغرض من الحمل عند تعريف المحمول بالألف واللام لو كان مجرّد الاتّحاد في الوجود الخارجي لضاع تعريف المحمول ، لأنّ هذا المعنى ممّا يفيده المحمول المنكر أيضا ، فلا بدّ من إفادة التعريف أمرا زائدا على ذلك ، ولا تكون الزيادة إلّا بإفادة معنى الحصر ، أو ما يستلزمه من الاتّحاد في الحقيقة على ما ذكرناه.

٥٧٤

وأنت خبير بأنّه لو لا ما علم من الفرق بين لام التعريف وتنوين التنكير بحسب المدلول كما ذكرناه لما كان القول بلزوم ضياع الأوّل أولى من القول بلزوم ضياع الثاني ، فذلك بمجرّده لا يجدي في المقام شيئا ، فمرجعه إلى ما ذكرنا من إفادة التعريف للاتّحاد مع الحقيقة الجنسيّة ، وإلّا لانتفت الفائدة في زيادته.

السادس : أنّه لو لم ينحصر العالم في زيد والصديق في عمرو في المثال المعروف وما أشبهه لكان المبتدأ أعمّ من خبره فكان إخبارا بالخاصّ عن العامّ ، وذلك كذب ، كما لو قال : الحيوان إنسان ، والإنسان زيد ، واللون أسود ، فإنّ ما ثبت للشيء بحسب مقتضى حمله عليه يثبت لجميع أفراده وجزئيّاته ، فلا يصحّ حمل المصداق الخاصّ على المفهوم العامّ. وقضيّة هذا الوجه أن يكون العالم مبتدأ وزيد خبرا له ، كما هو أحد الوجهين فيه ، وبه قال التفتازاني ، وعليه حمل كلام العضدي.

واورد عليه : بأنّ الكذب إنّما يلزم لو كان الألف واللام فيه للعموم ، كما لو قيل : كلّ حيوان إنسان ، وهو كذب ، وليس كذلك ، بل هي ظاهرة في البعض ، فكأنّه قال : بعض العالم زيد ، وبعض أصدقائي عمرو ، حتّى لو ثبت أنّ الألف واللام إذا دخلت على اسم الجنس تكون عامّة ، وكان المتكلّم مريدا للتعميم كان دالّا على الحصر لا محالة ، وكان كاذبا على تقدير ظهور عالم أو صديق آخر ، كذا في الأحكام.

واجيب : بأنّ المراد من العالم إذا لم يكن نفس حقيقة الجنس لكان مصداقه ، وهو ليس بفرد خاصّ ، لعدم العهد ، وعدم فائدة في العهد الذهني ، فيحمل على الاستغراق.

واعترض بالمنع من عدم الفائدة على تقدير إرادة العهد الذهني ، إذ مفاده حينئذ اتّحاد المحكوم به بفرد من أفراد المحكوم عليه.

وأنت خبير بأنّ الغرض من الاستدلال : أنّ المانع من حمل الخاصّ على العامّ في سائر المقامات حاصل في المقام ، فلو فرض غير زيد وهو عمرو ـ مثلا ـ عالما لكان العالم أعمّ من زيد وعمرو قد أخبرت عنه بأنّه زيد ، فيدلّ على الحصر ، إلّا أنّ

٥٧٥

إلّا أنّ دلالته عليه إنّما تكون بحسب المعنى المفهوم منه بعد ملاحظة قرائن المقام ، فحمل المثال على ذلك إنّما يكون بعد تخصيصه بما يصلح أن يحمل عليه زيد ، وهو الكامل في العلم على وجه تصوّره المخاطب وتوهّمه وأنت تعلم ذلك فتخبر عنه بأنّه زيد ، ولا منافاة في ذلك للدلالة على الحصر.

السابع : أنّه لو لم يدلّ على الحصر لكان الخروج فيه عن الوضع المألوف والعدول عن الترتيب المعروف إلى غيره خاليا عن الفائدة ، والوجه في مخالفته للترتيب ظاهر ، لأنّ العالم في المثال إن كان خبرا فتقديمه على المبتدأ خلاف الأصل فيفيد الحصر ، كما في قوله تعالى : (إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ). وإن كان مبتدأ كان الوصف محمولا عليه واسم الذات محمولا ، وهو أيضا خلاف الأصل ، كما مرّت الإشارة إليه.

وفيه : أنّ مخالفة الترتيب المعهود إنّما يقع لنكتة وفائدة ما ، ولا ينحصر في إرادة الحصر ، لإمكان ابتنائه على فوائد اخر ، كمزيد الاهتمام ، أو ملاحظة الأدب والاحترام ، أو إرادة التبرّك بتقديمه ، أو حصول الالتذاذ بذكره فترتاح النفس بالابتداء به ، أو موافقة المخاطب في كلامه ، إلى غير ذلك.

نعم ، إذا فرض انحصار الفائدة في ما ذكر أو ظهوره من الكلام أو من قرائن المقام تمّت الدلالة عليه ، وقد ظهر بما مرّ ضعف حجّة النافي ـ وهو دعوى التسوية بين تقديم الوصف في الأمثلة المذكورة وتأخيره ـ مع دعوى الاتّفاق على عدم إفادة الحصر في الثاني ، فكذا الأوّل ، وذلك لوضوح تطرّق المنع إلى كلّ واحدة من المقدّمتين.

أمّا الاولى فلأنّ بعض الوجوه السابقة وإن كان مشتركا بين القسمين إلّا أنّ بعضها ممّا يختصّ بصورة التقديم كما عرفت ، فلا يلزم الحكم بتساويهما وإن كان هو الصواب.

وأمّا الثانية فلأنّ الاتّفاق إن لم ينعقد على إفادة الحصر كما ادّعاه بعضهم فلا اتّفاق على خلافه قطعا ، وكأنّ تقييد العنوان في كلامهم بالتقديم بيان لأظهر القسمين ، فإنّ كثيرا منهم قد صرّحوا بعدم الفرق ووافقوا القوم في العنوان.

٥٧٦

ثمّ لا يخفى أنّ الدلالة على الحصر في محلّ المسألة وإن كانت من المنطوق إلّا أنّ دلالته على النفي التزاميّة خارجة عن محلّ النطق كما عرفت ، فالحال في ذلك هو الحال في دلالة التعليق على الشرط والغاية وغيرهما ، ولعلّ من عدّ الدلالة المذكورة من المنطوق إنّما اشتبه عليه الملزوم باللازم ، أو تسامح في التعبير ، ولذا قال التفتازاني : إنّ كون هذا الحصر مفهوما ممّا لا ينبغي أن يقع فيه خلاف ، للقطع بأنّه لا تعلّق لمحلّ النطق بالنفي أصلا ، وفي العبارة مسامحة ، إذ ليس نفس الحصر مفهوما كالشرط والغاية ، وإنّما المفهوم ما يلزم ما يلزمه من الانتفاء. ولذا لو وقع التصريح بلفظ «الحصر» و «القصر» أو بما يرادفه أو يدلّ عليه من الأسماء والحروف في الكلام لم يخرج بذلك عن حدّ المفهوم على ما ذكرناه.

نعم ، لو كان مدلول الجملة ثبوت الحصر بالأصالة كان من المنطوق ، كما عرفت في الشرط والغاية. وممّا ذكر يظهر الحال في سائر ما يفيد الحصر من الهيئات والحروف أيضا.

فمن الهيئات : مخالفة الترتيب الطبيعي ، حيث يظهر من الكلام أن يكون العدول عنه لإفادة الحصر ، كما عرفت.

ومنها : تقديم المسند إليه على الخبر الفعلي إن ولي حرف النفي ، ولذا لا يحسن أن تقول : ما أنا ضربت زيدا ولا غيري ، لكنّ الحصر فيه مطّرد.

ومنها : ورود الكلام في مقام التعريف والبيان فيفيد الحصر ، كما في الحدود تقول : النحو علم بكذا ، والطبّ علم بكذا ، وهكذا.

ومن الحروف : وقوع ضمير الفصل بين المسند والمسند إليه ، فإنّه يدلّ على قصر الأوّل على الثاني ، كما نصّ على ذلك علماء المعاني. وبه صرّح جماعة من المفسّرين في قوله تعالى : (أَنَّ اللهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ)(١) و (كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ)(٢) و (إِنَّكَ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ)(٣) و (إِنَّ اللهَ هُوَ الرَّزَّاقُ)(٤)

__________________

(١) سورة التوبة : ١٠٤.

(٢) سورة المائدة : ١٧.

(٣) سورة هود : ٨٧.

(٤) سورة الذاريات : ٥٨.

٥٧٧

وغير ذلك. ويشهد به النقل ، والاستعمال ، والتبادر العرفي ، وفهم التأكيد من إتباعه بالحصر ، وحسن التكذيب بدونه ، وقبح الاستفهام عنه. ولا ينافيه إفادة التأكيد ، فقد يكون في الكلام ما يفيد الحصر من دون ضمير الفصل ، فيكون الضمير تأكيدا له ، كما في جملة من الأمثلة المذكورة.

فما يظهر من الكشّاف من حصر مجيئه للتأكيد فيما إذا كان التخصيص حاصلا بدونه لا منافاة فيه لإرادة الحصر ، بل يؤكّده.

وقد يعرف المبتدأ بحيث يفيد قصر المسند إليه على المسند على ما عرفت ، كما تقول : الكرم هو التقوى ، والحسب هو المال. ومن هنا قد يشتبه الأمر ، فيقال بدلالة ضمير الفصل على ذلك أيضا ، مع تصريح جماعة من أهل الفنّ باختصاص دلالته على الحصر بقصر المسند على المسند إليه. وأمّا العكس فلا ربط للضمير بإفادته فيكون للتأكيد.

وهل يجري الحكم في الضمير الواقع بين الخبرين إذا كان للمبتدأ خبران معرّفان باللام ، أو بين الحال وصاحبها وما أشبه ذلك من المقامات؟ يحتمل ذلك ، كما ذكره بعض أئمّة النحو. وتفصيل الكلام في ذلك وفي شرطه يطلب من مظانّه.

ومنها : عدّة من الحروف الّتي قد تستعمل فيما يفيد الحصر مثل «بل و «لكن» وغيرهما ، وتفصيل القول فيه أيضا يطلب من مظانّه.

ومنها : كلمة «إنّما» بالكسر ، وألحق بها الزمخشري «أنّما» بالفتح ، ووافقه عليه آخرون ، وإن قيل : إنّه ممّا انفرد به لكن لم يثبت ، فالأصل أن تكون مركّبة من «أن» و «ما» زيادة في التأكيد لثبوت الوضع في المفرد وعدم ثبوته في المركّب. وأمّا «إنّما» فإنّها موضوعة للحصر ، لتبادره منها ، وشيوع استعمالها فيه في الكتاب والسنّة ، وكلمات الفصحاء ، وأشعار العرب ، ونصّ أئمّة اللغة والنحو والتفسير والاصول عليه. وعن الأزهري نسبته إلى أهل اللغة. وعن ظاهر السكّاكي والكاتبي وغيرهما إجماع النحاة عليه. وحكى التفتازاني نقله عن أئمّة النحو والتفسير. وفي المجمع : ولم يظفر بمخالف لذلك ، قال : واستعمال أهل العربيّة والشعراء والفصحاء إيّاها بذلك يؤيّده.

٥٧٨

ويشهد بتبادر المعنى المذكور : أنّه لا فرق بحسب العرف بين (إِنَّما إِلهُكُمُ اللهُ) وبين لا إله لكم إلّا الله ، ولا بين قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «إنّما الأعمال بالنيّات» (١) وقوله : لا عمل إلّا بالنيّة (٢) ولا بين قوله تعالى : (إِنَّما حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ)(٣) وقولك : ما حرّم عليكم إلّا الميتة ، فهي تتضمّن معنى «ما» و «لا» كما قال النحاة : إنّها لإثبات ما بعدها ونفي ما عداه. وفي الصحاح : أنّه يوجب إثبات الحكم للمذكور ونفيه عمّا عداه.

وعن أبي عليّ الفارسي في الشيرازيّات : أنّ العرب عاملوا «إنّما» معاملة النفي ، وقد يوهم ذلك ما نسب إليه من القول بأنّها نافية ، وهو فاسد قطعا ، أو أنّها مركّبة من حرفي «إنّ» للإثبات «وما» للنفي ، فحيث يمتنع تواردهما على أمر واحد يجب تعلّق الأوّل بالمذكور والثاني بما سواه ، للاتّفاق على بطلان العكس ، فيكون ذلك هو الوجه في إفادتها للحصر ، فإن اريد توجيهه بذلك بحسب الأصل أمكن ، فهي مناسبة ذكرت لتضمّنها معنى الإثبات والنفي ، كسائر النكات الّتي تذكر بعد الوقوع ، وإلّا فليس المتبادر منها إلّا معنى واحدا ، ولا يفهم منها المعنى التركيبي ، كيف؟ ومن المعلوم أنّ «إنّ» لا تدخل على الفعل، وأنّها ناصبة للاسم ، وأنّها تدلّ على تأكيد ما دخلت عليه نفيا كان أو إثباتا ، وأن «ما» النافية تقع في صدر الكلام ولا تدخل عليها إن.

وقد حكي إجماع النحاة على أنّها لنفي ما دخلت عليه ، وليس في كلام الفارسي ولا غيره من النحاة استعمالها في النفي ، ولا في المعنى التركيبي ، كما نصّ عليه ابن هشام ، بل حكي إجماع النحويّين على بطلان كلّ من المتقدّمتين من استعمال الجزءين في الإثبات والنفي. وعن عليّ بن عيسى الربعي : أنّ ذلك ظنّ من لا وقوف له بعلم النحو ، وأضعف من ذلك دعوى تركّبها من «إنّ» و «ما» الزائدة

__________________

(١) الدعائم ١ : ١٥٦ ، الوسائل ١ : ٣٤ باب ٥ من أبواب مقدّمة العبادات الحديث ٦ ، ٧ ، ١٠.

(٢) الوسائل ١ : ٣٣ و ٣٤ باب ٥ من أبواب مقدّمة العبادات الحديث ١ ، ٢ ، ٣ ، ٤ ، ٩.

(٣) النحل : ١١٥.

٥٧٩

فتفيد تأكيدا على تأكيد فناسب الحصر ، إذ هو مع ضعف أصله ومخالفة الزيادة للأصل كما ترى ، لوضوح أنّ تكرار التأكيد ولو ألف مرّة لا يفيد معنى الحصر.

وحكى الآمدي عن أصحاب أبي حنيفة وجماعة ممّن أنكر دليل الخطاب : أنّها لتأكيد الإثبات ، ولا دلالة لها على الحصر ، قال : وهو المختار.

واحتجّ عليه : بأنّ كلمة «إنّما» قد ترد ولا حصر ، كما في قوله عليه‌السلام : «إنّما الربا في النسيئة» (١) مع انعقاد الإجماع على تحريم ربا الفضل ، فإنّه لم يخالف فيه إلّا ابن عبّاس وقد رجع عنه ، وعلى ذلك حملت عدّة من الآيات كقوله تعالى : (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ)(٢) و (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ)(٣) و (إِنَّما يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ)(٤). وقد ترد والمراد به الحصر ، كقوله : (إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ)(٥) وعند ذلك فيجب اعتقاد كونها حقيقة في القدر المشترك بين الصورتين ، وهو إثبات الخبر للمبتدأ نفيا للتجوّز والاشتراك عن اللفظ ، وبأنّ كلمة «إنّما» لو كانت للحصر لكان ورودها في غير الحصر على خلاف الدليل ، وهو خلاف الأصل ، وليس فهم الحصر في صورة الحصر من غير دليل لعدم انحصار دليل الحصر فيها.

وقد يحتجّ أيضا : بأنّه لا فرق بين قولك : إنّ زيدا قائم ، وإنّما زيد قائم ، فإنّ «ما» فيها زائدة فتكون بحكم العدم ، كما في قوله تعالى : (فَبِما رَحْمَةٍ مِنَ اللهِ لِنْتَ لَهُمْ)(٦) ، ومع الشكّ في زيادة المعنى بها فالأصل عدمها ، ولا يخفى فساد القول المذكور ، فإنّ المدار في إثبات اللغات على اللغة والعرف ، وقد عرفت تطابقهما على المعنى المذكور ، ولو فرض وقوع الخلاف فيه من أهل اللغة فاللازم تقديم قول المثبت فيه على النافي سيّما مع تأيّده بما عرفت. وما ذكر من التعليل لنفي الدلالة واضح الفساد ، فإنّ استعمالها في غير الحصر لو ثبت ففي غاية الندرة ، وإنّما

__________________

(١) سنن ابن ماجة ٢ : ٧٥٩.

(٢) الانفال : ٢.

(٣) الحجرات : ١٠.

(٤) الاحزاب : ٣٣.

(٥) الكهف : ١١٠.

(٦) آل عمران : ١٥٩.

٥٨٠